مقدمة

على مرتفعات البلقاء، وسط الأردن، وفي سفوحها الوعرة، كان قلب المملكة الأردنية العمونية، ومن عمّان (ربة عمون)، كتب أجدادنا الأردنيون العمونيون، سفراً جديداً في كتاب الحضارة الانسانية، لترسم الجبال والمياه قصة شعب هزم قسوة الطبيعة، وبنى دولة الرفاهية.

على الرغم من صعوبة رسم الحدود السياسية بشكل دقيق بين الدول القائمة في الحقبة التي أنشأ بها أجدادنا الأردنيون العمونيون دولتهم، إلا أن تشييدهم للعديد من الأبراج الدفاعية التي صمدت آثارها حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى السرد التاريخي الذي ورد عن المملكة الأردنية العمونية، إلى جانب الحدود الطبيعية استطاعت أن توصل لنا صورة جيدة عن حدود المملكة الأردنية العمونية، نوردها في هذا البحث، كما سنعرّج على بعض المدن والتجمعات السكانية ذات الأهمية.

حدود المملكة الأردنية العمونية

يبوق (نهر الزرقاء)
  • الحدود الشمالية

يعتبر نهر يبوق (الزرقاء) هو الحد الشمالي للمملكة الأردنية العمونية، والفاصل بينها وبين امتداد الممالك الآرامية على الأراضي الأردنية بعد اضمحلال مملكة عوج ملك باشان الأردنية، وتشير الكشوفات الأثرية إلى أن اللقيات الأثرية الأردنية العمونية، تجاوزت نهر الزرقاء شمالاً، مما يعني امتداد نفوذ وتأثير الأردنيين العمونيين إلى الشمال من نهر الزرقاء خلال عدة مراحل زمنية، إلا أن الأقرب للواقع أن حوض نهر الزرقاء كاملاً بضفتيه الشمالية والجنوبية كان يقع تحت نفوذ الأردنيين العمونيين.

  • الحدود الجنوبية
وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر ارنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

يعتبر وادي أرنون (الموجب)، هو الحد الجنوبي للمملكة الأردنية العمونية والذي يفصلها عن المملكة الأردنية المؤابية، ولكن هذه الحدود ليست فاصلاً نهائياً بين المملكتين، حيث أن تمازجاً ثقافياً هوياتياً يجمع بين المملكتين الشقيقتين، فضلاً عن الحلف السياسي العسكري بين المملكتين الأردنيتين، الذي كان يسمح بتداخل للأراضي.

  • الحدود الشرقية

على امتداد مرتفعات البلقاء، وإلى الشرق منها، في البادية الأردنية الوسطى وعلى حد الصحراء، وجدت العديد من الأبراج العمونية الدفاعية، مما يعني أن الحدود الشرقية للمملكة الأردنية العمونية كانت تنتهي على مشارف الصحراء، ويُعتقد أن الأبراج الدفاعية العمونية كانت تحرس التجمعات الزراعية بالتعاون مع القبائل الأردنية البدوية الخاضعة للنفوذ العموني من الغزو القادم من الصحراء.

  • الحدود الغربية
نهر الأردن

امتدت الحدود الغربية للمملكة الأردنية العمونية على طول سفوح الجبال والمناطق الغورية المتاخمة لوادي الأردن، وتعتبر الحدود الغربية للمملكة الأردنية العمونية الأكثر خطورةً كونها تطل على مناطق نفوذ العبرانيين الذين ناصبوا الأردنيين العمونيين والمؤابيين العداء طويلاً.

أهم المواقع في المملكة الأردنية العمونية

  • العاصمة ربّة عمون (عمان)
جانب من الجدار الذي يحيط بمدينة ربة عمون

كان المركز الرئيسي للعاصمة ربة عمون هو موقع جبل القلعة الحالي الواقع في وسط عمان الحديثة، وهو يعتبر أحد جبال عمان الرئيسية، ويعود تاريخ جبل القلعة إلى بدايات العصر النحاسي، وعرف قروناً من الازدهار، حتى أقام على أرضه أجدادنا الأردنيون العمونيون عاصمتهم.

  • تل سيران
قارورة تل سيران

هو تل أثري يعود إلى العصر الحديدي، داخل حرم الجامعة الأردنية، اكتشف به أحد طلاب كلية السياحة والآثار قارورة تل سيران المعروفة، أثناء إحدى الحفريات الأثرية، كما وجد في نفس التل على عدد من الكسر الفخاري التي يعود تاريخها إلى كل من العصور الحديدية، والرومانية والأموية.

  • تل جاوة الجنوبي

بني موقع تل جاوة الجنوبي، إلى الجنوب من عمان، على مساحة تقارب العشرين دونماً، ويحتوي الموقع على مباني متنوعة، ويعتقد أنه تجمع زراعي متوسط الحجم.

  • موقع جلول

تقع جلول شمال شرق مدينة مادبا، قرب الحدود الفاصلة بين المملكة الأردنية العمونية، والمملكة الأردنية المؤابية، وبني الموقع على مساحة 73 دونماً، ويعد الموقع مدينة متوسطة الحجم.

  • موقع تل العميري

بني موقع تل العميري إلى الجنوب الغربي من ربة عمون، وهو تجمع سكاني يعود تاريخه إلى العصر النحاسي، ومر هذا التجمع السكاني بتطورات عديدة حيث أصبح (مدينة دولة) في العصر البرونزي ثم أحد أهم المدن الأردنية العمونية.

  • تل صافوط الأثري

بني هذا الموقع شمال عمان على الطريق الواصل بين عمان ومناطق الشمال (جرش، اربد، عجلون)، ويعد من أهم المواقع الأثرية في عمان، ووجد فيه العديد من الآثار العمونية.

  • عراق الأمير
عراق الأمير 1900 جنوب غرب عمان وهي من أهم المواقع الأردنية العمونية

بدأ التواجد البشري في عراق الأمير منذ آلاف السنين، حيث استوطنها أجدادنا الأردنيون الأوائل منذ العصر الحجري الوسيط (8000- 10000) ق.م، كلمة عراق تعني الكهوف، ويقال أن المنطقة سميت بهذا الإسم نسبة إلى الكهوف التي استخدمها الأمير طوبيا العموني إضافة إلى القصر الذي بناه فيها، وكانت عراق الأمير أحد أهم المواقع العمونية.

قصر العبد (قصر عراق الأمير)

يعود تاريخ بناء قصر العبد إلى ما قبل خمسة ألف عام تقريبا، أي إلى العصر الهيلنستي في القرن الثاني قبل الميلاد وقد بناه هركانوس من أسرة طوبيا العمونية الاردنية في عهد الملك سلوقس الرابع.
وقد سُمي قصر عراق الأمير ؛ عراق التي تعني مدخل المغارة والأمير وهو طوبيا العموني الأردني، وتشير الوثائق التاريخية والمسكوكات والرسومات والنقوش أن القصر يعود تاريخ بناءه بين عامي 187 و 175 ق.م في ظل حكم البطالمة وتحديدا في عهد سلوقس الرابع ويذكر أيضا أن هركانوس الذي بناه وهو أيضا من الأسرة الطوبية العمونية الأردنية كان أحد امراء العمونين الأردنيين الذين استقروا في منطقة وادي السير عام 360 ق.م، وكان طوبيا آنذاك أميرا ونائبا للملك وواليا على منطقة عمّان في عهد البطالمة، إلى أن اصبح ملكا وهو آخر ملوك العمونين الأردنيين.

  • رجم المخيزن (خربة الحجار)

هو موقع أثري عمون، في منطقة الرصيفة/ شلنر، عبارة عن أحد الأبراج العمونية الدفاعيةالتي تحمي حدود ربة عمون.

الخاتمة

رغم التخريب الذي تعرضت له مواقع أثرية عديدة، ومع شح الحفريات الأثرية التي تغطي الأردن في العصور الحديدية، إلا أن آثاراً عديدة تحدت آلاف السنوات لتبقى دليلاً على إحدى أهم الحضارات الأردنية، وقد حاولنا في هذا البحث وصف حدود المملكة الأردنية العمونية، وإيراد أهم المواقع المكتشفة في سعينا لتغطية كل ما يخص المملكة الأردنية العمونية، ونسعى لأن يكتمل العمل الآثاري حتى نستطيع أن نفي الجهد الذي بذله أجدادنا الأردنيون الأوائل حقه.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
  3. أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
  4. أبحاث إرث الأردن، قصر العبد – عراق الأمير
  5. العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.
  6. جتاوية، نداء (2012)، مفهوم الإثنية في علم الآثار: دراسة تحليلية للمالك (عمون، مؤاب، أدوم) في الأردن خلال العصر الحديدي. رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

المملكة الأردنية العمونية- الحدود وأهم المواقع

مقدمة

تمثال عازر، من جبل القلعة، عمون.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

تشُحُ الشواهد الكتابية الأردنية في العصور القديمة، لكن الأثر الإنساني جلي لم تستطع آلاف السنين وما حملته من كوارث طبيعية، وظروف مناخية، من محوه، كما عجز التخريب العفوي أو المتعمد، عن مسح ذكرى أجدادنا الأردنيين الأوائل.

في عمان، مدينة الماء، التي عرفت الوجود السكاني دون انقطاع على مر التاريخ، حيث  قرية عين غزال، أقدم تجمع سكاني زراعي مكتشف، كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، التي كانت حاضرةً ومركزاً سياسياً وتجارياً مهماً، للمملكة الأردنية التي نشأت مع بدايات العصر الحديدي الثاني بالتزامن مع شقيقاتها الممالك الأردنية (مؤاب، أدوم).

موطن الأردنيين العمونيين

الزرقاء 1900 وادي الزرقاء

من نهر الزرقاء (يبوق)، حتى أطراف وادي الموجب (أرنون)، وفي الجهة الغربية من وسط الأردن، في البلقاء، قامت المملكة الأردنية العمونية.

وقد تنوعت الطبيعة الجغرافية في المملكة الأردنية العمونية، بين الجبال والسهول، حيث أقيمت المدن الرئيسية على قمم الجبال، فيما انتشرت التجمعات الزراعية حولها، في سفوح الجبال والسهول المحيطة بالمدن، وبينما تتسم المناطق الجبلية في منتصف المملكة، بمناخ البحر المتوسط، نجد المناخ الصحراوي غالباً على الحدود الشرقية للمملكة، في حين كلما اتجهنا غرباً باتجاه نهر الأردن مع المنحدرات، غلب المناخ الغوري.

عراق الأمير 1900 جنوب غرب عمان وهي من أهم المواقع العمونية

ورد في الموروث الشعبي الأردني أن حدود البلقاء من نهر الزرقاء حتى ماعين “البلقا من زرقا شبيب لزرقا ماعين”، وبالعودة إلى الدراسات والمكتشفات الأثرية، نجد أن الجسم الأساسي للمملكة الأردنية العمونية يتشكل من البلقاء حسب وصفها التاريخي، باستثناءات لحظات الضعف التي استطاع العبرانيون فيها السيطرة على بعض المناطق الغربية من السلط، وبعض التداخلات الجغرافية الطبيعية مع شقيقتها المملكة الأردنية المؤابية، أو لحظات القوة التي التي توسعت فيها المملكة الأردنية العمونية، إلى الغرب من نهر الأردن، أو شمالاً على حساب الممالك الأمورية والآرامية، إلا أن المؤكد أن البلقاء كانت أساس المملكة الأردنية العمونية وقلبها العاصمة عمان (ربة عمون) واستمر هذا النطاق الجغرافي كما هو في العصور اللاحقة وصولاً إلى العصر الحديث.

عمان (ربة عمون) – العاصمة الأردنية العمونية

ربة عمون عاصمة مملكة عمون الأردنية 1880

ربة عمون هي التسمية التاريخية لمدينة عمان، التي كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، وقلبها النابض، أكثر مدنها تحصيناً، سواء تحصيناً طبيعيا، أم تحصيناً شيّده أجدادنا الأردنيون العمونيون، ومنها انطلقت هذه المملكة الأردنية، التي قدمت إرثاً حضارياً وعمرانياً، يكاد يكون الأكثر زخماً في المنطقة في ذلك التاريخ.

قامت ربة عمون أساساً على ما يسمى اليوم بجبل القلعة، في وسط مدينة عمان الحالية، حيث كان مركز المدينة وقلعتها، ذات الأسوار المنيعة التي عجز الغزاة عن اقتحامها مراراً، وداخل أسوار القلعة تنوعت المباني، من قصر الملك ومنازل كبار القادة والتجار، إلى السوق ومساكن صغار التجار العمال والحرس، كما بني المعبد المكرس للإله العموني ملكوم أيضاً داخل أسوار القلعة، كما انتشرت الأبراج العمونية الشهيرة، التي كانت تعد نقاط استخبارية متقدمة تحرس المدينة، في التلال المجاورة لربة عمون.

سُكِنت عمان منذ العصور السحيقة، كونها غزيرة المياه، وخصبة التربة، حيث شهدت أول تجمع سكاني زراعي على مر التاريخ –قرية عين غزال-، وتواتر الوجود السكاني فيها منذ العصرالباليوثي 200.000 قبل الميلاد، حتى يومنا هذا.

وتشير المكتشفات الأثرية  إلى  أن ربة عمون لم تكن  مأهولة فقط في العصور البرونزية (ما قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية)، بل أيضاً كانت تمارس نشاطاً تجارياً مهماً، مع اليونان وقبرص ومصر والعراق.

الطبيعة السكانية قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية

تفاوتت طبيعة السكان في وسط الأردن القديم (المنطقة التي قامت عليها المملكة الأردنية العمونية، أو ما تسمى البلقاء بعد ذلك)، تبعاً للاختلاف التضاريسي والمناخي، حيث تجد القبائل البدوية التي تمارس الرعي والتنقل على الحدود الشرقية للمملكة، فيما مورست الزراعة بشكل منظم وكثيف في المناطق الجبلية والسهلية، وقبيل نشوء المملكة الأردنية العمونية، وفي عصر (المدن الدول) مارس سكان هذه المدن النشاط التجاري بكثافة، كما وجد آثار لبعض الصناعات التعدينية، الأمر الذي كان أحد أهم مقدمات نشوء المملكة الأردنية العمونية.

نشأة المملكة الأردنية العمونية

 أنشأ الأردنيون الأوائل مع بداية العصر الحديدي الثاني أولى دولهم الوطنية أو ما يسمى (دولة الأمة ذات السيادة على أرضها)، حيث نشأت بالتزامن ثلاثة ممالك من نهر الزرقاء شمالا، حتى خليج العقبة جنوبا على الترتيب (عمون، مؤاب، أدوم) وكان نظام الحكم في هذه الممالك ملكي وراثي في الأبناء الذكور.

وهذا يدل على قيام حس وطني لدى أجدادنا في تلك الحقبة، الذي دفعهم لأن يوحدوا القبائل والمدن تحت قيادة زعيم واحد، تحول إلى ملك، وبنظام سياسي معقد في بنيته الداخلية، لإدارة شؤون هذا الشعب، وتقديم المصلحة الجمعية، على مصلحة القبيلة والمدينة، ونشأت أول تراتبية سياسية إدارية دقيقة في تلك المرحلة.

