مقدّمة

يُعتبر السامر طقسًا فنيًا كبيرًا من جملة الممارسات الإبداعية التي طوّرها الإنسان الأردني لتكثيف وتركيز قدراته على التعبير في المناسبات وإبراز قيمه التي يحرص على تأكيدها وتوريثها للأجيال القادمة من خلال ممارسته لها في المناسبات كلما سنحت الفرصة له بذلك. وعندما نقول “السّامر”، فإننا نقصد بذلك نظامًا متكاملاً من الغناء (شعرًا ولحنًا)، والرّقص والأزياء، وما هو على هامش ذلك من الترتيبات الديكوراتيّة المرتبطة بكل ما سبق ذكره من العناصر الفنيّة التي تشكّل مجتمعةً “طقس السّامر”.

التسمية

ترتبط تسمية هذا الطقس الاحتفالي بالسّمر، أي السّهر، والسّهر عادة يمارسها الأردنيّون بتسميات مختلفة مثل “التعليلة” – أي حلقات السهر المصغّرة في المضافات والبيوت – التي ترتبط بجرّات آلة الربابة وغناء القصيد والهجيني. في حين يُقام طقس السامر في السهرات الكبيرة التي يجتمع فيها عدد كبير من الأقارب والضيوف على هامش مناسبة سعيدة مثل العودة من السفر أو الطهور، أو الأعراس التي غالبًا ما تكون على مدى عدّة أيام بحسب عادات الأردنيين. ويُعتبرُ طقس السّامر الذي يُقام ليلةَ الزفّاف، وسيلة للإعلان عن الفرح، ولدعوة السامعين في المناطق المجاورة لمشاركة أهل المناسبة السّهر وشرب القهوة وتناول طعام العشاء، حيث يبدأ الزوّار بالتقاطر نحو بيت الفرح المزيّن بمشاعل النيران والرايات البيضاء ودق المهابيش ودلال القهوة الدوّارة.

الطقس

تعني كلمة “طقس” (وهي مأخوذة عن الكلمة اليونانيّة τάξις تاكسيس  “taksis” ومرادفها في الإنجليزية Rite) : النظام والترتيب الشعائري، بمعنى ترتيب مجموعة من المراسم والفقرات الأدائية بنسقٍ محدّدٍ وواضحٍ، وعلى مراحل متتاليّة، جديدة ومتكرّرة، ويشتمل هذا النظام على وتيرة سير دقيقة، إضافة إلى عددٍ من العناصر المرئية والملموسة، ويشترك في أدائه شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين لهم مهمّات محدّدة وقد ترتبط بارتدائهم لأزياء معيّنة، أو بتمتّعهم بصفاتٍ نوعيّة.

وإذا أردنا أن ننظر إلى السّامر على سبيل التحليل، فإننا نجده طقسًا احتفاليًا يشتمل على العناصر التالية مجتمعةً في نظام أدائي مرتّب ومنسّق :

  • العناصر السمعية : الألحان والأبيات الشعريّة وطرق الغناء المتنوّعة مع التصفيق الإيقاعيّ وإصدار الصيحات الحماسيّة.
  • العناصر الحركية : الرّقصات التي يتم أداؤها في مختلف مراحل هذا الطقس.
  • العناصر البصرية : الأزياء والأدوات المُستخدمة خلال الرّقص، والزينة التي يتم إعدادها بحسب المناسبة في موقع إقامة طقس السّامر.

فيما يشترك في تأدية فقرات هذا الطقس مجموعة من الشخوص الذين تكون لهم أدوارٌ واضحةٌ وموصوفة، وعلى بعضهم التمتّع بنوعٍ خاصٍ من المزايا التي تخوّله للقيام بدوره في طقس السّامر، ومن جملة هؤلاء الأشخاص :

  • القاصود (أو البدّاع) : وهو الشخص الذي يستلم مهامّ القيادة الموسيقيّة لغناء شعر السّامر، ويمكن اعتباره على أنه قائد جوقة المُنشدين، ومن المميزات التي ينبغي أن يمتاز بها القاصود؛ الذاكرة الشعريّة الكبيرة التي تمكّنه من استحضار وارتجال أبيات شعرية تتناسب مع التوقيت وطبيعة المناسبة والحاضرين، إضافة لامتلاكه الصوت الجهوري، والقدرات الإيقاعية التي تمكّنه من قيادة سرعة الغناء وتغييرها بحسب الجو العام. كما أن القاصود يجب أن يتمتّع أحيانًا بقدرات مسرحيّة وكاريزماتيّة لتساعده على التعبير عن معاني الشّعر بشكلٍ دراميٍّ ينسجم مع تأثيرها في وجدان السامعين.
  • الردّيدة : وهي بمثابة الجوقة من المُنشدين، الذين يصطفون على هيئة صفٍّ واحدٍ، وفي بعض الأحيان على صفّين متقابلين، ويقومون بإعادة ترديد أبيات الشّعر التي يغنّيها القاصود، أو بالرّد على غنائه بمردّات ثابتة. ولا يقتصر دور الردّيدة على الغناء وحسب، بل على التصفيق الذي يضبط إيقاع وسرعة الغناء، إلى جانب دورٍ رئيسيٍّ آخر في طقس السّامر، وهو التفاعل مع الحاشي في رقصها، ومن ثم أداء رقصة الدحّية، الصحجة، أو الرزعة.
  • الحاشي : الراقصة الرئيسيّة في طقس السّامر، وتاريخيًا فإن إحدى نساء القبيلة أو فتياتها تأخذ هذا الدور، أما في الحاضر فإنه من الممكن أن يكون مشتركًا بين النساء والرّجال أو على الرّجال وحدهم. وصفة رقص الحاشي؛ هي أنها تقوم بأداء حركات تمايليّة واستعراضية أمام صفّ الردّيدة، مستخدمةً السيف أو البندقيّة أو العصا، ومتلثّمةً بملفعها أو طرف عباءتها، وتتدرّج من اليمين إلى اليسار وبالعكس ذهابًا وإيابًا أمام صف الردّيدة، مُشْعِلةً في نفوسهم الحماس الذي يتصاعد تدريجيًا وصولاً إلى ذروة الرّقص في طقس السّامر.

كيف يُقام طقس السّامر؟

يُقام طقس السّامر بترتيبٍ واضحٍ ومنسّقٍ ودقيقٍ، حيث يبدأ بالعناصر البصريّة، ثم العناصر السّمعيّة، ثم العناصر الحركيّة، وتكون وتيرة طقس السّامر في البداية تتّسمُ بالسرعة المتوسّطة وتتصاعد تدريجيًا كلما تراكمت أنواع عناصره الثلاثة معًا، البصريّ فالسّمعيّ فالحركيّ، بشكل متتالٍ وبصفةٍ تراكميّة فيها تقنيّة تعزّز وتركّز الانطباعات الحسّية للحاضرين والمشاركين.

يبدأ طقس السّامر قبل أن يبدأ فعليًا، بالتحضير الرّوحي والنفسيّ للفرح الجمعي الذي ما أن يقترب موعده حتى تتصاعد مشاعر الحماس التي تدفع الجميع للتعاون الكامل بالتجهيزات اللوجستية التي ينتج عنها موقعًا مميزًا لإقامة الفرح في بيت صاحب المناسبة. ومن المعروف عند الأردنيين في المناسبات على اختلاف أنواعها التزامهم بقيم الفزعة والعونة التي تمثّل رابطًا روحيًا سرّيًا ينساب فيه جميع الأقارب والجيران والمعارف دون تفكير أو تخطيط في تشكيل فريق عمل عفوي يعبّر عن الرّوح الأردنية التي صنعتها تراكمات آلاف السنوات من النشاط الإنساني المتداعي لتحقيق ذرى حضاريّة تتغلّب على الفروقات والظروف والتحدّيات التي ما انفكّت تواجه الأردنيين منذ عصور قديمة ولازالت، أظهر خلالها الأردنيّون الفزعة والعونة الجماعيّة لبعضهم البعض ولجيرانهم التاريخيّين في أحداث سجّلها التاريخ. ولا يمكن النظر إلى فزعة الأقارب وتقديمهم العون في تجهيز ديكور الفرح وموقع إقامة المناسبة التي يعلو فيها طقس السّامر، بمعزلٍ عن فهمٍ عميقٍ لهذا السلوك الجمعي التاريخيّ الذي لطالما أخذ أشكالاً سياسيّة وعسكريّة على مدى آلاف السنين.

