أصول الأردنيين الأنباط

مقدمة

 تعرضت الكثير من الشعوب لحملات “التعريب”، فالآرام والسريان على سبيل المثال يطلق عليهم “العرب” رغم أنهم شعوب مختلفة عرقيا تماما.  حصل ذات الشيء مع الأردنيين الأنباط الذين يتم ذكرهم على الدوام في المصادر اليونانية والعربية “كأنباط” لا كعرب. فيذكر الملك الآشوري  “تغلت فلاسر” ال36 قبيلة التي حاربت الغزو الأكدي ومن ضمنها قبيلة “نباطو”.

خريطة توضح امتداد المملكة الأردنية النبطية

الأردنيين الأنباط في المصادر التاريخية

ربما تكون أصول الأردنيين الأنباط من أكثر القضايا التاريخية جدلا. فقد أدى التسرع ونقص المصادر التاريخية وسوء التعامل مع النقوش الآثارية إلى إطلاق أحكام متسرعة لا تستند إلى أدلة ولا تتقصى الدقة والمنهجية العلمية المنطقية. ويأتي هذا البحث متمما لسلسلة أبحاث طويلة أجرتها إرث الأردن عن أجدادنا الأردنيين الأنباط تناولنا فيها مختلف جوانب الحضارة الأردنية النبطية.

تذكر المصادر الرومانية اسم المملكة النبطية “ريجينو دي نباتي”،وفي ما تركه لنا المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي يذكر الحملات التي قام الرومان بها على مملكة الأردنيين الأنباط  منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر في كتابه أيضا الحملات التي شنّها الأردنيون الأنباط على اليهود.

ونستمر بالاستدلال على صحة هذا القول بتتبعنا للآثار والأخبار في المصنفات العربية التاريخية والأشعار العربية التي تذكر الأردنيين الأنباط كشعب مختلف.فقد سأل أحد المسلمين أحد الأنباط من أنتم؟ فقال: كنا نبيطا فاستعربنا وكنا عربا فاستنبطنا. دلالة على أنهم مختلفون عرقيا ولكنهم اختلطوا مع بعضهم البعض. يذكر الأصفهاني في كتابه (مجموع الغيث) (2/397) أن عمر بن الخطاب سأل عمر بن معد يكرب عن سعد فقال: خير أمير، نبطي في حبوته، عربي في نمرته، ويقول حسان بن ثابت في سياق تفريقه للأنباط: لكميت كأنها دم جوف.. عتقت من سلافة الأنباط” فإن كان الأنباط عربا لقال حسان بن ثابت وهو الشاعر العربي القاطن في الجزيرة العربية عنهم أنهم عرب ولما دعت الحاجة لوصفهم بأنهم قوم حمر (أي عجم). وأخرج السبكي  في (طبقات الشافعية الكبرى) (3/221) قصيدة لابن حزم يفرق فيها بين الأجناس:  وقبط أنباط وحرز ديلم..وروم رموكم دونه بالقواصم”

 ورغم الأدلة التي تعج فيها المصادر التاريخية والتي استعرضناها آنفا إلا أننا في هذا البحث سنعتمد على ثلاثة محاور وهي : اللغة والدين وانتقال السلطة. وسنستعرض في المباحث الثلاثة أهم القضايا والإشكالات التي ستُطرح، مُتبعينها بآخر ما توصلت إليه الدراسات والأبحاث العلمية من قراءات للنقوش وترجمات ودراسات على الواقع الجيوسياسي للأردن من ما قبل الميلاد وصولا إلى مملكة الأردنيين الأنباط.