تعرض أجدادنا الأردنيون الأوائل الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين نهر الزرقاء (يبوق)، ووادي الموجب (أرنون)، لعمليات تطور طبيعية، وأخرى على شكل قفزات، ومع بدايات العصر البرونزي، بدأ النشاط الزراعي بالتطور، مع تطور الأدوات المستخدمة ودخول المعادن بديلاً عن الحجارة في عملية صناعة الأدوات الزراعية، هذا التطور الزراعي بدأ بالتراكم للوصول إلى حالة من الفائض الإنتاجي، الذي فرض على أجدادنا ابتكار الطرق الملائمة لتخزينه أو بيعه، الأمر الذي دفع باتجاه تشكل المدن التي كانت تستهلك الفائض الزراعي، وتقوم بممارسة النشاط التجاري، إلى جانب تطور الحرف، وبدأت منظومة المدن بالتطور والتعقد تدريجياً، وتطور النشاط التجاري، حيث أن المنطقة التي نشأت عليها المملكة الأردنية العمونية، يمر بها الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط الجنوب بالشمال.

لقد بدأ الحس الوطني بالتنامي لدى أجدادنا الأردنيين العمونيين، جنباً إلى جنب مع الحاجة إلى إنشاء دولة قوية، تجمع المدن المستقلة، التي لا تستطيع وحدها الدفاع عن مصالحها، ومع بدايات العصر الحديدي الثاني كانت العصبة الأردنية العمونية، من قبائل وقرى ومدن، قد بدأت بالتكتل واستطاعوا إنشاء منظومة سياسية معقدة، يرأسها ملك أردني عموني، يستطيع بالإضافة إلى زعماء القبائل والقرى والمدن، من تنظيم الدولة وإنشاء جيش نظامي قادر على حماية حدود المملكة، والطرق التجارية المارة بها، من التهديدات الخارجية، حيث كانت المنطقة عرضةً لأطماع الغزاة من كل الاتجاهات.

وتشير المصادر التاريخية، إلى أنه في الوقت الذي بدأ العبرانيون به بالعبور من مصر باتجاه أرض كنعان، كانت المملكة الأردنية العمونية قائمة منذ زمن، حيث استطاعوا السيطرة على المنطقة، وطرد قوم يدعوا الرفائيين وقد كان أجدادنا الأردنيون العمونيون يدعونهم بالزمزميين، ومن الواضح أن تحالفاً متيناً كان قائماً بين الأردنيين العمونيين، والأردنيين المؤابيين بناءً على روابط الدم والتداخل الجغرافي في مواجهة جميع الغزاة المحتملين، والجدير بالذكر أن الملك الأردني المؤابي عجلون قاد تحالفاً مع الملك الأردني العموني في ذلك الوقت، وملك العماليق في مواجهة الخطر العبراني.

كما لعبت الديانة الأردنية العمونية دوراً مهماً في صهر المجتمعات داخل المنظومة الحديثة للدولة، حيث عُبِد الإله الأردني العموني ملكوم، وبنيت له المعابد والمذابح، على امتداد جغرافيا عمون الأردنية، لنجد أن المملكة الأردنية العمونية كانت وليدة التطور الإنتاجي بالإضافة لتوحد المصالح، التي توجت  الوحدة الثقافية والترابط الإجتماعي للشعب الأردني العموني على شكل دولة وطنية ذات سيادة كاملة على أرضها.

الخاتمة

لقد حاولنا عبر هذا البحث إعادة صياغة الأبحاث والدراسات الآثارية المتوافرة، حول المملكة الأردنية العمونية، بطريقة تسهل على القارئ الغير مختص فهم الأرضية التي نشأت عليها هذه المملكة الأردنية العظيمة، عبر ربط الطبيعة الجغرافية والمناخية لموطن أجدادنا الأردنيين العمونيين، مع حالات التطور التي مر بها  الأردنيون الأوائل في هذه المنطقة، وصولاً للحظة التي نشأت بها المملكة، ليكون هذا البحث بدايةً لسلسلة من الأبحاث التي تدرس المملكة الأردنية العمونية.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
  3. أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
  4. العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.

المملكة الأردنية العمونية- مقدمات النشأة والتأسيس

مقدمة

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عرف الإقليم الذي وجد به الأردن بالاضطرابات السياسية منذ فجر التاريخ، ومع أن الأردنيين الأوائل قطعوا شوطا طويلاً بالتطور، من مجتمعات الجمع والالتقاط، إلى الدولة الوطنية (دولة الأمة)، مروراً بالمجتمعات الريفية الزراعية البسيطة، ونظام الدولة المدينة، إلا أن الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، لم تنتزع وجودها بسهولة وبتطور سلس، إذ عانى أجدادنا الأردنيين الأوائل العديد من المصاعب، وتعرضوا للكثير من الانتكاسات، حتى استطاعوا حفر تاريخهم في ذاكرة العالم، بحروف خطت بالعرق والدماء.

المملكة الأردنية المؤابية – عنفوان البداية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية – جريدة الغد- محمد أبو غوش

كان الشعور الوطني لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين في ذلك الوقت، والذين كانوا نواة تشكل المملكة الأردنية المؤابية يدفعهم لاحتواء سكان البلاد، والقبائل البدوية المحيطة بهم، لدمجهم في مشروع دولة تستطيع النمو والتطور والدفاع عن نفسها في منطقة محط لأطماع العديد من الدول والشعوب المحيطة، وسرعان ما اصطدمت هذه الدولة الناشئة بأطماع المحيطين بها، فبدأ الصراع مع الشعوب المحيطة التي تريد فرض نفوذها على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فتصدوا لهذه الاعتداءات في نفس الوقت الذي شرعوا به ببناء الدولة، وتثبيت أركانها، وتطوير النشاط الاقتصادي، وكانت عملية بناء جبارة، في وجه طبيعة قاسية لا يملك القدرة على تطويعها سوا الأردنيين.

على هذه القاعدة بدأ أجدادنا الأردنيون المؤابيون تأسيس دولتهم، بعنفوان وعزيمة منقطعتي النظير، حيث بدؤوا عملية البناء جنبا إلى جنب مع عملية إثبات الوجود وترهيب كل الطامعين بالتغول على الأراضي الأردنية المؤابية.

استطاع الأردنيون المؤابيون، انتزاع أراض من القبائل الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وتثبيت حدودهم، وفرض الرهبة على الساكنين غرب البحر الميت، كما صدوا جميع الهجمات القادمة من القبائل الشرقية، وبنوا الحصون فأمنوا بذلك حدود مملكتهم.

الصدام المؤابي الأول مع القبائل العبرانية 

عند وصول القبائل العبرانية إلى الأردن قادمين من مصر، حاولوا بداية المرور عبر أراضي المملكة الأردنية الأدومية، إلى أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين رفضوا هذا الأمر، من ثم حاولت هذه القبائل العبور عبر أراضي المملكة الأردنية المؤابية، وقوبل طلبهم بالرفض والوعيد بقتالهم اذا ما حاولوا المرور عبر الأراضي الأردنية المؤابية.

منذ أن وقعت هذه الحادثة، ضمرت القبائل العبرانية العداء والحقد لأجدادنا الأردنيين الأوائل، في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، إلا أن الأردنيين المؤابيين، لم يستشعروا خطر القبائل العبرانية آنذاك، معتمدين على قوتهم وقناعة منهم أن لا أطماع لدى القبائل العبرانية في الأراضي الأردنية.

في هذه الأثناء استطاعت القبائل العبرانية هزيمة المملكة الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وبدت أطماعها واضحة في الأراضي المؤابية الأردنية، إلا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين لم يكترثوا لهذه المخاطر، ايماناً منهم بقوتهم العسكرية التي أثبتت حضورها في أكثر من معترك.

عندما نزل العبرانيون في المدينة الأمورية (شطيم)، أغواهم الأردنيون المؤابيون من سكان المناطق المجاورة لتناول ولائم قدمت كقرابين للآلهة المؤابية، كما جعلوهم يسجدون لآلهة مؤاب، امعاناً باحتقار العبرانيين الطارئين على المنطقة وتحجيمهم، هذا الأمر زاد من حقد وكراهية العبرانيين لأجدادنا الأردنيين المؤابيين، حتى قالوا أن ذرية مؤاب لن تدخل في جماعة الرب.

تمركز العبرانيون في المناطق التي سيطروا عليها، وعندما تخلصوا من الأخطار المحيطة بهم، وثبت الأمر لهم، قام العبرانيون القاطنون في شيحون الأمورية، بإعادة ترديد أناشيد السخرية التي كان يستخدمها الأموريون ضد الأردنيين المؤابيين، هذه الأناشيد التي تمزج بين الاستهزاء واستجلاب اللعنات على الأعداء، الأمر الذي نبه الملك الأردني المؤابي بالاق إلى أطماع القبائل العبرانية، وتحديدا في أراضي مؤاب الأردنية.

قام العبرانيون بالسيطرة على بعض الأراضي المؤابية الأردنية الواقعة إلى الشمال، في هذه اللحظات وفي محاولة لإبطال مفعول أناشيد السخرية التي رددها العبرانيون، دعا الملك الأردني المؤابي بالاق، الكاهن المؤابي الأعظم بلعام، للاجتماع معه ومع كبار الحكماء الأردنيين المؤابيين، وقد جهز الملك بالاق الأضاحي للآلهة في انتظار أن يقوم الكاهن الأعظم بلَعْن العبرانيين، إلا أن الكاهن الأعظم كان يعلم أن القبائل العبرانية في عز قوتها في هذا الوقت الأمر الذي جعله يمتنع عن الرد على لعنات العبرانيين، فدب الحذر والتوجس في نفس الملك الأردني المؤابي بالاق، واكتفى باتخاذ تدابير وقائية في مواجهة العبرانيين، ومهادنتهم.

الملك الأردني المؤابي عجلون – مرحلة ذهبية في تاريخ المملكة الأردنية المؤابية

عقد الملك الأردني المؤابي عجلون، حلفا سياسياً عسكرياً مع أشقاءه الأردنيين العمونيين، ومع جيرانه العماليق في مواجهة التغطرس الذي يمارسه العبرانيون، بعد أن استطاع طردهم من الأراضي الأردنية، إذ أنه دخل هذا التحالف في موقف من القوة لا الضعف.

واتفقت مصالح هذا الحلف على توسيع رقعة سيطرتهم على الأراضي وتقليص نفوذ العبرانيين قدر المستطاع، وصد هجمات القبائل الخارجة عن نفوذ المملكة جنوبا وشرقا.

استطاع الملك المؤابي الأردني عجلون، توسيع رقعة مملكته حيث ضم أراض واسعة تقع شرقي نهر الأردن والبحر الميت، ووسع نفوذه السياسي داخل مناطق نفوذ العبرانيين، حيث فرض الجزية عليهم لمدة ثمانية عشر عاماً.

اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون 

على سبر القادة والزعماء الأردنيين، منذ فجر التاريخ، لا يمكن ترهيبهم أو شراء مواقفهم، ولا يمكن الحد من انطلاقتهم سواء بالقتل والغدر، قضى الملك الأردني المؤابي عجلون، غيلة على يد أحد زعماء القبائل العبرانية.

جاء اهود البنيامين أحد زعماء القبائل العبرانيين والذين كانوا يدفعون الجزية للمملكة الأردنية المؤابية، وقام بتقديم الجزية والهدايا بين يدي الملك الأردني المؤابي عجلون، ومن ثم قام بالخروج، ليستطيع إقناع الملك وحاشيته بحسن نواياه، ثم عاد بعد ذلك بوقت قصير وطلب لقاء الملك بشكل انفرادي، حيث ادعى أنه يحمل نبوءة تخص الحروب القادمة التي سيخوضها الملك عجلون مع أعداءه، فلم يخطر على بال الملك ومستشاريه أن هذا الرجل يخطط لاغتيال الملك، وكان اهود البنيامين قد أخفى سيفا تحت ثيابه، وعندما اختلى بالملك قام بطعنه طعنة قاتلة ولاذ بالفرار.

في اللحظة التي وصل بها اهود إلى قومه، قام بحثهم على محاربة المؤابيين، الذين كانوا في حالة من الصدمة والتشتت بسبب قتل ملكهم، فهاجموا الحصون المؤابية في الأراضي التي احتلوها لينسحب المؤابيون بدورهم إلى حدودهم القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم أكثر من ذلك.

الحلف الأردني المؤابي العموني وتوازن القوى

عاشت المنطقة نحو جيلين من السلم بعد حادثة اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون، انشغل فيها الجميع باستصلاح الأراضي وتطوير إمكانياتها، إلا أن هذا السلم لم يدم، حيث بدأت العديد من القبائل العبرانية بالزحف جنوبا وشرقا داخل الأراضي الأردنية المؤابية والعمونية، مما دعا المملكتين الأردنيتين لتشكيل حلف عسكري لطرد هذه القبائل من داخل حدودهم قبل أن تقوم بتثبيت أوضاعها داخل هذه الأراضي، فاستطاع هذا الحلف الأردني صدّ هذه القبائل وإعادتها خارج الحدود الأردنية، وانتهت هذه الفترة بحالة من توازن القوى.

الملك داوود – اللجوء للأردنيين المؤابيين من ثم الانقلاب عليهم

أثناء الصراع الذي دار بين داوود قبل أن يصبح ملكاً والملك شاؤول، لجأ داوود إلى المملكة الأردنية المؤابية، مع أبوه وأمه، واحتمى فترة من الزمن داخل المملكة الأردنية المؤابية، وعندما عاد إلى بلاده ليكمل صراعه مع شاؤول، ترك أبواه أمانة في المملكة الأردنية المؤابية، وحفظ الأردنيين المؤابيين هذه الأمانة.

ولكن عندما انتصر داود على شاؤول، وأصبح ملكاً على جميع القبائل العبرانية، وبعد أن استقر له الأمر، واستعاد والداه، قام بالانقلاب على الأردنيين المؤابيين، وحاربهم، واستطاع الانتصار عليهم على حين غرة، وفرض سيطرته على مملكة مؤاب الأردنية.

الملك سليمان – استمرار النفوذ العبراني ولكن

استمرت طبيعة النفوذ العبراني على الأردنيين المؤابيين كما هي في عهد الملك سليمان، إلا أنه كان يحترم المعتقدات الدينية للشعوب الأخرى، ولقد تزوج من امرأة مؤابية وبنى لها معبداً للإله المؤابي كموش، ويعتقد بعض المؤرخين أنه كان يؤمن بآخر أيام حياته بمعتقدات الأردنيين المؤابيين والعمونيين، الأمر الذي دفع المؤابيين للحفاظ على هذه الحالة من الاستقرار وعدم الثورة عليه، على عكس شعبه الذي أبدى تململا من تصرفات الملك سليمان.

الملك الأردني المؤابي ميشع – ذروة قوة المملكة الأردنية المؤابية

مسلة ميشع
Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

استطاع الملك الأردني المؤابي ميشع تحرير مملكته من النفوذ العبراني، وحارب مملكتي اسرائيل ويهوذا، واحتل أجزاءً واسعة من أراضيهم، وضرب أمثلة عظيمة بتضحية القائد، حيث قدم ابنه قرباناً لحماية الكرك (قير حارسة).

بدأ الملك الاردني ميشع بعد ذلك بتثبيت أركان حكمه، وبسط نفوذه على مناطق واسعة مجاورة لمملكته، كما شرع بعملية البناء، للمدن والحصون، وأشعل ثورة عظيمة في مجال الزراعة، لتعيش المملكة الأردنية المؤابية في عهده مرحلة من العظمة والتطور، استطاع فيها أجدادنا الأردنيون المؤابيون العيش في ظروف من الرفاهية، أتاحت لهم الفرصة للتطور الثقافي والفني.