وعليه؛ فإن العناصر البصريّة التي تُعتبرُ جزءًا من طقس السّامر، والتي تشتمل على تجهيز الحطب لإشعال النيران وتوفير المقاعد والمراكي وأدوات ومواد تحضير القهوة والشّاي الذي يدور به المعازيب على الضيوف، وتزيين البيت بمشاعل النّار والرايات الملوّنة وبالذات الراية البيضاء التي قد تتوسّط بيت الفرح فوق المواقد، تعتبر جميعًا من العناصر البصرية التي تُعَدُّ إيذانًا ببدء الطقس الاحتفاليّ.

بعد أن يجتمع أهل الفرح والأقارب، يباشر صاحب المناسبة بدعوة الحاضرين لدخول السّاحة الأماميّة للبيت والبدء بالغناء، فيتصدّى لهذه الدعوة مجموعة من الشبّان ومعهم القاصود، فتتشكّل أولى صفوف الغناء والرّقص في طقس السّامر، وتكون هذه الانطلاقة الرسميّة للعناصر السّمعية في طقس السّامر، حيث يبدأ الغناء على النحو التالي :

القاصود :

الله يمسّيكو بالخير .. اظيوفن مع امحليّة

أول مسا للأجاويد .. ثاني مسا للكلّية

أول مسا للأجاويد .. ثاني مسا للوليّة

الله يمسّيكو بالخير .. الظيف اللي لفى سلّمْ

يا ظيفن يقريه العذر .. وظيفن عشّاه امولِّمْ

فيما تقوم مجموعة الردّيدة في كلّ مرّة بالرّد على القاصود :

هلا وهلا بك يا هلا .. لا يا حليفي يا الولد

ويستمر الغناء مع التصفيق بإيقاع متوسّط السّرعة لدقائق عديدة، قد يتخلّله أبيات شعرٍ تعالجُ موضوعات أخرى غير الترحيب، كمثل مدح أهل المناسبة، أو التفاخر ببعض القيَم والصفات، وغيرها من الموضوعات المتنوّعة التي جادت بها السليقة الشّعريّة الأردنية على مختلف ألحان الإرث الموسيقي فأغنت محتواها حتى غدا حصره صعبًا لكثرته وغزارته.

تُعتَبرُ الفقرات الغنائية الأولى في طقس السّامر إعلانًا لدعوة عامّة يتلقّاها كلُّ سامعٍ بالقبول والتلبية، فيتقاطر الضيوف من مختلف مضارب الجيران القريبة والبعيدة، وينضمّون مباشرةً إلى صفّ الردّيدة قبل دخولهم إلى البيت، بحيث يأتون من خلف الصّف ويخترقونه ويصبحون جزءًا منه وهم يصفّقون الإيقاع المسموع. ولهذه المشاركة قيمة كبيرة في نفوس الأردنيين، فالمشاركة بالغناء أو الرقص أو مجرّد التصفيق هو تعبيرٌ غير ملموس على المشاركة في إنجاح الحفل وتعظيم صوته وصورته، إذ يمكن اعتبار هذه المشاركة نقوطًا معنويًا يقدّمه الضيف لأهل البيت في فرحهم، وهو ما ينسحب أيضًا على المناسبات الحزينة حيث تتسابق النساء لغناء المعيد أو النواح أو اللطم وشقّ المدارق للتعبير عن مشاركتهم المشاعر لأهل الفقيد.

تُدعى مجموعات الضيوف التي يجذبها صوت السّامر إلى البيت الفرح بالـ “سراه، أو السرّى“؛ أي الذين يسرون تحت جناح الظلام ويتبعون صوت الغناء، وعند وصولهم والتحاقهم بصفّ السّامر فإنهم يعبّرون عن حضورهم بالغناء :

حنّا يومن سرينا .. تعليلة طَرَت علينا

والله لولا معزّتكو .. ما جينا ولا تعنّينا

ويستمرّ الغناء لفترة معيّنة على النحو السابق ومثيله، ثم يتوقّف للحظات معيّنة مع استمرار التصفيق دونما غناء، وتعني هذه اللحظات التهيئة للانتقال من الغناء المجرّد إلى دخول العنصر الحركي، مع كل العناصر التي سبق أن تراكمت في المراحل السابقة. وبعد هذا الصمت يقوم أحد القواصيد أو البدّاعين بالغناء :

يا من عين لي المعزّب .. يا من يذكّره ليّي

مرودي لربوعي حاشي .. ودّي البنت النشميّة

إلا يا معزّبنا تخيّر .. السّتر ولّا الفضيحة

مرودي لربوعي حاشي .. من البنات المليحة

هاتون الحاشي هاتونه .. هاتونه يلّي اتعرفونه

خلّه يتخضّع بردونه .. ليحوشي على الدحيّة

وتكون هذه الأبيات الشعريّة، إستئذانًا رسميًا جماعيًا يقدّمه المشاركون في صف السّامر من المعزّب لدخول الحاشي ومباشرتها الرّقص أمام الصّف، التي بدورها تدخل أمام الصّف برفقة صاحب الفرح الذي سيكون بطبيعة الحال من أحد أقاربها، ممسكًا بطرف مدرقتها أو ثوبها حتى تصل إلى الصّف فيتركها، وتباشر الحاشي التمايل والرقص بخفّة متناسبة مع سرعة الإيقاع المغنّى، والسير الراقص الاستعراضي للصّف من اليمين إلى اليسار والعكس، ممسكةً بالسيف أو البندقية أو العصا، ومرتديةً عباءة ولثام على وجهها. ويكون غناء الأبيات التالية حينها :

الحاشي جتنا ع هونه .. يا ربعي بالله تحبونه

يا ويلي ما اجمل عيونه .. رمتني عيون النشميّة

من الحاشي خلّك قريبي .. احرص على عيني لا تغيبي

عسى أنك من حظي ونصيبي .. تلقى من ربعك عطيّة

حاشينا ودّك المدح .. يا طولك غصّة الرّمح

لن شفتك صلاة الصّبح .. تزول همومي الخفيّة

لاشد اشدادي واجيبه .. واكرب(1) من فوق النجيّة

حرج وادويرع(2) عجيبة .. فوق ذلول عمليّة

يا بنت ملّا انتي ابنيّة .. لو فيكي من الطول شويّة

لحطّك بخريج الذلول .. والقيّ فيك الدويّة

الحاشي : سيّدة أردنيّة تحوشي بالسيف أمام صف من الرجال عام 1919

وبلحظةٍ ما يقوم أحد أقارب الحاشي ويمسك بطرف ردنها أو عباءتها، ويأخذها لتجلس بمعنى أنه يمنعها من الاستمرار بالرّقص أمام الصف، وتُدعى هذه العملية بـ “وسق الحاشي“، أي ربطها ورهنها، وهذا ما يستدعي أن يتجه القاصود نحو الشخص الذي رهن الحاشي ليتوسّل إليه من أجل يطلق سراحها، فيغني له :

يلّي ربطت حويشينا .. يا خيي وش لك علينا

يا الله ع الحق تقاضينا .. عند العوارف(3)  يقدونا

وش لك بالحاشي وقعوده .. خذلك من حقّه بارودة

يا روحي ما أقدر أسبّك .. أدنّق(4) عليك وأحبّك(5)

وأجوهك بالعالي ربّك .. تطلق حاشينا النشميّة

نعطيك اللي تريد وتهوى .. وندفعلك حملين القهوة

وندفع لك مية مع مية .. والموزر مع الرّدنية

وفي حال لم يستجب الشخص الذي رهن الحاشي، ينتقل القاصود بالغناء مع نبرة من التحدّي – الودّي بطبيعة الحال – ويخاطب الحاشي مباشرةً متجاهلاً مَن قام برهنها ومنعها من الرقص :

لا يطبّ بقلبك هوجاسي .. لافكّك يا اشقر الرّاسي

يا الحاشي هيه يا البنيّة .. وأنا صابتني برديّة

قالوا لي غطايا عندك .. بالله تعطيني المزوية

يا حاشي اعطيني الهندية .. من ايدك لايدي هديّة

يا حاشي اعطيني عباتك .. هبَّت عليّا الشرقيّة

يا مزغرتات الزغاريت .. طقّن ثلاثة سويّة

اللي ما تزغرت للغالي .. لاسوّي بيها جنّية

فتعود الحاشي مباشرة للرقص مجددًا بنفس الوتيرة السابقة، ويعود الغناء والتصفيق إلى وضعيته السابقة ما قبل “وسق الحاشي”، ومن جملة ما يُغنى بعد عودة الحاشي :