أولا : لغة الأردنيين الأنباط

سنبحث في هذا الفصل اللغة الأردنية النبطية من جانبيها المحكي والمكتوب ورغم ما يتميز به هذا الموضوع من تعقيد واختلاط إلا إن النقوش والدراسات اللغوية المكثفة التي أجريت على النقوش النبطية والنقوش الصفاوية ستبهرنا بنتائج تؤكد أن الأردنيين الأنباط لم يكونوا عربا.
ففي الواقع، الرابطة اللغوية “العربية” هي الرابطة الأساسية التي لم تنقسم أو يتم التنازع عليها يوما، فاليوم يتحدث العرب حول العالم  لهجات لا تعد ولكنهم في ذات الوقت يظلون عربا وإن انتموا لأديان مختلفة أو أيدولوجيات مختلفة. من هذا المنطلق تأتي أهمية البحث في لغة الأردنيين الأنباط.

هل تحدث الأردنيون الأنباط العربية؟

عبر التجارة اختلط الأردنيون الأنباط مع القبائل العربية المرتحلة جنوبا ومع الكنعانيين واليهود غربا وأهل العراق وصولا إلى تواصلهم مع الرومان وقد أدى ولا بد إلى تأثر لهجتهم وإثرائها وبالتالي زيادة قوتها. ورغم هذا الانفتاح، صاغ الأردنيون الأنباط  مع الوقت لهجة خاصة بهم يمكن اعتبارها خليطا أساسيا من العربية والآرامية وقد سميت “رطانة الأنباط”.

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

ورد ذكر اللهجة النبطية في عدة مصادر تاريخية عربية فقال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أن النبطي (القح) يجعل حرف الزاي سين فيقول بدل زورق: سورق. كما يقلب العين همزة ويفتح المكسور. (ولفنسون: 1929) إضافة لاختلافات أخرى لا تحصر. وهذا يدلنا على أن الأنباط لم ينطقوا بالعربية الفصيحة التي ننطق بها الآن إنما كانوا ينطقون بالآرامية وقد تصبغوا بالعربية نتيجة احتكاكهم بالقبائل العربية المرتحلة ونرى نتيجة هذا الاحتكاك في النقوش التي تتضمن شذرات من الكلام العربي لا أكثر.

وهنالك جانب آخر للمسألة لا بد لنا من الوقوف عليه. إن بعض النقوش النبطية الأولى تُقرأ قراءة آرامية خالصة رغم كتابتها بأبجدية أردنية نبطية أما النقوش النبطية المتأخرة فإنها تُقرأ قراءة عربية وهذا سيقودنا للجزء الثاني الشديد الأهمية من اللغة النبطية الأردنية وهو جزء الأبجدية المكتوبة.

الخط الأردني النبطي

 

الخط النبطي هو خط آرامي في الأصل ولكن مع الكثير من التحسينات والتطورات في شكل الحروف وتباين مواقعها واستخدامها في الكلمة. ورغم أن النقوش والكتابات النبطية تعد قليلة مقارنة بغيرها إلا أنها أعطتنا معلومات كثيرة. فكان يستدل من النقش على المدفن اسم الميت ومهنته وزمن الوفاة وملكية المدفن، كما تعرف الباحثون على أسماء الآلهة التي عبدت آنذاك والملوك والملكات وغيرها من الأمور التي تتعلق بملامح الحياة الاجتماعية عامة (المحيسن:2009). يرجع العلماء هذا النقص في المصادر النقشية إلى حملات السلب والنهب التي تعرضت لها المدن النبطية منذ سقوط المملكة على يد الرومان عام 106 ميلادي.

بالعودة إلى الخط النبطي فهو خط يميل للشكل المربع وتتشابه فيه بعض الأحرف مثل الباء والياء والتاء وتستخدم النقاط للتفرقة (كانتينو: 2016).

الصف الأول: الكتابة النبطية ويظهر استخدام الأنباط للنقاط للتفريق بين الراء والزاي. الصف الثاني: استخدام السريانية للتنقيط للتفريق بين الراء والزاي.