الخاتمة

بعد وفاة الملك الأردني المؤابي ميشع، بدأت الحالة السياسية والعسكرية تتراجع بشكل عام داخل المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى بدء انهيار المنظومة الإقليمية والدولية السائدة منذ عدة قرون، حيث نشأت امبراطوريات على ركام امبراطوريات أخرى، وبدا أسلوبها بالتعامل مع الأقاليم الغير خاضعة لسلطتها المباشرة بالتغيّر، هذه الأمور جميعها حدت بالمملكة الأردنية المؤابية إلى الاضمحلال شيئاً فشيئاً ككيان سياسي، إلا أن الثقافة والوجود الحضاري الأردني المؤابي امتد قروناً لاحقة، وبالطبع استمرت ذكرى الأردنيين المؤابيين، سراجاً مضيئاً في مجمل التاريخ البشري.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، نشأة مملكة مؤاب الأردنية
  5. أبحاث إرث الأردن، مدخل عام لنشأة الدولة الوطنية في الأردن القديم

المملكة الأردنية المؤابية – مراحل القوة والضعف

– العنوان الرئيسي يحتاج إعادة صياغة أو تطوير

مقدمة

نستكمل في هذا البحث من سلسلة الأردنيون عبر التاريخ فصلا مهما من تاريخ الأردن وهو المرحلة التي أعقبت انهيار المملكة الأردنية الغسانية وانتصار المسلمين في معركة اليرموك. في هذا البحث سنستعرض كيف دخلت الجيوش الإسلامية الأردن وكيف عقدت معاهدات صلح وسلام مع القبائل الأردنية المسيحية.

المملكة الأردنية الغسانية

أسست المملكة الأردنية الغسانية في بداية القرن الثالث وانتهت في القرن السابع مستمرة بحكم الأردن وسوريا ,وفلسطين وأجزاء من السعودية لمدة أربعة قرون امتازت بالرخاء والأمان والحرية الدينية. منطلقين من حوران الأردنية ومن ثم مستقرة في البلقاء ، دشن الأردنيون الغساسنة حضارة متميزة، وقد عرفت عنهم الحنكة السياسية واستغلال موقعهم الاستراتيجي لخلق جو تجاري حيوي على طول الطرق التجارية الأردنية.

العلاقات الغسانية البيزنطية

لقد لعبت العلاقات السياسية بين البيزنطيين والأردنيين الغساسنة دورا رئيسا في تشكيل المشهد العام في الأردن منذ القرن الأول الميلادي وحتى القرن السابع، فحتى منتصف القرن السادس كانت العلاقات علاقات تحالف قوية سواء من ناحية سياسية عسكرية ضد الفرس والمناذرة ومن ناحية تجارية حيث كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حماية القوافل وخطوط التجارة الواصلة بين حضارات العالم القديم.

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

عقد الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة علاقات قوية من الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وزوجته ثيودورا وانعكس هذا على الحرية الدينية بعد زمن طويل من الاضطهاد الديني الذي مارسته الإمبراطورية ضد المخالفين لها بالمذهب.

فسيفساء للإمبراطور جوستنيان وزوجته ثيودورا

المنذر بن الحارث (569-581) والبيزنطيين

كان  أبو كرب المنذر بن الحارث كوالده قائدا عسكريا محنكا إلا أن علاقاته مع البيزنطيين لم تكن دوما موفقة فقد كتب الإمبراطور جوستيان رسالة في عزله وانفصل حكمه ثلاثة سنوات وانقطعت العلاقات بينه وبين البيزنطيين.  ولكن البيزنطيين تراجعوا عن موقفهم عندما أدركوا استحاله الدفاع عن حدودهم ضد الهجمات الفارسية والمناذرية دونه، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين لاسترضاء المنذر الغساني بأي ثمن (نولدكه: 1933) . وبالفعل استطاع هزيمة المناذرة بعدما عقد البيزنطيون معه صلحا في الرصافة عند قبر القديس سرجيوس.

وفي عام 580 وصل المنذر بن الحارث إلى القسطنطينية وكان رأسه مزينا بالتاج المهدى إليه من الإمبراطور البيزنطي تيباريوس وهو أمر لم يحصل للملوك الأردنيين الغساسنة من قبله حيث كانوا جميعا يلبسون الإكليل فقط (شهيد: 1995)

رغم العلاقات الحسنة التي نشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدمت القوات الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فقعدوا معاهدة صلح عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا،  فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات بشن حرب أخرى على المناذرة اتهمه البيزنطيون بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.

عملة ذهبية للإمبراطور تيبريوس

وفي أثناء حضور المنذر الغساني لافتتاح كنيسة جديدة، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته وكان قد حكم 13 سنة تقريبا.

النعمان بن المنذر والبيزنطيين

غضب أبناء المنذر، الملك الذي تم نفيه، وقادوا تحت حكم ابنه الأكبر النعمان حربا ضد الحامية البيزنطية في بصرى وغنموا منها غنائم عظيمة واضطروا الحامية لأن تتخلى عن ذخائرها الحربية وقد كانت ثاني أكبر حامية عسكرية بعد حامية دمشق (نولدكه: 1933) وليس من المعروف كم بقيت المملكة على هذا الحال إلا أنه يرجح أن الأمور بقيت هكذا لوقت طويل. في النهاية، خطط البيزنطيون لحيلة أوقعت النعمان، فقد طلبوا منه القدوم إلى العاصمة أنطاكية للصلح ومن ثم قبضوا عليه وحبسوه ونفوه إلى صقلية عند والده.

بعد سجن المنذر والنعمان دعت الحاجة للاجتماع تحت راية قائد أردني غساني جديد وكان الحارث الأصغر بن الحارث بن جبلة وأخ المنذر بن الحارث هو القائد الجديد. وعقبه عدة ملوك  آخرين ولكن كان حكمهم أكثر محلية ولم تتوافر المعلومات الكثيرة عن حقبتهم، سوى ما سجله المؤرخ الألماني نولدكه عبر استخلاصه أسماء الملوك اللاحقين من الشعر العربي القديم وقد وجد عبر تحقيقه التاريخي ستة أسماء لملوك أردنيين غساسنة: الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر، أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م. ، عمرو، حجر بن النعمان، جبلة بن الأيهم،  حكم سنة 635م.

جبلة بن الأيهم

من المتفق عليه أن جبلة بن الأيهم هو آخر حاكم أردني غساني فعلي انتهى حكمه بفعل هزيمته أمام جيش خالد بن الوليد في معركة اليرموك عام 363 وقد رحل للقسطنطينية ومات هناك. ولكن من المهم الإشارة إلى أنه أعلن إسلامه في زمن الرسول عبر المراسلات التي أجراها معه وقد ظل مسلما حتى عهد عمر بن الخطاب. وقد ذكر هذا الأمر ذكرا دون حفظ نص المعاهدات فيقول المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع: “وقال: أسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل مسلما إلى زمن عمر فتنصر[1] وبإسلام جبلة بن الأيهم، القائد الأردني الغساني يمكننا أن نستنتج أن عموم مدن الأردن كانت موالية للمسلمين لا للبيزنطيين في الوقت الذي حصلت فيه معركة اليرموك وأنهت الوجود البيزنطي تماما من الأردن.

وفيما يلي من فصول هذا البحث سنستعرض بشيء من التفصيل الخط الزمني للمعارك وللمعاهدات التي أجرتها المدن والقبائل الأردنية مع المسلمين.

أفكار مهمّة وضرورية

ماذا عن عنوان يسرد بشكل موجز طبيعة علاقات القبائل الأردنية مع الغساسنة ؟

– تأصيل فكرة التحالف السياسي الأردني مع المسلمين بدلا من الاكتفاء بالإشارة إلى اعتناقهم الاسلام

– الإشارة إلى دوافع هذا التحالف وأسبابه ( لماذا تخلت القبائل الأردنية تدريجيا عن علاقتها بالعرش الغساني)

أولا: دومة الجندل (5 هجري- 226 ميلادي)

تقع دومة الجندل على امتداد وادي السرحان الأردني وهي إحدى المراكز التجارية المهمة التي أنشأتها القبائل الأردنية على طول خط التجارة الجديد الذي كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حمايته.

خريطة توضح طريق وادي السرحان الأردني وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

سكنت في الدومة قبيلة بني كلب من قضاعة والتي ينحدر منها أبناء عشيرة الكلوب الأردنية اليوم. أنشأت القبيلة حلفا قويا مع الأردنيين الغساسنة وكانت القبيلة خليطا من المسيحية واليهودية والوثنية. بعث الرسول محمد أول سرية نحو دومة الجندل في العام الخامس للهجرة (625 م) ولكنه وجدها خالية من سكانها. وتخبرنا المصادر بأن أهالي دومة الجندل كانوا يغيرون على القوافل التجارية وهذا يدلل على أن العلاقات القوية التي أنشئت مع الأردنيين الغساسنة بدأت تضعف وتتوتر.

في العام السادس هجري (626 م) عقد المسلمون صلحا مع قبيلة بني كلب في دومة الجندل واعتنق بعضهم الإسلام وعلى رأسهم رئيسهم أكيدر بن عبد الملك الكندي الذي عاد واعتنق المسيحية فيما بعد. ولكن الصراع تجدد بعد عدة سنوات. فعام 12 هجري 633 ميلادي، بعث أبو بكر الصديق بجيش لإعادة القبائل الأردنية المسيحية تحت نفوذه، وكانت قد عاودت تلك القبائل علاقتها مع الأردنيين الغساسنة والبيزنطيين. وجد جيش عياض بن الغنم دومة الجندل محصنة جدا فبعث لخالد بن الوليد الذي كانت جيوشه تتجه نحو العراق فسانده. وبعد حصار طويل وصمود كبير من جانب الحصن في الدومة، وانضمام قوات من الأردنيين الغساسنة لمساندة قبيلة كلب، هزمت قبيلة كلب وتم الاستيلاء على مدينة دومة الجندل. وقد مهد هذا الطريق أمام جيش خالد بن الوليد ليشق طريقه إلى وادي اليرموك بعد عدة أعوام ليمر من الصحراء الأردنية (المفرق) وصولا إلى موقع معركة اليرموك.

ثانيا: مؤتة  (8 هجري – 329 ميلادي)

بقايا لآثار بنيت على أرض معركة مؤتة

استمر الرسول محمد بإرسال الرسل إلى ملوك الأردنيين الغساسنة. فأرسل الحارث بن عمير الأزدي للحارث بن جبلة الملقب بابن أبي شمر أو “عظيم بصرى”  وقد اعترض الرسول شرحبيل بن عمرو الغساني قتله (خطاب: 1996). إضافة إلى قتل الحارث بن عمير، فقد بدأت القبائل الأردنية المسيحية باعتناق الإسلام، وكان من بينهم فروة بن عمرو الجذامي (ضرورة الإشارة إلى موقع هذا الرجل اجتماعيا وسياسيا، الأمير والحاكم المحلي وشيخ القبيلة ) [2]، من قبيلة جذام القبيلة الأم للعديد من القبائل الأردنية اليوم والتي تمركزت في معان. اعتنق فروة الجذامي الإسلام وبعث للرسول كتابا يعلن فيه إسلامه فأسره البيزنطيون وقتلوه ( 1. ما هو أثر الاغتيال أو الإعدام على قبيلته ومنطقته؟، 2. صورة ضريحه أو موقع اعدامه ؟  ) . ويدلنا هذا الحدث بالذات على اعتناق أكبر القبائل الأردنية للإسلام الأمر الذي سينعكس لاحقا على موازين القوى ضد البيزنطيين والغساسنة.

صورة لضريح فروة بن عمرو الجذامي قرب مدينة الطفيلة مطل على حمامات عفرا من الجهة الشرقية.

وقد أدت هذه الأحداث إلى تجهيز المسلمين جيشا ( لماذا جهزوا جيشا ؟ وبأي معنى كان هذا التجهيز ؟ الفزعة والنصرة وأيضا التوسع السياسي) ودخول حدود المملكة الأردنية الغسانية ليصلوا إلى مؤتة جنوب الأردن. وبعد صدام الجيشين والخسارة الكبيرة التي تجشمها جيش المسلمين عبر مقتل ثلاثة قادة وانسحاب القوات. تذكر المصادر انسحاب البيزنطيين وهروبهم وبقاء تحالف القبائل الأردنية في مواجهة جيش المسلمين (المباركفوري: 2007)

 ثالثا: تبوك (9 هجري – 630 ميلادي )

بعد عام من هزيمة معركة مؤتة، قرر قيصر معاودة المهاجمة وقد جهز جيشا  وجمع قبائل من لخم وغسان وجذام ( هذه القبائل كان لديها حكم ذاتي كما قرأنا في الأبحاث السابقة، في السردية الوطنية يجب إظهارها بشكل الحليف لا بمظهر التابع بالإضافة إلى أردنتها جميعا فنقول قبائل كذا وكذا الأردنية ) [3] وعسكر عند تبوك آخر حدود المملكة الأردنية الغسانية. لم تكن أوضاع جيش المسلمين يسيرة، فقد عانوا من القحط والحر إضافة الخوف من جيش البيزنطيين شديد الضخامة.(المباركفوري: 2007)

فتذكر مصادر التاريخ الإسلامي تخوفا كبيرا من الملك “الغساني” ( ما علاقة النص التالي بمعركة تبوك  ؟، وما سبب هذا التخوف أصلا ؟ يجب التمهيد للأمر ). ويورد في هذا الصدد خبرا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:” ‏ وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال‏:‏ افتح، افتح، فقلت‏:‏ جاء الغساني‏؟‏ فقال‏:‏ بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ‏:‏ وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال‏:‏ أنائم هو‏؟‏ ففزعت، فخرجت إليه، وقال‏:‏ حدث أمر عظيم‏.‏ فقلت‏:‏ ما هو‏؟‏ أجاءت غسان‏؟‏ قال‏:‏ لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نساءه‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.”[4]

ومن دلائل تزعزع الجانب البيزنطي وفقدان الثقة بين القبائل الأردنية المسيحية وبين الغساسنة والبيزنطيين ما تناقلته المصادر عن مساعدة الأنباط (الأردنيين الأنباط ) للمسلمين عبر نقل الأخبار عبر رحلات التجارة الآتية من الأردن والمارة بالمدينة ومكة.” إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطي قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير‏” [5]

 وفي كل الأحوال، تظهر هذه الأخبار استمالة المسلمين للأردنيين من القبائل البدوية والحواضر كمعان (جذام) والأردنيين الأنباط الذين استمروا كثقافة فاعلة أثناء الحكم الأردني الغساني للأردن.

ورغم عدم حدوث أي صدام عسكري بين الجيشين إلا أن البيزنطيين هربوا مجددا مزعزعين الثقة بين القبائل الأردنية وبين الحكم الغساني. فقد كانت جيوش القبائل الأردنية وحدها أمام جيش المسلمين وقد أدركت أن وعود البيزنطيين بالأمان والصد كانت غير صادقة. ولذلك استمرارا في الحكم الذاتي والاستقلالية التي كانت تدير هذه القبائل والمدن الأردنية نفسها وفقا لها، توقفت عن مساندة البيزنطيين وبحنكة شديدة استغلت الاضطراب وبدأت بعقد اتفاقيات مع المسلمين وقد عرفت لاحقا بمراسلات تبوك.

