تمهيد

كانت أرض الأردن مأهولة ومعمورة منذ أكثر من خمسمئة ألف سنة قبل الميلاد. فعلى هذه الأرض بدأت أولى التجمعات السكانية وأنشئت أولى المجتمعات الزراعية ومورست أولى الطقوس الدينية في العالم بأكمله. لا يمكننا أن ننظر إلى تاريخ العالم دون أن نمر بالأردن ونطالع بشغف كل حقبة من حقبه.

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري، حيث انطلقت شرارة الطقوس الدينية في أول المجتمعات الزراعية في العالم.

في هذا البحث سنتوقف على مرحلة مهمة من تاريخ الأردن، مرحلة ستساعدنا أكثر على فهم طبيعة هذا المجتمع الثري في الماضي وفي الحاضر. يُعد الأردنيون الغساسنة حلقة مهمة في التاريخ الوطني، وسنستعرض في هذا البحث المشهد العام للمنطقة في ذلك الوقت إضافة للعوامل المجتمعية والسكانية التي كانت حجر أساس في تأسيس المملكة الأردنية الغسانية من أرض البلقاء ولمدة تزيد عن أربعة قرون.

المشهد العام للمنطقة

كان العالم منذ قرون عديدة قبل الميلاد يواجه صراع قوى بين أكبر إمبراطوريتين في العالم: الفرس والروم وفي خضم هذا الصراع كانت المملكة الأردنية النبطية (169 ق.م – 106 م.)  تتمتع باستقلال حقيقي اقتصاديا وسياسيا وحضاريا. بلغ الازدهار الحضاري للأردنيين الأنباط أن سيطروا على الطرق التجارية وصدروا تجارتهم لأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط وإلى الهند عبر رحلات التجارة البرية والبحرية.

صورة توضح الطرق التجارية للمملكة الأردنية النبطية ونرى تشعب هذه الطرق ووصولها إلى الموانىء الرئيسة في العالم القديم

أيقنت الإمبراطورية الرومانية مدى خطر المملكة النبطية وأظهر الأردنيون الأنباط بسالتهم في كل المعارك التي خاضوها بقيادة ملوكهم عبر تاريخ المملكة.  قام الملك عبادة الأول بالانتصار على اليهود عام 90 قبل الميلاد كما قاد الملك الأردني النبطي الحارث الثالث -أحد أعظم ملوك المملكة الأردنية النبطية- جيوشه ضد هجمات الرومان بقيادة إمبراطورهم بومبي وأبقى على وحدة المناطق التابعة للمملكة النبطية الأردنية والتي امتدت من سهول حوران وبصرى وصولا إلى الحجر شمال الحجاز.

بعد فشل الحملات العسكرية وصمود الأردنيين الأوائل بدأت الإمبراطورية الرومانية خطة أخرى ركزت على الحصار الاقتصادي الذي امتد طويلا، فحوّل الإمبراطور تاراجان طريق التجارة وبدأت التجارة تضعف مع الوقت ما أدى أخيرا لمدّ الرومان لنفوذهم على العاصمة النبطية بترا عام 106 ميلادي.

الخزنة

في ذات الوقت، كانت الإمبراطورية الرومانية تحارب على عدة جبهات أخرى كحربها ضد القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية بقيادة الملكة ماوية التي قادت حروب وحملات كثيرة ضد الاضطهاد الروماني ومحاولات فرض السيطرة بالقوة والقمع.

المجتمع الأردني والتنظيم السياسي الداخلي

تمر كل المجتمعات الإنسانية بمراحل تنظيمية عديدة وتسير كل المجتمعات كذلك من البساطة إلى التعقيد. لم يكن المجتمع الأردني قديما بمعزل عن كل الظروف التي ألمّت بالمنطقة، وصحيح أن المشرق بأكمله كان يعاني من اضطرابات عديدة وفوضى كبيرة إلا أن المجتمع الأردني كان يحافظ على استقراره عبر استحداث نظم عرفية تضمن العدالة والمساواة بين القبائل وتحفظ الأمن والاستقرار في ذات الوقت.

كما أسلفنا، أقام الأردنيون على مدى التاريخ ممالك عدة كالنبطية والأدومية والعمونية والمؤابية، ورغم أن هذه الممالك فقدت في مرحلة ما وجودها ككيان سياسي وسلطة إلا أن الوجود السكاني لهذه الممالك لم يختف. فالأدوميون مثلا لم يرتحلوا عن الأرض الأردنية رغم تولي الأردنيين الأنباط للسلطة السياسية والأنباط أنفسهم لم يغادروا أرضهم رغم السيطرة الرومانية على الطرق التجارية. كذلك القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية التي امتازت بنمط معيشي مرتحل والعشائر الأردنية الأخرى التي عاشت في مدن وقرى شبه زراعية. وبهذا يعدُّ  المجتمع الأردني مجتمعا ثريا ديمغرافيا (سكانيا) وقد أدى هذا الثراء لابتداع طُرق تنظيمية مميزة قد لا نجدها في أي مجتمع آخر.