النقوش الصفاوية الأردنية وإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية

 

لقد دار الجدل منذ القرن التاسع عشر حول أصل الخط العربي الكوفي، وكان أول من أرجعه للنبطية هو المستشرق الألماني نولدكه وبعد نصف قرن، تبنى الباحث ج. ستاركي نظرية أخرى تفيد بأن أصل الخط الكوفي هو الخط السرياني النسخي وقد اعتمد على مظهر الحروف النبطية وعدم استنادها على السطر بل تدليها منه. وقد اعتمد أيضا على رواية البلاذري التي تقول بأن ثلاثة رجال من قبيلة طيء التقوا في منطقة بقّه قرب الحيرة عاصمة اللخميين واتفقوا على الخط العربي (جرندلر: 2004) تفتقر هذه النظرية للإثباتات والنقوش وبهذا ظلت النظرية التي وضعها نولدكه بأن الخط العربي ذو أصل نبطي هي الأكثر قبولا في المجتمع العلمي.

لقد أرخ العلماء اللغة العربية إلى القرن الرابع ميلادي بالاستناد إلى نقشيين رئيسيين: نقش (فهرو) أو كما يسمى (نقش أم الجمال الأول) وهو نقش وجده الباحث ليتمان في مدينة أم الجمال الأردنية التي كانت إحدى مراكز المملكة الأردنية النبطية واستعان ليتمان بنقش إغريقي وجد بالقرب وكان ترجمة للنقش النبطي. وتكمن أهمية هذا النقش في كونه استخدم الخط النبطي المتأخر ويرجح أن يكون عائدا إلى 250-270 م.

نقش أم الجمال الأول: الترجمة الأولى على اليمين وهي تعتمد على النقش الإغريقي لتفسير النقش. بينما الترجمة الحديثة على اليسار وفيها يوضح الباحث سعد الدين استخدام العربي الفصحى في كلمة “مملك” واستخدام كلمة “نفس” بمعنى قبر كما هو الحال لدى الوثائق اللغوية المكتوبة بالمسند- ويكيبيديا

 

 والثاني هو نقش نمارة المؤرخ لعام 328م. يعرف النقش باسم نقش امرؤ القيس وقد قرأه المستشرق دوسو على أنه شاهد لقبر ملك من ملوك الحيرة؛ على أن دراسات الباحث سعد الدين أبو الحَب أفادت بان ذكر امرؤ القيس كان على سبيل التعظيم لا أكثر وأن النقش يتناول سيرة حياة مقاتل اسمه عكدي.[2]

صورة عالية الجودة لحجر نقش النمارة معلق على جدران متحف اللوفر الفرنسي في باريس © Marie-Lan Nguyen / Wikimedia Commons

وبعد نقش نمارة بسنين، أفادت دراسات الباحث أحمد الجلاد التي أجراها على نقوش الصفاوي والتي توجد حصرا في المنطقة الواقعة في البادية الشمالية الأردنية إلى أن أصل اللغة العربية يعود إلى القرن الثاني أو الرابع قبل الميلاد. وبهذا أعيد تأريخ اللغة العربية ثمانية قرون على الأقل وأكدت أبحاثه على فكرة أن اللغة العربية لم تنطلق من شبه الجزيرة العربية وتمتد إلى الشمال إنما انطلقت من البادية الأردنية وامتدت إلى الجنوب باتجاه الحجاز وشبه الجزيرة العربية.

إن نقوش الصفاوي تعد ثورة هائلة أعادت ترتيب الخارطة الزمنية والمكانية لنشأة اللغة العربية.  فالنقوش عربية وتقرأ قراءة عربية إلا أنها مكتوبة بالخط النبطي. وقد واجهت الباحث أحمد الجلاد عدة صعوبات تتعلق بقراءة هذه النقوش فالعربية تمتاز بأصوات العلة القصيرة (الحركات) والتي لا تكتب في النبطية وقد استعان بالنقوش النبطية المكتوبة باليونانية والتي تُكتب فيها هذه الأصوات وبهذا خرج الباحث الجلاد بقراءة عربية للنقوش الصفاوية.