يا عشبن وانا له راعي .. ذبحني أبو عيون وساعي

يا بنت وانا طمّاعي .. اطرب لا شفت النشميّة

اطرب لا شفت العنودِ .. متلبّس بهدوم سودِ

عسى دهرنا يعودِ .. يبدل العتمة فضيّة

يتوقّف الغناء فجأة، وتبدأ الرّقصة التي تمثّل ذروة الحماس في طقس السّامر، وهي رقصة الرزعة، أو الدحّية (الدحّة)، وهي اللوحة الأدائية التي تلتقي فيها التعابير الصريحة عن الذكورة الغليظة والأنوثة الرقيقة، في آنٍ معًا، حيث يقوم الرجال في الصّف بالتصفيق وحَكّ أكفّ الأيدي مع النزول بأجسادهم نحو الأسفل وإصدار أصوات الفحيح مع الهمهمات التي تصدر من أغلظ طبقات الصوت الرجوليّة ( دحي دححيي – حي حي –) ، في حين تتوسّط الحاشي الصّف وتسير أمامهم بإيقاع سريعٍ، حتى تشتد وتيرة الرّقصة عندما يقترب الرجال من وضعية القرفصاء، وتسمّى هذه المرحلة بالسحجة (الصحجة)، ويقترب خلالها الرجال من الحاشي التي تردّهم عنها بالسيف أو العصا، وتستمرّ هذه العملية بين الكرّ والفرّ وتتصبّب جباه الرجال عرقًا، حتى تقترب الحاشي من مدخل البيت، فتدخله معلنةً إنتهاء الرقصة، التي ينتهي بانتهائها طقس السّامر ككل، ولكنّ أثره الرّوحي والنفسي والاجتماعي يبقى محفوظًا في نفوس الحاضرين، الذين قد يعاودون تكرار ذات الغناء والرقصات مجددًا في وقتٍ آخرٍ من الليلة ذاتها، وقد يشترك بها آخرون لم يكونوا قد اشتركوا بالجولة الأولى.

ماذا بقي من السّامر؟

يؤدّى غناء السامر تاريخيًا بصفة أكابيلّا A Capella) 6)، ولا ترافقه غير أصوات التصفيق والصيحات الحماسية والزغاريد، في حين ظهرت في أواخر القرن العشرين مجموعة من الفرق التي أخذت ألحان السّامر وقولبتها على شكل أهازيج غنائيّة بمرافقة الآلات الموسيقيّة، فساهمت بالمحافظة على ألحان وأشعار الكثير من الأنماط النوعيّة لطقس السّامر؛ وهو ما يمكن توصيفه بالانتخاب الطبيعي لهذا الإرث السّمعي والحسّي والقِيَميّ والجماليّ، الذي نختصره بعنوان “الإرث الموسيقيّ”.

وإذا لم تعد ممارسة طقس السّامر بكامل تفاصيله التقليدية منتشرة كما في الماضي، فإن ذلك يعود لمتغيّرات حياتيّة طبيعية تؤدّي بطبيعة الحال إلى تغيّر أنماط وعادات وتقاليد لدى كلّ الشعوب، إلا أن الأردنيين اليوم، ومن كافّة الفئات العمرية، والخلفيات المجتمعيّة، يمكنهم بكل بساطة استعادة الروح الإيقاعيّة للسامر بمجرّد سماعهم للمردّة الشهيرة : هلا وهلا بك يا هلا، التي اخترقت السنين والأجيال وظلّت حاضرةً في الوجدان جيلاً بعد جيلٍ. ولعل أحد أبرز هذه التجلّيات الحديثة لهذا الحضور الخاص الذي يتمتّع به السّامر في الذاكرة السمعيّة للأردنيين، هو المقطع الشهير لجماهير نادي الفيصلي الأردني التي ردّدت اللحن والكلمات مع أغنية الفنان الأردني عمر العبدللات بصورة عفوية تؤكد أهميّة هذا الطقس لجميع الأردنيين على اختلاف أعمارهم واهتماماتهم.

تعريف مفردات البحث :

  1. أكرب : أشدّ.
  2. ادويرع : خرج الناقة.
  3. العوارف : قضاة البادية.
  4. أدنّق : التدنيق هو أن ينزل شخصٌ واقفٌ إلى مستوى شخصٍ جالسٍ، ويُقال “أطمِّنْ”.
  5. أحبّك : أُقبّلُكَ، وحُبّة تعني قُبلة، في اللغة الأردنية.
  6. A Capella : أكابيلّا (لغة إيطالية)؛ مصطلح موسيقي يعني غناء مجموعة من المغنّيين مع بعضهم البعض دون مرافقة الآلات الموسيقية.

المراجع :

  • العبّادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية (سلسلة من هُم البدو 3)، 1979 الطبعة الأولى، دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام الأردنية.
  • الخشمان، مصطفى، السامر في الأردن، 2018، دراسة، موقع التراث الثقافي غير المادّي الإلكتروني، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • الخشمان، مصطفى، الأغاني الأردنية في الجنوب، 2016، دراسة، منشورات العقبة مدينة الثقافة الأردنية، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • غوانمة، محمّد، الغناء البدوي في الأردن، 2009، دراسة، جامعة اليرموك، إربد، الأردن.

السّامر : طقس البهجة والاحتفاء بالقيم الأردنيّة

مقدمة

شهدت المملكة الأردنية الهاشمية في أواسط القرن العشرين نهوضًا نوعيًا في الفنون والموسيقى، كان من بين أبرز أسبابه أن وجد الأردنيون في افتتاح الإذاعة آنذاك، ثم التلفزيون، متنفّسًا لتطلّعاتهم الثقافيّة التي عادت تتصاعد عقب التحرر من نير الاحتلال العثماني، نحو شتّى المجالات الحضارية التي كانت قد أفلت في تلك الحقبة الظلاميّة، وظل الأردنيون طيلتها يحاولون استرجاع حضارتهم الإنسانية ذات الامتداد التاريخي العميق.

وعلى إثر تلك النهضة الموسيقيّة، برزت إلى الواجهة أسماءٌ أردنيّةً مميّزة، تركت بصمة لا تُنسى في الموسيقى الأردنية، وبذل أصحابها جهودًا تاريخيّة في صناعة ونشر الموسيقى الأردنية حتى وصلت إلى أبعد من الحدود الجغرافيّة وسافرت معهم إلى أهم المنابر في المنطقة والعالم، كان من بين هؤلاء الروّاد مغنّون وملحّنون وعازفون، صارت أسماؤهم تُذكر دومًا حين الرّجوعِ إلى الصفحات الهامّة في التاريخ الموسيقي الأردني المعاصر. ومن بينهم، أول عازف قانون أردني، الموسيقار إميل حدّاد.

نشأته ودراسته

وُلِد الموسيقار إميل حدّاد عام 1944 في مدينة إربد شمال الأردن، وكبر وترعرع في هذه المدينة التي ترك ريفها المميّز أثرًا في نفسه ووجدانه، كغيره من المبدعين الذين احتضنتهم الجغرافيا الأردنية بكل جماليّاتها وأثّرت في سلوكهم الإبداعي، فكبروا فيها معبّرين عن مكنوناتها الجماليّة بعد أن تركّزت فيهم تفاصيلها الساحرة.

في العاشرة من عمره، كان حدّاد يسكن مع عائلته بالقرب من مستشفى الأميرة بسمة، وكان أخوه الأكبر فريد يعمل ممرّضًا فيها، وصادفت أن أهدته إحدى زميلاته في التمريض آلة عود قديمة مستعملة، لم يكن إميل حدّاد الطفل يجرؤ على لمسها رغم أنها لفتت انتباهه منذ أول لحظة رآها فيها، ولكن احترامه لهذه الآلة وخوفه من أخيه كانا عائقًا أمام تجرّؤه على القرب من آلة العود. ولكن بطريقةٍ أو بأخرى، وبعد فترة من الزمن، استطاع إميل، وبموافقة أخيه فريد الذي اكتشف موهبة إميل، أن يُمسك بالعود للمرّة الأولى ويحاول أن يُخرج منه صوتًا.

