مقدمة

مقطع من جبل القلعة (ربة عمون)

في بدايات العصر الحديدي الثاني انتقل أجدادنا الأردنيون الأوائل من التنظيم السياسي المسمى (المُدن الدول) وهي مجموعة من المدن تشكل كل منها دولة بحد ذاتها إلى تنظيم سياسي أكثر تطوراً وتعقيداً وهو (الدول الوطنية ذات السيادة على أرضها)، وهو شكل يعتمد على اتحاد قبلي ريفي مع مجموعة من المدن يفرض سيادته على كامل الإقليم المكوِّن للدولة، ويحمل روحاً وطنية تدفع الجميع داخل هذه الدولة للحفاظ على منتجهم الثقافي والحضاري، ومصالحهم المشتركة بطبيعة الحال، وقد أنشأ أجدادنا الأردنيون الأوائل ثلاث ممالك من نهر الزرقاء شمالاً حتى صحراء الحسمى جنوباً (عمون، مؤاب أدوم) وتعتبر نشأتهم المتزامنة والمشتركات الثقافية دليلاُ على تطور متوازٍ يُعزى إلى وجود جذر مشترك ضارب في عمق التاريخ.

في هذا البحث نحاول الإشارة إلى عدد من العناصر الإثنية الغالبة على المجتمع الأردني العموني والذي نسعى أن يكون إسهاما ولو بسيطاً في مراكمة المعرفة حول الجذور الإثنية للمالك الأردنية الثلاث بشكل عام والمملكة الأردنية العمونية بشكل خاص.

مفهوم الإثنية

الإثنية أو الجماعة الإثنية، هي مجموعة من الناس، يتشاركون في الأصل، والعادات والتقاليد، والنظم الرمزية مثل الميثولوجيا والفنون، وتجمعهم مصلحة مشتركة، ويتواجدون غالباً في حيز جغرافي واحد، وهذا المفهوم ليس مفهوما مؤطراً تماماً، ولا تعني الإثنية أنها مجموعة محصورة من الناس لا تربطها أي علاقات بمن هم حولها، ولا يعبر عنها دائماً بشكل سياسي.

ومفهومنا في هذا البحث للإثنية يعنى بدراسة المميزات الثقافية للمجتمع الأردني العموني عبر دراسة اللقيات الأثرية، وتحليل نمط العمران والبناء، واللغة، الأدومية، ككيان سياسي منفصل، يحمل صفاته الثقافية الاجتماعية التي تميزه عن محيطه.

اللغة الأردنية العمونية

قارورة تل سيران

استطاع علماء الآثار الدارسين للقيات الأثرية العمونية التي تحمل نقوشا، مثل قارورة تل سيران وبعض الأختام، وبعض الخربشات على قطع فخارية، من تحديد بعض خصائص اللغة الأردنية العمونية، وخصوصا الخط العموني، وقد وجدوا بعض التأثيرات من الخط الآرامي، بالإضافة إلى خصائص مشتركة مع الخطوط الأردنية المؤابية والأدومية، وبطبيعة الحال فإن اللغة الأردنية العمونية تصنف من ضمن ما يسمى اللغات السامية، أو أنها تعود إلى الجذر اللغوي الرئيسي التي تفرعت منه اللغات المحكية في جنوب غرب آسيا أو شرق المتوسط.

الممارسات العقائدية والديانة الأردنية العمونية

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

تعد الممارسات العقائدية من أهم الخصائص الإثنية لأي مجتمع، والجدير بالذكر أن الممارسات العقائدية في العصر الذي وجدت به المملكة الأردنية العمونية، كانت تشمل إلى جانب الطقوس الدينية، أشكالاً من الفنون مثل التماثيل والنصوص المكتوبة، وعادات الدفن وغيرها.

إن التنوع الموجود في طرق الدفن التي مارسها أجدادنا الأردنيون العمونيون يدل على التباين الاجتماعي، ويدل أيضاً على وجود أنماط ثابتة من الدفن تعود إلى بنية عقائدية ثقافية واحدة، وقد تنوعت أشكال المدافن من الكهوف الطبيعية إلى الكهوف الصناعية، وصولاً إلى توابيت فخارية على شكل بشري، وكان هنالك أيضاً اختلاف في طرق الدفن بين الرجال والنساء، حيث يدفن الرجال مُمَددَين بصورة كاملة، بينما تدفن المرأة منحنية مع حليها.

ووجد أيضاً تأثراً عقائديا بمصر، في بعض التماثيل، حيث عثر على تماثيل تحمل لمسات مصرية، يُعزى هذا التأثر بالاحتكاك التجاري القائم بين الأردنيين العمونيين والمصريين في ذلك الوقت.

لا تختلف الديانة الأردنية العمونية في شكلها عن الديانات السائدة في المنطقة في ذلك العصر، حيث يوجد إله وطني رئيسي وهو في حالة الأردنيين العمونيين الإله ملكوم، بالاشتراك مع عدد من الآلهة المشتركة في المنطقة، وهذا التقاطع في الديانات في تلك الحقبة الزمنية يعود إلى عدة عوامل من بينها نمط الإنتاج المتشابه بين الشعوب، وحجم المعرفة المتشابه الذي يحيل إلى تفسير الظواهر الطبيعية بشكل متقارب، بالإضافة إلى التأثر بمعتقدات الشعوب الأخرى عبر التبادل التجاري أو الحروب والتحالفات وما للإمبراطوريات الكبرى من تأثير ملموس بطبيعة الحال.

ويسود اعتقاد لدى بعض الباحثين أن الطقوس الدينية الأردنية العمونية والمؤابية متشابهة إلى حد بعيد، يصل إلى أن تكون ديانة واحدة يختلف بها فقط اسم الإله الوطني بين ملكوم العموني وكموش المؤابي.

نمط البناء الأردني العموني

سوف نعتمد في دراسة نمط البناء في هذا البحث على جزئيتين أساسيتين تشكلان تمايزاً بين الشعوب في أنماط بنائهم، وهما (تقنية البناء، مخطط البناء).

أ. تقنية البناء

تقنية بناء “Boulder and Chink”
(Daviau 1999: Fig 5:1)

إن دراسة تقنية البناء في المواقع الأثرية تعتمد على عدة عوامل مجموعها يؤشر إلى صورة عامة عن التقنية أو التقنيات التي استخدمت في البناء في ظل ثقافة معينة، مع العلم بأن التقنيات المستخدمة في البناء في دولة معينة في ذلك العصر تتباين على حسب المحتوى البيئي للمناطق المختلفة، والحالة الاجتماعية والاقتصادية، كما تتباين بين المدن والريف.

في المواقع الأثرية العائدة لأجدادنا الأردنيين العمونيين، تم ملاحظة عدة تقنيات مستخدمة في البناء بين (المواد الخام المستخدمة، طرق بناء الجدران الداخلية والخارجية، طرق بناء الأسقف، وكيفية رصف الأرضيات).

الطابع العام الملاحظ في بناء الجدران في المملكة الأردنية العمونية، يدل على أن الحجارة الكلسية والصوانية الكبيرة الحجم استخدمت في بناء التحصينات الخارجية، فيما استخدمت الحجارة الكلسية في بناء المنازل، في حين استخدم الطوب في بناء الطوابق العلوية من المنازل، كما رُفِعَت السقوف باستخدام عمدان خشبية تستند إلى قواعد حجرية، واستخدم أيضاً عدة طرق لرصف الأرضيات، منها الطين المدكوك، أو الشيد أو البلاستر على الأرضية الطبيعية، فيما استخدمت البلاطات الحجرية في مواقع أخرى.

إن تقنية البناء التي استخدمها أجدادنا الأردنيين العمونيين لبناء جدران المنازل تسمى Boulder-and-Chink حيث تستخدم الحجارة الضخمة في بناء الجسم الرئيسي للجدار فيما تستخدم الحجارة الصغيرة لسد الفراغات، ويبنى الجدار من صفين متوازيين.

ب. مخطط البناء

يعد مخطط البناء عنصراً مهماً من عناصر الإثنية، حيث أن مخطط البناء يدل على الحالة الاقتصادية والاجتماعية لدى شعب معين، كما أن لها مؤشرات ثقافية عديدة، وفي هذا البحث سوف نقوم بالإشارة إلى مخططات البناء الخاصة بالمباني السكنية والتي تنقسم بشكل عام إلى ثلاث مخططات رئيسية (المنازل متعددة الغرف، المنازل ذات الأعمدة، المنازل على شكل حرف T).

  1.      المنازل متعددة الغرف
رسم يمثل مخطط بناء متعدد الغرف في المملكة الأردنية العمونية- موقع جاوة الجنوبي
(Daviau 2003: Fig.72)

يتميز المنزل متعدد الغرف بتشكيله أساساً من العديد من الغرف التي قد تتجاوز العشرة غرف في بعض الأحيان، ويدل هذا الأمر على اتساع العائلة ونمط العائلة الممتدة التي تسكن جميعها في نفس المنزل.

  1.      المنازل ذات الأعمدة

يتكون المنزل ذو الأعمدة أيضاً من العديد من الغرف، ولكنها تحيط بساحة رئيسية واسعة، كما أن هذا المنزل يحتوى على طابق ثانٍ مرفوع بأعمدة، ويؤكد أيضاً هذا البناء على نمط العائلة الممتدة، وقد يكون وجود ساحة واسعة في المنتصف لممارسة النشاطات اليومية المختلفة دليلاً على حالة اقتصادية جيدة.

  1.      المنازل على شكل حرف T
رسم يمثل مخطط بناء على شكل حرف، في المملكة الأردنية العمونية- موقع جاوة الجنوبي
(Daviau 2003: Fig.910)

يتكون هذا المخطط من بناء المنازل بشكل رئيسي من ثلاث غرف متوازية يفصل بينها ممر، ويوجد رأي لدى بعض الباحثين بأن هذا المبنى ليس سكنياً بشكل رئيسي بل هو مكان لمزاولة مهنة أو حرفة ما.

الفخار الأردني العموني

يعتبر الفخار وصناعته من أهم المميزات بين الشعوب والدول في العالم القديم، حيث أن كل شعب يمتاز بطريقة معينة في صناعة الفخار، واستخداماته، وزخارفه وألوانه، حسب البيئة والطبيعة، والاحتياجات، والمواد الأولية المتوافرة، وقد كان هنالك تمايز بسيط أحياناً بين فخار الشعوب ذاتها، حسب المنطقة والطبقة الاجتماعية، إلا أن الطابع العام لفخار شعب ما يكون متقارب بشكل كبير.

أ‌.        أنواع الأواني الفخارية حسب الشكل والاستخدام

ولقد تعددت أنواع الأواني ىالفخارية على حسب استخداماتها وأشكالها وأحجامها لدى أجدادنا الأردنيين العمونيين.

  1.   الزبادي
  2.   الأطباق
  3.   الأكواب
  4.   قدور الطبخ
  5.   الجرار
  6.   الأباريق
  7.   القوارير
  8.   المصابيح

 

ب‌.    أنواع الزخرفة

  1.      البطانة

استخدم أجدادنا الأردنيون العمونيون اللونين الأسود والأحمر في بطانة أوانيهم الفخارية، واستخدموا البطانة البيضاء الكريمية بشكل نادر وقليل جداً، ويعتبر الفخار الأسود المصقول أحد أهم الميزات الثقافية الأردنية العمونية حيث أنه ينتشر بكثرة في المواقع الأثرية الأردنية العمونية.

  1.      الدهان

استخدم أجدادنا الأردنيين العمونيين الدهان في زخرفة الأواني الفخارية معتمدين اللونين الأبيض والأسود بشكل أساسي إما منفردين أو معاً، كما استُخدِم اللونين الأحمر والبني بشكل أقل، على شكل أشرطة وخطوط أفقية ، كما انتشرت زخرفة الشبكة التي تعتبر قاسماً مشتركا بين أجدادنا الأردنيين في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون).

العلاقة بين الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)

نشأت الممالك الأردنية القديمة الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون) في ذات الوقت، أي مع بداية العصر الحديدي الثاني، وفي ظل ظروف متشابهة، وكان الانتقال من حالة الدولة المدينة إلى دولة الأمة أو الدولة الوطنية متزامناً، وقد تشابه طبيعة النشاط الاقتصادي بين شعوب هذه الممالك بشكل ملفت، والأهم من ذلك أن الخط واللهجات كانت متقاربة بين شعوب هذه الممالك بشكل كبير جداً.

فضلاً عن ذلك فقلّ ما دخلت هذه الممالك في صراعات بينية، بل على العكس من ذلك كانت تربطهم علاقات جيدة، وقد اشتركوا بالعداء تجاه شعوب وممالك مجاورة، حيث أن الأردنيين الأدوميين انتصروا على مملكة يهوذا عقب النصر العظيم الذي حققه الملك المؤابي الأردني المؤابي ميشع على اليهود.