القبائل الأردنية والحكم الذاتي

كانت حدود الأردن مختلفة عن الترسيم السياسي الحديث حيث كانت تتبع لحدود مضارب القبائل والعشائر الأردنية وامتداداتها. فهنالك قبيلة (جذام) العشيرة الأم لأكبر القبائل الأردنية كبني حميدة وعباد وبني صخر والعجارمة والعمرو وغيرهم وهنالك قبيلة ( بني كلب) العشيرة الأم لعشيرة الكلوب وهناك قبيلة ( بني عاملة ) ومن أبنائهم العواملة اليوم، والأنباط الذين تفرعت منهم قبائل أردنية متعددة كما توردها المصادر مثل بعض بطون قبيلة الحويطات وبعض بطون قبيلة بني عطية واللياثنة ( بني ليث ).

خريطة تصورية توضح أهم المكونات السكانية للأردن إبان عهد الأردنيين الغساسنة

وما نريد إيضاحه في هذا الفصل طريقة التنظيم السياسي القبلي التي اعتمدتها العشائر الأردنية. إذ اعتمدت هذه العشائر على أسلوب حكم الأقلية. فأصغر العشائر حجما هي التي تتولى زمام الحكم والتنظيم. لقد اعتمدت العشائر الأردنية هذا الأسلوب لضمان العدالة، فمن ناحية يحفظ هذا الأسلوب حق الأقليات ومنع غلبة الأكثرية ويساهم في الوحدة والتماسك ومن ناحية أخرى يتم بطريقة تشبه الديمقراطية الحديثة باختيار الحاكم عبر الإجماع على الأكفأ ومحاسبته ومتابعته إن قصّر أو استغل موقعه في غير مصلحة العشائر الأردنية التي أجمعت عليه. والجدير بالذكر أن هذا الأسلوب كان ولا زال متبعا في التنظيم العشائري العرفي الأردني الحديث والمعاصر.

في ذلك الوقت بدأ الغساسنة بالانتشار وتوسيع النفوذ في البلقاء الأردنية كأقلية عشائرية ووفقا للنظام الذي تتبعه العشائر الأردنية في تولية الأقلية، رأت العشائر في الغساسنة أناسا أكفياء يمكن الاعتماد عليهم في حفظ أمن واستقرار الأردنيين وحفظ استقلالهم الذاتي في نفس الوقت.  سنرى في فصل قادم كيف سلبت العشائر الأردنية السلطة التي منحتها في البداية للغساسنة جراء اتخاذهم مسلكا لا يخدم الصالح العام للقبائل الأردنية ولا يتفق ومبادئ الحكم عند الأردنيين .

حلف الديكابولس كحل

لم تكن العشائر الأردنية لترضى بالولاية الرومانية وهي التي اعتادت دوما على حكم نفسها بنفسها في استقلالية تامة وقد سبب هذا الأمر الكثير من المشاكل للامبراطورية الرومانية خصوصا بسبب وقوع الطرق التجارية التي تربط العالم القديم تجاريا بالأردن بالضرورة.

 إن فكرة حلف الديكابوليس فكرة تعود للعهد اليوناني تبنتها الإمبراطورية الرومانية للحفاظ على أمن حدودها من الإمبراطورية الفارسية وضمان سلامة قوافلها على الخط التجاري، في ذات الوقت يضمن الرومان ألا يشتبكوا مع القبائل الأردنية التي – بعد عدة حروب فاشلة معها- أدركوا أنها لن تنضوي تحت مظلتهم بالصورة التي يرغبون بها.

ضم حلف الديكابوليس عشرة مدن من تأسيسه عام 64 ق. م. ثمان مدن منها مدن أردنية:

  • فيلادلفيا (عمان)
  • بيلا (طبقة فحل)
  • أرابيلا (إربد)
  • جراسا (جرش)
  • كانثا
  • جدارا (أم قيس)
  • دايون ( إيدون)
  • هيبوس (الحصن)
  • دمشق
  • سكيشوبوليس (بيسان)

    خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة

انضم لهذا الحلف عدة مدن أخرى منها مدن أردنية ( بوسطرا أو كابيتولياس وهي مدينة بيت راس. ، مدينة جادورا وهي السلط ومدينة أبيلا وهي القويلبة ( حرتا في إربد ) إضافة لمدينتي درعا وبصرى .

معصرة خمر قديمة من بيت راس من أهم المدن وأكثرها انتاجا وازدهارا آنذاك

تمتعت مدن الحلف بحكم ذاتي واستقلال اقتصادي ودشن هذا الحلف لعلاقات تجارية كبيرة جعلت مدن الديكابوليس الأردنية خصيصا تزدهر فكانت بيت راس مثلا أكبر مدينة منتجة للخمور في العالم القديم وكانت جراسا تجمعا حضاريا يستشهد بآثاره حتى وقتنا هذا. ومن ضمن مظاهر الحكم الذاتي هو صك العملات المحلية البرونزية والتي وجدتها حملات التنقيب عن الآثار ووثقتها.