معاهدات المسلمين مع القبائل الأردنية المسيحية 

بعد معركتين خاسرتين في عامين على التوالي، أردك المسلمون ضرورة الاعتراف بقوة القبائل الأردنية وضرورة استرضاء ( التحالف هو لفظ سياسي أوضح وأوجه هنا ) هذه القبائل عبر عقد معاهدات سلام وأمان على الحرية الدينية ولو بمقابل مادي بسيط ورمزي سمي الجزية وكانت الجزية قديما تعتبر علامة انضواء تحت كيان سياسي ( ما الذي يوفره هذا الكيان السياسي لدافعي الجزية ؟ ، يجب توضيح الفكرة ليكتمل المعنى ) لا ضريبة اقتصادية بمعناها الفعلي (الشجاع: 1999). في هذا الفصل سنستعرض المعاهدات التي أبرمتها القبائل الأردنية مع المسلمين خلال الست سنوات التي أعقبت معركة تبوك والتي انتهت بمعركة اليرموك.

خريطة متصوّرة توضح أهم المكونات السكانية للأردن إبان عهد الأردنيين الغساسنة

معاهدات قبيلة جذام الأردنية

لقد أسلفنا الحديث عن فروة بن عمرو الجذامي – ذات الملاحظة السابقة – الذي كان مقتله على يد البيزنطيين  سببا من أسباب معركة مؤتة. أعلن الجذامي إسلامه وبعث للرسول محمد (خطاب: 1996). وجذام إحدى أكبر القبائل الأردنية[6] وهي أم لكثير من القبائل الأردنية اليوم وتمركزت في معان وامتدت حتى البلقاء وكانت تحت ولاية فروة بن عمرو الجذامي الذي كان بدوره واليا للبيزنطيين (الشراكة بدلا من التبعية، تأصيل فكرة الحكم الذاتي ). إن إسلام ( تأصيل فكرة التحالف السياسي بدلا من الاعتناق المذهبي فقط ) فكرة أكبر عشيرة أردنية أثار رعب البيزنطيين ( لماذا ؟) وقد خافوا انقلاب القبائل الأردنية الأخرى عليهم ومناصرتهم للمسلمين ولذلك طلبوا فروة الجذامي وقطعوا رأسه وصلبوه.

الشاهد على ضريح فروة بن عمرو الجذامي يروي قصته

وتكر المصادر تاريخ المعاهدة التي جرت بين جذام الأردنية والرسول ( ع ) في شهر نيسان 528 تحديدا. وتذكر الروايات الإسلامية كذلك نص المعاهدة “فقد جاء رفاعة ابن زيد بن عمير بن سعيد الجذامي على رسول الله في الهدنة قبل خيبر  وأهدى له عبدا وأسلم ، فكتب رسول الله له كتابا: هذا كتاب محمد إلى رفاعة بن زيد إلى قومه من دخل يدعوهم إلى الله، فمن قبل ففي حزب الله، ومن أبى فله أمان شهرين. فأجاب قومه، فأسلموا” (النعيم: 1997)

 معاهدات الأردنيين الغساسنة 

( تأصيل فكرة التحالف السياسي بدلا من الاعتناق المذهبي فقط )

أما قبيلة غسان وبطونها التي لا تزال الكثر من العشائر الأردنية تنسب لهم ( لها ) – أو يرجّح انتسابها لها – كالجوابرة والحداد  والبشارات وغيرهم ( الغساسنة في الكرك مثل المبيضين والضمور والكركي)[7]؛ فقد عقدت كذلك معاهدة مع الرسول وقد أسلم بعضهم. فيذكر ابن سعد بأن هنالك وفدا من ثلاثة أشخاص قدموا في رمضان سنة عشرة للهجرة، “وأسلموا وصدقوا وقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم” (النعيم: 1997)  وفي الوثائق أيضا وثيقة معاهدة بين الرسول وبين قبيلة ثعلبة[8] من غسان:” هذا كتاب محمد لصيفي بن عامر على بني ثعلبة، من  أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم الرسول والصفي فهو آمن بأمان الله[9]

المعاهدات مع طيء وعذرة

( تأصيل فكرة التحالف السياسي بدلا من الاعتناق المذهبي فقط )

من ضمن المعاهدات التي حصلت بين القبائل المسيحية والمسلمين كانت بين قبيلتين مهمتين. الأولى عذرة، التي سكنت وادي القرى على الحدود الجنوبية للملكة الأردنية الغسانية ( هل عذرة قبيلة أردنية ؟ إذا لا، فما مبرّر ذكرهم ؟). وكان العذريون أو جزء كبير منهم قد اعتنق الإسلام. وقد جاء نفر منهم للرسول “قدم في صفر سنة تسع،  وكان يتكون من اثني عشرة رجلا، أعلنوا إسلامهم“(النعيم: 1997) ويذكر ابن سعد في كتابه الطبقات وابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة أن العذريين بعثوا للرسول بصدقاتهم وزكاتهم.

أما عن قبيلة طيء، إحدى القبائل – الأردنية – التي سكنت الأردن – مصطلح يتناقض والسرديّة الوطنية، انتشرت، امتد نفوذها  – خصوصا على طول وادي السرحان، ولها بطون كثيرة وعشائر متفرعة عنها إلى يومنا الحاضر[10]، فيؤرخ ابن سعد في كتابه الطبقات إسلام خمسة عشرة رجلا من القبيلة على رأسهم زيد الخيل ابن المهلهل.[11]

وفي وثائق المعاهدات بين قبيلة طيء والرسول ( ع ) ، نجد كتابين مهمين للطائيين كتبها الرسول:

هذا كتاب محمد لبني معاوية بن جرول الطائيين لمن أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم الخمس خمس وسهم النبي وفارق المشركين[12]” (النعيم: 1997)

وفي الكتاب الثاني:” هذا كتاب محمد رسول الله لعامر بن الأسود بن عامر بن موين الطائي، أن له ولقومه من طيء ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة  وفارقوا المشركين” وكتب مثل هذا لبني معن ولبني جوين من طيء ولجابر بن ظالم بن حارثة الطائي، ولوليد بن جابر بن حارثة الطائي، ولأنس بن حصن الطائي. (النعيم: 1997)

المعاهدات مع أيلة

تقع منطقة أيلة على الحدود الجنوبية للمملكة الأردنية الغسانية وتعرف بقرية أم الرشراش ( ماذا عن العقبة ؟ ).  وقد جاء ملك أيلة الذي يدعى يحنة (يوحنا) بن رؤبة وعقد صلحا مع الرسول  ( ع ) وكان من بنوده الأمان في البر والبحر‏:‏ ‏(‏بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر‏)‏‏‏[13]

المعاهدات مع أذرح والجرباء ( النبطية )  

صورة جوية لأذرح

أَذْرُح قرية أردنية نبطية  ومنطقة جغرافية ضمن قضاء أذرح، في محافظة معان جنوب العاصمة عمّان. أما الجرباء فهي مدينة أخرى على بعد عدة كيلومترات منها. تسكن القبائل الأردنية خصوصا بعض بطون عشيرتي الحويطات وبني عطية ذوات الأصل النبطي [14] في أذرح والجرباء منذ مئات السنين. وقد تم تأريخ المعاهدة التي عقدتها القبائل الأردنية المسيحية مع الرسول مقابل جزية رمزية وحرية دينية ودخول في دائرة  النفوذ الإسلامي ( تأصيل فكرة التحالف السياسي بدلا من التبعية ) .

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي لأهل أذرح. إنهم آمنون بأمان الله ومحمد. وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة. والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون حتى يحدث لهم محمد قبل خروجه

أما نص معاهدة أهل الجرباء: ”  هذا كتاب محمد النبي لأهل جرباء. إنهم آمنون بأمان الله ومحمد. وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة. والله كفيل[15]

المعاهدات مع  نجران

نجران مدينة جنوب شبه الجزيرة العربية وكانت على علاقة قوية للغاية مع الأردنيين الغساسنة طوال فترة حكمهم إلا أن أهلها ارتأوا عقد معاهدة مع المسلمين ( لماذا ؟ ، تأصيل فكرة التخلي عن العلاقة مع العرش الغساني كما فعلت القبائل الأردنية تماما) تضمن لهم الأمان الديني وقد جاء في نصها، في كتاب طبقات ابن سعد:

“ولنجران وحاشيتهم جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، وصلواتهم لا يغيروا أسقفًا عن أسقفيته، ولا راهبًا عن رهبانيته، ولا واقفًا عن وقفانيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل، أو كثير وليس ربا، ولا دم جاهلية، ومن سأل منهم حقًّا فبينهم النصف غير ظالمين، ولا مظلومين لنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله، وذمة النبي أبدًا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا، وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم، شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان ابن عمرو، ومالك بن عوف النصري، والأقرع بن حابس، والمستورد بن عمرو أخو بلي، والمغيرة بن شعبة، وعامر مولى أبي بكر.[16]

رابعا : معركة اليرموك ( 15 هجري- 336 ميلادي)

 

صورة لحوض نهر اليرموك في الأردن

لقد رأينا كيف مهّدت المعاهدات الطريق أمام المسلمين لهزيمة الوجود البيزنطي. حصلت معركة اليرموك في العام 15 هجري بحسب المصادر الإسلامية و16 بحسب المصادر السريانية (خلف:2016).  وكانت قد  تحركت جيوش المسلمين التي كانت في العراق تحارب الفرس الساسانيين وفي فلسطين وفي حمص إلى حوض اليرموك لملاقاة البيزنطيين.  بعث أبو بكر الصديق بقوات مساندة لقيادة خالد بن الوليد مرت بالأراضي الأردنية التي كانت قد وقّعت معاهدات سلام أو اعتنقت الدين الإسلامي. وكما ذكرنا آنفا، مهّدت  معاهدة  دومة الجندل جنوب وادي السرحان الأردني الطريق أمام جيش خالد بن الوليد لمساندة جيوش المسلمين الأخرى.

أردنة المعركة في سياق السّرد
كان الجيش البيزنطي يتألف من البيزنطيين والغساسنة من الذين لم يعقدوا معاهدة مع المسلمين. وقد انحاز جبلة بن الأيهم إلى صفوف البيزنطيين وحارب معهم ضد المسلمين ( هل قاتل المسلمون وحدهم ؟ أين ذكر جذام ؟ ). ورغم هزيمة الغساسنة في معركة مرج راهط في الطريق الواصل بين دمشق ومدينة عدرا ( إلى الشمال من دمشق) عام 13 هجري، إلا أنهم أعادوا جمع بعض القوات.

استمرت المعركة ستة أيام من الكر والفر في سهول حوران الأردنية وكان فرق العدد بين جيش المسلمين (حوالي 36 ألفا) والبيزنطيين (200 ألفا) واضحا وكبيرا (الشجاع:1999)، فاستعان خالد بن الوليد بالسهول والوديان المحيطة بنهر اليرموك لتنفيذ هجماته، كما استعان بماء نهر اليرموك في الهجمات ليغرق عددا هائلا من البيزنطيين. وتم إعطاء الأوامر لإعادة الجزية والزكاة  إلى أهلها من القبائل الأردنية المسيحية وقد لعب ذلك دورا مهما بلا شك في تقوية علاقة القبائل الأردنية مع المسلمين. إن إدراك المسلمين لضرورة إبقاء القبائل الأردنية المسيحية والمسلمة على حد سواء في صفهم ساهم في النصر الذي أحدثته الجيوش الإسلامية بقيادة خالد بن الوليد.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

 كانت معركة اليرموك على قدر عال من الأهمية فبعدها تغيرت خريطة المشرق وانتهى وجود مملكة الغساسنة الأردنيين ككيان سياسي وفتحت صفحة جديدة من تاريخ الأردن. سميت الأردن فيما بعد “جند الأردن”  وضم الجند أجزاء واسعة من سورية وفلسطين. ويقول الحموي صاحب كتاب معجم البلدان “وأما الجند فيجيء في قولهم: جند قنسرين، وجند فلسطين، وجند حمص، وجند دمشق، وجند الأردن” وقسم جند الأردن إلى ثلاثة عشرة كورة: طبرية والسامرة وبيسان وفحل وجرش وبيت راس وجدارا، كورة الجبال (الطفيلة) وكانت غرندل مركزه وكورة الشراة ومركزه أذرح، وكورة مآب (مؤاب) ومركزها مآب (الكرك) وأحياناً زغر (غور الصافي) وأخيراً كورة البلقاء التي كان مركزها عمان.

 

الخاتمة

 تتبعنا في هذا البحث الخط الزمني لدخول المسلمين للأردن. فعبر المعاهدات والسلم التي عقدها المسلمون مع القبائل الأردنية من عهد الرسل وحتى عهد الخلفاء الراشدين، دخل المسلمون الأردن. ورغم انسجام القبائل الأردنية مع الحكم الأردني الغساني لأكثر من أربعة قرون إلا أنها سارعت في سحب الثقة من القيادة الغسانية حالما وجدتها منحازة للصالح البيزنطي أكثر من الصالح العام للقبائل الأردنية نفسها. فالنفس الأردنية أبية والاستقلال فيها مترسخ، والرد أمام المعتدي يأتي دوما قاطعا وحادا كحد سيوف الثوار والفرسان من العشائر الأردنية.

المراجع

  • العويدي العبادي، أحمد، تاريخ الأردن وعشائره في العصور القديمة والوسيطة من 3400 قبل الميلاد- 1910م، ط1، (2014) دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، الأردن: عمان
  • آبادي الهندي، محمد الحيدر، مجمعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط6، دار النفائس، لبنان: بيروت
  • النعيم، عبد الله محمد، الاستشراق في السيرة النبوية (1997)، ط1، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة الرسائل الجامعية المنشورة.
  • عجلون في صدر الإسلام والدولة الأموية، د.محمد حسين محاسنة، موقع وزارة الثقافة- التراث الثقافي غير المادي.
  • خلف، تيسير (2016) القراءة السريانية للفتوحات الإسلامية، ط1، دار التكوين، سورية: دمشق.
  • المباركفوري، صفي الدين (2007) الرحيق المختوم، بحث في السيرة النبوية، منشورات وزارة الشؤون الإسلامية، قطر: الدوحة
  • خطاب، محمود شيت، سفراء الرسول (1996) دار الأندلس الخضراء، المملكة العربية السعودية
  • الشجاع، عبد الرحمن عبد الواحد، تاريخ صدر الإسلام، رؤية جديدة لدراسة عصري النبوة والخلافة الراشدة (1999) ط8، الإحسان نت. اليمن: صنعاء
  • علي، جاسم، معاهدات الصلح التي عقدها الرسول مع النصارى، دراسة منشورة، جامعة بغداد، كلية التربية للبنات، قسم التاريخ، مز 24، (2) 2013
  • نولدكه (1933)، أمراء غسان من آل جفنة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت: لبنان
  • Shahid, I. Byzantine and Arabs in the sixth century, Political and Military music (1995), VOL1, P1, Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] المصدر: إمتاع الأسماع للمقريزي. ص 1024

[2] يذكر ابن سعد في طبقاته : فروة بن عمرو الجذامي أحد بني نفاثة بعث إلى رسول الله بإسلامه وأهدى له بغلة بيضاء وكان عاملا للروم على ما يليلهم من العرب وكان منزله في معان وما حولها من أرض الشام. فلما بلغ الروم إسلامه طلبوه قم حبسوه وضربوا عنقه وصلبوه.” م1، ص355

[3] الرحيق المختوم. الفصل 12، معركة تبوك.