هذه المؤشرات جميعاً تدلل بشكل أو بآخر، على أن هناك صلات قرابة، أو جذر واحد، يجمع أجدادنا الأردنيين في الممالك الأردنية القديمة، وأن ما حدا بهم أن ينشؤوا ممالك مختلفة، ظروف سياسية واقتصادية عديدة، لكن المؤشر الأهم يدلل على توافر البذرة الأولى لنشوء هوية وطنية واحدة جمعت هذه الشعوب والقبائل الأردنية القديمة .

سبب تسمية المملكة الأردنية العمونية

جانب من الجدار الذي يحيط بمدينة ربة عمون

لا تذكر أي من المصادر المعروفة سبباً أو معنىً واضحاً لتسمية عمون إلا أن الاستنتاجات غالبها تصب بأن عمون هو اسم يدل على قبيلة أو تجمع قبائل أردنية كانت العصبة الرئيسية التي نشأت على أساسها المملكة الأردنية العمونية ونسبت الدولة والعاصمة لهم، حيث يذكر اسم المملكة الأردنية العمونية في العديد من المصادر كمملكة بني عمون، وتذكر العاصمة الأردنية العمونية (ربة عمون) كربة بني عمون.

المراجع 

  1. جتاوية، نداء (2012)، مفهوم الإثنية في علم الآثار: دراسة تحليلية للمالك (عمون، مؤاب، أدوم) في الأردن خلال العصر الحديدي. رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.
  2. كفوف، نجاة ثلجي سعد(1995)، ملوك بني عمون،  رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، اربد، الأردن.
  3. أبحاث إرث الأردن،مملكة أدوم الأردنية – العناصر الإثنية
  4. أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية العمونية.

المملكة الأردنية العمونية – العناصر الإثنية

مشهد عام لربة عمون، يظهر في الصورة بقايا آثار رومانية

مقدمة

بنى أجدادنا الأردنيون الأوائل ثلاثة دول ذات أنظمة سياسية ملكية في بداية العصر الحديدي الثاني (أدوم، مؤاب، عمون)، وكانت هذه الدول حصيلة تطور راكمه الأردنيون عبر آلاف السنين. إن هذه الأنظمة الملكية، كانت تتسم بطابع تشاوري مبني على القيم الاجتماعية الأردنية، حيث لا يمكن تجاوز البنى الاجتماعية للدولة، ولا يستطيع الملك أن يتفرد بالقرارات المصيرية وحده دون الرجوع إلى زعامات البُنى الاجتماعية المتنوعة من مدن وقرى وتجمعات فلاحية وقبائل، وهو الذي يستمد شرعية حكمه منهم، حيث نشأت الممالك بناء على توافقات القوى الاجتماعية التي شعرت بضرورة تأسيس دولة ذات نظام متطور وجهاز إداري وعسكري قادر على صون مصالحهم، وعلى الرغم من ذلك لابد أن يكون للملوك الدور البارز، حيث أن الملك هو من يصدر الأمر باسمه في نهاية المطاف، وهو أحد رموز الدولة المهمة.

وعلى هذا الأساس حاولنا في هذا البحث إيراد أسماء الملوك الأردنيين العمونيين، والظروف السياسية في ظل حكم كل ملك منهم، كما حاولنا إيراد أهم الانجازات لهؤلاء الملوك حيثما وجدناها، وقد اعتمدنا في هذا البحث على ثلاث مصادر رئيسية، وهي (المصادر التاريخية، السجلات الأشورية، النقوش العمونية).

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني- جبل القلعة

الملك الأردني ناحاش

هو ملك أردني عموني، حكم حوالي (1020- 1000ق.م)، وكان ملكاً طموحاً، حيث أن فترة حكمه جاءت عقب تراجع أصاب الأردنيين العمونيين لفترة من الزمن، استطاع خلالها العبرانيون التقدم داخل الحدود العمونية الأردنية والسيطرة على جزء من الأراضي الأردنية.

قام الملك الأردني العموني ناحاش بإعادة تجهيز جيشه، وبث الروح المعنوية العالية بين الأردنيين العمونيين، الذين كانوا غاضبين من التواجد العبراني داخل أراضيهم، وبدأ بشن الهجمات على المناطق التي احتلها العبرانيون وبث الرعب في قلوبهم، حتى طلبوا منه إبرام معاهدة.

وكان رد الملك الأردني العموني ناحاش على طلبهم هذا بأن يكونوا بمنزلة اجتماعية متدنية، ويرضخون للحكم الأردني العموني بنظام عمل أشبه بالسخرة، حينذاك حاول العبرانيون التفاوض على شروط أقل حدة.

في ذلك الوقت وصلت ثقة الملك ناحاش بقوته حد الغرور، حيث منح العبرانيين مهلة من سبعة أيام للرد على شروطه، وكان يعي أن ذلك يعني أن العبرانيين المحاصرين داخل الحدود الأردنية العمونية سيقومون بطلب النجدة من أقاربهم خارج الحدود، ولم يأبه الملك الأردني العموني ناحاش بذلك أبدا، بل على العكس كان يعتقد أن بإمكانه بذلك استدراج بقية القبائل العبرانية والانتصار عليهم وكسر شوكتهم.

إلا أن الأمر المفاجئ، أن هذا التقدم الملحوظ في قوى الأردنيين العمونيين، جعلت العبرانيين يستشعرون الخطر، مما دفعهم لتوحيد رايتهم وتنصيب شاؤول ملكا على جميع العبرانيين، كي تتجمع قواهم ويستطيعوا دفع الخطر الأردني العموني، وكانت هذه أول مرة يُنشئ بها العبرانيون مملكة موحدة يحكمها ملك واحد، وقام شاؤول بوساطة رجال الدين بدفع كل رجل قادر على حمل السلاح للمشاركة في الحرب، حيث منحها صبغة الحرب المقدسة موظفاً الدين في هذه الحرب.

استطاع شاؤول أن يتغلب على الملك الأردني العموني ناحاش، ويوقف طموحاته بالتوسع بعد أن استنفر جميع من يستطيع حمل السلاح من العبرانيين، مستغلاً نشوة تأسيس المملكة الجديدة، واستهتار الملك الأردني العموني ناحاش بحجم قوة اعداءه.

الملك الأردني حانون

في نهايات حكم الملك الأردني العموني ناحاش حالف الملك داوود في مواجهة شاؤول، حتى استطاع داوود السيطرة على حكم مملكة اسرائيل، وعندما توفي الملك الأردني العموني ناحاش قام داوود تقديرا للخدمات التي قدمها له ناحاش في وقت ضعفه، بإرسال وفد لتعزية الملك الأردني العموني الجديد (حانون) بوفاة أبيه الملك ناحاش.

وحين وصول الوفد الذي بعثه داوود إلى القصر الملكي في ربة عمون، شكَّ مستشارو الملك الجديد حانون بأن هذا الوفد جاء كي يستكشف المدينة تمهيداً لغزو من قبل مملكة اسرائيل، فأشارت الحاشية على الملك حانون بإهانة الوفد وطرده، وهذا ما تم، وحين عاد الوفد إلى داوود اعتبر داوود هذا التصرف بمثابة إعلان حرب عليه من قبل الملك الأردني العموني حانون، وقام بتجهيز جيشه للهجوم على المملكة الأردنية العمونية، ووقعت الحرب التي انتهت ولم يستطع الملك حانون الانتصار بها.

الملك الأردني بعشا

ورد اسم الملك الأردني العموني بعشا في إحدى السجلات الأشورية ضمن أسماء مجموعة من الملوك الذين كونوا حلفاً سياسياً عسكريا في مواجهة شلمنصر الثالث ملك آشور، وقد كان الملك الأردني العموني جزء مهماُ من هذا الحلف الذي كونه عدد من ملوك الدول المحاذية لآشور من جهة الغرب، لمواجهة مساعي شلمنصر الثالث في اخضاع هذه المنطقة والسيطرة عليها، وقد تواجه هذا الحلف مع قوات شلمنصر ثلاثة مرات لم يستطع خلالها الأشوريون من تحقيق أهدافهم رغم الخسارات العسكرية التي لحقت بالأردنيين العمونيين وحلفائهم.

الملك الأردني سانيبو

هو أحد الملوك الأردنيين العمونيين، الذين ورد اسمهم في حوليات تجلات بلاسر الثالث، من ضمن الملوك الذين قدموا الهدايا للملك الأشوري حينها.

الملك الأردني بودو ايل

ملك أردني عموني ورد اسمه في السجلات الأشورية في زمن الملك الأشوري سنحاريب، حيث كان من ضمن الملوك الذين قدموا الهدايا للملك سنحاريب.

الملك الأردني عمي ندب (الأول)

ورد اسم الملك الأردني العموني عمي ندب في السجلات الأشورية في فترة حكم الملك الأشوري آشوربانيبال، ويعتبر عمي ندب الأول لأنه تم ذكر ملك أردني عموني آخر يحمل ذات الاسم في فترة لاحقة على نقوش عمونية.

الملوك الأردنيون العمونيون الذين وردت أسماؤهم في النقوش العمونية

تمثال عازر، من جبل القلعة، عمون.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

وجدت الحفريات الأثرية عدة قطع أثرية تحتوي على نقوش عمونية، وورد في بعضها أسماء لبعض الملوك الأردنيين العمونيين لكن دون ذكر تفاصيل واضحة حولهم لذلك سنورد أسماءهم وما ذكر عنهم في هذه النقوش .

  • الملك الأردني زاكور

هو ملك أردني عموني ورد اسمه في تمثال عمان (تمثال وجد في حفريات في جبل القلعة – ربة عمون – ويحمل نقشا على قاعدته) والملك زاكور هو ابن الملك شانيب الذي ورد اسمه بنقش تمثال عمان كما ورد اسمه في السجلات الأشورية أيضا  وأبو الملك يرح عزر.

  • الملك الأردني يرح عزر

وجد اسم الملك الأردني العموني يرح عزر أيضا في نقش تمثال عمان، إلى جانب اسم والده الملك زاكور، وجده الملك شانيب.

  • الملك الأردني عمي ندب الثاني
قارورة تل سيران

ورد اسم الملك عمي ندب في نقش قارورة تل سيران مرتان، حيث كتب في نقش تل سيران، “أعمال عمي ندب، ملك بني عمون، بن هصال ايل، ملك بني عمون، بن عمي ندب ملك بني عمون…”،  ويستدل من هذا النقش وبعد تحليل المدد الزمنية، أن عمي ندب الجد الذي ورد اسمه في القارورة هو ذاته الملك عمي ندب الذي ورد اسمه في السجلات الأشورية سابقاً، وأن الملك عمي ندب الحفيد يصبح بذلك الملك عمي ندب الثاني.

  • الملك الأردني هصال إيل

ورد اسم الملك الأردني العموني هصال إيل أيضا في نقش قارورة تل سيران، إلى جانب اسم أبيه وابنه الملوك الأردنيين العمونيين، عمي ندب الأول وعمي ندب الثاني.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
  3. العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.
  4. كفوف، نجاة ثلجي سعد(1995)، ملوك بني عمون،  رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، اربد، الأردن.

المملكة الأردنية العمونية – الملوك وانجازاتهم

مقدمة

على مرتفعات البلقاء، وسط الأردن، وفي سفوحها الوعرة، كان قلب المملكة الأردنية العمونية، ومن عمّان (ربة عمون)، كتب أجدادنا الأردنيون العمونيون، سفراً جديداً في كتاب الحضارة الانسانية، لترسم الجبال والمياه قصة شعب هزم قسوة الطبيعة، وبنى دولة الرفاهية.

على الرغم من صعوبة رسم الحدود السياسية بشكل دقيق بين الدول القائمة في الحقبة التي أنشأ بها أجدادنا الأردنيون العمونيون دولتهم، إلا أن تشييدهم للعديد من الأبراج الدفاعية التي صمدت آثارها حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى السرد التاريخي الذي ورد عن المملكة الأردنية العمونية، إلى جانب الحدود الطبيعية استطاعت أن توصل لنا صورة جيدة عن حدود المملكة الأردنية العمونية، نوردها في هذا البحث، كما سنعرّج على بعض المدن والتجمعات السكانية ذات الأهمية.