لقد أشارت الباحثة إنعام الور، إحدى أهم الباحثات في اللهجات المحلية على مستوى العالم، إلى أن القراءة العربية للنقوش الصفاوية أفضت إلى استنتاج مدى التقارب بين اللغة المستخدمة في النقوش واللهجة الأردنية المحلية. وقد ساقت على ذلك عدة أمثلة نذكر منها الفعل “يخربش” والذي يستعمل إلى الآن في لهجتنا المحلية، والفعل “يشتّي” والفعل “يتعنّى” والذي لا زال مستخدما أيضا . فمن كان يتصور أن ما نقوله اليوم في أحاديثنا اليومية يمتد للقرن الثاني-الرابع قبل الميلاد وقد خلّده أجدادنا الأنباط في نقوشهم وباستخدام أبجديتهم.

وكخلاصة، إن كانت النقوش الصفاوية النبطية تقرأ قراءة عربية أعادت تاريخ اللغة العربية ووضحت أنها بدأت من البادية الشمالية الأردنية وامتدت إلى الجنوب، فبإمكاننا أن نستنتج أن العرب لم يبدأوا بالتكتل على شكل قبائل ذات لغة في شبة الجزيرة العربية واحدة سوى في زمن متأخر نسبيا وهذا ما يجعلنا أن نقول أنه من غير المنطقي نسبة الأردنيين الأنباط (الأقدم في الوجود الزمني) إلى العرب (الأحدث في الوجود). ومن وجهة نظر لغوية، إن كان الأنباط عربا فلماذا لم تشابه اللهجة الأردنية المتطورة عن لهجتهم لهجة عرب الجزيرة أو عربية أهل اليمن؟ ولماذا نجدها متفردة في سماتها اللغوية و(الفونولوجية -الصوتية)؟

ثانيا: الخصوصية الدينية لمعبودات الأردنيين الأنباط

 

مما لا شك فيه أن الحضارة الأردنية النبطية كانت على قدر عال من الثراء الديني والروحي. فتعددت المعبودات النبطية بشكل كبير وكانت على اتصال مباشر مع حياة الإنسان الأردني النبطي. في هذا الفصل من بحثنا سنرى كيف تفرد الأردنيون الأنباط بخصائص ميزتهم عن الآراميين[1] وعن العرب.

آلهة وطقوس نبطية خالصة

 

عبر استقصاء الآلهة الأردنية النبطية والطقوس الدينية النبطية في سلسلة من ثلاثة أبحاث مفصلة، يمكن للباحث استنتاج عدة خصائص تميزت بها المعبودات الأردنية النبطية. وصحيح أن الأردنيين الأنباط عبدوا آلهة عديدة تمتلك امتدادا تاريخيا في حضارات أخرى إلا أن أنهم تفردوا بعبادة آلهة خاصة بهم تماما.

نجد الثالوث الأنثوي المقدس (اللات والعزى ومناة) ذي أصول متعددة قد تمتد للبابليين والآرام. إلا أن الوجه الذكوري للآلهة (ذو الشرى وشيع القوم) كانا إلهين أردنيين نبطيين خالصين.

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه الأردني النبطي فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطٌ بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

البترا المنحوتة في الصخر

تعود تسمية ذو الشرى لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأردنيين الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية (المدن النبطية الشمالية كبصرى وتدمر وأم الجمال وجرش وغيرها) على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

ظاهرة المدينة المعبد

في هذه الظاهرة التي تعد نقلة نوعية في التاريخ الديني في المشرق بأكمله، يبهرنا أجدادنا الأنباط ببناء مدن دينية كاملة. مدن بأكملها تكرس للعبادة. وإلى جانب العبادة، مارسوا التجارة والزراعة ولا يتعارض هذا مع فكرة تكريس المدينة بالكامل للعبادة إن عرفنا أنهم عبدوا آلهة للخصب وآلهة للزراعة وهكذا دواليك.

البترا، عاصمة الأردنيين الأنباط أفضل مثال للمدينة المعبد. المدينة الوردية المنحوتة في الصخر ومدينة الخمسمئة قبر. تمتلئ البترا بالمذابح والأنصاب والمسلات والمعلايات[2]. يرمز المعبود ذو الشرى للصخر بينما ترمز اللات (زوجة ذو الشرى) إلى المياه الجارية والينابيع. إن بترا بأكملها جسد ذو الشرى بينما تجرى اللات في القنوات المائية التي حفرها الأردنيون الأنباط في جسده كالشرايين. إنها رؤية دينية ساحرة.