[4] المصدر السابق نفسه.

[5] المصدر السابق نفسه.

[6] تاريخ الأردن وعشائره للدكتور أحمد عويدي العبادي ص900

[7] تاريخ الأردن وعشائره للدكتور أحمد عويدي العبادي ص963

[8] يعتقد بأن ثعلبة وجفنة أولاد عمومة ومنهما جاء نسل الأردنيين الغساسنة وقد سموا آل جفنة وآل ثعلبة.

[9] مجموعة الوثائق السياسية، حيدر آبادي ص 426

[10] تاريخ الأردن وعشائره للدكتور أحمد عويدي العبادي، ص976-989

[11] ابن سعد، الطبقات، م1 ص 321

[12] للمزيد انظر: الحيدر آبادي، مجموعة الوثائق السياسية، ص 170-171

[13] ابن هشام: السيرة النبوية 2/525، 526، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/258، وابن القيم: زاد المعاد 3/466.

[14] تاريخ الأردن وعشائره/ الدكتور أحمد عويدي العبادي، ص994-937

[15] تجد نص المعاهدتين في كتاب مجموعة الوثائق السياسية لحيدر آبادي ص 416/  إمتاع الأسماع للمقريزي ج1 ص 468-469

[16] نص المعاهدة كاملة  في كتاب مجموعة الوثائق السياسية لحيدر آبادي ص 467 ( لماذا لا نورد صور عن نصوص المعاهدة إذا كان هناك صورة نص قديم وتاريخي ؟ لا يوجد صورة فقط جمع تاريخي )

كيف دخل المسلمون الأردن؟

مقدمة

 تعرضت الكثير من الشعوب لحملات “التعريب”، فالآرام والسريان على سبيل المثال يطلق عليهم “العرب” رغم أنهم شعوب مختلفة عرقيا تماما.  حصل ذات الشيء مع الأردنيين الأنباط الذين يتم ذكرهم على الدوام في المصادر اليونانية والعربية “كأنباط” لا كعرب. فيذكر الملك الآشوري  “تغلت فلاسر” ال36 قبيلة التي حاربت الغزو الأكدي ومن ضمنها قبيلة “نباطو”.

خريطة توضح امتداد المملكة الأردنية النبطية

الأردنيين الأنباط في المصادر التاريخية

ربما تكون أصول الأردنيين الأنباط من أكثر القضايا التاريخية جدلا. فقد أدى التسرع ونقص المصادر التاريخية وسوء التعامل مع النقوش الآثارية إلى إطلاق أحكام متسرعة لا تستند إلى أدلة ولا تتقصى الدقة والمنهجية العلمية المنطقية. ويأتي هذا البحث متمما لسلسلة أبحاث طويلة أجرتها إرث الأردن عن أجدادنا الأردنيين الأنباط تناولنا فيها مختلف جوانب الحضارة الأردنية النبطية.

تذكر المصادر الرومانية اسم المملكة النبطية “ريجينو دي نباتي”،وفي ما تركه لنا المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي يذكر الحملات التي قام الرومان بها على مملكة الأردنيين الأنباط  منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر في كتابه أيضا الحملات التي شنّها الأردنيون الأنباط على اليهود.

ونستمر بالاستدلال على صحة هذا القول بتتبعنا للآثار والأخبار في المصنفات العربية التاريخية والأشعار العربية التي تذكر الأردنيين الأنباط كشعب مختلف.فقد سأل أحد المسلمين أحد الأنباط من أنتم؟ فقال: كنا نبيطا فاستعربنا وكنا عربا فاستنبطنا. دلالة على أنهم مختلفون عرقيا ولكنهم اختلطوا مع بعضهم البعض. يذكر الأصفهاني في كتابه (مجموع الغيث) (2/397) أن عمر بن الخطاب سأل عمر بن معد يكرب عن سعد فقال: خير أمير، نبطي في حبوته، عربي في نمرته، ويقول حسان بن ثابت في سياق تفريقه للأنباط: لكميت كأنها دم جوف.. عتقت من سلافة الأنباط” فإن كان الأنباط عربا لقال حسان بن ثابت وهو الشاعر العربي القاطن في الجزيرة العربية عنهم أنهم عرب ولما دعت الحاجة لوصفهم بأنهم قوم حمر (أي عجم). وأخرج السبكي  في (طبقات الشافعية الكبرى) (3/221) قصيدة لابن حزم يفرق فيها بين الأجناس:  وقبط أنباط وحرز ديلم..وروم رموكم دونه بالقواصم”

 ورغم الأدلة التي تعج فيها المصادر التاريخية والتي استعرضناها آنفا إلا أننا في هذا البحث سنعتمد على ثلاثة محاور وهي : اللغة والدين وانتقال السلطة. وسنستعرض في المباحث الثلاثة أهم القضايا والإشكالات التي ستُطرح، مُتبعينها بآخر ما توصلت إليه الدراسات والأبحاث العلمية من قراءات للنقوش وترجمات ودراسات على الواقع الجيوسياسي للأردن من ما قبل الميلاد وصولا إلى مملكة الأردنيين الأنباط.

أولا : لغة الأردنيين الأنباط

سنبحث في هذا الفصل اللغة الأردنية النبطية من جانبيها المحكي والمكتوب ورغم ما يتميز به هذا الموضوع من تعقيد واختلاط إلا إن النقوش والدراسات اللغوية المكثفة التي أجريت على النقوش النبطية والنقوش الصفاوية ستبهرنا بنتائج تؤكد أن الأردنيين الأنباط لم يكونوا عربا.
ففي الواقع، الرابطة اللغوية “العربية” هي الرابطة الأساسية التي لم تنقسم أو يتم التنازع عليها يوما، فاليوم يتحدث العرب حول العالم  لهجات لا تعد ولكنهم في ذات الوقت يظلون عربا وإن انتموا لأديان مختلفة أو أيدولوجيات مختلفة. من هذا المنطلق تأتي أهمية البحث في لغة الأردنيين الأنباط.

هل تحدث الأردنيون الأنباط العربية؟

عبر التجارة اختلط الأردنيون الأنباط مع القبائل العربية المرتحلة جنوبا ومع الكنعانيين واليهود غربا وأهل العراق وصولا إلى تواصلهم مع الرومان وقد أدى ولا بد إلى تأثر لهجتهم وإثرائها وبالتالي زيادة قوتها. ورغم هذا الانفتاح، صاغ الأردنيون الأنباط  مع الوقت لهجة خاصة بهم يمكن اعتبارها خليطا أساسيا من العربية والآرامية وقد سميت “رطانة الأنباط”.

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

ورد ذكر اللهجة النبطية في عدة مصادر تاريخية عربية فقال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أن النبطي (القح) يجعل حرف الزاي سين فيقول بدل زورق: سورق. كما يقلب العين همزة ويفتح المكسور. (ولفنسون: 1929) إضافة لاختلافات أخرى لا تحصر. وهذا يدلنا على أن الأنباط لم ينطقوا بالعربية الفصيحة التي ننطق بها الآن إنما كانوا ينطقون بالآرامية وقد تصبغوا بالعربية نتيجة احتكاكهم بالقبائل العربية المرتحلة ونرى نتيجة هذا الاحتكاك في النقوش التي تتضمن شذرات من الكلام العربي لا أكثر.

وهنالك جانب آخر للمسألة لا بد لنا من الوقوف عليه. إن بعض النقوش النبطية الأولى تُقرأ قراءة آرامية خالصة رغم كتابتها بأبجدية أردنية نبطية أما النقوش النبطية المتأخرة فإنها تُقرأ قراءة عربية وهذا سيقودنا للجزء الثاني الشديد الأهمية من اللغة النبطية الأردنية وهو جزء الأبجدية المكتوبة.

الخط الأردني النبطي

 

الخط النبطي هو خط آرامي في الأصل ولكن مع الكثير من التحسينات والتطورات في شكل الحروف وتباين مواقعها واستخدامها في الكلمة. ورغم أن النقوش والكتابات النبطية تعد قليلة مقارنة بغيرها إلا أنها أعطتنا معلومات كثيرة. فكان يستدل من النقش على المدفن اسم الميت ومهنته وزمن الوفاة وملكية المدفن، كما تعرف الباحثون على أسماء الآلهة التي عبدت آنذاك والملوك والملكات وغيرها من الأمور التي تتعلق بملامح الحياة الاجتماعية عامة (المحيسن:2009). يرجع العلماء هذا النقص في المصادر النقشية إلى حملات السلب والنهب التي تعرضت لها المدن النبطية منذ سقوط المملكة على يد الرومان عام 106 ميلادي.

بالعودة إلى الخط النبطي فهو خط يميل للشكل المربع وتتشابه فيه بعض الأحرف مثل الباء والياء والتاء وتستخدم النقاط للتفرقة (كانتينو: 2016).

الصف الأول: الكتابة النبطية ويظهر استخدام الأنباط للنقاط للتفريق بين الراء والزاي. الصف الثاني: استخدام السريانية للتنقيط للتفريق بين الراء والزاي.

النقوش الصفاوية الأردنية وإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية

 

لقد دار الجدل منذ القرن التاسع عشر حول أصل الخط العربي الكوفي، وكان أول من أرجعه للنبطية هو المستشرق الألماني نولدكه وبعد نصف قرن، تبنى الباحث ج. ستاركي نظرية أخرى تفيد بأن أصل الخط الكوفي هو الخط السرياني النسخي وقد اعتمد على مظهر الحروف النبطية وعدم استنادها على السطر بل تدليها منه. وقد اعتمد أيضا على رواية البلاذري التي تقول بأن ثلاثة رجال من قبيلة طيء التقوا في منطقة بقّه قرب الحيرة عاصمة اللخميين واتفقوا على الخط العربي (جرندلر: 2004) تفتقر هذه النظرية للإثباتات والنقوش وبهذا ظلت النظرية التي وضعها نولدكه بأن الخط العربي ذو أصل نبطي هي الأكثر قبولا في المجتمع العلمي.

لقد أرخ العلماء اللغة العربية إلى القرن الرابع ميلادي بالاستناد إلى نقشيين رئيسيين: نقش (فهرو) أو كما يسمى (نقش أم الجمال الأول) وهو نقش وجده الباحث ليتمان في مدينة أم الجمال الأردنية التي كانت إحدى مراكز المملكة الأردنية النبطية واستعان ليتمان بنقش إغريقي وجد بالقرب وكان ترجمة للنقش النبطي. وتكمن أهمية هذا النقش في كونه استخدم الخط النبطي المتأخر ويرجح أن يكون عائدا إلى 250-270 م.

نقش أم الجمال الأول: الترجمة الأولى على اليمين وهي تعتمد على النقش الإغريقي لتفسير النقش. بينما الترجمة الحديثة على اليسار وفيها يوضح الباحث سعد الدين استخدام العربي الفصحى في كلمة “مملك” واستخدام كلمة “نفس” بمعنى قبر كما هو الحال لدى الوثائق اللغوية المكتوبة بالمسند- ويكيبيديا

 

 والثاني هو نقش نمارة المؤرخ لعام 328م. يعرف النقش باسم نقش امرؤ القيس وقد قرأه المستشرق دوسو على أنه شاهد لقبر ملك من ملوك الحيرة؛ على أن دراسات الباحث سعد الدين أبو الحَب أفادت بان ذكر امرؤ القيس كان على سبيل التعظيم لا أكثر وأن النقش يتناول سيرة حياة مقاتل اسمه عكدي.[2]

صورة عالية الجودة لحجر نقش النمارة معلق على جدران متحف اللوفر الفرنسي في باريس © Marie-Lan Nguyen / Wikimedia Commons

وبعد نقش نمارة بسنين، أفادت دراسات الباحث أحمد الجلاد التي أجراها على نقوش الصفاوي والتي توجد حصرا في المنطقة الواقعة في البادية الشمالية الأردنية إلى أن أصل اللغة العربية يعود إلى القرن الثاني أو الرابع قبل الميلاد. وبهذا أعيد تأريخ اللغة العربية ثمانية قرون على الأقل وأكدت أبحاثه على فكرة أن اللغة العربية لم تنطلق من شبه الجزيرة العربية وتمتد إلى الشمال إنما انطلقت من البادية الأردنية وامتدت إلى الجنوب باتجاه الحجاز وشبه الجزيرة العربية.

إن نقوش الصفاوي تعد ثورة هائلة أعادت ترتيب الخارطة الزمنية والمكانية لنشأة اللغة العربية.  فالنقوش عربية وتقرأ قراءة عربية إلا أنها مكتوبة بالخط النبطي. وقد واجهت الباحث أحمد الجلاد عدة صعوبات تتعلق بقراءة هذه النقوش فالعربية تمتاز بأصوات العلة القصيرة (الحركات) والتي لا تكتب في النبطية وقد استعان بالنقوش النبطية المكتوبة باليونانية والتي تُكتب فيها هذه الأصوات وبهذا خرج الباحث الجلاد بقراءة عربية للنقوش الصفاوية.

لقد أشارت الباحثة إنعام الور، إحدى أهم الباحثات في اللهجات المحلية على مستوى العالم، إلى أن القراءة العربية للنقوش الصفاوية أفضت إلى استنتاج مدى التقارب بين اللغة المستخدمة في النقوش واللهجة الأردنية المحلية. وقد ساقت على ذلك عدة أمثلة نذكر منها الفعل “يخربش” والذي يستعمل إلى الآن في لهجتنا المحلية، والفعل “يشتّي” والفعل “يتعنّى” والذي لا زال مستخدما أيضا . فمن كان يتصور أن ما نقوله اليوم في أحاديثنا اليومية يمتد للقرن الثاني-الرابع قبل الميلاد وقد خلّده أجدادنا الأنباط في نقوشهم وباستخدام أبجديتهم.

وكخلاصة، إن كانت النقوش الصفاوية النبطية تقرأ قراءة عربية أعادت تاريخ اللغة العربية ووضحت أنها بدأت من البادية الشمالية الأردنية وامتدت إلى الجنوب، فبإمكاننا أن نستنتج أن العرب لم يبدأوا بالتكتل على شكل قبائل ذات لغة في شبة الجزيرة العربية واحدة سوى في زمن متأخر نسبيا وهذا ما يجعلنا أن نقول أنه من غير المنطقي نسبة الأردنيين الأنباط (الأقدم في الوجود الزمني) إلى العرب (الأحدث في الوجود). ومن وجهة نظر لغوية، إن كان الأنباط عربا فلماذا لم تشابه اللهجة الأردنية المتطورة عن لهجتهم لهجة عرب الجزيرة أو عربية أهل اليمن؟ ولماذا نجدها متفردة في سماتها اللغوية و(الفونولوجية -الصوتية)؟

ثانيا: الخصوصية الدينية لمعبودات الأردنيين الأنباط

 

مما لا شك فيه أن الحضارة الأردنية النبطية كانت على قدر عال من الثراء الديني والروحي. فتعددت المعبودات النبطية بشكل كبير وكانت على اتصال مباشر مع حياة الإنسان الأردني النبطي. في هذا الفصل من بحثنا سنرى كيف تفرد الأردنيون الأنباط بخصائص ميزتهم عن الآراميين[1] وعن العرب.