نقرأ في قصّة إميل حدّاد الطفل، إصراره على أن يجعل الحلم حقيقة بدافع الموهبة الملحّة على حواسّه طيلة الوقت، فمنذ أن أمسك بالعود القديم (غير المدوزن)، وحاول أن يضبط دوزان أوتاره دون معرفةٍ مسبقةٍ له بالموسيقى وعلوم آلة العود، وجد نفسه يائسًا مرّات كثيرة في أن يُصدِر صوتًا مقبولاً من هذه الآلة، إلا أنه لم يفقد الرغبة في تحقيق ذلك، لأنه كان يندفع قهريًا تحت ضغط الشغف بالموهبة للمحاولة مرارًا وتكرارًا. خطر بباله أن يعزف أغنية “طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا” للفنان توفيق النمري، ضرب بريشته على الوتر السفلي، ثم الوتر الذي يعلوه مباشرة، وهما في حالة الوتر المطلق (1)، فنجح بأداء اللحن (طيّارة يمّا بتحوم) … بقي أن يُكمل (فوق حارتنا)، فلم يُجِد ذلك! كان هذا الطفل فرحًا بما استطاع أن يحققه من عزف نصف جملة موسيقية من مطلع أغنية توفيق النمري، ولم ترَ عينه النوم طيلة تلك الليلة، ولكنّه بقي يتساءل مع ذاته عن الطريقة التي سيتمكن فيها من إتمام عزف اللحن؟ وقبل أن يغلبه النعاس، راوده خاطر مفاجئ، فهرع مُسرعًا إلى العود وأمسك به ووضع يده اليسرى على أحد الأوتار وجعل يحاول حتى اكتمل اللحن (طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا…)، وبقي هذا الطفل يحاول، ويجتهد وحيدًا مع عوده وحلمه، شهورًا طويلة، حتى استطاع أن يؤدي ألحان توفيق النمري وجميل العاص وفريد الأطرش وعبدالوهاب وغيرهم.

لم يكن والد الموسيقار إميل حداد راضيًا عن فكرة أن يكون ابنه موسيقيًا، رغم أنه، أي الوالد، كان مولعًا بالطرب والموسيقى، لكنّ خوفه على مستقبل ابنه دفعه في إحدى المرّات إلى كسر العود أمام عيني إميل، فما كان من الأخير إلا أن ذهب بالعود إلى أحد النجّارين لإصلاحه ومواصلة تمارينه الموسيقيّة. وفي أحد الأيام، كان قائد المنطقة العسكرية في إربد، المرحوم عصر المجالي، قد سمع بموهبة إميل بالعزف على العود، فأرسل دورية شرطة إلى بيته لتحضره من أجل إحياء حفلٍ وطنيٍّ كبيرٍ سيُقام في المدينة، ولكن إميل لم يكن موجودًا وبعد ذهاب الشرطة وعودة إميل إلى البيت، استقبله والده بالأسئلة القاسية عن سبب مجيء الشرطة، وفي هذه الأثناء عاد ضابط من الشرطة مجددًا إلى البيت وأصر أن يأخذ إميل معه موضّحًا السبب، وهو الحفل الوطني، فلحق إميل ووالده بالضابط إلى الحفل، وكانت تلك المرّة الأولى التي يعزف بها أمام العامة، وبحضور والده، الذي تغيّرت نظرته إلى ولده وشعر باحترام كبير له ولفنّه.

وعلى إثر ذلك، استطاع إميل أن يحقق المزيد من المكاسب التي تمثّلت بموافقة والده على الذهاب لدراسة الثانوية العامة في القاهرة، ثم الالتحاق بالمعهد العالي للفنون هناك ودراسة الموسيقى، وهذا ما حصل بالفعل، وكان إميل حداد أول طالب أردني يدرس الموسيقى وآلة العود في القاهرة، وحصل أن كان خلال سنة الدراسة الأولى جالسًا في ردهة داخل المعهد، يعزف على آلة العود، وصدف أن مرّ الموسيقار المصري الكبير محمّد القصبجي، الذي كان يعزف في فرقة السيّدة أم كلثوم ولحّن مجموعة من أغانيها، فتوقّف مصغيًا إلى عزف إميل، واقترب منه وقال له “إنت منين يا ابني؟” فأجابه “من الأردن”، فقال له “سيكون لك مستقبل جيّد، ولكن عليك أن تخفف من الضغط على ريشتك أثناء العزف”، فقال له إميل “ولكن أنا يا أستاذ عازف قانون”، فقال له القصبجي “ستكون عازف قانون ممتازًا”. وكانت تلك الكلمات مصدر وحيٍّ وإلهام للطالب الأردني الوحيد في ذلك المعهد الذي وقف أمامه واحد من بين قلّة من ألمع نجوم الموسيقى في مصر.

المشوار الفنّي والمهني

لم يتأخّر إميل حدّاد عن موعده مع التلحين، فقد لحّن أول عملٍ له وهو طالب في القاهرة عام 1965، وانغمس بعدها في الألحان حتى نسي أن له صوتٌ جميلٌ ويمكنه الغناء، فصار يحاول البحث دائمًا عن أصواتٍ جديدةٍ ليكتشفها، ومن بين أولى الأصوات التي تعامل معها حدّاد، الفنانة الشهيرة سهام الصفدي، التي لحّن لها حدّاد أولى أغانيها التي اشتهرت عام 1968 وكانت بعنوان “سهم الهوى”. قام بعدها إميل حدّاد بتلحين أغنية، تُعتَبرُ واحدة من أقرب الأغاني الوطنية إلى الوجدان الأردني، وهي “وضّاءٌ وجهكَ يا بلدي” التي غنّاها الفنان الراحل اسماعيل خضر. وكان لقاؤه بالشاعر الكبير حسني فريز نقطة فارقة في مسيرته الفنية، حيث لحّن من كلماته أغنية “يا حلو طمّني عنّك” التي غنّتها سهام الصفدي.

في العام 1971 انتقل الموسيقار إميل حدّاد إلى المملكة العربية السعوديّة ليعمل في إذاعة الرياض ثم إذاعة جدّة لمدّة 14 عامًا، قدّم خلالها الكثير من الجهود في هاتين الإذاعتين الناشئتين آنذاك اللتين استفادتا من خبراته وقدراته الموسيقيّة، واستفاد منها عددٌ من العازفين السعوديين آنذاك بطبيعة الحال. وكان الفنان الكبير محمد عبده من جملة أصدقاء الموسيقار إميل حداد خلال إقامته هناك، رافقه في كل رحلاته الفنيّة.

عاد حدّاد عام 1985 إلى الأردن إثر وفاة أخيه، وبقي لمدة عامين في حالة أشبه بالعزلة، حتى أقنعه صديقه وزميله في الدراسة الملحّن الكبير روحي شاهين الذي كان يعمل رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، بالعودة إلى نشاطه، فعاد مجددًا للتلحين، ولحّن لفارس عوض مجموعة أغاني هامة ظلّت في الذاكرة الأردنية حتى اليوم، أبرزها “عمّان يا دار المعزّة” من كلمات الشاعر الأردني الكبير علي عبيد السّاعي. ومنذ العام 1985 وحتى 1998 عمل الموسيقار إميل حدّاد محاضرًا غير متفرّغ في قسم الموسيقى/ جامعة اليرموك.

عام 1991 عُيِّن رئيسًا لقسم الموسيقى في الإذاعة الأردنية، والتقى لاحقًا بالشاعر الكبير حبيب الزيودي في أول تعاون جمعهما بأغنية “عمّان أرض النّدى” التي غنّتها الفنانة سميرة العسلي، وبناءً على هذا التعاون نشأت صداقة مميّزة بين الملحّن والشّاعر الذين تركا بصمة في مسيرة الأغنية الأردنية، تمثّلت بسلسلة من الأعمال منها (هلا يا عين أبونا) التي يستذكرها الأردنيون بصفتها الأغنية الأكثر شهرةً في أول أيام تسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين سلطاته الدستوريّة عام 1999، إلى جانب غيرها من الأغاني (هذي بلدنا، والطيب طيبك…).