حدود المملكة الأردنية العمونية

يبوق (نهر الزرقاء)
  • الحدود الشمالية

يعتبر نهر يبوق (الزرقاء) هو الحد الشمالي للمملكة الأردنية العمونية، والفاصل بينها وبين امتداد الممالك الآرامية على الأراضي الأردنية بعد اضمحلال مملكة عوج ملك باشان الأردنية، وتشير الكشوفات الأثرية إلى أن اللقيات الأثرية الأردنية العمونية، تجاوزت نهر الزرقاء شمالاً، مما يعني امتداد نفوذ وتأثير الأردنيين العمونيين إلى الشمال من نهر الزرقاء خلال عدة مراحل زمنية، إلا أن الأقرب للواقع أن حوض نهر الزرقاء كاملاً بضفتيه الشمالية والجنوبية كان يقع تحت نفوذ الأردنيين العمونيين.

  • الحدود الجنوبية
وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر ارنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

يعتبر وادي أرنون (الموجب)، هو الحد الجنوبي للمملكة الأردنية العمونية والذي يفصلها عن المملكة الأردنية المؤابية، ولكن هذه الحدود ليست فاصلاً نهائياً بين المملكتين، حيث أن تمازجاً ثقافياً هوياتياً يجمع بين المملكتين الشقيقتين، فضلاً عن الحلف السياسي العسكري بين المملكتين الأردنيتين، الذي كان يسمح بتداخل للأراضي.

  • الحدود الشرقية

على امتداد مرتفعات البلقاء، وإلى الشرق منها، في البادية الأردنية الوسطى وعلى حد الصحراء، وجدت العديد من الأبراج العمونية الدفاعية، مما يعني أن الحدود الشرقية للمملكة الأردنية العمونية كانت تنتهي على مشارف الصحراء، ويُعتقد أن الأبراج الدفاعية العمونية كانت تحرس التجمعات الزراعية بالتعاون مع القبائل الأردنية البدوية الخاضعة للنفوذ العموني من الغزو القادم من الصحراء.

  • الحدود الغربية
نهر الأردن

امتدت الحدود الغربية للمملكة الأردنية العمونية على طول سفوح الجبال والمناطق الغورية المتاخمة لوادي الأردن، وتعتبر الحدود الغربية للمملكة الأردنية العمونية الأكثر خطورةً كونها تطل على مناطق نفوذ العبرانيين الذين ناصبوا الأردنيين العمونيين والمؤابيين العداء طويلاً.

أهم المواقع في المملكة الأردنية العمونية

  • العاصمة ربّة عمون (عمان)
جانب من الجدار الذي يحيط بمدينة ربة عمون

كان المركز الرئيسي للعاصمة ربة عمون هو موقع جبل القلعة الحالي الواقع في وسط عمان الحديثة، وهو يعتبر أحد جبال عمان الرئيسية، ويعود تاريخ جبل القلعة إلى بدايات العصر النحاسي، وعرف قروناً من الازدهار، حتى أقام على أرضه أجدادنا الأردنيون العمونيون عاصمتهم.

  • تل سيران
قارورة تل سيران

هو تل أثري يعود إلى العصر الحديدي، داخل حرم الجامعة الأردنية، اكتشف به أحد طلاب كلية السياحة والآثار قارورة تل سيران المعروفة، أثناء إحدى الحفريات الأثرية، كما وجد في نفس التل على عدد من الكسر الفخاري التي يعود تاريخها إلى كل من العصور الحديدية، والرومانية والأموية.

  • تل جاوة الجنوبي

بني موقع تل جاوة الجنوبي، إلى الجنوب من عمان، على مساحة تقارب العشرين دونماً، ويحتوي الموقع على مباني متنوعة، ويعتقد أنه تجمع زراعي متوسط الحجم.

  • موقع جلول

تقع جلول شمال شرق مدينة مادبا، قرب الحدود الفاصلة بين المملكة الأردنية العمونية، والمملكة الأردنية المؤابية، وبني الموقع على مساحة 73 دونماً، ويعد الموقع مدينة متوسطة الحجم.

  • موقع تل العميري

بني موقع تل العميري إلى الجنوب الغربي من ربة عمون، وهو تجمع سكاني يعود تاريخه إلى العصر النحاسي، ومر هذا التجمع السكاني بتطورات عديدة حيث أصبح (مدينة دولة) في العصر البرونزي ثم أحد أهم المدن الأردنية العمونية.

  • تل صافوط الأثري

بني هذا الموقع شمال عمان على الطريق الواصل بين عمان ومناطق الشمال (جرش، اربد، عجلون)، ويعد من أهم المواقع الأثرية في عمان، ووجد فيه العديد من الآثار العمونية.

  • عراق الأمير
عراق الأمير 1900 جنوب غرب عمان وهي من أهم المواقع الأردنية العمونية

بدأ التواجد البشري في عراق الأمير منذ آلاف السنين، حيث استوطنها أجدادنا الأردنيون الأوائل منذ العصر الحجري الوسيط (8000- 10000) ق.م، كلمة عراق تعني الكهوف، ويقال أن المنطقة سميت بهذا الإسم نسبة إلى الكهوف التي استخدمها الأمير طوبيا العموني إضافة إلى القصر الذي بناه فيها، وكانت عراق الأمير أحد أهم المواقع العمونية.

قصر العبد (قصر عراق الأمير)

يعود تاريخ بناء قصر العبد إلى ما قبل خمسة ألف عام تقريبا، أي إلى العصر الهيلنستي في القرن الثاني قبل الميلاد وقد بناه هركانوس من أسرة طوبيا العمونية الاردنية في عهد الملك سلوقس الرابع.
وقد سُمي قصر عراق الأمير ؛ عراق التي تعني مدخل المغارة والأمير وهو طوبيا العموني الأردني، وتشير الوثائق التاريخية والمسكوكات والرسومات والنقوش أن القصر يعود تاريخ بناءه بين عامي 187 و 175 ق.م في ظل حكم البطالمة وتحديدا في عهد سلوقس الرابع ويذكر أيضا أن هركانوس الذي بناه وهو أيضا من الأسرة الطوبية العمونية الأردنية كان أحد امراء العمونين الأردنيين الذين استقروا في منطقة وادي السير عام 360 ق.م، وكان طوبيا آنذاك أميرا ونائبا للملك وواليا على منطقة عمّان في عهد البطالمة، إلى أن اصبح ملكا وهو آخر ملوك العمونين الأردنيين.

  • رجم المخيزن (خربة الحجار)

هو موقع أثري عمون، في منطقة الرصيفة/ شلنر، عبارة عن أحد الأبراج العمونية الدفاعيةالتي تحمي حدود ربة عمون.

الخاتمة

رغم التخريب الذي تعرضت له مواقع أثرية عديدة، ومع شح الحفريات الأثرية التي تغطي الأردن في العصور الحديدية، إلا أن آثاراً عديدة تحدت آلاف السنوات لتبقى دليلاً على إحدى أهم الحضارات الأردنية، وقد حاولنا في هذا البحث وصف حدود المملكة الأردنية العمونية، وإيراد أهم المواقع المكتشفة في سعينا لتغطية كل ما يخص المملكة الأردنية العمونية، ونسعى لأن يكتمل العمل الآثاري حتى نستطيع أن نفي الجهد الذي بذله أجدادنا الأردنيون الأوائل حقه.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
  3. أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
  4. أبحاث إرث الأردن، قصر العبد – عراق الأمير
  5. العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.
  6. جتاوية، نداء (2012)، مفهوم الإثنية في علم الآثار: دراسة تحليلية للمالك (عمون، مؤاب، أدوم) في الأردن خلال العصر الحديدي. رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

المملكة الأردنية العمونية- الحدود وأهم المواقع

مقدمة

تمثال عازر، من جبل القلعة، عمون.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

تشُحُ الشواهد الكتابية الأردنية في العصور القديمة، لكن الأثر الإنساني جلي لم تستطع آلاف السنين وما حملته من كوارث طبيعية، وظروف مناخية، من محوه، كما عجز التخريب العفوي أو المتعمد، عن مسح ذكرى أجدادنا الأردنيين الأوائل.

في عمان، مدينة الماء، التي عرفت الوجود السكاني دون انقطاع على مر التاريخ، حيث  قرية عين غزال، أقدم تجمع سكاني زراعي مكتشف، كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، التي كانت حاضرةً ومركزاً سياسياً وتجارياً مهماً، للمملكة الأردنية التي نشأت مع بدايات العصر الحديدي الثاني بالتزامن مع شقيقاتها الممالك الأردنية (مؤاب، أدوم).

موطن الأردنيين العمونيين

الزرقاء 1900 وادي الزرقاء

من نهر الزرقاء (يبوق)، حتى أطراف وادي الموجب (أرنون)، وفي الجهة الغربية من وسط الأردن، في البلقاء، قامت المملكة الأردنية العمونية.

وقد تنوعت الطبيعة الجغرافية في المملكة الأردنية العمونية، بين الجبال والسهول، حيث أقيمت المدن الرئيسية على قمم الجبال، فيما انتشرت التجمعات الزراعية حولها، في سفوح الجبال والسهول المحيطة بالمدن، وبينما تتسم المناطق الجبلية في منتصف المملكة، بمناخ البحر المتوسط، نجد المناخ الصحراوي غالباً على الحدود الشرقية للمملكة، في حين كلما اتجهنا غرباً باتجاه نهر الأردن مع المنحدرات، غلب المناخ الغوري.

عراق الأمير 1900 جنوب غرب عمان وهي من أهم المواقع العمونية

ورد في الموروث الشعبي الأردني أن حدود البلقاء من نهر الزرقاء حتى ماعين “البلقا من زرقا شبيب لزرقا ماعين”، وبالعودة إلى الدراسات والمكتشفات الأثرية، نجد أن الجسم الأساسي للمملكة الأردنية العمونية يتشكل من البلقاء حسب وصفها التاريخي، باستثناءات لحظات الضعف التي استطاع العبرانيون فيها السيطرة على بعض المناطق الغربية من السلط، وبعض التداخلات الجغرافية الطبيعية مع شقيقتها المملكة الأردنية المؤابية، أو لحظات القوة التي التي توسعت فيها المملكة الأردنية العمونية، إلى الغرب من نهر الأردن، أو شمالاً على حساب الممالك الأمورية والآرامية، إلا أن المؤكد أن البلقاء كانت أساس المملكة الأردنية العمونية وقلبها العاصمة عمان (ربة عمون) واستمر هذا النطاق الجغرافي كما هو في العصور اللاحقة وصولاً إلى العصر الحديث.

عمان (ربة عمون) – العاصمة الأردنية العمونية

ربة عمون عاصمة مملكة عمون الأردنية 1880

ربة عمون هي التسمية التاريخية لمدينة عمان، التي كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، وقلبها النابض، أكثر مدنها تحصيناً، سواء تحصيناً طبيعيا، أم تحصيناً شيّده أجدادنا الأردنيون العمونيون، ومنها انطلقت هذه المملكة الأردنية، التي قدمت إرثاً حضارياً وعمرانياً، يكاد يكون الأكثر زخماً في المنطقة في ذلك التاريخ.

قامت ربة عمون أساساً على ما يسمى اليوم بجبل القلعة، في وسط مدينة عمان الحالية، حيث كان مركز المدينة وقلعتها، ذات الأسوار المنيعة التي عجز الغزاة عن اقتحامها مراراً، وداخل أسوار القلعة تنوعت المباني، من قصر الملك ومنازل كبار القادة والتجار، إلى السوق ومساكن صغار التجار العمال والحرس، كما بني المعبد المكرس للإله العموني ملكوم أيضاً داخل أسوار القلعة، كما انتشرت الأبراج العمونية الشهيرة، التي كانت تعد نقاط استخبارية متقدمة تحرس المدينة، في التلال المجاورة لربة عمون.

سُكِنت عمان منذ العصور السحيقة، كونها غزيرة المياه، وخصبة التربة، حيث شهدت أول تجمع سكاني زراعي على مر التاريخ –قرية عين غزال-، وتواتر الوجود السكاني فيها منذ العصرالباليوثي 200.000 قبل الميلاد، حتى يومنا هذا.

وتشير المكتشفات الأثرية  إلى  أن ربة عمون لم تكن  مأهولة فقط في العصور البرونزية (ما قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية)، بل أيضاً كانت تمارس نشاطاً تجارياً مهماً، مع اليونان وقبرص ومصر والعراق.

الطبيعة السكانية قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية

تفاوتت طبيعة السكان في وسط الأردن القديم (المنطقة التي قامت عليها المملكة الأردنية العمونية، أو ما تسمى البلقاء بعد ذلك)، تبعاً للاختلاف التضاريسي والمناخي، حيث تجد القبائل البدوية التي تمارس الرعي والتنقل على الحدود الشرقية للمملكة، فيما مورست الزراعة بشكل منظم وكثيف في المناطق الجبلية والسهلية، وقبيل نشوء المملكة الأردنية العمونية، وفي عصر (المدن الدول) مارس سكان هذه المدن النشاط التجاري بكثافة، كما وجد آثار لبعض الصناعات التعدينية، الأمر الذي كان أحد أهم مقدمات نشوء المملكة الأردنية العمونية.