المدينة الثانية التي تشكل جزءا من هذه الظاهرة النبطية هي أم الجمال شمال شرق الأردن وتتبع لمحافظة المفرق. أم الجمال مدينة نبطية تتميز بحجارتها سوداء اللون. وهي عبارة عن تجمع ديني كنسي حيث تتألف من خمس عشرة كنيسة بنيت معظمها في القرن الأول ميلادي أي عند اعتناق بعض الأردنيين الأنباط للمسيحية.

والسؤال هنا، لم لا نجد هذه المدن الدينية على هذه الشاكلة في شبه الجزيرة العربية؟

الطقوس الدينية النبطية جنوب الأردن

إن الباحث والمستقصي للممارسات الدينية جنوب الأردن سيجد لا محالة ارتباطا وثيقا بين تلك الممارسات والطقوس النبطية الدينية. فحتى ثمانينات القرن العشرين كان الأردنيون في الجنوب خصوصا سكان إقليم البترا يزورون جبل هارون. ورغم وجود مقام ديني يؤرخ للقرن الثامن هجري إلا أن ارتباط هذا المقام بالمكان العالي “المقدس” لابد أن يكون له امتداد نبطي أردني.

مقام النبي هارون عام 1900 ميلادي يتربع على واحد من أعلى جبال البترا

لقد قدس الأردنيون الأنباط المكان العالي كما أسلفنا، وبعد دراسة المواقع الدينية في الحضارة الأردنية النبطية تبين أن 75% منها بنيت على مكان عال.

وتذكر المصادر أن زيارة هذا المقام كانت أشبه بالحج الذي يتم على موسمين واحد بداية الشتاء ويسمى “القنيص” وواحد بداية الربيع. ويرجح الباحثون أن الأهالي في وادي موسى استخدموا التقويم النبطي الموجود في خربة التنور والذي كان ينظم أعياد واحتفالات الأردنيين الأنباط  وفق دائرة الأبراج.

وبالعروج على تفاصيل أكبر تتشابه فيها الممارسات الدينية الأردنية الحديثة مع تلك النبطية القديمة، يشعل زوار مقام النبي هارون الشموع والبخور في الكوى كذلك فعل أجدادنا الأنباط فتجد المباخر الحجرية وبقايا البخور لا تزال في كوى الإشعال والإضاءة. ومن الممارسات الأخرى تقديم القربان. ففي المذابح الأردنية النبطية قناتان واحدة للمياه الجارية والثانية لدماء القربان وقد فعل الأردنيون من الأهالي زوار مقام النبي هارون وغيره من المقامات المنتشرة ذات الفعل.

نتيجة

إن استمرارية هذه الطقوس وانفراد الأردنيين في العصر الحديث فيها لهو دلالة على الخصوصية الدينية التي تمتع فيها أجدادنا الأنباط، حيث أننا لا نجد ذو الشرى وشيع القوم عند عرب الجزيرة ولا نجد مدينة دينية كاملة ولا تخلص عملية تتبع الممارسات الدينية الحديثة لعرب الحجاز للتطابق أو التشابه مع الممارسات النبطية.

لقد نقل العرب معبودات الأردنيين الأنباط  نتيجة للتلاقح الحضاري ولامتداد النفوذ الأردني النبطي إلى الجزيرة العربية على أن هذا النقل والتأثر لم يحرم الأردنيين الأنباط من التفرد ومن إبقاء عناصر دينية بعيدة وخاصة وعسيرة على الاستنساخ.

 

ثالثا: انتقال السلطة

نشأت على أرض الأردن قبل الميلاد ثلاث ممالك أنشأت حلفا اقتصاديا وسياسيا: عمون ومؤاب وأدوم. وبينما تمركزت الأولى في البلقاء، نشأت مؤاب بين وادي الموجب والكرك بينما كانت أدوم في الجنوب. وما يعنينا من الحلف الأردني للممالك الثلاث هي أدوم وعاصمتها بصيرا في الطفيلة. امتدت أدوم في الجزء الجنوبي ووصلت حتى ميناء أيلة (العقبة).