رغم ذلك تأثرت المدن بالثقافة الرومانية السائدة وكانت الأبنية والشوارع والكنائس تبنى على الطراز الروماني. وهنا يطرح سؤال مهم، إن كانت مدن الديكابوليس العشرة مأهولة من قبل القبائل الأردنية ومن قبل الأردنيين الأنباط والغساسنة والأدوميين فهل يصح حقا تسمية آثار تلك المدن بالآثار الرومانية وقد بنيت بسواعد أهالي هذه المدن؟

قوس هدريانوس في جرش، مبني على الطراز الروماني عام 130 ميلادي

لعبت مدن الديكابوليس كما رأينا دورا رئيسا في تشكيل التنظيمات السياسية في الأردن، وبناء على هذا التشكيل دعت الحاجة لتولية حلقة وصل بين العشائر والأهالي والإمبراطورية الرومانية لمواجهة خطر هجمات الفرس الساسانيين ولتنظيم خطوط التجارة.

وكما جرى العرف لدى العشائر الأردنية في التنظيم اختيرت الأقلية الأكفأ لتولي هذه المهمة وكان الأردنيون الغساسنة من وقع الإجماع عليهم.

آل غسّان: التسمية

عرف الغساسنة بعدة أسماء أخرى منها “آل ثعلبة” نسبة إلى أحد أجدادهم المسمى “ثعلبة بن مازن”. كما سُموا “آل جفنة” نسبة لأول ملوكهم جفنة بن عمرو مزيقيا بن ماء السماء. وإلى جفنة ينسب أحد ملوك الغساسنة الحارث الأول ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة والذي يسميه النابغة “الحارث الجفني”. (سالم: 2006)

أما تسميتهم الأهم وهي الغساسنة أو آل غسان فتعود بحسب الروايات إلى نزولهم عند عين ماء تسمى غسان. وعقب انتشارهم في الأردن سرعان ما انخرط الغساسنة في المجتمع الأردني وصاروا جزءا منه.

الاستقرار والتأسيس

شعار المملكة الغسانية ويظهر في المنتصف أيقونة القديس سركيس وهو إحدى الشخصيات الملهمة في تاريخ الغساسنة

لم تكن الطريق أمام الغساسنة ممهدة، فقد استقروا في البدء في سهول حوران الأردنية والتي كانت مأهولة من قبل قبيلة تسمى الضجاعمة من قبائل بني سليح – قضاعة. (سالم: 2006) وقد فرض الضجاعمة على الغساسنة أتاوة ولكن الحاكم الغساني وقتها ثعلبة بن عمرو الغساني رفض وغلب القائد سبيط الضجعمي وقامت الحرب بين القبيلتين وانتهت بانتصار الغساسنة. (علي: 2001) وقد سميت هذه الحرب في بعض المصادر ” يوم حليمة” نسبة لابنة القائد الغساني التي كان لها دور في النصر (علي: 2001) انتقلوا بعدها من حوران إلى البلقاء واستقروا بها وقتا طويلا.

نستنتج هنا أن لتأسيس الإمارة الغسانية الأردنية محورين هامين أولا إجماع القبائل الأردنية على كفاءتهم وحسن استخدامهم للسلطة والمحور الثاني لعب دور الوسيط بين مدن الحلف والمدن الأخرى والرومان وقد دعى هذا الإجماع إضافة لحسن إدارة الإمارة إلى انتقالها لمرحلة جديدة، فقد لقب الإمبراطور جستنيان الأمير الأردني الغساني الحارث بن جبلة  بالملك أو “ملك جميع العرب”عام 530 ويتم إيراد هذا الحدث في الوثائق الرومانية كحدث مهم في تاريخ المشرق.

أول أمير أردني غساني

قال المؤرخين المسعودي وابن قتيبة بأن أول أمير هو الحارث بن عمر بن عامر. أما بحسب رواية المؤرخ الأصفهاني فإن أول أمراء الغساسنة هو جفنة بن عمرو ميزيقيا وكان واليا زمن الإمبراطور الروماني نسطوروس (491 -501 ميلادي) على حوران الأردنية فقتل بعدها ملوك الضجاعمة. وقد ورد هذا الخبر باختلافات بسيطة باسم الإمبراطور الروماني الذي عينه فأبدل بالإمبراطور الروماني نوشر. وبحسب الأصفهاني، حكم نسل جفنة بن عمرو فتولى ابنه عمرو الحكم ومن ثم ابنه الحارث الجفني. (سالم: 2006)

وإن تتبعنا التأريخ الروماني فإن أول أمير غساني هو جبلة بن حارث بن ثعلبة والذي ذكره ثيوفانتس تحت اسم “جبلس”. ويعد هذا الأمير أحد أعظم الأمراء الغساسنة وأكثرهم شهرة وتنسب له بعض المباني في الأردن كأدراج وقناطر القسطل. (سالم:2006)