آلهة وطقوس نبطية خالصة

 

عبر استقصاء الآلهة الأردنية النبطية والطقوس الدينية النبطية في سلسلة من ثلاثة أبحاث مفصلة، يمكن للباحث استنتاج عدة خصائص تميزت بها المعبودات الأردنية النبطية. وصحيح أن الأردنيين الأنباط عبدوا آلهة عديدة تمتلك امتدادا تاريخيا في حضارات أخرى إلا أن أنهم تفردوا بعبادة آلهة خاصة بهم تماما.

نجد الثالوث الأنثوي المقدس (اللات والعزى ومناة) ذي أصول متعددة قد تمتد للبابليين والآرام. إلا أن الوجه الذكوري للآلهة (ذو الشرى وشيع القوم) كانا إلهين أردنيين نبطيين خالصين.

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه الأردني النبطي فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطٌ بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

البترا المنحوتة في الصخر

تعود تسمية ذو الشرى لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأردنيين الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية (المدن النبطية الشمالية كبصرى وتدمر وأم الجمال وجرش وغيرها) على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

ظاهرة المدينة المعبد

في هذه الظاهرة التي تعد نقلة نوعية في التاريخ الديني في المشرق بأكمله، يبهرنا أجدادنا الأنباط ببناء مدن دينية كاملة. مدن بأكملها تكرس للعبادة. وإلى جانب العبادة، مارسوا التجارة والزراعة ولا يتعارض هذا مع فكرة تكريس المدينة بالكامل للعبادة إن عرفنا أنهم عبدوا آلهة للخصب وآلهة للزراعة وهكذا دواليك.

البترا، عاصمة الأردنيين الأنباط أفضل مثال للمدينة المعبد. المدينة الوردية المنحوتة في الصخر ومدينة الخمسمئة قبر. تمتلئ البترا بالمذابح والأنصاب والمسلات والمعلايات[2]. يرمز المعبود ذو الشرى للصخر بينما ترمز اللات (زوجة ذو الشرى) إلى المياه الجارية والينابيع. إن بترا بأكملها جسد ذو الشرى بينما تجرى اللات في القنوات المائية التي حفرها الأردنيون الأنباط في جسده كالشرايين. إنها رؤية دينية ساحرة.

المدينة الثانية التي تشكل جزءا من هذه الظاهرة النبطية هي أم الجمال شمال شرق الأردن وتتبع لمحافظة المفرق. أم الجمال مدينة نبطية تتميز بحجارتها سوداء اللون. وهي عبارة عن تجمع ديني كنسي حيث تتألف من خمس عشرة كنيسة بنيت معظمها في القرن الأول ميلادي أي عند اعتناق بعض الأردنيين الأنباط للمسيحية.

والسؤال هنا، لم لا نجد هذه المدن الدينية على هذه الشاكلة في شبه الجزيرة العربية؟

الطقوس الدينية النبطية جنوب الأردن

إن الباحث والمستقصي للممارسات الدينية جنوب الأردن سيجد لا محالة ارتباطا وثيقا بين تلك الممارسات والطقوس النبطية الدينية. فحتى ثمانينات القرن العشرين كان الأردنيون في الجنوب خصوصا سكان إقليم البترا يزورون جبل هارون. ورغم وجود مقام ديني يؤرخ للقرن الثامن هجري إلا أن ارتباط هذا المقام بالمكان العالي “المقدس” لابد أن يكون له امتداد نبطي أردني.

مقام النبي هارون عام 1900 ميلادي يتربع على واحد من أعلى جبال البترا

لقد قدس الأردنيون الأنباط المكان العالي كما أسلفنا، وبعد دراسة المواقع الدينية في الحضارة الأردنية النبطية تبين أن 75% منها بنيت على مكان عال.

وتذكر المصادر أن زيارة هذا المقام كانت أشبه بالحج الذي يتم على موسمين واحد بداية الشتاء ويسمى “القنيص” وواحد بداية الربيع. ويرجح الباحثون أن الأهالي في وادي موسى استخدموا التقويم النبطي الموجود في خربة التنور والذي كان ينظم أعياد واحتفالات الأردنيين الأنباط  وفق دائرة الأبراج.

وبالعروج على تفاصيل أكبر تتشابه فيها الممارسات الدينية الأردنية الحديثة مع تلك النبطية القديمة، يشعل زوار مقام النبي هارون الشموع والبخور في الكوى كذلك فعل أجدادنا الأنباط فتجد المباخر الحجرية وبقايا البخور لا تزال في كوى الإشعال والإضاءة. ومن الممارسات الأخرى تقديم القربان. ففي المذابح الأردنية النبطية قناتان واحدة للمياه الجارية والثانية لدماء القربان وقد فعل الأردنيون من الأهالي زوار مقام النبي هارون وغيره من المقامات المنتشرة ذات الفعل.

نتيجة

إن استمرارية هذه الطقوس وانفراد الأردنيين في العصر الحديث فيها لهو دلالة على الخصوصية الدينية التي تمتع فيها أجدادنا الأنباط، حيث أننا لا نجد ذو الشرى وشيع القوم عند عرب الجزيرة ولا نجد مدينة دينية كاملة ولا تخلص عملية تتبع الممارسات الدينية الحديثة لعرب الحجاز للتطابق أو التشابه مع الممارسات النبطية.

لقد نقل العرب معبودات الأردنيين الأنباط  نتيجة للتلاقح الحضاري ولامتداد النفوذ الأردني النبطي إلى الجزيرة العربية على أن هذا النقل والتأثر لم يحرم الأردنيين الأنباط من التفرد ومن إبقاء عناصر دينية بعيدة وخاصة وعسيرة على الاستنساخ.

 

ثالثا: انتقال السلطة

نشأت على أرض الأردن قبل الميلاد ثلاث ممالك أنشأت حلفا اقتصاديا وسياسيا: عمون ومؤاب وأدوم. وبينما تمركزت الأولى في البلقاء، نشأت مؤاب بين وادي الموجب والكرك بينما كانت أدوم في الجنوب. وما يعنينا من الحلف الأردني للممالك الثلاث هي أدوم وعاصمتها بصيرا في الطفيلة. امتدت أدوم في الجزء الجنوبي ووصلت حتى ميناء أيلة (العقبة).

مبخرة فخارية أدومية
Bienkozki , piotr (1996) The art of Jordan , UK

فالأدوميون شعب أردني (1200ق.م) سكن المناطق التي سكنها بعدهم الأردنيون الأنباط، كان لهم الفضل في ثورة النحاس الصناعية الأولى كما برعوا في التجارة. لم يكن الأردنيون الأنباط مكونا سكانيا دخيلا وجديدا بل كانوا منسجمين مع الإثنية الأدومية يتاجرون معها ويتكلمون الآرامية وإن كانت بلهجة مختلفة.

عاشت الممالك الثلاث ظروفا صعبة ومحاولات غزو متكررة من الممالك المجاورة خصوصا البابليين. تذكر المصادر اسم مجموعة قبائل الأنباط كإحدى القبائل “المتمردة” ضد محاولات الغزو البابلي. ونفهم من مجمل هذا السياق السياسي أن الأردنيين الأنباط كانوا مكونا سكانيا من ضمن الممالك الثلاث وقد وقفوا معهم جنبا إلى جنب ضد العدو الخارجي وبحسب هذه النتيجة، يكون انتقال السلطة من اليد الأدومية الأردنية إلى النبطية انتقالا سلسا دون اللجوء للحرب والعنف كما قد يفعل أي صاحب سلطة من خارج الأرض.

خريطة توضح الممالك الثلاثة عمون ومؤاب وإيدوم

ولا تذكر المصادر التاريخية أي محاولات أدومية لاستعادة السلطة إنما انضوى الأردنيون الأدوميون تحت الراية النبطية لأنهم لم يشعروا بأن هذه السلطة مفروضة من الخارج. فلو كان الأنباط عربا حجازيين أو يمنيين لظهرت على السطح مشكلات اجتماعية عديدة كمحاولات التمرد والانقلاب ولكننا لا نرى أي من هذا في الحالة السياسية النبطية الأدومية.

الخلاصة

اتبعنا في هذا البحث المنهجية العلمية في وضع الفرضيات واختبارها وطرحنا أسئلة كثيرة أجابت عليها النقوش والمصادر التاريخية. فلغة الأردنيين الأنباط وخصوصيتهم الدينية إضافة لطريقة انتقال السلطة إليهم تعطينا نتيجة واحدة وهي أنهم ليسوا عربا حجازيين إنما إثنية أردنية خالصة.

المراجع

  • سعد الدين أبو الحب، نقش نمارة العربي النبطي، دراسة منشرة كفصل من كتاب Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script 2011
  • جون كانتينو، اللغة النبطية، مهدي الزعبي، 2016، سلسلة دراسات
  • ولفنسون (1929) تاريخ اللغات السامية، بيروت: دار القلم
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • سلسلة الأردنيون عبر التاريخ، الأردنيون الأنباط، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • كريستيان اوجيه، عصر الأنباط (القرن الرابع ق.م. – القرن الزول ب. م.)، أطلس اأردن، المركز الثقافي الفرنسي والمركز الجغرافي الملكي (2014) p. 142-150
  • أحمد أبو بكرة، إيقاظ الهمم في إثبات أن الأنباط من العجم، صحيفة السوسنة.
  • مقال (ما هكذا تورد الإبل الجزء الثالث)، شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية

[1] الأراميون : شعب أقام و أسس حضارته في وسط و شمال ما يعرف بسوريا اليوم – حيث كان يطلق عليها اسم بلاد آرام حتى العصر السلوقي الهلنستي في القرن الرابع ميلادية ، كان لغته بلهجاتها المتعددة متعارف عليها ومستخدمة بكثرة في المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ودول العالم القديم .

[2] المعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. المصدر: أبحاث إرث الأردن. الطقوس النبطية: توليفة دينية ساحرة.

أصول الأردنيين الأنباط

مقدمة

إن الاقتصاد هو العصب الرئيسي التي تنشأ عليه أصغر التجمعات البشرية، وصولاً لأضخم الحضارات، وتعتبر دراسة النشاط الاقتصادي أحد أهم المداخل لفهم طبيعة المجتمعات القديمة، ولا يمكن لأي حضارة الاستمرار دون اقتصاد قوي يستطيع سد احتياجاتها.

وقد شهد الأردن القديم في بدايات العصر الحديدي الثاني ازدهاراً ملحوظا، إذ تدلُّ المكتشفات الأثرية على وجود وفرة في الإنتاج الغذائي الذي بدا واضحا من مواقع تخزين الحبوب والنبيذ والزيوت، الأمر الدال على حالة من الإنتاج الزراعي الضخم الذي مارسه الأردنيون الأوائل في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون) مما يعني تطوراً اقتصاديا مذهلاً على كل الصُّعد من صناعة وتجارة، قاده أجدادنا الأردنيون الأوائل لينعموا بحياة مرفهة في عصور اتسمت بالفقر وعدم القدرة على استثمار الموارد.

لم يكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، يمارسون نشاطاً اقتصاديا مختلفاً كثيرا عن أشقائهم الأردنيين الأدوميين أو الأردنيين العمونيين، رغم أن النشاط الزراعي في مؤاب وعمون كان أكثر تنظيماً واتساعاً بسبب انتشار الأراضي الخصبة ووفرة المياه.

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

الرعي

نشأت أولى أشكال التجمع الإنساني معتمدة على فكرة الصيد والجمع والالتقاط، على شكل تجمعات بسيطة جدا ومحدودة العدد، هذه النواة للتجمع أسست لينتقل الانسان إلى مرحلة أخرى شكلت نقلة نوعية في التاريخ البشري، حيث بدأ الإنسان بعملية استئناس الحيوانات ورعيها، وأخذت هذه التجمعات البشرية بالتضخم، وتحولت إلى نظام قبلي، حيث تستوطن كل قبيلة مساحة معينة من الأرض، وتمارس فيها عملية الرعي، وقد انتشر هذا النمط من الإنتاج الاقتصادي في البوادي على حواف الصحراء، ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل عن باقي شعوب العالم في هذه المرحلة من التطور.

وعلى الرغم من التطور الحضاري الذي أنجزه أجدادنا الأردنيون المؤابيون، والمنجز السياسي الضخم الذي قاموا به من تأسيس دولة وطنية، لها أعرافها السياسية وحدودها وقوانينها الناظمة، التي أدت إلى التطور والازدهار الاقتصادي الذي ذكرناه مسبقاً، إلا أن الرعي كنمط إنتاج استمر طوال عمر المملكة الأردنية المؤابية، على أطرافها الشرقية، وقد مارست القبائل الأردنية المؤابية التي استمرت في حالة الرعي دوراً أساسيا في حماية المناطق الشرقية للمملكة الأردنية المؤابية، من هجمات القبائل البدوية من صحراء جزيرة العرب، كما كان شباب هذه القبائل الناشئين في ظروف أكثر قسوة من ظروف المدينة أو القرية الأردنية المؤابية، العمود الفقري للجيوش الأردنية المؤابية التي خاضت حروبا عنيفة مع جيرانها الطامعين بها، كما فعل أحفادهم رجال العشائر الأردنية عندما كانوا العمود الفقري للجيوش التي حررت الإقليم من نير الاحتلال العثماني في مطلع القرن العشرين.

وكان لنمط الانتاج الرعوي أهمية اقتصادية أيضاً، حيث كان منتجات الثروة الحيوانية المرعية (المختلفة عن الحيوانات الداجنة التي تربى في الريف داخل الحظائر)، ذات جودة عالية، سواء الحليب ومشتقاته أو اللحوم، كما كان الصوف والجلود جزءاً هاماً من البضائع التي صدرها أجدادنا الأردنيون المؤابيون للخارج.

الزراعة

تعتبر الزراعة أول نشاط اقتصادي منظم، أدى إلى إنتاج فائض عن الحاجة، مما ساهم في تنوع السلع والتبادل التجاري، بحيث دفعت عملية الزراعة عجلة التطور الصناعي، لحل المشكلات التي يواجهها المزارعون.

يؤكد نقش الملك الأردني المؤابي ميشع على الاهتمام البالغ الذي منحه أجدادنا الأردنيون المؤابيون للزراعة، لتحقيق حالة من الأمن الغذائي في ظل واقع صارع به أجدادنا الأردنيون الأوائل صراعاً مريراً لإثبات وجودهم وحماية منتجهم الحضاري في إقليم كان على الدوام بؤرة للصراعات والحروب.

انتشرت الزراعة المنظمة في المملكة الأردنية المؤابية، في المناطق الغورية شرقاً، وفي الوديان والمناطق الجبلية غربا، حيث خاض أجدادنا الأردنيون المؤابيون، جدلاً بنّاءاً مع طبيعة جغرافية صعبة جداً، حيث واجهوا وعورة الأراضي التي تغلبوا عليها عبر بناء المصاطب، وتطويع الجبال وحواف الأودية، وجروا المياه بطرق مبتكرة من الينابيع والأودية، وتغلبوا على شح المياه صيفاً عبر حفر برك وأحواض مائية ضخمة كانت كفيلة، بري محاصيلهم الزراعية طيلة فصل الصيف الجاف.

وتنوّعت المحاصيل الزراعية التي أنتجها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من الحبوب إلى الخضروات والفواكه، ودلّت المكتشفات الأثرية على وفرة واضحة بهذه المحاصيل التي كانت تخزن بطرق مبتكرة، مثل تخزبن النبيذ والزيت بالجرار الفخارية، وحفظ الحبوب مثل القمح في حفر معزولة داخل الأرض، لمواجهة سنوات القحط، كما كان الإنتاج الزراعي الغذائي جزءاً مهما من عملية التجارة والخدمات المقدمة على الطرق التجارية.

ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع الزراعية

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

إن من  أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدا اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسُبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداء المملكة الأردنية المؤابية بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم حبر الحروب التي خاضوها ضد المملكة، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، وممّا يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة طلبه من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ”  لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”

الصناعة

الصناعة هي قمة التطور البشري، حيث تقاس قوة الشعوب وعظمتها بناء على تطورها الصناعي، وفي حين كان الأردنيون الأوائل سباقون إلى الصناعة منذ عصور ما قبل التاريخ، في قرية عين غزال وغيرها، فقد استمر هذا التطور الصناعي بالتراكم وصولاً إلى عصر الدولة الأمة (الممالك الأردنية الثلاث)، حيث نمت الصناعات بأشكالها المختلفة، لتلبية الحاجات الداخلية، بالإضافة لدعم العملية التجارية بالتصدير لبضائع أردنية المنشأ.

أولا : الصناعات الغذائية

تعدُّ الصناعات الغذائية من أبسط الصناعات، وهي صناعة تحويلية، إلا أن ممارسة هذه الصناعة على نطاق واسع في المملكة الأردنية المؤابية يؤشر إلى تطور مهم في تلك الحقبة الزمنية، حيث أن التصنيع الغذائي يتطلب وجود وفرة بالمحاصيل، ودراية بطرق الحفظ والتخزين، كما أنه يدلُّ على ذائقة ممتازة وأصناف غذائية وأساليب طهي معقدة، أما أهم هذه المنتجات الغذائية فهي: النبيذ، الزيت، الفواكه المجففة، مشتقات الألبان وغيرها.

أنثى تحمل جرة من الفخار على رأسها، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

ثانيا : صناعة الفخار

يعدُّ الفخار نقلة نوعية في تطور الجنس البشري، حيث يستخدمه بعض علماء الآثار كوسيلة للتأريخ، ما قبل وما بعد الفخار، كما أن دراسة الفخار وبقاياه من أهم أدوات استنباط معلومات تاريخية عن الحقب السحيقة.

ويعدُّ الفخار الأردني المؤابي من أجود أنواع الفخار في عصره، ولقد استخدمت الطريقة المؤابية في تصنيع الفخار لدى العديد من الشعوب المجاورة.

رابعا : الصناعة الحربية

وجد الأردن تاريخياً، في إقليم ملتهب، مليء بالصراعات والحروب والتناحر، لذلك كان لزاما على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، تطوير قدراتهم العسكرية، من تجهيز المقاتلين وتدريبهم وصولا إلى صناعة الأسلحة، لذلك كانت صناعة الأسلحة أحد أهم النشاطات الانتاجية التي مارسها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من السيوف والنبال والرماح، وصولاً للعربات القتالية، وتعدُّ عملية صناعة الأسلحة عملية معقدة ومركبة، حيث أنها تبدأ من التعدين ومعالجة المعادن لتنتهي بالشكل النهائي للسلاح، مرورا بعملية الهندسة والتصميم.

التجارة

برع الأردنيون الأوائل عبر التاريخ في التجارة، وقد يكون الموقع الجغرافي الذي لا يمكن الاستغناء عنه للقوافل التجارية أحد أهم أسباب هذه الهِبَة.

إن مرور الطريق التجاري الملوكي (أهم الطرق التجارية في العالم القديم) عبر الأراضي الأردنية من الجنوب إلى الشمال، كان فرصة استثمرها أجدادنا الأردنيون الأوائل على أفضل وجه ممكن.

ولقد مرّ هذا الطريق من منتصف المملكة الأردنية المؤابية، فقام أجدادنا الأردنيون المؤابيون، بتقديم الخدمات اللوجستية للقوافل التجارية، كما كفلوا الأمن للقوافل المارة في أراض المملكة، ولكن الأهم من ذلك كان تطوير قدراتهم التجارية، من الوساطة التجارية، إلى إنشاء القوافل وتسييرها، وصولا لتصدير منتجاتهم الوطنية إلى العالم، ولم يكن من الممكن أن تنجح تجارتهم هذه لولا تحليهم بالدبلوماسية والانفتاح وتفهم الثقافات المختلفة.

الخاتمة

حاولنا في هذا البحث، تلخيص الأدلة العلمية المتوفرة، من نتائج الأبحاث التاريخية، والمسوحات والتنقيبات الأثرية، للوصول إلى تصور عام عن طبيعة النشاط الاقتصادي في المملكة الأردنية المؤابية، آخذين بعين الاعتبار أهمية النشاط الاقتصادي في عملية التطور الانساني، لنجد أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين، استغلوا قدراتهم حتى النهاية، في صراع صعب مع ظروف طبيعية وسياسية غاية في الصعوبة، تاركين لنا مثالاً يحتذى بالنهضة وصناعة المستقبل.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، مملكة أدوم الأردنية- النشاط الاقتصادي

المملكة الأردنية المؤابية – النشاط الاقتصادي

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

مقدّمة

وجدت المسوحات والحفريات الأثرية على امتداد جغرافيا الأردن، دلائل على منظومات ميثولوجية دينية، منذ عصور ما قبل التاريخ، تجلت هذه الدلائل، في طرق الدفن، وصناعة التماثيل، ووجود المباخر، وانتشار المذابح أو ما يشبهها، وقد مرت هذه المنظومات بتطورات هائلة مع التقدم الاجتماعي والسياسي الذي مر به أجدادنا الأردنيون الأوائل عبر مراحل التاريخ المختلفة.

كان للدين دور مهم في حياة أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فالدين في تلك العصور كان يمثل محاولات الإجابة على أهم الأسئلة الفلسفية التي راودت البشر، كما كان الدين يغطي الجانب الروحي، وهو الوعاء الذي يحتوي جميع أنواع الفنون.

واعتمد الأردنيون المؤابيون كثيراً على آلهتهم في الحروب، حيث شنّوا الحروب باسمها، واستنصروها في حالات الضعف أو قبيل المعارك الهامة، إلا أن ذلك لم يكن يمنعهم من احترام الديانات والآلهة المختلفة التي تعبدها الشعوب المجاورة، كما توافرت قواسم مشتركة عديدة بين الديانة الأردنية المؤابية وديانات جيرانهم، وبالأخص ديانات أشقائهم في الممالك الأردنية المجاورة (مملكة أدوم الأردنية، مملكة عمون الأردنية).

ميثولوجيا الأردنيين الأوائل قبل نشأة الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)

أنثى تحمل جرة على رأسها من الفخار، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عادة ما كانت الشعوب القديمة، تستقي منظوماتها الدينية من البيئة المحيطة، وقد تطورت الأديان القديمة لتجيب على الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرق الإنسان القديم، ولوضع التفسيرات حول ما لم يستطع العقل البشري تفسيره حين ذاك، كما ساهمت طبيعة الإنتاج في تشكيل الطقوس الدينية المُمَارسَة، حيث ارتبطت أغلب الطقوس والشعائر في مواسم الزراعة والحصاد.

ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل في تلك الحقب عن مجمل الوجود البشري، وقد بدأ نشوء التصورات الدينية لدى الأردنيين الأوائل مع بداية الاستقرار الزراعي حوالي 9000 قبل الميلاد، وقد كانت هذه التصورات في تلك الفترة بسيطة، وارتبطت المظاهر الموجودة حول عادات الدفن بشكل رئيسي، ويعتقد أن البذرة الأولى للمعتقدات الدينية، كانت مرتبطة بتفسير ظواهر طبيعية، وخصوصا المطر الذي كان المصدر الرئيسي لري المزروعات حيث كانت الزراعة في طورها الأول البسيط، واستمر الأردنيون الأوائل في تطوير منظومتهم الدينية، جنباً إلى جنب مع تطورهم الانتاجي بشكل رئيس، حتى ارتقت تلك المنظومة بشكل كبير، مع العصور البرونزية وحقبة (الدولة المدينة)، حيث وجدت الحفريات الأثرية في تلك الحقبة معابدا داخل المدن الأردنية القديمة، وحيث أصبحت مجتمعات المدن الأردنية القديمة مجتمعات مقسمة طبقياً، بسبب حالة المدنية والانتاج الفائض، فإن رجال الدين كانوا يمثلون طبقة منفصلة، وتعتبر من الطبقات المتسيّدة، وتشير الدلائل أن رجال الدين مارسوا أيضا مهام إدارية داخل المدن.

الآلهة الأردنية المؤابية

أحد أهم مميزات الديانة الأردنية المؤابية هو عدم تعدد الآلهة وكثرتها مثل الشعوب المجاورة في تلك الحقبة الزمنية، حيث اكتفى أجدادنا الأردنيون المؤابيون بالإله كموش وزوجته الإلهة عشتر- كموش، وهو أمر غريب ويصعب تفسيره، وقد امتاز الإله كموش وزوجته عشتر- كموش بهالة من القدسية، حيث سمي الأشخاص والمدن تيمنا بهم، وأنشئت  لهم معابد ضخمة، وقدّمت لهم الأضاحي والقرابين.

لا نستطيع أن نجزم أن الإله كموش وزوجته الإلهة الأم عُبدوا وحدهم بشكل مطلق داخل أراضي مؤاب، حيث أن آلهة محلية عُبدت بالتأكيد في مناطق مختلفة من المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى التداخل السكاني من الشعوب المجاورة داخل مملكة مؤاب الأردنية، كما أن الحركة التجارية النشطة التي شهدتها مؤاب الأردنية، ساهمت بتلاقح ثقافي مع شعوب متعددة، تركت بعضا من معتقداتها وأساليبها في العبادة والفن والعمارة وصناعة الفخار، لدى الشعب الأردني المؤابي، إلاّ أن المؤسسة الدينية الرسمية، كانت تكرّس الإله كموش والإلهة الأم عشتر- كموش، ولم تُقَم المعابد لسواهما، الأمر الذي يعتبر مؤشراً على مؤسسة دينية موحدة، يرأسها الملك، معنية بتنظيم الأمور الدينية للشعب الأردني المؤابي.

الإله المؤابي كموش

عندما بدأ الشعب الأردني المؤابي بتأسيس دولته، والسيطرة على الحيز الجغرافي الذي سُمّي باسمه، كانت هناك آلهة متعدد تُعبد في المنطقة، ومن اهمها الإله بعل- فغور أحد آلهة الميديين، ولكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، سعوا منذ اللحظة الأولى إلى ترسيخ منظومتهم الثقافية والميثولوجية، دون محاولة مسح الثقافات الفرعية الموجودة على أرض مملكتهم، في هذا السياق بدأت عبادة كموش الإله المؤابي الأردني بالانتشار، وكان الإله كموش محط احترام المؤابيين، حيث أنه يمثّل إله الحرب، وإله الشمس، وإله القمر، وغيرها، كما يُعد الإله الأكبر، محتلاً بذلك مكانة العديد من الآلهة المجتمعة على حد سواء.

وقد طُرحت عدة فرضيات حول تسمية الإله كموش، حيث يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن الإسم كموش مشتق من الكلمات ( أكو وماشو)، بمعنى إله القمر، في حين يذهب باحثين آخرين إلى القول بأن كموش تعني إله الشمس، أما الفرضية الأكثر قبولا هي أن معنى الإسم هو إله الحرب بسبب الدور الذي لعبه الإله كموش في الحروب التي خاضها الأردنيون المؤابيون. 

ولقد كان الإله كموش بلا شك راعياً لجميع نواحي الحياة لدى الأردنيين المؤابيين، وقد سُمي الأشخاص والملوك باسمه، مثل: (كموشعونادبي، كموشيخي، كموش ملك، كموش صاديق وغيرهم).

الإلهة عشتر- كموش

وهي زوجة الإله كموش، والإلهة الأم، وإلهة الخصب والحمْل، وقد صورت في التماثيل على شكل إمرأة، تحمل بين يديها رمز الخصب بشكل متقاطع فوق صدرها، ولقد ورد ذكر عشتر- كموش في لوحة أثرية، مما يدل على أهميتها في المنظومة الدينية الأردنية المؤابية، فيما بُني لها معابد خاصة، وقُدّمت لها الأضاحي والقرابين، الأمر الذي يعتبر انعكاساً لمكانة المرأة الأردنية المؤابية في المجتمع بشكل عام.

المعابد الأردنية المؤابية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية- جريدة الغد-محمد أبو غوش

وجد الآثاريون العديد من المعابد الأردنية المؤابية، واللافت بالأمر أن هذه المعابد بنيت في العصر البرونزي المتأخر، مما يعطي انطباعاً بأن الحضارة الأردنية المؤابية بدأت بالتشكل قبل العصر الحديدي، على عكس ما تورده كلاسيكيات التأريخ القصصي.

وجدت معابد تعود للعصر البرونزي، مبنية من الحجارة الغشيمة، ويتوسطها مذبح، وأمامه ساحة كبيرة، وقد عُثِر في ذيبان على بقايا مبنى ضخم، يحتوي بداخله على قاعدة مبخرة، ويعتقد أن هذا هو المعبد الذي بناه الملك الأردني المؤابي ميشع وأورد ذكره في مسلته عقب انتصاره.

المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية

طبيعة الكهنوت الديني في المملكة الأردنية المؤابية غير واضحة لنا تماما، ولا نستطيع الجزم إن كان هنالك مجموعة من رجال الدين يقومون بالإشراف على العبادات، إلا أنه بناءً على المقارنة مع الديانات القديمة وخصوصا المجاورة، يتأكد لنا أن ثمة مجموعة من رجال الدين تسهر على خدمة المعبد، واستلام القرابين والأضاحي، والإشراف على العبادات، كما أنه من الواضح أن للملك مكانة روحية خاصة في الديانة الأردنية المؤابية ، حيث ذكر أن الملك بولاق قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، كما أن الملك الأردني المؤابي  ميشع ذكر في مسلته (مسلة ميشع-ذيبان) أنه قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، وبنى المعابد ونذرها لخدمته، بالإضافة إلى أن الملك كان هو المسؤول عن مخاطبة الإله كموش واستنصاره في وجه الأعداء، كما ذكر الملك المؤابي الأردني ميشع أنه كان يتلقى الأوامر مباشرة من الإله، ما يؤكد أن الملك يرأس المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية.

أهم الطقوس الدينية المعروفة في المملكة الأردنية المؤابية

تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان Bernard Gagnon

أولا : القرابين، من ضمن اللقيات الأثرية التي وجدت في مملك مؤاب الأردنية، دُماً فخارية صغيرة، لحيوانات مثل الكباش والعجول، الأمر الذي يؤكد رسوخ فكرة الأضاحي والقرابين التي تقدم للآلهة، ضمن طقوس معينة، ويعتقد الآثاريون أن هذه الأضاحي كانت تقدم إما  للمذبح أو كهدايا للكهنة، وذكر في الروايات التاريخية، أن الملك المؤابي الأردني بالاق قد قام بتقديم الأضاحي للإله كموش قبيل اشتباكه مع العبرانيين في بداية دخولهم للمنطقة، كما ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع تقديمه الأضاحي للإله كموش لكي ينصره، وقد اعتبر القتلى من أعدائه ضحايا للإله أيضا، وفي تصرف فريد من نوعه، قدم ميشع ابنه أضحية للإله كموش في سبيل الانتصار على أعدائه.

ثانيا : حرق البخور، يبدو أن حرق البخور كان أحد الطقوس الدينية المتبعة لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين، حيث وجد على المباخر وقواعد المباخر في أكثر من موقع أثري مؤابي.