نشأة المملكة الأردنية العمونية

 أنشأ الأردنيون الأوائل مع بداية العصر الحديدي الثاني أولى دولهم الوطنية أو ما يسمى (دولة الأمة ذات السيادة على أرضها)، حيث نشأت بالتزامن ثلاثة ممالك من نهر الزرقاء شمالا، حتى خليج العقبة جنوبا على الترتيب (عمون، مؤاب، أدوم) وكان نظام الحكم في هذه الممالك ملكي وراثي في الأبناء الذكور.

وهذا يدل على قيام حس وطني لدى أجدادنا في تلك الحقبة، الذي دفعهم لأن يوحدوا القبائل والمدن تحت قيادة زعيم واحد، تحول إلى ملك، وبنظام سياسي معقد في بنيته الداخلية، لإدارة شؤون هذا الشعب، وتقديم المصلحة الجمعية، على مصلحة القبيلة والمدينة، ونشأت أول تراتبية سياسية إدارية دقيقة في تلك المرحلة.

تعرض أجدادنا الأردنيون الأوائل الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين نهر الزرقاء (يبوق)، ووادي الموجب (أرنون)، لعمليات تطور طبيعية، وأخرى على شكل قفزات، ومع بدايات العصر البرونزي، بدأ النشاط الزراعي بالتطور، مع تطور الأدوات المستخدمة ودخول المعادن بديلاً عن الحجارة في عملية صناعة الأدوات الزراعية، هذا التطور الزراعي بدأ بالتراكم للوصول إلى حالة من الفائض الإنتاجي، الذي فرض على أجدادنا ابتكار الطرق الملائمة لتخزينه أو بيعه، الأمر الذي دفع باتجاه تشكل المدن التي كانت تستهلك الفائض الزراعي، وتقوم بممارسة النشاط التجاري، إلى جانب تطور الحرف، وبدأت منظومة المدن بالتطور والتعقد تدريجياً، وتطور النشاط التجاري، حيث أن المنطقة التي نشأت عليها المملكة الأردنية العمونية، يمر بها الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط الجنوب بالشمال.

لقد بدأ الحس الوطني بالتنامي لدى أجدادنا الأردنيين العمونيين، جنباً إلى جنب مع الحاجة إلى إنشاء دولة قوية، تجمع المدن المستقلة، التي لا تستطيع وحدها الدفاع عن مصالحها، ومع بدايات العصر الحديدي الثاني كانت العصبة الأردنية العمونية، من قبائل وقرى ومدن، قد بدأت بالتكتل واستطاعوا إنشاء منظومة سياسية معقدة، يرأسها ملك أردني عموني، يستطيع بالإضافة إلى زعماء القبائل والقرى والمدن، من تنظيم الدولة وإنشاء جيش نظامي قادر على حماية حدود المملكة، والطرق التجارية المارة بها، من التهديدات الخارجية، حيث كانت المنطقة عرضةً لأطماع الغزاة من كل الاتجاهات.

وتشير المصادر التاريخية، إلى أنه في الوقت الذي بدأ العبرانيون به بالعبور من مصر باتجاه أرض كنعان، كانت المملكة الأردنية العمونية قائمة منذ زمن، حيث استطاعوا السيطرة على المنطقة، وطرد قوم يدعوا الرفائيين وقد كان أجدادنا الأردنيون العمونيون يدعونهم بالزمزميين، ومن الواضح أن تحالفاً متيناً كان قائماً بين الأردنيين العمونيين، والأردنيين المؤابيين بناءً على روابط الدم والتداخل الجغرافي في مواجهة جميع الغزاة المحتملين، والجدير بالذكر أن الملك الأردني المؤابي عجلون قاد تحالفاً مع الملك الأردني العموني في ذلك الوقت، وملك العماليق في مواجهة الخطر العبراني.

كما لعبت الديانة الأردنية العمونية دوراً مهماً في صهر المجتمعات داخل المنظومة الحديثة للدولة، حيث عُبِد الإله الأردني العموني ملكوم، وبنيت له المعابد والمذابح، على امتداد جغرافيا عمون الأردنية، لنجد أن المملكة الأردنية العمونية كانت وليدة التطور الإنتاجي بالإضافة لتوحد المصالح، التي توجت  الوحدة الثقافية والترابط الإجتماعي للشعب الأردني العموني على شكل دولة وطنية ذات سيادة كاملة على أرضها.

الخاتمة

لقد حاولنا عبر هذا البحث إعادة صياغة الأبحاث والدراسات الآثارية المتوافرة، حول المملكة الأردنية العمونية، بطريقة تسهل على القارئ الغير مختص فهم الأرضية التي نشأت عليها هذه المملكة الأردنية العظيمة، عبر ربط الطبيعة الجغرافية والمناخية لموطن أجدادنا الأردنيين العمونيين، مع حالات التطور التي مر بها  الأردنيون الأوائل في هذه المنطقة، وصولاً للحظة التي نشأت بها المملكة، ليكون هذا البحث بدايةً لسلسلة من الأبحاث التي تدرس المملكة الأردنية العمونية.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
  3. أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
  4. العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.

المملكة الأردنية العمونية- مقدمات النشأة والتأسيس

مقدمة

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عرف الإقليم الذي وجد به الأردن بالاضطرابات السياسية منذ فجر التاريخ، ومع أن الأردنيين الأوائل قطعوا شوطا طويلاً بالتطور، من مجتمعات الجمع والالتقاط، إلى الدولة الوطنية (دولة الأمة)، مروراً بالمجتمعات الريفية الزراعية البسيطة، ونظام الدولة المدينة، إلا أن الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، لم تنتزع وجودها بسهولة وبتطور سلس، إذ عانى أجدادنا الأردنيين الأوائل العديد من المصاعب، وتعرضوا للكثير من الانتكاسات، حتى استطاعوا حفر تاريخهم في ذاكرة العالم، بحروف خطت بالعرق والدماء.

المملكة الأردنية المؤابية – عنفوان البداية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية – جريدة الغد- محمد أبو غوش

كان الشعور الوطني لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين في ذلك الوقت، والذين كانوا نواة تشكل المملكة الأردنية المؤابية يدفعهم لاحتواء سكان البلاد، والقبائل البدوية المحيطة بهم، لدمجهم في مشروع دولة تستطيع النمو والتطور والدفاع عن نفسها في منطقة محط لأطماع العديد من الدول والشعوب المحيطة، وسرعان ما اصطدمت هذه الدولة الناشئة بأطماع المحيطين بها، فبدأ الصراع مع الشعوب المحيطة التي تريد فرض نفوذها على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فتصدوا لهذه الاعتداءات في نفس الوقت الذي شرعوا به ببناء الدولة، وتثبيت أركانها، وتطوير النشاط الاقتصادي، وكانت عملية بناء جبارة، في وجه طبيعة قاسية لا يملك القدرة على تطويعها سوا الأردنيين.

على هذه القاعدة بدأ أجدادنا الأردنيون المؤابيون تأسيس دولتهم، بعنفوان وعزيمة منقطعتي النظير، حيث بدؤوا عملية البناء جنبا إلى جنب مع عملية إثبات الوجود وترهيب كل الطامعين بالتغول على الأراضي الأردنية المؤابية.

استطاع الأردنيون المؤابيون، انتزاع أراض من القبائل الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وتثبيت حدودهم، وفرض الرهبة على الساكنين غرب البحر الميت، كما صدوا جميع الهجمات القادمة من القبائل الشرقية، وبنوا الحصون فأمنوا بذلك حدود مملكتهم.

الصدام المؤابي الأول مع القبائل العبرانية 

عند وصول القبائل العبرانية إلى الأردن قادمين من مصر، حاولوا بداية المرور عبر أراضي المملكة الأردنية الأدومية، إلى أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين رفضوا هذا الأمر، من ثم حاولت هذه القبائل العبور عبر أراضي المملكة الأردنية المؤابية، وقوبل طلبهم بالرفض والوعيد بقتالهم اذا ما حاولوا المرور عبر الأراضي الأردنية المؤابية.

منذ أن وقعت هذه الحادثة، ضمرت القبائل العبرانية العداء والحقد لأجدادنا الأردنيين الأوائل، في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، إلا أن الأردنيين المؤابيين، لم يستشعروا خطر القبائل العبرانية آنذاك، معتمدين على قوتهم وقناعة منهم أن لا أطماع لدى القبائل العبرانية في الأراضي الأردنية.

في هذه الأثناء استطاعت القبائل العبرانية هزيمة المملكة الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وبدت أطماعها واضحة في الأراضي المؤابية الأردنية، إلا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين لم يكترثوا لهذه المخاطر، ايماناً منهم بقوتهم العسكرية التي أثبتت حضورها في أكثر من معترك.

عندما نزل العبرانيون في المدينة الأمورية (شطيم)، أغواهم الأردنيون المؤابيون من سكان المناطق المجاورة لتناول ولائم قدمت كقرابين للآلهة المؤابية، كما جعلوهم يسجدون لآلهة مؤاب، امعاناً باحتقار العبرانيين الطارئين على المنطقة وتحجيمهم، هذا الأمر زاد من حقد وكراهية العبرانيين لأجدادنا الأردنيين المؤابيين، حتى قالوا أن ذرية مؤاب لن تدخل في جماعة الرب.

تمركز العبرانيون في المناطق التي سيطروا عليها، وعندما تخلصوا من الأخطار المحيطة بهم، وثبت الأمر لهم، قام العبرانيون القاطنون في شيحون الأمورية، بإعادة ترديد أناشيد السخرية التي كان يستخدمها الأموريون ضد الأردنيين المؤابيين، هذه الأناشيد التي تمزج بين الاستهزاء واستجلاب اللعنات على الأعداء، الأمر الذي نبه الملك الأردني المؤابي بالاق إلى أطماع القبائل العبرانية، وتحديدا في أراضي مؤاب الأردنية.

قام العبرانيون بالسيطرة على بعض الأراضي المؤابية الأردنية الواقعة إلى الشمال، في هذه اللحظات وفي محاولة لإبطال مفعول أناشيد السخرية التي رددها العبرانيون، دعا الملك الأردني المؤابي بالاق، الكاهن المؤابي الأعظم بلعام، للاجتماع معه ومع كبار الحكماء الأردنيين المؤابيين، وقد جهز الملك بالاق الأضاحي للآلهة في انتظار أن يقوم الكاهن الأعظم بلَعْن العبرانيين، إلا أن الكاهن الأعظم كان يعلم أن القبائل العبرانية في عز قوتها في هذا الوقت الأمر الذي جعله يمتنع عن الرد على لعنات العبرانيين، فدب الحذر والتوجس في نفس الملك الأردني المؤابي بالاق، واكتفى باتخاذ تدابير وقائية في مواجهة العبرانيين، ومهادنتهم.

الملك الأردني المؤابي عجلون – مرحلة ذهبية في تاريخ المملكة الأردنية المؤابية

عقد الملك الأردني المؤابي عجلون، حلفا سياسياً عسكرياً مع أشقاءه الأردنيين العمونيين، ومع جيرانه العماليق في مواجهة التغطرس الذي يمارسه العبرانيون، بعد أن استطاع طردهم من الأراضي الأردنية، إذ أنه دخل هذا التحالف في موقف من القوة لا الضعف.

واتفقت مصالح هذا الحلف على توسيع رقعة سيطرتهم على الأراضي وتقليص نفوذ العبرانيين قدر المستطاع، وصد هجمات القبائل الخارجة عن نفوذ المملكة جنوبا وشرقا.

استطاع الملك المؤابي الأردني عجلون، توسيع رقعة مملكته حيث ضم أراض واسعة تقع شرقي نهر الأردن والبحر الميت، ووسع نفوذه السياسي داخل مناطق نفوذ العبرانيين، حيث فرض الجزية عليهم لمدة ثمانية عشر عاماً.

اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون 

على سبر القادة والزعماء الأردنيين، منذ فجر التاريخ، لا يمكن ترهيبهم أو شراء مواقفهم، ولا يمكن الحد من انطلاقتهم سواء بالقتل والغدر، قضى الملك الأردني المؤابي عجلون، غيلة على يد أحد زعماء القبائل العبرانية.

جاء اهود البنيامين أحد زعماء القبائل العبرانيين والذين كانوا يدفعون الجزية للمملكة الأردنية المؤابية، وقام بتقديم الجزية والهدايا بين يدي الملك الأردني المؤابي عجلون، ومن ثم قام بالخروج، ليستطيع إقناع الملك وحاشيته بحسن نواياه، ثم عاد بعد ذلك بوقت قصير وطلب لقاء الملك بشكل انفرادي، حيث ادعى أنه يحمل نبوءة تخص الحروب القادمة التي سيخوضها الملك عجلون مع أعداءه، فلم يخطر على بال الملك ومستشاريه أن هذا الرجل يخطط لاغتيال الملك، وكان اهود البنيامين قد أخفى سيفا تحت ثيابه، وعندما اختلى بالملك قام بطعنه طعنة قاتلة ولاذ بالفرار.