نهاية المملكة الأردنية الغسانية

أحاطت نهاية المملكة الأردنية الغسانية الكثير من الظروف فمن ناحية توترت علاقة الأمراء والملوك الغساسنة مع البيزنطيين[1] ومن ناحية أخرى كانوا بمواجهة الجيوش الإسلامية. سُيرت الجيوش الإسلامية باتجاه الأردن منذ العام الخامس للهجرة. كانت دومة الجندل أولى المحطات رغم أنه لم يقع فيها أي اشتباك عسكري بين قبيلة قضاعة والمسلمين. ومن الجدير بالذكر أن دومة الجندل منذ الأزل كانت إحدى مضارب[2] العشائر الأردنية الشهيرة.

كانت معركة مؤتة ثاني اشتباك للغساسنة مع المسلمين حيث  بعث النبي محمد عليه السلام بالرسول  الحارث بن عمر الأزدي للملك الغساني  الحارث بن شمّر وقد اعترضه أحد ولاة الملك الحارث ويدعى شرحبيل بن عمرو وقتله. خسر المسلمون هذه المعركة أمام قوة الغساسنة وحشدهم لجيوش القبائل الأردنية ولم تتكرر محاولة الاشتباك العسكري مرة أخرى إلا بعد أربع سنوات في غزوة تبوك التي خاضتها القبائل الأردنية مع عدد من الكتائب البيزنطية، هرب البيزنطيون ولم يدر أي اشتباك حقيقي وقد زعزع هذا ثقة القبائل الأردنية بالولاة الغساسنة وأشعل الريبة في قلوبهم.

بعد سبع سنوات دارت معركة اليرموك على الأرض الأردنية وانتهت بانتصار جيش خالد بن الوليد على البيزنطيين. تدفقت جيوش خالد بن الوليد عبر القرى والمدن التابعة في الأصل للحكم الغساني ولم تلق اعتراضا أو اشتباكا. خلال هذه السنوات السبع الماضية، عقد النبي محمد عليه السلام العديد من المعاهدات السلمية التي تضمن الحرية والأمن والدفاع المشترك مع القبائل الأردنية المسيحية التي كانت قد ضاقت ذرعا من السياسة الغسانية والرومانية منذ بداية القرن السادس، حيث كانت الضرائب في ازدياد وأخذ التجنيد العسكري منحىً إجباريا لم ترضه العشائر الأردنية.

ظل حكم الغساسنة ساريا حتى معركة اليرموك عام 636، حيث فاز جيش خالد بن الوليد على آخر ملوك الغساسنة جبلة من الأيهم وقد سار الأخير إلى القسطنطينية وظل فيها حتى مات. انخرط بعدها الأردنيون الغساسنة في نظام الدولة الأموية.

لماذا من المهم أن نتحدث عن الغساسنة الأردنيين؟

تعاقبت الحضارات والممالك على أرض الأردن وتركت كل واحدة منها بصمة مهمة. وهذا الغنى الحضاري والزخم الثقافي أورث المجتمع الأردني تعقيدا وثراء لا يضاهى. العادات والتقاليد والطعام واللباس والعمران كلها مزيج فريد لا بد من تتبع الأثر الغساني فيه لنحصل على صورة كاملة للمجتمع الأردني الحي.

 الكثير من الأسئلة يجب أن تطرح مرة أخرى، فلمن يعود الفضل في معظم الآثار التي نعرفها ونحبها في الأردن؟ وكيف كانت الأعراف القبلية والتكتلات السكانية عاملا مهما في تشكيل المشهد السياسي للحضارات الأردنية المتعاقبة؟ وكيف نفهم المجتمع الأردني اليوم في ضوء المجتمع الأردني القديم؟ سنحاول في سلسلة أبحاث الأردنيون الغساسنة أن نناقش جميع جوانب الحياة الغسانية في الأردن وأن نكتشف سويا هذه الحضارة..

المراجع:

  • الماجدي، خ. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • سالم. س. (2006)، تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط1) مصر: الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة.
  • العويدي، أ. (2014) تاريخ الأردن وعشائره في العصور القديمة والوسيطة (ط1) عمان، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع
  • علي. ج. (2001) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط4)، لبنان: بيروت، دار الساقي

[1] سميت الإمبراطورية الرومانية بالإمبراطورية البيزنطية  عندما نقل الإمبراطور قسطنطين الأول العاصمة من نيقيوميديا إلى بيزنطة المطلة على البسفور عام 329 ميلادي كما اعتنق المسيحية وسميت الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الشرقية.

[2] مضارب العشيرة هي الأماكن التي يتنقل البدو منها وإليها في التشريق والتغريب وتبعا لعوامل المناخ والعادات السائدة.