مبخرة فخارية أدومية
Bienkozki , piotr (1996) The art of Jordan , UK

فالأدوميون شعب أردني (1200ق.م) سكن المناطق التي سكنها بعدهم الأردنيون الأنباط، كان لهم الفضل في ثورة النحاس الصناعية الأولى كما برعوا في التجارة. لم يكن الأردنيون الأنباط مكونا سكانيا دخيلا وجديدا بل كانوا منسجمين مع الإثنية الأدومية يتاجرون معها ويتكلمون الآرامية وإن كانت بلهجة مختلفة.

عاشت الممالك الثلاث ظروفا صعبة ومحاولات غزو متكررة من الممالك المجاورة خصوصا البابليين. تذكر المصادر اسم مجموعة قبائل الأنباط كإحدى القبائل “المتمردة” ضد محاولات الغزو البابلي. ونفهم من مجمل هذا السياق السياسي أن الأردنيين الأنباط كانوا مكونا سكانيا من ضمن الممالك الثلاث وقد وقفوا معهم جنبا إلى جنب ضد العدو الخارجي وبحسب هذه النتيجة، يكون انتقال السلطة من اليد الأدومية الأردنية إلى النبطية انتقالا سلسا دون اللجوء للحرب والعنف كما قد يفعل أي صاحب سلطة من خارج الأرض.

خريطة توضح الممالك الثلاثة عمون ومؤاب وإيدوم

ولا تذكر المصادر التاريخية أي محاولات أدومية لاستعادة السلطة إنما انضوى الأردنيون الأدوميون تحت الراية النبطية لأنهم لم يشعروا بأن هذه السلطة مفروضة من الخارج. فلو كان الأنباط عربا حجازيين أو يمنيين لظهرت على السطح مشكلات اجتماعية عديدة كمحاولات التمرد والانقلاب ولكننا لا نرى أي من هذا في الحالة السياسية النبطية الأدومية.

الخلاصة

اتبعنا في هذا البحث المنهجية العلمية في وضع الفرضيات واختبارها وطرحنا أسئلة كثيرة أجابت عليها النقوش والمصادر التاريخية. فلغة الأردنيين الأنباط وخصوصيتهم الدينية إضافة لطريقة انتقال السلطة إليهم تعطينا نتيجة واحدة وهي أنهم ليسوا عربا حجازيين إنما إثنية أردنية خالصة.

المراجع

  • سعد الدين أبو الحب، نقش نمارة العربي النبطي، دراسة منشرة كفصل من كتاب Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script 2011
  • جون كانتينو، اللغة النبطية، مهدي الزعبي، 2016، سلسلة دراسات
  • ولفنسون (1929) تاريخ اللغات السامية، بيروت: دار القلم
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • سلسلة الأردنيون عبر التاريخ، الأردنيون الأنباط، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • كريستيان اوجيه، عصر الأنباط (القرن الرابع ق.م. – القرن الزول ب. م.)، أطلس اأردن، المركز الثقافي الفرنسي والمركز الجغرافي الملكي (2014) p. 142-150
  • أحمد أبو بكرة، إيقاظ الهمم في إثبات أن الأنباط من العجم، صحيفة السوسنة.
  • مقال (ما هكذا تورد الإبل الجزء الثالث)، شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية

[1] الأراميون : شعب أقام و أسس حضارته في وسط و شمال ما يعرف بسوريا اليوم – حيث كان يطلق عليها اسم بلاد آرام حتى العصر السلوقي الهلنستي في القرن الرابع ميلادية ، كان لغته بلهجاتها المتعددة متعارف عليها ومستخدمة بكثرة في المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ودول العالم القديم .

[2] المعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. المصدر: أبحاث إرث الأردن. الطقوس النبطية: توليفة دينية ساحرة.

Scroll to top