في اللحظة التي وصل بها اهود إلى قومه، قام بحثهم على محاربة المؤابيين، الذين كانوا في حالة من الصدمة والتشتت بسبب قتل ملكهم، فهاجموا الحصون المؤابية في الأراضي التي احتلوها لينسحب المؤابيون بدورهم إلى حدودهم القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم أكثر من ذلك.

الحلف الأردني المؤابي العموني وتوازن القوى

عاشت المنطقة نحو جيلين من السلم بعد حادثة اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون، انشغل فيها الجميع باستصلاح الأراضي وتطوير إمكانياتها، إلا أن هذا السلم لم يدم، حيث بدأت العديد من القبائل العبرانية بالزحف جنوبا وشرقا داخل الأراضي الأردنية المؤابية والعمونية، مما دعا المملكتين الأردنيتين لتشكيل حلف عسكري لطرد هذه القبائل من داخل حدودهم قبل أن تقوم بتثبيت أوضاعها داخل هذه الأراضي، فاستطاع هذا الحلف الأردني صدّ هذه القبائل وإعادتها خارج الحدود الأردنية، وانتهت هذه الفترة بحالة من توازن القوى.

الملك داوود – اللجوء للأردنيين المؤابيين من ثم الانقلاب عليهم

أثناء الصراع الذي دار بين داوود قبل أن يصبح ملكاً والملك شاؤول، لجأ داوود إلى المملكة الأردنية المؤابية، مع أبوه وأمه، واحتمى فترة من الزمن داخل المملكة الأردنية المؤابية، وعندما عاد إلى بلاده ليكمل صراعه مع شاؤول، ترك أبواه أمانة في المملكة الأردنية المؤابية، وحفظ الأردنيين المؤابيين هذه الأمانة.

ولكن عندما انتصر داود على شاؤول، وأصبح ملكاً على جميع القبائل العبرانية، وبعد أن استقر له الأمر، واستعاد والداه، قام بالانقلاب على الأردنيين المؤابيين، وحاربهم، واستطاع الانتصار عليهم على حين غرة، وفرض سيطرته على مملكة مؤاب الأردنية.

الملك سليمان – استمرار النفوذ العبراني ولكن

استمرت طبيعة النفوذ العبراني على الأردنيين المؤابيين كما هي في عهد الملك سليمان، إلا أنه كان يحترم المعتقدات الدينية للشعوب الأخرى، ولقد تزوج من امرأة مؤابية وبنى لها معبداً للإله المؤابي كموش، ويعتقد بعض المؤرخين أنه كان يؤمن بآخر أيام حياته بمعتقدات الأردنيين المؤابيين والعمونيين، الأمر الذي دفع المؤابيين للحفاظ على هذه الحالة من الاستقرار وعدم الثورة عليه، على عكس شعبه الذي أبدى تململا من تصرفات الملك سليمان.

الملك الأردني المؤابي ميشع – ذروة قوة المملكة الأردنية المؤابية

مسلة ميشع
Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

استطاع الملك الأردني المؤابي ميشع تحرير مملكته من النفوذ العبراني، وحارب مملكتي اسرائيل ويهوذا، واحتل أجزاءً واسعة من أراضيهم، وضرب أمثلة عظيمة بتضحية القائد، حيث قدم ابنه قرباناً لحماية الكرك (قير حارسة).

بدأ الملك الاردني ميشع بعد ذلك بتثبيت أركان حكمه، وبسط نفوذه على مناطق واسعة مجاورة لمملكته، كما شرع بعملية البناء، للمدن والحصون، وأشعل ثورة عظيمة في مجال الزراعة، لتعيش المملكة الأردنية المؤابية في عهده مرحلة من العظمة والتطور، استطاع فيها أجدادنا الأردنيون المؤابيون العيش في ظروف من الرفاهية، أتاحت لهم الفرصة للتطور الثقافي والفني.

الخاتمة

بعد وفاة الملك الأردني المؤابي ميشع، بدأت الحالة السياسية والعسكرية تتراجع بشكل عام داخل المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى بدء انهيار المنظومة الإقليمية والدولية السائدة منذ عدة قرون، حيث نشأت امبراطوريات على ركام امبراطوريات أخرى، وبدا أسلوبها بالتعامل مع الأقاليم الغير خاضعة لسلطتها المباشرة بالتغيّر، هذه الأمور جميعها حدت بالمملكة الأردنية المؤابية إلى الاضمحلال شيئاً فشيئاً ككيان سياسي، إلا أن الثقافة والوجود الحضاري الأردني المؤابي امتد قروناً لاحقة، وبالطبع استمرت ذكرى الأردنيين المؤابيين، سراجاً مضيئاً في مجمل التاريخ البشري.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، نشأة مملكة مؤاب الأردنية
  5. أبحاث إرث الأردن، مدخل عام لنشأة الدولة الوطنية في الأردن القديم

المملكة الأردنية المؤابية – مراحل القوة والضعف

مقدمة

 تعرضت الكثير من الشعوب لحملات “التعريب”، فالآرام والسريان على سبيل المثال يطلق عليهم “العرب” رغم أنهم شعوب مختلفة عرقيا تماما.  حصل ذات الشيء مع الأردنيين الأنباط الذين يتم ذكرهم على الدوام في المصادر اليونانية والعربية “كأنباط” لا كعرب. فيذكر الملك الآشوري  “تغلت فلاسر” ال36 قبيلة التي حاربت الغزو الأكدي ومن ضمنها قبيلة “نباطو”.

خريطة توضح امتداد المملكة الأردنية النبطية

الأردنيين الأنباط في المصادر التاريخية

ربما تكون أصول الأردنيين الأنباط من أكثر القضايا التاريخية جدلا. فقد أدى التسرع ونقص المصادر التاريخية وسوء التعامل مع النقوش الآثارية إلى إطلاق أحكام متسرعة لا تستند إلى أدلة ولا تتقصى الدقة والمنهجية العلمية المنطقية. ويأتي هذا البحث متمما لسلسلة أبحاث طويلة أجرتها إرث الأردن عن أجدادنا الأردنيين الأنباط تناولنا فيها مختلف جوانب الحضارة الأردنية النبطية.

تذكر المصادر الرومانية اسم المملكة النبطية “ريجينو دي نباتي”،وفي ما تركه لنا المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي يذكر الحملات التي قام الرومان بها على مملكة الأردنيين الأنباط  منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر في كتابه أيضا الحملات التي شنّها الأردنيون الأنباط على اليهود.

ونستمر بالاستدلال على صحة هذا القول بتتبعنا للآثار والأخبار في المصنفات العربية التاريخية والأشعار العربية التي تذكر الأردنيين الأنباط كشعب مختلف.فقد سأل أحد المسلمين أحد الأنباط من أنتم؟ فقال: كنا نبيطا فاستعربنا وكنا عربا فاستنبطنا. دلالة على أنهم مختلفون عرقيا ولكنهم اختلطوا مع بعضهم البعض. يذكر الأصفهاني في كتابه (مجموع الغيث) (2/397) أن عمر بن الخطاب سأل عمر بن معد يكرب عن سعد فقال: خير أمير، نبطي في حبوته، عربي في نمرته، ويقول حسان بن ثابت في سياق تفريقه للأنباط: لكميت كأنها دم جوف.. عتقت من سلافة الأنباط” فإن كان الأنباط عربا لقال حسان بن ثابت وهو الشاعر العربي القاطن في الجزيرة العربية عنهم أنهم عرب ولما دعت الحاجة لوصفهم بأنهم قوم حمر (أي عجم). وأخرج السبكي  في (طبقات الشافعية الكبرى) (3/221) قصيدة لابن حزم يفرق فيها بين الأجناس:  وقبط أنباط وحرز ديلم..وروم رموكم دونه بالقواصم”

 ورغم الأدلة التي تعج فيها المصادر التاريخية والتي استعرضناها آنفا إلا أننا في هذا البحث سنعتمد على ثلاثة محاور وهي : اللغة والدين وانتقال السلطة. وسنستعرض في المباحث الثلاثة أهم القضايا والإشكالات التي ستُطرح، مُتبعينها بآخر ما توصلت إليه الدراسات والأبحاث العلمية من قراءات للنقوش وترجمات ودراسات على الواقع الجيوسياسي للأردن من ما قبل الميلاد وصولا إلى مملكة الأردنيين الأنباط.

أولا : لغة الأردنيين الأنباط

سنبحث في هذا الفصل اللغة الأردنية النبطية من جانبيها المحكي والمكتوب ورغم ما يتميز به هذا الموضوع من تعقيد واختلاط إلا إن النقوش والدراسات اللغوية المكثفة التي أجريت على النقوش النبطية والنقوش الصفاوية ستبهرنا بنتائج تؤكد أن الأردنيين الأنباط لم يكونوا عربا.
ففي الواقع، الرابطة اللغوية “العربية” هي الرابطة الأساسية التي لم تنقسم أو يتم التنازع عليها يوما، فاليوم يتحدث العرب حول العالم  لهجات لا تعد ولكنهم في ذات الوقت يظلون عربا وإن انتموا لأديان مختلفة أو أيدولوجيات مختلفة. من هذا المنطلق تأتي أهمية البحث في لغة الأردنيين الأنباط.

هل تحدث الأردنيون الأنباط العربية؟

عبر التجارة اختلط الأردنيون الأنباط مع القبائل العربية المرتحلة جنوبا ومع الكنعانيين واليهود غربا وأهل العراق وصولا إلى تواصلهم مع الرومان وقد أدى ولا بد إلى تأثر لهجتهم وإثرائها وبالتالي زيادة قوتها. ورغم هذا الانفتاح، صاغ الأردنيون الأنباط  مع الوقت لهجة خاصة بهم يمكن اعتبارها خليطا أساسيا من العربية والآرامية وقد سميت “رطانة الأنباط”.

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

ورد ذكر اللهجة النبطية في عدة مصادر تاريخية عربية فقال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أن النبطي (القح) يجعل حرف الزاي سين فيقول بدل زورق: سورق. كما يقلب العين همزة ويفتح المكسور. (ولفنسون: 1929) إضافة لاختلافات أخرى لا تحصر. وهذا يدلنا على أن الأنباط لم ينطقوا بالعربية الفصيحة التي ننطق بها الآن إنما كانوا ينطقون بالآرامية وقد تصبغوا بالعربية نتيجة احتكاكهم بالقبائل العربية المرتحلة ونرى نتيجة هذا الاحتكاك في النقوش التي تتضمن شذرات من الكلام العربي لا أكثر.

وهنالك جانب آخر للمسألة لا بد لنا من الوقوف عليه. إن بعض النقوش النبطية الأولى تُقرأ قراءة آرامية خالصة رغم كتابتها بأبجدية أردنية نبطية أما النقوش النبطية المتأخرة فإنها تُقرأ قراءة عربية وهذا سيقودنا للجزء الثاني الشديد الأهمية من اللغة النبطية الأردنية وهو جزء الأبجدية المكتوبة.

الخط الأردني النبطي

 

الخط النبطي هو خط آرامي في الأصل ولكن مع الكثير من التحسينات والتطورات في شكل الحروف وتباين مواقعها واستخدامها في الكلمة. ورغم أن النقوش والكتابات النبطية تعد قليلة مقارنة بغيرها إلا أنها أعطتنا معلومات كثيرة. فكان يستدل من النقش على المدفن اسم الميت ومهنته وزمن الوفاة وملكية المدفن، كما تعرف الباحثون على أسماء الآلهة التي عبدت آنذاك والملوك والملكات وغيرها من الأمور التي تتعلق بملامح الحياة الاجتماعية عامة (المحيسن:2009). يرجع العلماء هذا النقص في المصادر النقشية إلى حملات السلب والنهب التي تعرضت لها المدن النبطية منذ سقوط المملكة على يد الرومان عام 106 ميلادي.

بالعودة إلى الخط النبطي فهو خط يميل للشكل المربع وتتشابه فيه بعض الأحرف مثل الباء والياء والتاء وتستخدم النقاط للتفرقة (كانتينو: 2016).

الصف الأول: الكتابة النبطية ويظهر استخدام الأنباط للنقاط للتفريق بين الراء والزاي. الصف الثاني: استخدام السريانية للتنقيط للتفريق بين الراء والزاي.