الأردنيون الغساسنة: مدخل عام

مقدمة

اهتم الأردنيون الأنباط بفن العمارة بشكل واسع، وهذا ما يؤكده الإرث العمراني الضخم الذي خلفوه، وما يزال قائماً حتى يومنا هذا بكل شموخ وصلابة، وحيث أن عمر الحضارة الأردنية النبطية امتد على مدى قرون، فقد كان الفن المعماري النبطي متباينا، ومتطوراً باستمرار، حيث بلغ من البذخ في ذروة هذه الحضارة، ما سبق حضارات استعمارية ضخمة، ونورد في هذا البحث ملامح هذا الفن العظيم الذي أولاه أجدادنا الأردنيون الأنباط اهتماما منقطع النظير، بطريقة تساهم في تعزيز فهم القارىء لما يراه ماثلا بعينه من إرث عمراني يشكل قفزة ضخمة في فن العمارة على مستوى البشرية.

في هذه المدخل البحثي من إرث الأردن تقرؤون الجزء الرابع من سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط.

أنماط وسمات الهندسة المعمارية عند الأردنيين الأنباط

جرت عمليات البناء لدى الأردنيين الأنباط ضمن أُطر محددة بتناغم مع الطبيعة والعوامل البيئية فضلاً عن نوعية المكان والذي بدوره أغنى هذه الحضارة ومنحها هويتها الحضارية التي تميزت بها عبر باقي العصور السابقة واللاحقة، وكما ذكرنا سابقاً فقد قُسمت العمارة في الحضارة الأردنية النبطية إلى قسمين رئيسيين الأول يختص بالعمارة الدنيوية أما الثاني يختص بالعمارة الدينية وفيما يلي تفصيلٌ عن القسم الثاني منها.

العمارة الدينية في الحضارة الأردنية النبطية

 عمارة المعابد الأردنية النبطية

اهتم الأردنيون الأنباط بتزيين وتعظيم معابدهم، حيث اختلفت المعابد النبطية في بنائها ومعمارها على حسب البيئة الطبيعية التي تواجدت فيها والتي بدورها شكلت فضاء روحيا خاصا.

ومن الجدير بالذكر أن بعض المعابد قد تحولت إلى أضرحة ولكن معالمها الأصلية صمدت، وقد شكلت خزنة فرعون أنموذجا رائعا للعمارة الأردنية النبطية التي لا زالت راسخة إلى اليوم، فقد بدت الخزنة وكأنها مدفونة داخل صخر جبل المذبح الذي نحتت فيه، وقد تكونت من طابقين؛ الطابق السفلي مزين ومسنود بستة أعمدة من الطراز الكورنثي وتحمل فوقها سطحا نقش عليه رسمان لأبي الهول ورسمان لأسد ولفهد وعلى الجانب الأيمن من الأعمدة نرى رجلا حافي القدمين يقود جمل، وأفعى تحاول لدغ رجل في قلبه على اليسار، كما نرى المثلث الهليني ضمن مساحة مزخرفة معتلية الأعمدة، وتكون الطابق السفلي للخزنة من ثلاث اسطوانات تفصل الواحدة عن الأخرى كوتان اثنتان نحتتا في الصخر، وتكونت الأسطوانة الوسطى من عمودين يعلوهما تاج نصف دائري محزز وجرة فوقها تمثال للإله العزى .

لقد اشتركت المعابد في العديد من الأمور من بينها النقوش والمنحوتات ولعل أكثر المنحوتات بروزا تلك التي نراها للأمازونات الواقفات بثياب قصيرة رافعات سلاحهن من البلطات فوق رؤوسهن، بالإضافة إلى منحوتات لنساء بأجنحة يٌعتقد بأنهن أحد أشكال الملائكة وتزين شرفة الطابق برسومات الزهور والثمار والنسور .

كما قسم الباحثون في الحضارة الأردنية النبطية المعابد إلى قسمين معابد شمالية وجنوبية، فقد تميزت المعابد الشمالية ذات المساحة المستطيلة مع المقعد الدائري المنتصب بانتظام أمام المعبد والذي شكل جزءا من تصميم المبنى، أما المعابد الجنوبية فقد قسمت إلى أجزاء تمثل الأول بمقدس وفي كل جزء غرفة واسعة ومن ثم تأتي الأجزاء الثانوية، ومن الجدير بالذكر أن بعض المعابد لها علاقة مباشرة مع الثراء لا سيما في الفترة بين القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الثاني الميلادي والذي اتضح فيه التزايد في عدد المباني الدينية والآلهة الحامية، كما كانت كلمة (م ح ر م ت) والتي تعني مكانا مقدسا أو محرابا أكثر من كونها معبدا، كما شاعت عدة كلمات للمعابد ككلمة ( ب ي ت ا) والتي تعني بيت الآلهة .