لم ينقطع نشاط الموسيقار إميل حداد الموسيقي حتى بعد مغادرته الإذاعة الأردنية، فلقد انضم إلى فرقة جيل الروّاد التي تؤدي أسبوعيًا حفلاتٍ فنيّة يغنّي ويعزف فيها كبار هذا الجيل الذي أعاد صنع أغنية أردنيّة تحترمها كل المنابر العربيّة والعالميّة، وتسافر مع الأجيال عبر الزمان، لتحكي قصّة أردنّ النهضة والبناء، والشمس والحريّة.

الموسيقاران إميل حدّاد وعامر ماضي

تأثيره على الأغنية الأردنية

كان للموسيقار إميل حدّاد، بصمةً موسيقيّة مميّزة في الأغنية الأردنية، صنع من خلالها زاويةً هامّة في الوجدان السّمعي للأردنيين بألحانه التي توسّطت بين مزاج الرّيف والبادية، فعبّرت بعفويةٍ وانسيابٍ تلقائيٍّ عن الرّوح الحقيقيّة للمكان والإنسان الأردنييَّن، وعن جوهر الشخصيّة الأردنية. ولم يكن الموسيقار حدّاد لينجح بهذه التجربة لولا أنه كان متعلّقًا بجماليّات الإرث الموسيقي، دون قيود أو تبعيّة عمياء، ومتطلّعٌ بشغف إلى آفاق سمعيّة جديدة، يخلق في فضاءاتها الجملة الموسيقيّة التي يجد فيها الأردنيّ نفسه أصيلاً ومعاصِرًا في آنٍ معًا.

لم يقتصر دور الموسيقار حدّاد في النهوض بالموسيقى الأردنية على ألحانه التي أعطاها طيلة مشواره الفنّي وحسب، بل وعلى الصعيد الأكاديمي، وهو الذي نال درجة الدكتوراة في الموسيقى من إحدى الجامعات العالميّة في النمسا (وطن المؤلف الموسيقيّ الشهير موزارت)، فقد قدّم أطروحة جامعيّة حول الأغنية الأردنية المعاصرة، استعرض خلالها تطوّر الغناء في الأردن وقيمتها الثقافية.

المراجع :

  • حدّاد، إميل، الصدفة وحدها كانت السبب في تعلّمي آلة العود، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الزيّودي، حبيب، إميل حدّاد صانع الوجدان، 2005، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • ومضات ثقافيّة،وثائقي قصير، 2016، إنتاج وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.

الموسيقار إميل حداد : أول عازف قانون أردني

مقدمة

تحّدثنا في بحثنا  السابق “الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام” عن الحالة الدينية السائدة في الأردن وما حولها. وعن الثلاث طوائف مسيحية التي تشاركت الوجود ككيانات دينية وسياسية منفصلة. فالغساسنة مونوفيزيون والبيزنطيون ميافيزيون أما المناذرة فاعتنقوا النسطورية. ورغم أننا ربطنا في البحث الأول الدين بالأحداث والمجريات السياسية كان لا بد لنا من وقفة على الآثار الاجتماعية والحضارية للمسيحية عند الأردنيين الغساسنة.

مسيحية الغساسنة

في القرون الميلادية الأولى، كانت الإمبراطورية الرومانية تمارس اضطهادها الديني على المؤمنين بالمسيحية عدا عن الظلم والاستبداد ومحاولات فرض الولاية والسيطرة بالقوة. في تلك الأثناء خرجت من رحم الصحراء الأردنية الشرقية الملكة ماوية، قادت القبائل الأردنية وأغارت على الحاميات الرومانية في الأردن ولبنان وسورية وفلسطين وحتى مصر. أرعبت قوة الملكة وجيوشها الأردنية القوات الرومانية فاضطروا لعقد صلح معها.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

اعتنقت الملكة المحاربة المسيحية على يد القديس يعقوب البرادعي وكانت أولى شروطها أن يتولى القديس البرادعي أسقفية القبائل الأردنية وتلاه صديقه القديس ثيودور وتولى الجزء الغربي من الأردن بالتعاون مع الأردنيين الغساسنة. سرعان ما انتشر المذهب اليعقوبي (نسبة ليعقوب البرادعي) في المنطقة فاعتنق المذهب معظم الأردنيين في سهول حوران الأردنية والبلقاء وما حولها.  تمسك الغساسنة بشدة بهذا المذهب ودافعوا عنه بغيرة وإباء أمام محاولات الإمبراطورية البيزنطية لتحويلهم عنه.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

يورد الباحث تيسير خلف ترجمة لرسالة بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القديس يعقوب البرادعي يناقش فيها آخر انتصاراته :

رسالة البطريق الأمجد “الحارث بن جبلة ” للقديس يعقوب البرادعي

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت استعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة”[1].

وتتوضح العلاقة القوية بين القديس البرادعي وأهم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة في هذه الرسالة. إذن، من عند الملكة الأردنية ماوية بدأت الحكاية ولكن في ذات الوقت الذي كانت الملكة ماوية تغذ الخُطا بشجاعة نحو القوات الرومانية، وُجد قديسون آخرون، كانوا ملهمين وحاضرين في الوجدان الغساني كرموز دينية لا تُنسى.

وقد كانت الممالك المسيحية الثلاث (الغسانية الأردنية والمناذرية والنجرانية) تتبارى في تكريس جهودها للحفاظ على مذاهبها ونظامها الكنسي وكان الأردنيون الغساسنة يتصدرون المقدمة حيث أن المناذرة اعتنقوا المسيحية في وقت متأخر من القرن السادس ميلادي بينما كانت نجران مدينة صغيرة معرضة لتهديد مستمر ممّن حولها حتى الوقت الذي انضوت فيه تحت الراية الغسانية.

التعاليم والطقوس

امتاز الأردنيون الغساسنة بإحساسهم الديني الحار، فتعج المصادر والتقاويم الكنسية باحتفالاتهم وأعيادهم وأيام صومهم. كان الغساسنة يعظمون الصيام إذ صاموا الصيام الكبير(أربعين يوما) إضافة لأيام العذراء مريم. ويذكر الأب قاشا في كتابه “صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام” أن الكنائس كثرت في بلاد الغساسنة وأن صوت أجراس الكنائس كان يتردد في كل مكان وعليه يورد بعض الأشعار التي تغنى فيها الأدباء بصوت نواقيس كنائس بلاد غسان:

حنت قلوصي بها والليل مطرق

بعد الهدوّ[2] وشاقتها النواقيسُ[3]

ومما ذكر في الشعر العربي القديم عن احتفالات الأردنيين المسيحيين بعيد الفصح قول حسان بن ثابت:

قد دنا الفصح فالولائد ينظمن

سراعا أكلة المرجــان

يتبارين في الدعاء إلى الله

وكل الدعاء للشيطان  (أي كل الدعاء واللعنات على الشيطان )

 ذلك معنى لآل جفنة[4] في الدير

وحق تصرّف الأزمان

صلوات المسيح في ذلك الدير

دعاء القسيس والرهبان[5]

وفي عيد الشعانين[6] الذي كانوا يسمونه “يوم السباسب[7]” أنشد النابغة الذبياني واصفا الأردنيين الغساسنة أثناء احتفالهم:

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب

ومن الأعياد الأخرى التي تذكرها كتب التاريخ القديمة، عيد “السُبّار” وهو عيد تبشير جبريل (ع ) للسيدة مريم (ع) بحملها بالمسيح (ع). وعيد “القلنداس” وهو عيد الأسبوع الأول بعد ولادة السيد المسيح (ع). وعيد “الدِنح” وهو عيد ظهور السيد المسيح (ع) لبني إسرائيل. وعيد “السُلاق” وهو يوم تسلق المسيح إلى السماء.

ومن شدة اهتمام الأردنيين الغساسنة بهذه الأعياد الدينية كانوا يحيكون لها ملابسا خاصة. فعرف عندهم ثوب ” الإضريح” وهو ثوب من قماش خاص مصنوع من صوف الماعز يلون باللونين الأحمر أو الأصفر (قاشا: 2005)

الرهبنة عند الغساسنة

كان النظام الكنسي الذي أسّسه وحافظ عليه الغساسنة نظاما يتماشى مع الأسس العامة للديانة المسيحية. فقد أنشأوا كما أسلفنا الأديرة والكنائس وكان الراهب يعيش حياته محتذيا بالمسيح (ع) ويهبها لفعل الخيرات والعبادة.