النقوش الصفاوية الأردنية وإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية

 

لقد دار الجدل منذ القرن التاسع عشر حول أصل الخط العربي الكوفي، وكان أول من أرجعه للنبطية هو المستشرق الألماني نولدكه وبعد نصف قرن، تبنى الباحث ج. ستاركي نظرية أخرى تفيد بأن أصل الخط الكوفي هو الخط السرياني النسخي وقد اعتمد على مظهر الحروف النبطية وعدم استنادها على السطر بل تدليها منه. وقد اعتمد أيضا على رواية البلاذري التي تقول بأن ثلاثة رجال من قبيلة طيء التقوا في منطقة بقّه قرب الحيرة عاصمة اللخميين واتفقوا على الخط العربي (جرندلر: 2004) تفتقر هذه النظرية للإثباتات والنقوش وبهذا ظلت النظرية التي وضعها نولدكه بأن الخط العربي ذو أصل نبطي هي الأكثر قبولا في المجتمع العلمي.

لقد أرخ العلماء اللغة العربية إلى القرن الرابع ميلادي بالاستناد إلى نقشيين رئيسيين: نقش (فهرو) أو كما يسمى (نقش أم الجمال الأول) وهو نقش وجده الباحث ليتمان في مدينة أم الجمال الأردنية التي كانت إحدى مراكز المملكة الأردنية النبطية واستعان ليتمان بنقش إغريقي وجد بالقرب وكان ترجمة للنقش النبطي. وتكمن أهمية هذا النقش في كونه استخدم الخط النبطي المتأخر ويرجح أن يكون عائدا إلى 250-270 م.

نقش أم الجمال الأول: الترجمة الأولى على اليمين وهي تعتمد على النقش الإغريقي لتفسير النقش. بينما الترجمة الحديثة على اليسار وفيها يوضح الباحث سعد الدين استخدام العربي الفصحى في كلمة “مملك” واستخدام كلمة “نفس” بمعنى قبر كما هو الحال لدى الوثائق اللغوية المكتوبة بالمسند- ويكيبيديا

 

 والثاني هو نقش نمارة المؤرخ لعام 328م. يعرف النقش باسم نقش امرؤ القيس وقد قرأه المستشرق دوسو على أنه شاهد لقبر ملك من ملوك الحيرة؛ على أن دراسات الباحث سعد الدين أبو الحَب أفادت بان ذكر امرؤ القيس كان على سبيل التعظيم لا أكثر وأن النقش يتناول سيرة حياة مقاتل اسمه عكدي.[2]

صورة عالية الجودة لحجر نقش النمارة معلق على جدران متحف اللوفر الفرنسي في باريس © Marie-Lan Nguyen / Wikimedia Commons

وبعد نقش نمارة بسنين، أفادت دراسات الباحث أحمد الجلاد التي أجراها على نقوش الصفاوي والتي توجد حصرا في المنطقة الواقعة في البادية الشمالية الأردنية إلى أن أصل اللغة العربية يعود إلى القرن الثاني أو الرابع قبل الميلاد. وبهذا أعيد تأريخ اللغة العربية ثمانية قرون على الأقل وأكدت أبحاثه على فكرة أن اللغة العربية لم تنطلق من شبه الجزيرة العربية وتمتد إلى الشمال إنما انطلقت من البادية الأردنية وامتدت إلى الجنوب باتجاه الحجاز وشبه الجزيرة العربية.

إن نقوش الصفاوي تعد ثورة هائلة أعادت ترتيب الخارطة الزمنية والمكانية لنشأة اللغة العربية.  فالنقوش عربية وتقرأ قراءة عربية إلا أنها مكتوبة بالخط النبطي. وقد واجهت الباحث أحمد الجلاد عدة صعوبات تتعلق بقراءة هذه النقوش فالعربية تمتاز بأصوات العلة القصيرة (الحركات) والتي لا تكتب في النبطية وقد استعان بالنقوش النبطية المكتوبة باليونانية والتي تُكتب فيها هذه الأصوات وبهذا خرج الباحث الجلاد بقراءة عربية للنقوش الصفاوية.

لقد أشارت الباحثة إنعام الور، إحدى أهم الباحثات في اللهجات المحلية على مستوى العالم، إلى أن القراءة العربية للنقوش الصفاوية أفضت إلى استنتاج مدى التقارب بين اللغة المستخدمة في النقوش واللهجة الأردنية المحلية. وقد ساقت على ذلك عدة أمثلة نذكر منها الفعل “يخربش” والذي يستعمل إلى الآن في لهجتنا المحلية، والفعل “يشتّي” والفعل “يتعنّى” والذي لا زال مستخدما أيضا . فمن كان يتصور أن ما نقوله اليوم في أحاديثنا اليومية يمتد للقرن الثاني-الرابع قبل الميلاد وقد خلّده أجدادنا الأنباط في نقوشهم وباستخدام أبجديتهم.

وكخلاصة، إن كانت النقوش الصفاوية النبطية تقرأ قراءة عربية أعادت تاريخ اللغة العربية ووضحت أنها بدأت من البادية الشمالية الأردنية وامتدت إلى الجنوب، فبإمكاننا أن نستنتج أن العرب لم يبدأوا بالتكتل على شكل قبائل ذات لغة في شبة الجزيرة العربية واحدة سوى في زمن متأخر نسبيا وهذا ما يجعلنا أن نقول أنه من غير المنطقي نسبة الأردنيين الأنباط (الأقدم في الوجود الزمني) إلى العرب (الأحدث في الوجود). ومن وجهة نظر لغوية، إن كان الأنباط عربا فلماذا لم تشابه اللهجة الأردنية المتطورة عن لهجتهم لهجة عرب الجزيرة أو عربية أهل اليمن؟ ولماذا نجدها متفردة في سماتها اللغوية و(الفونولوجية -الصوتية)؟

ثانيا: الخصوصية الدينية لمعبودات الأردنيين الأنباط

 

مما لا شك فيه أن الحضارة الأردنية النبطية كانت على قدر عال من الثراء الديني والروحي. فتعددت المعبودات النبطية بشكل كبير وكانت على اتصال مباشر مع حياة الإنسان الأردني النبطي. في هذا الفصل من بحثنا سنرى كيف تفرد الأردنيون الأنباط بخصائص ميزتهم عن الآراميين[1] وعن العرب.

آلهة وطقوس نبطية خالصة

 

عبر استقصاء الآلهة الأردنية النبطية والطقوس الدينية النبطية في سلسلة من ثلاثة أبحاث مفصلة، يمكن للباحث استنتاج عدة خصائص تميزت بها المعبودات الأردنية النبطية. وصحيح أن الأردنيين الأنباط عبدوا آلهة عديدة تمتلك امتدادا تاريخيا في حضارات أخرى إلا أن أنهم تفردوا بعبادة آلهة خاصة بهم تماما.

نجد الثالوث الأنثوي المقدس (اللات والعزى ومناة) ذي أصول متعددة قد تمتد للبابليين والآرام. إلا أن الوجه الذكوري للآلهة (ذو الشرى وشيع القوم) كانا إلهين أردنيين نبطيين خالصين.

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه الأردني النبطي فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطٌ بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

البترا المنحوتة في الصخر

تعود تسمية ذو الشرى لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأردنيين الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية (المدن النبطية الشمالية كبصرى وتدمر وأم الجمال وجرش وغيرها) على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

ظاهرة المدينة المعبد

في هذه الظاهرة التي تعد نقلة نوعية في التاريخ الديني في المشرق بأكمله، يبهرنا أجدادنا الأنباط ببناء مدن دينية كاملة. مدن بأكملها تكرس للعبادة. وإلى جانب العبادة، مارسوا التجارة والزراعة ولا يتعارض هذا مع فكرة تكريس المدينة بالكامل للعبادة إن عرفنا أنهم عبدوا آلهة للخصب وآلهة للزراعة وهكذا دواليك.

البترا، عاصمة الأردنيين الأنباط أفضل مثال للمدينة المعبد. المدينة الوردية المنحوتة في الصخر ومدينة الخمسمئة قبر. تمتلئ البترا بالمذابح والأنصاب والمسلات والمعلايات[2]. يرمز المعبود ذو الشرى للصخر بينما ترمز اللات (زوجة ذو الشرى) إلى المياه الجارية والينابيع. إن بترا بأكملها جسد ذو الشرى بينما تجرى اللات في القنوات المائية التي حفرها الأردنيون الأنباط في جسده كالشرايين. إنها رؤية دينية ساحرة.

المدينة الثانية التي تشكل جزءا من هذه الظاهرة النبطية هي أم الجمال شمال شرق الأردن وتتبع لمحافظة المفرق. أم الجمال مدينة نبطية تتميز بحجارتها سوداء اللون. وهي عبارة عن تجمع ديني كنسي حيث تتألف من خمس عشرة كنيسة بنيت معظمها في القرن الأول ميلادي أي عند اعتناق بعض الأردنيين الأنباط للمسيحية.

والسؤال هنا، لم لا نجد هذه المدن الدينية على هذه الشاكلة في شبه الجزيرة العربية؟

الطقوس الدينية النبطية جنوب الأردن

إن الباحث والمستقصي للممارسات الدينية جنوب الأردن سيجد لا محالة ارتباطا وثيقا بين تلك الممارسات والطقوس النبطية الدينية. فحتى ثمانينات القرن العشرين كان الأردنيون في الجنوب خصوصا سكان إقليم البترا يزورون جبل هارون. ورغم وجود مقام ديني يؤرخ للقرن الثامن هجري إلا أن ارتباط هذا المقام بالمكان العالي “المقدس” لابد أن يكون له امتداد نبطي أردني.

مقام النبي هارون عام 1900 ميلادي يتربع على واحد من أعلى جبال البترا

لقد قدس الأردنيون الأنباط المكان العالي كما أسلفنا، وبعد دراسة المواقع الدينية في الحضارة الأردنية النبطية تبين أن 75% منها بنيت على مكان عال.

وتذكر المصادر أن زيارة هذا المقام كانت أشبه بالحج الذي يتم على موسمين واحد بداية الشتاء ويسمى “القنيص” وواحد بداية الربيع. ويرجح الباحثون أن الأهالي في وادي موسى استخدموا التقويم النبطي الموجود في خربة التنور والذي كان ينظم أعياد واحتفالات الأردنيين الأنباط  وفق دائرة الأبراج.

وبالعروج على تفاصيل أكبر تتشابه فيها الممارسات الدينية الأردنية الحديثة مع تلك النبطية القديمة، يشعل زوار مقام النبي هارون الشموع والبخور في الكوى كذلك فعل أجدادنا الأنباط فتجد المباخر الحجرية وبقايا البخور لا تزال في كوى الإشعال والإضاءة. ومن الممارسات الأخرى تقديم القربان. ففي المذابح الأردنية النبطية قناتان واحدة للمياه الجارية والثانية لدماء القربان وقد فعل الأردنيون من الأهالي زوار مقام النبي هارون وغيره من المقامات المنتشرة ذات الفعل.

نتيجة

إن استمرارية هذه الطقوس وانفراد الأردنيين في العصر الحديث فيها لهو دلالة على الخصوصية الدينية التي تمتع فيها أجدادنا الأنباط، حيث أننا لا نجد ذو الشرى وشيع القوم عند عرب الجزيرة ولا نجد مدينة دينية كاملة ولا تخلص عملية تتبع الممارسات الدينية الحديثة لعرب الحجاز للتطابق أو التشابه مع الممارسات النبطية.

لقد نقل العرب معبودات الأردنيين الأنباط  نتيجة للتلاقح الحضاري ولامتداد النفوذ الأردني النبطي إلى الجزيرة العربية على أن هذا النقل والتأثر لم يحرم الأردنيين الأنباط من التفرد ومن إبقاء عناصر دينية بعيدة وخاصة وعسيرة على الاستنساخ.

 

ثالثا: انتقال السلطة

نشأت على أرض الأردن قبل الميلاد ثلاث ممالك أنشأت حلفا اقتصاديا وسياسيا: عمون ومؤاب وأدوم. وبينما تمركزت الأولى في البلقاء، نشأت مؤاب بين وادي الموجب والكرك بينما كانت أدوم في الجنوب. وما يعنينا من الحلف الأردني للممالك الثلاث هي أدوم وعاصمتها بصيرا في الطفيلة. امتدت أدوم في الجزء الجنوبي ووصلت حتى ميناء أيلة (العقبة).

مبخرة فخارية أدومية
Bienkozki , piotr (1996) The art of Jordan , UK

فالأدوميون شعب أردني (1200ق.م) سكن المناطق التي سكنها بعدهم الأردنيون الأنباط، كان لهم الفضل في ثورة النحاس الصناعية الأولى كما برعوا في التجارة. لم يكن الأردنيون الأنباط مكونا سكانيا دخيلا وجديدا بل كانوا منسجمين مع الإثنية الأدومية يتاجرون معها ويتكلمون الآرامية وإن كانت بلهجة مختلفة.