أ. معبد بعل شمين  

يقع المعبد في سيع ويمتاز بأنه أكبر المعابد في تاريخ المملكة الأردنية النبطية وقد تم تكريسه لعبادة الإله بعل شمين إله الخصوبة، كما تضمن شتى تفاصيل المعابد الأردنية النبطية بجميع تقسيماتها، كما غطى المعبد الخارجي ما مساحته 19*20 م، وعند الدخول من الممر الذي يلي المدخل عبر الرواق فيقودنا إلى المقام الداخلي والأبراج ذات المداخل الثلاثة، أما مساحة المقام الداخلي فقد قُدرت بـ 8.28*7.26 م، كما تشكلت وسط المعبد صومعة مفتوحة للسماء بأربعة أعمدة ذات قواعد حرة وقد كانت مكاناً عالياً للعبادة ومن المعتقد أنها مقبرة مركزية، بلغت المساحة المكشوفة بين المقام الداخلي والخارجي للمعبد أربعة أمتار، وتم العثور على عدد كبير من النقوش النبطية واليونانية في بقايا المعبد والتي بدورها ساعدت على تأريخ مراحل عديدة لهذا المركز الديني، وأكثر النقوش أهمية هو نص تكريس المعبد والذي تم تأريخه بين 33/32 أو 2/1 قبل الميلاد، والذي باكتشافه ساعد على تحديد أجزاء متعددة من هذا المعبد كالمقامات الداخلية والخارجية بالإضافة إلى أروقة المعبد المغطاة في الساحة، بالإضافة إلى المسرح الذي امتلك مكانة بارزة في حياة الأردنيين الأنباط خاصة في شعائرهم الدينية والذي أثبته نص آخر وُجد أيضاً في هذا المعبد، كما عُثر على العديد من الموجودات الأثرية التي من المرجح أنها كانت تُؤخذ للطقوس التعبدية والولائم الجنائزية، والتي تم شرحها من خلال عدة أجزاء مزخرفة تم اكتشافها في معبد خربة التنور.

ب. معبد الأسود المجنحة في البترا

يعد معبد الأسود المجنحة من أكبر المعابد الأردنية النبطية كما يُعد بناءً فريدا زود الباحثين بآثار نادرة عن الأردنيين الأنباط وعباداتهم، يُطل المعبد على البوابة الرومانية الثلاثية المتصلة بالشارع، مطلاً على طريق الجسر فوق مجرى المياه في لحف جبل، كما تشير الأسود المجنحة  التي يمكن أن تكون رمزا للإلهة العزى ومن المرجح أنه كان مكرسا لعبادة الإلهان العزى آلهة المرتفعات والإله دوشرا إله الشمس والخمر معاً، ومن المُعتقد أن المعبد قد بُني حوالي 27 ميلادي، وتكون المعبد من شرفة أمامية تتقدمها أعمدة بطول 9,5 م ويتم الدخول منها عبر البوابة العريضة إلى قاعة المعبد الرئيسية ذات الشكل المربع المحيط بالأعمدة التي بنيت في الجدران، وبداخلها صفان من الأعمدة، ووُجدت منصة المذبح بارتفاع 1.3 م في أقصى القاعة، كما وُجد على جانبي منصة المذبح إلى الجهة الأمامية مدرجات ذات أبواب حديدية، حيث كان يجري الطواف حول المنصة التي كانت ترتفع عليها أنصاب الآلهة، كما تقع خلف المنصة فسحة توضع عليها التقدمات التي تقدم كهدايا ونذور للمعبد والتي وُجد فيها تماثيل للآلهة، ومن الجدير بالذكر أن قواعد الأعمدة تكونت من حلقة رخامية تحيط بالقاعدة الحجرية كما استخدم الرخام البني لأعمدة المنصة بينما استخدم الرخام الأبيض لباقي الأعمدة أما تاجيات الأعمدة المزخرفة فقد مُثلت على زوايا بعض منها أسود مجنحة ومن هذه الأسود جائت تسمية المعبد ومن المُرجح أن تكون هذه التاجيات لأعمدة المنصة .

بُلطت أرضية القاعة الرئيسية بالرخام الأبيض المموج بالبني بينما بُلطت المنصة بالرخام الأبيض والأسود وزُخرفت جدران المعبد الداخلية بالرخام والقصارة الملونة والجص وعُثر على قطع جصية بأشكال رؤوس آدمية وأقنعة مسرحية وأشكال أزهار مثبتة على الجدران أما بالنسبة للسقف فقد كان مقوساً ومغطى بالقرميد .

ووقعت عدة منشآت سكنية وراء جدران المعبد الخلفية بالإضافة إلى مشاغل الدهان وتصنيع المعادن والمذابح ومعصرة زيتون ودرج رخامي فضلاً عن مشغل للرخام عُثر فيه على قطع من كتابة نبطية أُرخت للسنة السابعة والثلاثين من حكم الحارث الرابع أي لحوالي 26-27 ميلادي، ومن المرجح أن يكون تاريخ هذه الكتابات مرتبط بتاريخ بناء المعبد أي في حدود نهاية القرن الأول قبل الميلاد، ومع بداية القرن الثاني من الميلاد كان المعبد قد أُحرق وتهدم ثم أعيد بناؤه كمنازل صغيرة واستعمل حتى منتصف القرن الرابع الميلادي حتى تهدم في الهزة الأرضية عام 363 م .