ولا تختلف التقاليد التي اتبعها مسيحيو الأردن من الغساسنة عن التي يتبعها مسيحو اليوم. فقد تولّى الراهب أو الأسقف تقاليد الاعتراف، وحفلات العماد والزواج والتكريسات الدينية والقداس.

كما اهتم الأردنيون الغساسنة ببناء الأديرة والبِيَع (جمع البِيعة وهي الكنيسة) ليس فقط في الأردن وسوريا إنما وصلوا إلى مصر. فيذكر أنهم عقب انتصارهم على المناذرة عام 554 أعادوا بناء كنيسة سانت كاترين الواقعة على جبل في سيناء.

صورة حديثة لدير سانت كاترين في سيناء، والدير مبني على أنقاض كنيسة جددها الأردنيون الغاسسنة واعتنوا بها

عرف الرهبان الغساسنة عدة أنماط سكنية، ظل بعضها صامدا على أرض وطننا الأردن حتى الآن. يعدُّ البرج أو “الأسطوانة” من أبرز المباني الدينية عند الرهبان الأردنيين الغساسنة. يحوي موقع أم الرصاص الأثري أقدم برج من هذا النوع، وهو الوحيد الذي صمد رغم الزلازل التي ألمّت بالمنطقة. في تلك الفترة انتشرت ظاهرة التعبد عبر الخلوة والانقطاع عن الأمور الدنيوية وقد بني البرج لخدمة هذا الهدف فهو في تجمع كنسي محاط بحصن وبارتفاع 15 متر. وكان القديس سمعان العمودي هو من بدأ هذه الطريقة في الرهبنة وسميت فيما بعد الرهبنة العمودية.

البرج أو الأسطوانة الباقية في مجمع كنائس أم الرصاص في الأردن

ومن المباني الدينية الأخرى التي اشتهرت هي “الأُكيراح” وهي مبان لاحتفال الرهبان بالأعياد الدينية. وهنالك “التامور أو التأمور” وهو مبنى منعزل للتعبد. و”الدير” و”الصرح” و”الركح” و”الصومعة” “والطربال” و”العُمر” و”القلاية” و”القوس” و”الكرح” و”الناموس” وقد ذكرت كل هذه المباني ذكرا في الأدبيات القديمة دون الوصول لآثار حقيقية ملموسة لها. (شيخو: 2011)

القديسون والأساقفة

منذ القدم، ترسخت في نفوس أبناء الأردن الحرية والصمود وقول كلمة الحق أمام الظلم والطغيان. في سيرة القديسين والشهداء المسيحيين الأردنيين الغساسنة أمثلة لا تضاهى. فهنالك شهداء وادي فينان وشهداء فيلادلفيا يوليانوس وإفبولوس وملكامون وغيرهم. ومن البترا نجد تمجيدا للقديس أثينوجينوس وأمه الناسكة ذامياني والقديس بولس أسقف رايثو، البترا. والقديس زكا الشماس وهو من أم قيس. والقديس بطرس من بيت راس والقديس جراسيموس الأردني. لا يمكن لنا أن نلمّ بكل شهداء الأردن في العصر الغساني الذي شهد اضطهادا دينيا واسع المدى، ولكننا نمجد بالطبع ذكرى هؤلاء الشهداء بوصفهم شهداء وطن، ومدافعين أصيلين عن حرية الرأي والاعتقاد المنسجمة بالفطرة مع جوهر الروح الأردنية.

القديس جراسيموس الأردني

تذكر المصادر التاريخية العديد من القديسين والأساقفة بتفصيل أكبر متناولة حياتهم ومساهماتهم وقصصهم. وفيما يلي استعراض لأهم القديسين في عهد الأردنيين الغساسنة.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إيليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. [8]

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب عمان، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. [9]

تصوير آخر للقديسين زينون وزيناس

الأسقف  ثيودور (540-570)

الأسقف ثيودور هو أحد الأساقفة الأكثر شهرة، فقد تولى أسقفية المملكة الغسانية في أوج ازدهارها في عهد الحارث بن جبلة. كان الأسقف ثيودور صديقا للقديس يعقوب البرادعي الذي ولته الملكة الأردنية ماوية على مسيحيي البادية الأردنية وما حولها. بشّر ثيودور بالمذهب اليعقوبي المونوفيزي وكان يبعث بالرسائل إلى شيوخ وملوك الحواضر والمدن الأخرى. وكان ملتزما بحضور المجامع الدينية الكنسية للتوفيق بين المذاهب المسيحية ، كما لعب دورا حاسما في حركة الثالوثية التي حاربت المذاهب التي ترفض الطبيعة الإلهية للمسيح.

ناقشت العديد من الكتب السريانية اللاتينية والآرامية حياة الأسقف ثيودور بشيء كبير من التفصيل ومؤخرا ترجمت بعض الرسائل التي كتبها هو أو كتبت له نقلا عن السريانية والآرامية، وتعد الرسالة التي بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القس يعقوب البرادعي من أهم الرسائل التي تذكر حكمة ومكانة القس ثيودور:

وفي هذه المناسبة، أبلغ غبطتكم عن موضوع آخر، وهو أن طيّب الذكر ثيودور بابا الإسكندرية تفضّل وتحدث معي حول موضوع مار بولس رئيس الدير الكبير (الأرشمندريت)، فكنت في غاية السرور، و حمدت الله فقد تحدثت معه وجهاً لوجه واستفدت منه كثيراً، وبتنفيذي للأمور التي أمرتموني بها، أرجو أن أكون أهلاً لصلواته” [10]

القديسان سركيس وباخوس

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

على الشعار الحربي للقوات الغسانية نرى أيقونة رجل محاط بهالة نورانية؛ إنها أيقونة القديس سركيس أو سرجيوس. في القرن الثالث ولد القديسان سركيس وباخوس. في ذلك الوقت كانت الاضطرابات الدينية تسود المنطقة، المسيحية لا زالت دينا حديث الانتشار والإمبراطورية الرومانية تقوم بتعذيب معتنقيه بصورة بشعة ووحشية.

أيقونة قديمة للقديسين سركيس وباخوس وفي المنتصف ترتسم صورة المسيح- المصدر: وكيبيديا

أما القديسان فكانا في الجيش عندما امتنعا عن تقديم الأضاحي والقرابين للإله مركوري (المشتري) تبعا للتقاليد الوثنية في الإمبراطورية الرومانية وعندها اكتشف قائد الجيش اعتناقهما للمسيحية فعذبهما طويلا بغية جعلهما يرتدان عن المسيحية ولكنهما صمدا. استشهد القديس باخوس  في البداية وظل القديس سركيس يتعرض للاضطهاد حتى عرف القائد الروماني بأنه لن يرتد مهما فعل فقطع رأسه في مدينة الرصافة في العراق.

أيقونة تخيلية لمشهد استشهاد القديسين على يد القوات الرومانية- المصدر: موقع بطريركية أنطاكية

بنيت أول كنيسة لتكريم ذكراهما في سهول حوران الأردنية في مدينة الجابية عاصمة الغساسنة الأولى. وبنيت كنيسة أخرى في مدينة بُصرى في القرن السادس ميلادي. كذلك كنيسة أم الرصاص التي تسمى “كنيسة التوأم” لأنها كنيستين في كنيسة واحدة وقد بنيت في عهد الغساسنة في القرن السادس ميلادي تحديدا عام 586.

كنيسة القديس سرجيوس أو سركيس المبنية على أنقاض كنيسة غسانية قديمة. تحوي الكنيسة أقدم خارطة فسيفساء في العالم للأردن وفلسطين- أم الرصاص الأردن

 

ومن الكنائس الأردنية القديمة التي كرست للشفيع كنيسة أثرية في تل العميري، قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة. وتل العميري منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري، يذكر النقش اليوناني المكتشف هناك أنه تم رصف مقام القديس  سرجيوس (سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة، بالفسيفساء وبأن هذا العمل مُهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري، ابن ربوس، الكاهن الأكثر تقوى، وجورجيوس الشماس، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].”