ثالثا : غنائم الحرب، كانت غنائم الحرب تقدم للمذبح كقربان، وشُكرٍ للآلهة التي قامت بمساعدة أجدادنا الأردنيين المؤابيين على الانتصار.

رابعا : حالات الحزن واليأس، كان الأردني المؤابي يقدّم دُماً محززة الوجه للمعبد في حالة شعوره باليأس، وقد تكون عادة وشم الوجه في حالات الحزن ذات جذر مؤابي، كما أن بإمكان الشخص الذي يشعر بالحزن واليأس أن يقدم خصلة من شعر رأسه ولحيته للمعبد.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2.  A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية الأدومية

ملامح الديانة الأردنية المؤابية

مقدمة

حكم الأردنيون الغساسنة الأردن وما حولها لمدة تزيد عن الأربعة قرون وكان كل حاكم وأمير وملك منهم على قدر عالٍ من المسؤولية والحزم. يقول الملك الأردني الحارث الملقب بالأعرج موصيا ابنه:

   ” والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ … ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ

ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى … من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ

ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ”

وفي هذه الوصية تظهر لنا فلسفة الحكم عند الأردنيين الغساسنة، فالملك هو ” راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ” يتولى رعاية شعبه ويكفل لهم أمنهم وأمانهم. في هذا البحث من سلسلة أبحاث الأردنيون الغساسنة سنستعرض سيرة مجمل الملوك والنظام السياسي والأمراء الأردنيين الغساسنة وإنجازات كل واحد منهم إضافة لألقابهم الفخرية والدينية.

خريطة لممالك العالم القديم وتظهر مملكة الأردنيين الغساسنة التي تمتد على أرض الأردن- سوريا وشمال السعودية- فلسطين

التسمية والنسب

ينسب الأردنيون الغساسنة إلى بئر ماء يدعى غسان كانوا قد نزلوا عندها فترة، إلا أنهم ينسبون لجدين آخرين (جفنة  وثعلبة). يعرف آل غسان بآل جفنة وجفنة بالعربية تعني الطبق الكبير، أي أنهم سموا كذلك نسبة لشدة كرمهم وجودهم وتعود تسميتهم  بآل جفنة إلى أحد أجدادهم  المسمى بالإسم نفسه. وقد ذُكروا كثيرا في شعر حسان بن ثابت بآل جفنة وأولاد جفنة  فيقول في رثاء الملك الأردني الغساني  ابن مارية المرجح بان يكون هو ذاته الحارث بن جبلة:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم   قبر ابن مارية الكريم المفضلِ

أما التسمية الثانية (آل ثعلبة) فهي تعود لجد آخر. يعتقد الباحثون بأن ثعلبة وجفنة أخوان وأن نسلهما أولاد عمومة ولهذا لقبوا باللقبين على التوازي (نولدكه: 1933)

الألقاب الملكية

 تباينت الألقاب التي حصل عليها ملوك الغساسنة وكانت أغلبها تصبغ بصبغة دينية كنسية. بداية كان اللقب الأشهر هو الفيلارخ أو الفيلارك بمعنى الوالي أو رئيس القبيلة. والبطريق (بطريرك) والذي لقب به أعظم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة. فقد كان يمارس سلطتين أساسيتين، رئاسة المملكة ورئاسة أسقفيتها. (شهيد: 1995) وقد تناولت الوثائق السريانية والرومانية ألقاب أخرى اختص بها الحارث بن جبلة ” كالبطريق الأمجد والأشهر” وملك جميع العرب” و” الأكثر تقى وصلاح” و”محب المسيح الأكثر عبادة ” (نولدكه:1993)

صورة تخيلية للملك الحارث بجانب الامبراطور البيزنطي

 ويجدر الذكر بأن الملك الأردني الحارث بن جبلة هو الوحيد الذي حصل على لقب ملك من قبل الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وقد سمي باقي الحكام الأردنيين الغساسنة ملوكا بمعنى أمراء، كما سيلي توضيحه في الفصل التالي.

الأمراء والملوك الغساسنة

أولا: الاختلاف التاريخي في سلسلة الحكم

مهّد الحصار الاقتصادي للمملكة الأردنية النبطية وسقوط العاصمة بترا في أيدي الرومان بعد محاولاتهم الكثيرة في القرن الأول والثاني إلى خلق جو من الفراغ السياسي. ودفع هذا الفراغ بالأردنيين الغساسنة  إلى إنشاء كيانهم السياسي المستقل وإرساء علاقات تحالف جيدة مع البيزنطيين والدفاع بشراسة عن حدودهم وأمانهم وحريتهم الدينية.

لقد كان حكم الأردنيين الغساسنة مرتكزا على فكرة الحكومة المركزية التي تتشعب منها حكومات صغيرة محلية. فمن حوران الأردنية ومن ثم البلقاء أدار الأردنيون الغساسنة مملكتهم وتحت حكمهم تم تعيين حكام محليين. فكان هناك حاكم لقبيلة كندة وآخر لفلسطين وآخر لنجران وغالبا ما كان هؤلاء الحكام يسمون (فيلارخ) وفي كتب التاريخ يسمون مجازا ملوك وفي السريانية تكتب كلمة أمير “ملكا” ولهذا ربما أطلق على باقي الملوك لقب ملك. ولم يقتصر هذا التقسيم على المدن الكبيرة إنما امتد للحواضر الصغيرة وقد قسمت ولايتها بين أفراد السلالة الأردنية الغسانية الحاكمة.

نقش كنيسة نتل الغسانية في قرية نتل قرب عمان ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث”

أدّى هذا التقسيم إلى اختلاف كبير بين المؤرخين حول عدد الملوك وأماكن حكمهم ومدة حكمهم. سنتناول في بحثنا الاختلاف بين أهم مؤرخين لمملكة الأردنيين الغساسنة، المؤرخ حمزة الأصفهاني والمؤرخ الألماني نولدكه.

يختلف الباحثون كما أسلفنا في عدد الملوك الأردنيين الغساسنة فبعضهم يقول 32 ومنهم من يقول 10 أو 11 وآخرون يقولون 9 فقط. (العيسى: 2007) يقول المؤرخ الأصفهاني بأنهم 32 ملكا ولكن نولدكه المحقق والمؤرخ يعيب على رواية الأصفهاني لأخبار ملوك الأردنيين الغساسنة لأنها لا تتطابق مع الوقائع التاريخية كنَفيْ الملك الغساني المنذر وابنه النعمان وحروب المسلمين مع البيزنطيين والغساسنة كمعركتي اليرموك وتبوك، إضافة للسبب الذي أوردناه آنفا وهو طبيعة هيكلة الحكم عند الغساسنة القائمة على حاكم مركزي وحكام محليين يحملون لقب “ملك” مجازا فالملك الأردني الوحيد الذي حمل هذا اللقب من قِبل الإمبراطورية الرومانية هو الحارث بن جبلة.  ولهذا يورد نولدكه أن ملوك الأردنيين الغساسنة يبلغ عددهم 10 ملوك.

وبحسب تحقيق نولدكه المعتمد على المقارنة بين المصادر اليونانية والسريانية والرومانية، تم استخلاص العشر ملوك إضافة لسنين حكمهم كالتالي:

  • أبو شمر جبلة: حكم حوالي السنة 500 م تقريبا
  • الحارث بن جبلة: استمر حكمه من حوالي 529-569 م.
  • أبو كرب المنذر بن الحارث: حكم من سنة 569-582م.
  • النعمان بن المنذر: حكم من سنة 582- 583م.
  • الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر. (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م.
  • عمرو (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • حجر بن النعمان (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  •  جبلة بن الأيهم: حكم سنة 635م

وينبغي أن ننوه أن قائمة الملوك التي تبدأ من القرن السادس تُعنى بالفترة التي نضج فيها كيان الإمارة الأردنية الغسانية وانتقل إلى شكل ملكي أكثر تنظيما على يد أول من لُقّب بالملك أو ملك العرب، الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة عام 530. أما قبل ذلك، تؤرخ بدايات تأسيس حكومات محلية بقيادة الأردنيين الغساسنة إلى القرن الأول ميلادي.

ثانيا: الملوك

الحارث بن جبلة (529 -569م)

لُقّب الملك الأردني الحارث بن جبلة بالحارث بن أبي شمر وقد يكنى ابن مارية وهو من أشهر الملوك الأردنيين الغساسنة وأكثرهم ذكرا في النصوص والمصادر اليونانية والرومانية. تميز الملك الحارث بن جبلة بالذكاء والحنكة الكبيرين، لم يقدم تنازلا عن الحرية الدينية لشعبه، وأسس تحالفا مع البيزنطيين مبنيا على احترام الطرف الآخر لعقيدة المجتمع الأردني آنذاك (المونوفيزية).

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

بلغت المملكة الأردنية الغسانية أوج اتساعها في عهد الملك الحارث بن جبلة حيث شملت البترا والبلقاء وصحراء الصفا (البادية الأردنية) وسهول حوران الأردنية.  وتكللت جهوده في النصر في معركتي عين أباغ ويوم حليمة ضد المناذرة والفرس. على إثر هذه الانتصارات منحه الإمبراطور البيزنطي جوستنيان لقب بطريق وهو لقب ديني/عسكري. كما منحه لقب “فيلارك” بمعنى رئيس ومن ثم منحه لقب “ملك” وغالبا ما يقترن اسمه بألقاب وصفات أخرى “كالحارث الأمجد والأشهر”.

يُحسب للملك الأردني الحارث بن جبلة دفاعه عن المذهب الديني (المونوفيزي) فرغم أنه يخالف المذهب الديني الرسمي للإمبراطورية البيزنطية إلا أنه استطاع تعيين أكثر من 89 أسقفا على امتداد المملكة الأردنية الغسانية، إضافة لعلاقته الجيدة مع الإمبراطورة البيزنطية ثيودورا، زوجة جوستنيان، التي كانت تدين بالمونوفيزية. وساهمت هذه العلاقة الوطيدة في خلق جو من التسامح الديني وإيقاف الاضطهاد الديني الذي كان سائدا من قبل. ولا تزال رسالته إلى القس يعقوب البرادعي شاهدة على العلاقة الوثيقة بينه وبين الأساقفة الذين عينهم.

فسيفساء للإمبراطور جوستنيان وزوجته ثيودورا

توفي الحارث سنة 569 وقد حكم قرابة أربعين سنة وتوقف ذكره في المصادر الكنسية وبدأ ذكر ابنه الملك المنذر بن الحارث.

المنذر بن الحارث (569-581)

كان  أبو كرب المنذر بن الحارث كوالده قائدا عسكريا محنكا إلا أن علاقاته مع البيزنطيين لم تكن دوما موفقة فقد كتب الإمبراطور جوستيان رسالة في عزله وانفصل حكمه ثلاثة سنوات وانقطعت العلاقات بينه وبين البيزنطيين.  ولكن البيزنطيين تراجعوا عن موقفهم عندما أدركوا استحاله الدفاع عن مصالحهم ضد الهجمات الفارسية والمناذرية دونه، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين لاسترضاء المنذر الغساني بأي ثمن (نولدكه: 1933) . وبالفعل استطاع هزيمة المناذرة بعدما عقد البيزنطيين الصلح معه في الرصافة عند قبر القديس سرجيوس.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري قرب العاصمة عمان. ويقرأ النقش بأن الكنيسة رصفت بالفسيفساء في عهد المنذر ولشفاعة القديس جاورجيوس

وفي عام 580 وصل المنذر بن الحارث إلى القسطنطينية وكان رأسه مزينا بالتاج المُهدى إليه من الإمبراطور البيزنطي تيباريوس وهو أمر لم يحصل للملوك الأردنيين الغساسنة من قبله حيث كانوا جميعا يلبسون الإكليل فقط (شهيد: 1995)

ورغم العلاقات الحسنة التي أنشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدمت القوات الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فقعدوا معاهدة صلح عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا،  فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات مع البيزنطيين بشن حرب أخرى على المناذرة، فاتهمه البيزنطيون بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.

وفي أثناء حضور المنذر الغساني لافتتاح كنيسة جديدة، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نُفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته وكان قد حكم 13 سنة تقريبا.

 

النعمان بن المنذر

غضب أبناء المنذر، الملك الذي تم نفيه، وقادوا تحت حكم ابنه الأكبر النعمان حربا ضد الحامية البيزنطية في بصرى وغنموا منها غنائم عظيمة واضطروا الحامية لأن تتخلى عن ذخائرها الحربية وقد كانت ثاني أكبر حامية عسكرية بعد حامية دمشق (نولدكه: 1933) وليس من المعروف كم بقيت المملكة على هذا الحال إلا أنه يرجح أن الأمور بقيت هكذا لوقت طويل. في النهاية، خطط البيزنطيون لحيلة أوقعت النعمان، فقد طلبوا منه القدوم إلى العاصمة أنطاكية للصلح ومن ثم قبضوا عليه وحبسوه ونفوه إلى صقلية عند والده.

بعد سجن المنذر والنعمان دعت الحاجة للاجتماع تحت راية قائد أردني غساني جديد وكان الحارث الأصغر بن الحارث بن جبلة وأخ المنذر بن الحارث هو القائد الجديد. وعقبه عدة ملوك  آخرين ولكن حكمهم كان أكثر محلية ولم تتوافر المعلومات الكثيرة عن حقبتهم، سوى ما سجّله المؤرخ الألماني نولدكه عبر استخلاصه أسماء الملوك اللاحقين من الشعر العربي القديم وقد وجد عبر تحقيقه التاريخي ستة أسماء لملوك أردنيين غساسنة: الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر، أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م. ، عمرو، حجر بن النعمان، جبلة بن الأيهم،  حكم سنة 635م.

ومن المتفق عليه أن جبلة بن الأيهم هو آخر حاكم أردني غساني فِعْلي، اذ انتهى حُكمه بعد أن انفضت عنه القبائل الأردنية وهزمته بعد قتالها إلى جانب جيش خالد بن الوليد في معركة اليرموك عام 363 وقد رحل للقسطنطينية ومات هناك.

غادرت الأسرة الغسانية الحاكمة المشهد السياسي في الأردن كأسرة مالكة وانخرط أفرادها في المجتمع وفي الدولة الأموية من بعد ذلك، ويقول المؤرخون أن الفرع الحاكم من الغساسنة قد تفرقوا من بعد نفي المنذر فبعضهم انضم للفرس وبعضهم انتخب كحاكم محلي وبعضهم انسحب من المشهد السياسي والديني.

الخاتمة

إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ … ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ

كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ … إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ[1]

يلخص الملك والشاعر الأردني الحارث الأعرج، سادس ملوك الغساسنة، رؤية الحُكم لدى أسرة الأردنيين الغساسنة التي حكمت الأردن لمدة 4 قرون، وبالطبع لو انفضاض عقدها الاجتماعي مع القبائل الأردنية وفُقدانها للشرعية السياسية مع الوقت لاستطاعت أن تحكم البلاد لفترة أطول.

المراجع

  • العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق: سورية
  • نولدكه (1933)، أمراء غسان من آل جفنة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت: لبنان
  • Shahid, I. Byzantine and Arabs in the sixth century, Political and Military music (1995), VOL1, P1, Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] المصدر: الشعر في بلاط الغساسنة، الهزاع (1994) ص 153

الأردنيون الغساسنة: الملوك والنظام

Scroll to top