ج. معبد قصر بنت فرعون

سُمي اختصارا بقصر البنت ولعل هذه التسمية الشعبية لمعبد الإله ذو الشرى، يقع المعبد على النهاية الغربية لوادي موسى تحت الجبل الحبيس على منصة ضخمة بمساحة 60*120 م في الساحة التي تلي البوابة التذكارية الرومانية، ويُرجح أن يكون قد بُني في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وترتفع جدران هذا المعبد إلى ما يُقارب 23 مترا، وبُنيت بوابة المعبد على شكل بوابة مقوسة، وقد كان مخطط المعبد مثيراً للاهتمام من حيث تقسيمه فقد بُني ضمن صنف صندوق في صندوق الذي بُنيت عليه الكثير من المعابد الأردنية النبطية، فيما كانت طقوس العبادة في هذا المعبد من تضحية الحيوانات على المذبح الكبير في الساحة حيث يتم حرق البخور بوصوله للسقف وعند الانتهاء من هذه الطقوس كانت تُقام وليمة فاخرة، ومن المُرجح أن يكون المعبد هو المكان المُقدس في بترا والذي تم تكريسه للإله دوشرا إله الشمس والخمر.  

تميز معبد قصر البنت بمخطط أرضي واسع وكبير كما يحيط بالمعبد باحة خارجية مربعة الشكل أو على وجه أدق قد تكون مائلة للاستطالة قليلاً كما لم يتبق من السور الخارجي إلا أساساته، كما وُجدت ثلاث حنايا صخرية على جدرانه الثلاثة بالإضافة إلى بوابته في الجدار الرابع .

زُينت الواجهة الشمالية للمعبد بأربعة أعمدة كان يُصعد إليها من خلال درج من الرخام الأبيض وأٌقيم فيها مذبح للتقدمات يقع إلى الشمال بمواجهة قدس الأقداس، كما كان الكهنة يدخلون إلى المعبد من الفناء الخارجي إلى الهيكل ثم من بين الأعمدة  ومن الجدير بالذكر أن أنصاب الآلهة كانت ترتفع على منصة في المحراب الأوسط، وفي المرحلة الثالثة أُضيفت دعامات خارجية للجدران في القرن الثالث وأُقيمت مرافق للسدنة حول المعبد، كما بُنيت قرية شمال المعبد تتألف من عدة بيوت تتوسطها ساحات مركزية وفيها حمام وظلت مأهولة حتى العصر البيزنطي .

ويوضح المخطط الداخلي للمعبد تناظراً متوازناً لأقسام المعبد حيث تقع غرفتان كبيرتان على اليمين واليسار معاً بينما تقع الغرف الأصغر إضافة إلى المخازن في عمق المعبد إضافة إلى غرفة مركزية تتوسط المعبد .

كما زُينت المنطقة المحاذية للمبنى بتصاميم حرم وأزهار هندسية بألوان متنوعة، وطُليت الأعمدة الداخلية بالحصى، ومن المُرجح أن المعبد كان مخصصاً لعبادة اللات ورُجح تاريخ بناؤه إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وقد ذكر بعض المؤرخين أن المعبد كان مكرساً لعبادة الإله ذي الشرى ولأمه العذراء وهي العزى أفروديت وتم التأكد من ذلك عن طريق أجزاء من النصب المزينة بعينين يتوسطها الأنف بالإضافة إلى الكتابات التي أكدت هذه الرواية .

تم استعمال المعبد في العصر الروماني من القرن الثاني الميلادي ثم تعرض للنهب والحرق في أواخر القرن الثالث قبل أن يضربه زلزال 363 م .

د. معبد رم  

يعد معبد رم من أهم المراكز الدينية الأردنية النبطية، ويعود تاريخ تشييده إلى القرن الأول قبل الميلاد، وقد تم بناؤه على ثلاث مراحل.

تألف المعبد من بناية خارجية بطول 35*50 م وضم مقاماً داخلياً بطول 4*5 م، وبداخله صومعة مفتوحة باتجاه الشرق تحتوي في جدرانها الثلاثة على أعمدة متلاصقة بالإضافة إلى غرف جانبية، وقد ذكرنا أنه قد تم بناء المعبد ضمن ثلاثة أطوار، حيث ظهرت الأبراج المحتوية على درج بالإضافة إلى أجزاء أخرى في الطور الأول، وفي الحقبة الأولى كانت الصومعة محاطة بممر مشكلاً ساحة ذات أعمدة مفتوحة على الغرف الجانبية، كما تم اكتشاف درج أمامي عريض وتماثيل الآلهة التي وُقرت في هذا المعبد ومن المرجح أن تكون الآلهة هي اللات قرينة دوشرا إضافة إلى الآلهة الأخرى كـ بعل شمين سيد السماوات والعزى سيدة الينابيع ويبدو أن وجودها في محله بسبب موقع المعبد القريب من الينابيع كنبع عين الشلالة، بالإضافة إلى سلسلة المياه السطحية العذبة التي تقع بين الطبقة الصخرية والجسم الحجري الرملي لمرعى جبل رم.