صورة جوية لموقع تل العميري الأثري

عظّم الأردنيون الغساسنة القديس سركيس كثيرا ووضعوا أيقونته على شعارهم الحربي. مثّل القديس الشهيد بالنسبة لهم “شفيعا” دينيا واستعانوا بذكراه للصمود أمام أعدائهم في الحروب. وتذكر المصادر التاريخية التي كتبها القساوسة باللاتينية أو السريانية أن ملوك الغساسنة وحتى المناذرة والفرس احترموا قبر الشهيد سركيس وكانوا يلتزمون بحضور القداسات والاحتفالات الدينية. ويقول الشاعر جرير واصفا ارتباط الأردنيين الغساسنة بذكرى القديس الشهيد:

يستنصرون بمار سرجيس وابنه

بعد الصليب ومالهم من ناصرِ[11]

لعب قبر القديس الشهيد في الرُّصافة دورا هاما في التاريخ السياسي الغساني. فعندما بدأت العلاقات الغسانية البيزنطية تأخذ منحى سيئا عقب موت الملك الغساني الحارث وتولي ابنه المنذر، كان قبر القديس المكان الذي اختاره المنذر الغساني لقبول طلب الصلح الذي قدمه البيزنطيون في القرن السادس.

القديسان قزمان ودميان

قصة القديسان قزمان ودميان إحدى القصص المؤثرة التي ظلت محفورة في ذاكرة الأردني الغساني. فقد ربتهما أمها ثاؤذتي الشهيدة على حب الخير فأصبحا طبيبان يعالجان الفقراء والمحتاجين بالمجان. استشهدا هما وأختيهما وأمهما على يد الإمبراطور دقلديانوس وكانت أول كنيسة تمجد لذكرى هذين الطبيبين في جرش، سنأتي على ذكر قصة القديسين لاحقا بشيء من التفصيل في فصل المرأة الغسانية والدين لأن ذكر القديسين اقترن دوما بقصة والدتهما الشهيدة ثاؤذتي.

إطلالة على كنيسة القديسين

القديس ( جاورجيوس ) 

القديس جرجس ( جاورجيوس ) رمز مسيحي مشهور حول العالم ولكن قصته لم تكن لتنطلق للعالمية لولا التمجيد الذي حظي به عند الأردنيين الغساسنة. يشابه في صفاته “الخضر” وله عدة كنائس ومقامات تنتشر في السلط وماحص ومادبا والكرك. لقصته وقع جميل ومؤثر في النفس فهو إحدى الشخصيات التي لاقت مصيرا مؤلما من العذاب والاضطهاد لأجل الدين. بصمود القديس جرجس أو “الخضر” آمن الكثيرون بالمسيحية ابتداءً بالعامة وصولا إلى زوجة الإمبراطور دقلديانوس نفسه.

رسم لاتيني للقديس جاورجيوس – الخضر

يحتفي الأردنيون في البلقاء (عاصمة الأردنيين الغساسنة) وما حولهما بالقديس جرجس أو جاورجيوس الذي منح الخلود عندما أنطق الوثن في المعبد  وقال بحسب المرويات ” لست أنا الإلهة الذي تعبد” وقد قتله الإمبراطور على إثر هذه المعجزة.

واجهة كنيسة الخضر في السلط

اهتم الأردنيون الغساسنة قديما في القديس جاورجيوس وكان حاضرا في أدبياتهم وأشعارهم وقد استمر الأردنيون حتى اليوم بتمجيده. بنيت لذكراه كنيسة السلط في القرن السابع عشر، وسمي على إثرها شارع الخضر الشهير في السلط إضافة لحي الخضر. أما في مأدبا، فبنيت كنيسة الخارطة في القرن التاسع عشر على أنقاض كنيسة غسانية قديمة تحوي أقدم وأكبر خارطة فسيفسائية في الأردن وفلسطين، بينما تحوي بلدة ماحص في محافظة البلقاء على مقام مسيحي إسلامي مشترك للخضر.

كنيسة الخارطة في مادبا

 

الفنون المسيحية الغسانية

إنه من المنصف أن نصف الحضارة الغسانية بأنها حضارة “فنيّة” فقد غلف الفن كل جوانب حياة الإنسان الأردني الغساني. وإن استطلعنا الكنائس التي بنيت في عهد الغساسنة نجدها على قدر عال من الجمال. ومن المؤكد أن هذه الكنائس التي تحوي خرائط  فسيفسائية عظيمة حوت تصاوير وأيقونات ملوّنة للقديسين والشهداء قد بنيت كلها بأيدي الحرفيين الفنيين الغساسنة الذين أبدعوا في هذه الفنون.

جزء من خارطة فسيفساء كنيسة القديس جورجيوس ويظهر فيها نهر الأردن

المرأة الغسانية والدين

آمن الغساسنة بالمسيحية وكانوا مخلصين لمذهبهم، فكما ناقشنا في بداية البحث، اعتنقوا المذهب المونوفيزي بتأثير من الملكة الأردنية ماوية التي فعلت الكثير لتثبيت هذا المذهب في المشرق. كانت صورة السيدة مريم العذراء تَمثُل دوما أمام كل امرأة غسانية. فالسيدة مريم مثلت بالنسبة إليهن الصورة الكاملة للمرأة الأم التي تكافح وترعى الجميع.

امتد تأثير السيدة مريم ومن بعدها الملكة ماوية إلى الملكات الغسانيات تحديدا فبنين العديد من الأديرة. كما تسمين باسمها ونسبن أولادهن لها فنرى أن اسم والدة أحد ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة تسمى “مارية” وهو أحد أسماء السيدة مريم. (شهيد: 2009)

صورة للسيدة مريم العذراء التي ألهمت شخصيتها النساء الغسانيات

الشهيدات الغسانيات

عظّمت الملكات الغسانيات سيرة الشهيدات اللواتي قضين نحبهن وهن متمسكات بدينهن أمام الاضطهاد. عام  520 ميلادي قُتلت حوال 100 امرأة من نجران التي كانت تابعة آنذاك لحكم مملكة كندة ومن ثم لحكم الغساسنة، فآوت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وكانت من أهمهن امرأة تدعى “رُحُم أو روهوم” ذكرت كثيرا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة (شهيد: 2009)

تصوير كنسي للثاؤذتي وعائلتها، الذين خلدوا في الذاكرة لتمسكهم وإخلاصهم لدينهم

تُعد قصة الشهيدة ثاؤذوتي وبناتها انسيموس وابرابيوس ولانديوس إضافة لابنيها الطبيبين قزمان ودميان من القصص المؤثرة للغاية. كانت ثاؤذوتي امرأة طيبة القلب ربّت أبناءها على أن يكونوا مخلصين للمسيحية. دفعت بابنيها قزمان ودميان لتعلم الطب وعلاج المرضى المحتاجين والمساكين بالمجان أما بناتها الثلاث فسلكن طريق الرهبنة ووهبن حياتهن للكنيسة. عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية بدأ بتعذيب الأهالي المسيحيين بطريقة وحشية وكانت ثاؤذتي وعائلتها من الذين خضعوا طويلا للاضطهاد الديني.

 وقفت  ثاؤذتي بشجاعة أمام الإمبراطور نفسه ونهرته عن أفعاله فقطع الإمبراطور رأس ثاؤذتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب حتى صرخ ابنها القديس قزمان وقال: يا أهل المدينة أليس فيكم أحد ذو رحمة ليستر جسد هذه العجوز الأرملة؟ فقاموا ودفنوها. وغضب الإمبراطور من ذلك فأعدم باقي عائلتها. وبحسب الروايات المسيحية نالت هي وأبناؤها إكليل الحياة وصُوِّرت وهي ترتديه في الكنائس والأيقونات كما بنيت أكبر وأقدم كنيسة تمجد ذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان في جرش.

المرأة والحج

كان المجتمع الغساني بأكمله يمتلئُ حماسا عند موسم الحج. شاركت المرأة بطقوس الحج الدينية بشكل أكبر حتى من الذكور. يذكر الأصفهاني اسم أميرة غسانية تدعى ليلى كانت ترعى الحجاج وتساعدهم وتؤمن لهم المأوى والطعام. وقد تمتعت المرأة الغسانية بحرية تنقُّل كبيرة وواسعة وذمة مالية مستقلة ساعدتها على الإنفاق على رحلتها أو على مساعدة الحجيج الآخرين.