عاشت الممالك الثلاث ظروفا صعبة ومحاولات غزو متكررة من الممالك المجاورة خصوصا البابليين. تذكر المصادر اسم مجموعة قبائل الأنباط كإحدى القبائل “المتمردة” ضد محاولات الغزو البابلي. ونفهم من مجمل هذا السياق السياسي أن الأردنيين الأنباط كانوا مكونا سكانيا من ضمن الممالك الثلاث وقد وقفوا معهم جنبا إلى جنب ضد العدو الخارجي وبحسب هذه النتيجة، يكون انتقال السلطة من اليد الأدومية الأردنية إلى النبطية انتقالا سلسا دون اللجوء للحرب والعنف كما قد يفعل أي صاحب سلطة من خارج الأرض.

خريطة توضح الممالك الثلاثة عمون ومؤاب وإيدوم

ولا تذكر المصادر التاريخية أي محاولات أدومية لاستعادة السلطة إنما انضوى الأردنيون الأدوميون تحت الراية النبطية لأنهم لم يشعروا بأن هذه السلطة مفروضة من الخارج. فلو كان الأنباط عربا حجازيين أو يمنيين لظهرت على السطح مشكلات اجتماعية عديدة كمحاولات التمرد والانقلاب ولكننا لا نرى أي من هذا في الحالة السياسية النبطية الأدومية.

الخلاصة

اتبعنا في هذا البحث المنهجية العلمية في وضع الفرضيات واختبارها وطرحنا أسئلة كثيرة أجابت عليها النقوش والمصادر التاريخية. فلغة الأردنيين الأنباط وخصوصيتهم الدينية إضافة لطريقة انتقال السلطة إليهم تعطينا نتيجة واحدة وهي أنهم ليسوا عربا حجازيين إنما إثنية أردنية خالصة.

المراجع

  • سعد الدين أبو الحب، نقش نمارة العربي النبطي، دراسة منشرة كفصل من كتاب Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script 2011
  • جون كانتينو، اللغة النبطية، مهدي الزعبي، 2016، سلسلة دراسات
  • ولفنسون (1929) تاريخ اللغات السامية، بيروت: دار القلم
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • سلسلة الأردنيون عبر التاريخ، الأردنيون الأنباط، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • كريستيان اوجيه، عصر الأنباط (القرن الرابع ق.م. – القرن الزول ب. م.)، أطلس اأردن، المركز الثقافي الفرنسي والمركز الجغرافي الملكي (2014) p. 142-150
  • أحمد أبو بكرة، إيقاظ الهمم في إثبات أن الأنباط من العجم، صحيفة السوسنة.
  • مقال (ما هكذا تورد الإبل الجزء الثالث)، شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية

[1] الأراميون : شعب أقام و أسس حضارته في وسط و شمال ما يعرف بسوريا اليوم – حيث كان يطلق عليها اسم بلاد آرام حتى العصر السلوقي الهلنستي في القرن الرابع ميلادية ، كان لغته بلهجاتها المتعددة متعارف عليها ومستخدمة بكثرة في المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ودول العالم القديم .

[2] المعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. المصدر: أبحاث إرث الأردن. الطقوس النبطية: توليفة دينية ساحرة.

أصول الأردنيين الأنباط

مقدمة

إن الاقتصاد هو العصب الرئيسي التي تنشأ عليه أصغر التجمعات البشرية، وصولاً لأضخم الحضارات، وتعتبر دراسة النشاط الاقتصادي أحد أهم المداخل لفهم طبيعة المجتمعات القديمة، ولا يمكن لأي حضارة الاستمرار دون اقتصاد قوي يستطيع سد احتياجاتها.

وقد شهد الأردن القديم في بدايات العصر الحديدي الثاني ازدهاراً ملحوظا، إذ تدلُّ المكتشفات الأثرية على وجود وفرة في الإنتاج الغذائي الذي بدا واضحا من مواقع تخزين الحبوب والنبيذ والزيوت، الأمر الدال على حالة من الإنتاج الزراعي الضخم الذي مارسه الأردنيون الأوائل في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون) مما يعني تطوراً اقتصاديا مذهلاً على كل الصُّعد من صناعة وتجارة، قاده أجدادنا الأردنيون الأوائل لينعموا بحياة مرفهة في عصور اتسمت بالفقر وعدم القدرة على استثمار الموارد.

لم يكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، يمارسون نشاطاً اقتصاديا مختلفاً كثيرا عن أشقائهم الأردنيين الأدوميين أو الأردنيين العمونيين، رغم أن النشاط الزراعي في مؤاب وعمون كان أكثر تنظيماً واتساعاً بسبب انتشار الأراضي الخصبة ووفرة المياه.

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

الرعي

نشأت أولى أشكال التجمع الإنساني معتمدة على فكرة الصيد والجمع والالتقاط، على شكل تجمعات بسيطة جدا ومحدودة العدد، هذه النواة للتجمع أسست لينتقل الانسان إلى مرحلة أخرى شكلت نقلة نوعية في التاريخ البشري، حيث بدأ الإنسان بعملية استئناس الحيوانات ورعيها، وأخذت هذه التجمعات البشرية بالتضخم، وتحولت إلى نظام قبلي، حيث تستوطن كل قبيلة مساحة معينة من الأرض، وتمارس فيها عملية الرعي، وقد انتشر هذا النمط من الإنتاج الاقتصادي في البوادي على حواف الصحراء، ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل عن باقي شعوب العالم في هذه المرحلة من التطور.

وعلى الرغم من التطور الحضاري الذي أنجزه أجدادنا الأردنيون المؤابيون، والمنجز السياسي الضخم الذي قاموا به من تأسيس دولة وطنية، لها أعرافها السياسية وحدودها وقوانينها الناظمة، التي أدت إلى التطور والازدهار الاقتصادي الذي ذكرناه مسبقاً، إلا أن الرعي كنمط إنتاج استمر طوال عمر المملكة الأردنية المؤابية، على أطرافها الشرقية، وقد مارست القبائل الأردنية المؤابية التي استمرت في حالة الرعي دوراً أساسيا في حماية المناطق الشرقية للمملكة الأردنية المؤابية، من هجمات القبائل البدوية من صحراء جزيرة العرب، كما كان شباب هذه القبائل الناشئين في ظروف أكثر قسوة من ظروف المدينة أو القرية الأردنية المؤابية، العمود الفقري للجيوش الأردنية المؤابية التي خاضت حروبا عنيفة مع جيرانها الطامعين بها، كما فعل أحفادهم رجال العشائر الأردنية عندما كانوا العمود الفقري للجيوش التي حررت الإقليم من نير الاحتلال العثماني في مطلع القرن العشرين.

وكان لنمط الانتاج الرعوي أهمية اقتصادية أيضاً، حيث كان منتجات الثروة الحيوانية المرعية (المختلفة عن الحيوانات الداجنة التي تربى في الريف داخل الحظائر)، ذات جودة عالية، سواء الحليب ومشتقاته أو اللحوم، كما كان الصوف والجلود جزءاً هاماً من البضائع التي صدرها أجدادنا الأردنيون المؤابيون للخارج.

الزراعة

تعتبر الزراعة أول نشاط اقتصادي منظم، أدى إلى إنتاج فائض عن الحاجة، مما ساهم في تنوع السلع والتبادل التجاري، بحيث دفعت عملية الزراعة عجلة التطور الصناعي، لحل المشكلات التي يواجهها المزارعون.

يؤكد نقش الملك الأردني المؤابي ميشع على الاهتمام البالغ الذي منحه أجدادنا الأردنيون المؤابيون للزراعة، لتحقيق حالة من الأمن الغذائي في ظل واقع صارع به أجدادنا الأردنيون الأوائل صراعاً مريراً لإثبات وجودهم وحماية منتجهم الحضاري في إقليم كان على الدوام بؤرة للصراعات والحروب.

انتشرت الزراعة المنظمة في المملكة الأردنية المؤابية، في المناطق الغورية شرقاً، وفي الوديان والمناطق الجبلية غربا، حيث خاض أجدادنا الأردنيون المؤابيون، جدلاً بنّاءاً مع طبيعة جغرافية صعبة جداً، حيث واجهوا وعورة الأراضي التي تغلبوا عليها عبر بناء المصاطب، وتطويع الجبال وحواف الأودية، وجروا المياه بطرق مبتكرة من الينابيع والأودية، وتغلبوا على شح المياه صيفاً عبر حفر برك وأحواض مائية ضخمة كانت كفيلة، بري محاصيلهم الزراعية طيلة فصل الصيف الجاف.

وتنوّعت المحاصيل الزراعية التي أنتجها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من الحبوب إلى الخضروات والفواكه، ودلّت المكتشفات الأثرية على وفرة واضحة بهذه المحاصيل التي كانت تخزن بطرق مبتكرة، مثل تخزبن النبيذ والزيت بالجرار الفخارية، وحفظ الحبوب مثل القمح في حفر معزولة داخل الأرض، لمواجهة سنوات القحط، كما كان الإنتاج الزراعي الغذائي جزءاً مهما من عملية التجارة والخدمات المقدمة على الطرق التجارية.

ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع الزراعية

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

إن من  أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدا اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسُبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداء المملكة الأردنية المؤابية بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم حبر الحروب التي خاضوها ضد المملكة، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، وممّا يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة طلبه من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ”  لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”

الصناعة

الصناعة هي قمة التطور البشري، حيث تقاس قوة الشعوب وعظمتها بناء على تطورها الصناعي، وفي حين كان الأردنيون الأوائل سباقون إلى الصناعة منذ عصور ما قبل التاريخ، في قرية عين غزال وغيرها، فقد استمر هذا التطور الصناعي بالتراكم وصولاً إلى عصر الدولة الأمة (الممالك الأردنية الثلاث)، حيث نمت الصناعات بأشكالها المختلفة، لتلبية الحاجات الداخلية، بالإضافة لدعم العملية التجارية بالتصدير لبضائع أردنية المنشأ.

أولا : الصناعات الغذائية

تعدُّ الصناعات الغذائية من أبسط الصناعات، وهي صناعة تحويلية، إلا أن ممارسة هذه الصناعة على نطاق واسع في المملكة الأردنية المؤابية يؤشر إلى تطور مهم في تلك الحقبة الزمنية، حيث أن التصنيع الغذائي يتطلب وجود وفرة بالمحاصيل، ودراية بطرق الحفظ والتخزين، كما أنه يدلُّ على ذائقة ممتازة وأصناف غذائية وأساليب طهي معقدة، أما أهم هذه المنتجات الغذائية فهي: النبيذ، الزيت، الفواكه المجففة، مشتقات الألبان وغيرها.

أنثى تحمل جرة من الفخار على رأسها، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

ثانيا : صناعة الفخار

يعدُّ الفخار نقلة نوعية في تطور الجنس البشري، حيث يستخدمه بعض علماء الآثار كوسيلة للتأريخ، ما قبل وما بعد الفخار، كما أن دراسة الفخار وبقاياه من أهم أدوات استنباط معلومات تاريخية عن الحقب السحيقة.

ويعدُّ الفخار الأردني المؤابي من أجود أنواع الفخار في عصره، ولقد استخدمت الطريقة المؤابية في تصنيع الفخار لدى العديد من الشعوب المجاورة.

رابعا : الصناعة الحربية

وجد الأردن تاريخياً، في إقليم ملتهب، مليء بالصراعات والحروب والتناحر، لذلك كان لزاما على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، تطوير قدراتهم العسكرية، من تجهيز المقاتلين وتدريبهم وصولا إلى صناعة الأسلحة، لذلك كانت صناعة الأسلحة أحد أهم النشاطات الانتاجية التي مارسها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من السيوف والنبال والرماح، وصولاً للعربات القتالية، وتعدُّ عملية صناعة الأسلحة عملية معقدة ومركبة، حيث أنها تبدأ من التعدين ومعالجة المعادن لتنتهي بالشكل النهائي للسلاح، مرورا بعملية الهندسة والتصميم.

التجارة

برع الأردنيون الأوائل عبر التاريخ في التجارة، وقد يكون الموقع الجغرافي الذي لا يمكن الاستغناء عنه للقوافل التجارية أحد أهم أسباب هذه الهِبَة.

إن مرور الطريق التجاري الملوكي (أهم الطرق التجارية في العالم القديم) عبر الأراضي الأردنية من الجنوب إلى الشمال، كان فرصة استثمرها أجدادنا الأردنيون الأوائل على أفضل وجه ممكن.