اكتسبت المرأة الغسّانية صفة “الحاجّة” وكانت من تمتلك هذا اللقب تحظى باحترام كبير. اقترن هذا اللقب بداية بصفية بنت ثعلبة وهي غسانية أعطت “حق الجوار” أي الأمان  للأميرة هند بنت النعمان آخر أميرة من سلالة المناذرة وكانت تدين هي الأخرى بالمسيحية. وصفت صفية بنت ثعلبة بالحاجة أو الحجيجة (صيغة تحبب وتصغير) وكانت شاعرة مُجيدة، حتى أن الأبيات الشعرية التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند لا زالت موجودة تشهد لها على حسن الخلق:

أحيوا الجِوار فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبان

ما العُذر قد لفٌت ثيابي حرةٌ

مغروسةٌ في الدرٍّ والمرجان

بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى

ذاتُ الحِجال وصفوة النعمان

كان الغساسنة مؤمنين مخلصين يهتمون للغاية بتقويم الأعياد المسيحية. ارتبطت المرأة الغسانية روحيا بأعياد السيدة مريم العذراء[12]. في سجلات الكنيسة  يكاد يغيب ذكر الذكور في أغلب ما يتعلق بهذه الأيام وتنفرد النساء الغسانيات بالتجهيز لتلك الأيام المقدسة.

لم تقتصر حياة الرهبنة على الرهبان، إنما كانت النساء الغسانيات أكثر ميلا لهذه الحياة. “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتخذه الراهبات فينقطعن عن الملذات ويهبن حياتهن لأعمال الخير والعبادة.

وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس الذي يُنسب إلى الغساسنة عن طريق والدته[13] “بالرواهب – الراهبات” وقد ذُكرن أيضا في شعر حسّان بن ثابت. وكان التنظيم الذي تتبعه رهبنة النساء الغسانيات يقسم للراهبات العاديات وللراهبة الأم التي تسمى “حَيجمانة أو هَيجمانة”

الخاتمة

تنقّلنا في هذا البحث من التعاليم والطقوس المسيحية عند الأردنيين الغساسنة إلى أهم الشخصيات الدينية من أساقفة وقديسين واستعرضنا مكان المرأة من خارطة المسيحية الغسانية.  أضواء عيد الميلاد في الأردن تُضاء كل عام، وكنيسة القديس جورجيوس في السلط ومأدبا ما زالت شموعها تشهد لسيرة المسيحية التي بدأها الأردنيون الغساسنة في القرن الأول للميلاد.

المراجع والمصادر

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.1, Part 2, the ecclesiastical history, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  • E. Shahid (1996) Byzantium and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks Washington D.C
  • اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
  • أبحاث إرث الأردن، المرأة الغسانية

[1] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[2] بعد الهدو أي عند السحر فمن عادة الرهبان أن يدقوا أجراس الكنائس قبل طلوع الفجر

[3] قاشا (2005) صفحات من تاريخ المسيحين العرب قبل الإسلام، ص270

[4] آل جفنة اسم آخر من أسماء آل غسان نسبة لجدهم جفنة. وجفنة تعني صاحب الطبق الكبير دلالة على شدة الكرم والجود

[5] المصدر السابق ص272

[6] عيد الشعانين هو عيد مسيحي يوافق الأحد قبل عيد الفصح وهو عيد دخول المسيح لبيت المقدس. وسمي شعانين نسبة لتحية الأهالي للمسيح حيث كانوا يقولون “هوشعنا” المصدر السابق.

[7] السباسب هي أوراق سعف النخيل التي أمسكها سكان بيت المقدس لتحية المسيح عند دخوله. المصدر السابق

[8] المصدر: http://noursatjordan.com/news-details.php?id=47339

[9] المصدر: http://www.orthonews.org/ar/node/2751?page=4

[10] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[11] المصدر السابق. ص275

[12] للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AF_%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1

[13] كان النسب قديما إلى الأم في نظام اجتماعي يسمى بالنظام الأمومي.

الدين عند الأردنيين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية

 

مسجد القينة المعاد ترميمه، محافظة الزرقاء. حقوق الصورة محفوظة للباحث نادر عطية

بني مسجد القينة في محافظة الزرقاء وتعود أساساته للعهدين المملوكي والأيوبي، ويرجح الباحث محمد وهيب أن هذا المسجد شكل حلقة وصل مهمة لبناءه على موقع عال واستراتيجي. يحاط المسجد القديم بأشجار الزيتون ومقبرة من ثلاث جهات. أمام المسجد ساحة اسمنتية وفي جدرانه نوافذ للإضاءة وأخرى لوضع المصاحف.

باب مسجد القينة، ويلاحظ الإهمال اللاحق بالمسجد. حقوق الصورة محفوظة للباحث نادر عطية

أعيد ترميم المسجد عدة مرات وسقفه اليوم من الاسمنت، ولكنه يعاني إهمالا شديدا. وتظهر القصارة الاسمنتية متأكلة والسقف شبه آيل للسقوط.

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد القينة

يجمع مسجد كفرنجة بين طرز العمارة الأيوبية والمملوكية والأموية على حد سواء، فيحاكي شكل الأسقف القباب والأعمدة، كما أنه يشبه جامع عجلون الأثري من أوجه متعددة، إذ نلاحظ فيه الأعمدة والسقف والمحراب والمدخل والشكل الداخلي كما نلاحظه في جامع عجلون، إلا أن جامع كفرنجة له مداخل من جهة الشمال خلافاً لجامع عجلون الذي اقتصرت أبوابه على الجهة الشرقية. وتسمي إحدى العبارات على اللوحة التأسيسية جامع كفرنجة بـ “جامع الفاروق” حيث تنسبه بعض الروايات للخليفة الثاني عمر بن الخطاب الفاروق

مدخل بلدة كفرنجة

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.
  • غوانمة، يوسف (1986) المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون. منشورات مركز الدراسات الأردنية: جامعة اليرموك.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد كفرنجة الأثري

 

بقايا مسجد عصيم الأثري الأموي وهو أثر مهدد بالزوال. الحقوق محفوظة لوكالة عجلون الإخبارية

تعد قرية عصيم القريبة من قرية راسون شماليّ محافظة عجلون إحدى أكثر القرى ثراءً تاريخيا. تحتوي القرية على الكهوف التي يظن أنها استخدمت للسكن والآبار شديدة القدم وآثار أخرى رومانية وبيزنطية. وفي القرية مسجد يؤرخ للقرن الثامن الهجري، أي للعهد الأموي.

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.
  • غوانمة، يوسف (1986) المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون. منشورات مركز الدراسات الأردنية: جامعة اليرموك.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد عصيم

يقع هذا المسجد في قرية راسون في عجلون. ويؤرخ بناؤه للعهد الأموي في القرن الثامن الميلادي، كما أعيد ترميمه في العهدين الأيوبي والمملوكي (القرنين 13-14) وأعيد استخدامه في عهد الاحتلال العثماني.

يشابه التصميم المعماري لهذا المسجد تصميم مسجد عجلون الكبير ومسجد كفرنجة من ناحية الأسقف والزخارف والأعمدة، على أن التصميم الهندسي للمسجد من الداخل مميز حيث يعتمد على نظام الأروقة لا نظام الصحون والغرف. قامت عمليات الترميم والإضافات عبر الزمن بإخفاء معظم معالم المسجد القديمة ولم يتبق من زخارف المسجد إلا زخرفة واحدة تزين واجهة المدخل.

الزخرفة الوحيدة المتبقية في مسجد راسون، حقوق الصورة محفوظة لوكالة عجلون الإخبارية

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.
  • غوانمة، يوسف (1986) المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون. منشورات مركز الدراسات الأردنية: جامعة اليرموك.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد راسون

في قرية سامتا الواقعة على طريق إربد – عجلون والتي تبعد عن مدينة عجلون 11 كم  يتعانق مسجدان أحدهما أموي قديم وآخر حديث ومعاصر. بينما لم يبق من المسجد الأموي “سامتا” سوى أساسات حجرية متفرقة بنى الأردنيون بجانبها مسجدا يشتهر اليوم بشجرة البطم الأطلسي التي تزين باحته.

بقايا مسجد سامتا الأموي ويظهر تجويف المحراب في منتصف الصورة، الحقوق محفوظة للباحث نادر عطية

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.
  • غوانمة، يوسف (1986) المساجد الإسلامية القديمة في منطقة عجلون. منشورات مركز الدراسات الأردنية: جامعة اليرموك.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد سامتا الأموي

Scroll to top