ولقد مرّ هذا الطريق من منتصف المملكة الأردنية المؤابية، فقام أجدادنا الأردنيون المؤابيون، بتقديم الخدمات اللوجستية للقوافل التجارية، كما كفلوا الأمن للقوافل المارة في أراض المملكة، ولكن الأهم من ذلك كان تطوير قدراتهم التجارية، من الوساطة التجارية، إلى إنشاء القوافل وتسييرها، وصولا لتصدير منتجاتهم الوطنية إلى العالم، ولم يكن من الممكن أن تنجح تجارتهم هذه لولا تحليهم بالدبلوماسية والانفتاح وتفهم الثقافات المختلفة.

الخاتمة

حاولنا في هذا البحث، تلخيص الأدلة العلمية المتوفرة، من نتائج الأبحاث التاريخية، والمسوحات والتنقيبات الأثرية، للوصول إلى تصور عام عن طبيعة النشاط الاقتصادي في المملكة الأردنية المؤابية، آخذين بعين الاعتبار أهمية النشاط الاقتصادي في عملية التطور الانساني، لنجد أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين، استغلوا قدراتهم حتى النهاية، في صراع صعب مع ظروف طبيعية وسياسية غاية في الصعوبة، تاركين لنا مثالاً يحتذى بالنهضة وصناعة المستقبل.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، مملكة أدوم الأردنية- النشاط الاقتصادي

المملكة الأردنية المؤابية – النشاط الاقتصادي

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

مقدّمة

وجدت المسوحات والحفريات الأثرية على امتداد جغرافيا الأردن، دلائل على منظومات ميثولوجية دينية، منذ عصور ما قبل التاريخ، تجلت هذه الدلائل، في طرق الدفن، وصناعة التماثيل، ووجود المباخر، وانتشار المذابح أو ما يشبهها، وقد مرت هذه المنظومات بتطورات هائلة مع التقدم الاجتماعي والسياسي الذي مر به أجدادنا الأردنيون الأوائل عبر مراحل التاريخ المختلفة.

كان للدين دور مهم في حياة أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فالدين في تلك العصور كان يمثل محاولات الإجابة على أهم الأسئلة الفلسفية التي راودت البشر، كما كان الدين يغطي الجانب الروحي، وهو الوعاء الذي يحتوي جميع أنواع الفنون.

واعتمد الأردنيون المؤابيون كثيراً على آلهتهم في الحروب، حيث شنّوا الحروب باسمها، واستنصروها في حالات الضعف أو قبيل المعارك الهامة، إلا أن ذلك لم يكن يمنعهم من احترام الديانات والآلهة المختلفة التي تعبدها الشعوب المجاورة، كما توافرت قواسم مشتركة عديدة بين الديانة الأردنية المؤابية وديانات جيرانهم، وبالأخص ديانات أشقائهم في الممالك الأردنية المجاورة (مملكة أدوم الأردنية، مملكة عمون الأردنية).

ميثولوجيا الأردنيين الأوائل قبل نشأة الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)

أنثى تحمل جرة على رأسها من الفخار، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عادة ما كانت الشعوب القديمة، تستقي منظوماتها الدينية من البيئة المحيطة، وقد تطورت الأديان القديمة لتجيب على الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرق الإنسان القديم، ولوضع التفسيرات حول ما لم يستطع العقل البشري تفسيره حين ذاك، كما ساهمت طبيعة الإنتاج في تشكيل الطقوس الدينية المُمَارسَة، حيث ارتبطت أغلب الطقوس والشعائر في مواسم الزراعة والحصاد.

ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل في تلك الحقب عن مجمل الوجود البشري، وقد بدأ نشوء التصورات الدينية لدى الأردنيين الأوائل مع بداية الاستقرار الزراعي حوالي 9000 قبل الميلاد، وقد كانت هذه التصورات في تلك الفترة بسيطة، وارتبطت المظاهر الموجودة حول عادات الدفن بشكل رئيسي، ويعتقد أن البذرة الأولى للمعتقدات الدينية، كانت مرتبطة بتفسير ظواهر طبيعية، وخصوصا المطر الذي كان المصدر الرئيسي لري المزروعات حيث كانت الزراعة في طورها الأول البسيط، واستمر الأردنيون الأوائل في تطوير منظومتهم الدينية، جنباً إلى جنب مع تطورهم الانتاجي بشكل رئيس، حتى ارتقت تلك المنظومة بشكل كبير، مع العصور البرونزية وحقبة (الدولة المدينة)، حيث وجدت الحفريات الأثرية في تلك الحقبة معابدا داخل المدن الأردنية القديمة، وحيث أصبحت مجتمعات المدن الأردنية القديمة مجتمعات مقسمة طبقياً، بسبب حالة المدنية والانتاج الفائض، فإن رجال الدين كانوا يمثلون طبقة منفصلة، وتعتبر من الطبقات المتسيّدة، وتشير الدلائل أن رجال الدين مارسوا أيضا مهام إدارية داخل المدن.

الآلهة الأردنية المؤابية

أحد أهم مميزات الديانة الأردنية المؤابية هو عدم تعدد الآلهة وكثرتها مثل الشعوب المجاورة في تلك الحقبة الزمنية، حيث اكتفى أجدادنا الأردنيون المؤابيون بالإله كموش وزوجته الإلهة عشتر- كموش، وهو أمر غريب ويصعب تفسيره، وقد امتاز الإله كموش وزوجته عشتر- كموش بهالة من القدسية، حيث سمي الأشخاص والمدن تيمنا بهم، وأنشئت  لهم معابد ضخمة، وقدّمت لهم الأضاحي والقرابين.

لا نستطيع أن نجزم أن الإله كموش وزوجته الإلهة الأم عُبدوا وحدهم بشكل مطلق داخل أراضي مؤاب، حيث أن آلهة محلية عُبدت بالتأكيد في مناطق مختلفة من المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى التداخل السكاني من الشعوب المجاورة داخل مملكة مؤاب الأردنية، كما أن الحركة التجارية النشطة التي شهدتها مؤاب الأردنية، ساهمت بتلاقح ثقافي مع شعوب متعددة، تركت بعضا من معتقداتها وأساليبها في العبادة والفن والعمارة وصناعة الفخار، لدى الشعب الأردني المؤابي، إلاّ أن المؤسسة الدينية الرسمية، كانت تكرّس الإله كموش والإلهة الأم عشتر- كموش، ولم تُقَم المعابد لسواهما، الأمر الذي يعتبر مؤشراً على مؤسسة دينية موحدة، يرأسها الملك، معنية بتنظيم الأمور الدينية للشعب الأردني المؤابي.

الإله المؤابي كموش

عندما بدأ الشعب الأردني المؤابي بتأسيس دولته، والسيطرة على الحيز الجغرافي الذي سُمّي باسمه، كانت هناك آلهة متعدد تُعبد في المنطقة، ومن اهمها الإله بعل- فغور أحد آلهة الميديين، ولكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، سعوا منذ اللحظة الأولى إلى ترسيخ منظومتهم الثقافية والميثولوجية، دون محاولة مسح الثقافات الفرعية الموجودة على أرض مملكتهم، في هذا السياق بدأت عبادة كموش الإله المؤابي الأردني بالانتشار، وكان الإله كموش محط احترام المؤابيين، حيث أنه يمثّل إله الحرب، وإله الشمس، وإله القمر، وغيرها، كما يُعد الإله الأكبر، محتلاً بذلك مكانة العديد من الآلهة المجتمعة على حد سواء.

وقد طُرحت عدة فرضيات حول تسمية الإله كموش، حيث يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن الإسم كموش مشتق من الكلمات ( أكو وماشو)، بمعنى إله القمر، في حين يذهب باحثين آخرين إلى القول بأن كموش تعني إله الشمس، أما الفرضية الأكثر قبولا هي أن معنى الإسم هو إله الحرب بسبب الدور الذي لعبه الإله كموش في الحروب التي خاضها الأردنيون المؤابيون. 

ولقد كان الإله كموش بلا شك راعياً لجميع نواحي الحياة لدى الأردنيين المؤابيين، وقد سُمي الأشخاص والملوك باسمه، مثل: (كموشعونادبي، كموشيخي، كموش ملك، كموش صاديق وغيرهم).

الإلهة عشتر- كموش

وهي زوجة الإله كموش، والإلهة الأم، وإلهة الخصب والحمْل، وقد صورت في التماثيل على شكل إمرأة، تحمل بين يديها رمز الخصب بشكل متقاطع فوق صدرها، ولقد ورد ذكر عشتر- كموش في لوحة أثرية، مما يدل على أهميتها في المنظومة الدينية الأردنية المؤابية، فيما بُني لها معابد خاصة، وقُدّمت لها الأضاحي والقرابين، الأمر الذي يعتبر انعكاساً لمكانة المرأة الأردنية المؤابية في المجتمع بشكل عام.

المعابد الأردنية المؤابية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية- جريدة الغد-محمد أبو غوش

وجد الآثاريون العديد من المعابد الأردنية المؤابية، واللافت بالأمر أن هذه المعابد بنيت في العصر البرونزي المتأخر، مما يعطي انطباعاً بأن الحضارة الأردنية المؤابية بدأت بالتشكل قبل العصر الحديدي، على عكس ما تورده كلاسيكيات التأريخ القصصي.

وجدت معابد تعود للعصر البرونزي، مبنية من الحجارة الغشيمة، ويتوسطها مذبح، وأمامه ساحة كبيرة، وقد عُثِر في ذيبان على بقايا مبنى ضخم، يحتوي بداخله على قاعدة مبخرة، ويعتقد أن هذا هو المعبد الذي بناه الملك الأردني المؤابي ميشع وأورد ذكره في مسلته عقب انتصاره.

المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية

طبيعة الكهنوت الديني في المملكة الأردنية المؤابية غير واضحة لنا تماما، ولا نستطيع الجزم إن كان هنالك مجموعة من رجال الدين يقومون بالإشراف على العبادات، إلا أنه بناءً على المقارنة مع الديانات القديمة وخصوصا المجاورة، يتأكد لنا أن ثمة مجموعة من رجال الدين تسهر على خدمة المعبد، واستلام القرابين والأضاحي، والإشراف على العبادات، كما أنه من الواضح أن للملك مكانة روحية خاصة في الديانة الأردنية المؤابية ، حيث ذكر أن الملك بولاق قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، كما أن الملك الأردني المؤابي  ميشع ذكر في مسلته (مسلة ميشع-ذيبان) أنه قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، وبنى المعابد ونذرها لخدمته، بالإضافة إلى أن الملك كان هو المسؤول عن مخاطبة الإله كموش واستنصاره في وجه الأعداء، كما ذكر الملك المؤابي الأردني ميشع أنه كان يتلقى الأوامر مباشرة من الإله، ما يؤكد أن الملك يرأس المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية.

أهم الطقوس الدينية المعروفة في المملكة الأردنية المؤابية

تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان Bernard Gagnon

أولا : القرابين، من ضمن اللقيات الأثرية التي وجدت في مملك مؤاب الأردنية، دُماً فخارية صغيرة، لحيوانات مثل الكباش والعجول، الأمر الذي يؤكد رسوخ فكرة الأضاحي والقرابين التي تقدم للآلهة، ضمن طقوس معينة، ويعتقد الآثاريون أن هذه الأضاحي كانت تقدم إما  للمذبح أو كهدايا للكهنة، وذكر في الروايات التاريخية، أن الملك المؤابي الأردني بالاق قد قام بتقديم الأضاحي للإله كموش قبيل اشتباكه مع العبرانيين في بداية دخولهم للمنطقة، كما ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع تقديمه الأضاحي للإله كموش لكي ينصره، وقد اعتبر القتلى من أعدائه ضحايا للإله أيضا، وفي تصرف فريد من نوعه، قدم ميشع ابنه أضحية للإله كموش في سبيل الانتصار على أعدائه.

ثانيا : حرق البخور، يبدو أن حرق البخور كان أحد الطقوس الدينية المتبعة لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين، حيث وجد على المباخر وقواعد المباخر في أكثر من موقع أثري مؤابي.

ثالثا : غنائم الحرب، كانت غنائم الحرب تقدم للمذبح كقربان، وشُكرٍ للآلهة التي قامت بمساعدة أجدادنا الأردنيين المؤابيين على الانتصار.

رابعا : حالات الحزن واليأس، كان الأردني المؤابي يقدّم دُماً محززة الوجه للمعبد في حالة شعوره باليأس، وقد تكون عادة وشم الوجه في حالات الحزن ذات جذر مؤابي، كما أن بإمكان الشخص الذي يشعر بالحزن واليأس أن يقدم خصلة من شعر رأسه ولحيته للمعبد.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2.  A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية الأدومية

ملامح الديانة الأردنية المؤابية

Scroll to top