هـ. معبد خربة التنور

يقع معبد خربة التنور في الطريق الجنوبي بين الطفيلة ووادي الحسا حيث يبعد ما يقارب 8 كم شمالاً عن معبد الذريح ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الأول قبل الميلاد والفترة التي تليه وقد كان مكرساً لعبادة الآلهة النبطية أترغاتس إلهة السمك والحبوب والفواكه والخضار والتي زُين تمثالها بقوس كبير يبرز قرن واضح في كل فتحة من فتحاته أما الحجر الأوسط للقوس فهو لنسر مبسوط الجناحين ومن الجدير بالذكر أن التمثال نُقل إلى متحف الآثار في عمان، كما كان مكرساً لعبادة الإله حدد والذي كان يرافقه الثور في تمثاله، بُني معبد خربة التنور على تل عال ومنعزل وسط الساحة المنبسطة على رأس جبل التنور وقد تبين أن المعبد بُني كهيكل أومذبح بينما جزئه السفلي كان عبارة عن صومعة أو مقدس، واحتوت البناية الأصلية للمعبد على منصة المذبح على شكل حرف U ومن الجدير بالذكر أنه كان يتم تجديد منصة المذبح في جميع أطوار هذا البناء كما وُجد درج متسلسل يقود إلى المذبح وإلى سقف البناية السفلي، كما تم تقدير حجم المعبد بما مقداره 36*47 م والتي غطت المعبد وساحته الكبيرة مع ملاحق في الشمال والجنوب من مساحة المعبد، امتلك المدخل بوابة واحدة من الجهة الشرقية وامتلكت البوابة أعمدة متوجة من الطراز الكلاسيكي الأردني النبطي وزُين كل عمود بلوحات ورسوم لنباتات كالقمح ومنحوتات بارزة من الحجر لنساء بأغطية رأس، كما احتوى المعبد في الجهة الشرقية باتجاه مدخل المقام الخارجي والمذبح على مقام خارجي مكشوف يضم في داخله مقاماً داخلياً فريداً ومساحته 3.7*4 م، كما احتوى المعبد على العناصر الضرورية للعبادة في ذلك الوقت كالمحرقة والتي وُجد فيها لاحقا رماد وعظام لضحايا ضمن حفر في أرضية الساحة ومكاناً لحرق البخور على قمة المقام بالإضافة لركن لولائم العيد في الغرف الملحقة بالمعبد والتي تم العثور فيها على حجرات مميزة في بعض منها .

و. معبد الذريح

 يقع المعبد في الجهة الشرقية من خربة الذريح على الضفة الشرقية لوادي اللعبان بالقرب من خربة التنور وتُقدر مساحته بـ 45*115 م  محتويا على ساحتين كبيرتين وقد بُني المعبد على واحدة من هذه الساحتين بمساحة 16.8*22.8 م، كما تم الاستدلال من خلال النقوش التي وُجدت في المعبد على وجود مسؤولٍ لعين المياه والذي كانت وظيفته هي السيطرة على الزراعة والري كما عُثر على نص يعود إلى القرن السابع ما قبل الميلاد، ومن الملفت بهذا المعبد هو واجهته الأمامية ذات التصميم والزخرفة الجمالية والدقيقة، كما تم العثور على عشرين معبد أردني نبطي شعبي لخدمة الأردنيين الأنباط وتسهيل عباداتهم .

ز. معبد التوانه  

جرت تسمية هذا المعبد تيمناً بمكان وجوده، وله عدة تسميات كمعبد ثونا باليونانية أو باللاتينية ثورنيا، ويقع هذا المعبد شمال شرق العاصمة الأردنية النبطية بترا على الطريق الروماني، وجُسدت بقايا البناء بالمعبد بمساحة 20*23.6 م والذي بُني داخل حصن بقياس 86*113 م، كما احتوى المعبد في الجهة الشمالية على ثلاث غرف مستطيلة ذات أبواب تتوسطها الغرفة الكبيرة كما ارتبطت هذه الغرف مع بعضها بأبواب داخلية، ومن الجدير بالذكر أن المعبد بُني على الطراز النبطي كمعبد القصر .

ح. معبد ذات الرأس  

يقع معبد ذات الرأس في شمال وادي الحسا ويُعد أصغر المعابد الأردنية النبطية هناك، حيث قُدرت مساحته بـ 9.85*31.85 م ويمتلك مدخلاً جنوبياً محاطاً بمحراب على الجانبين، اقتصر تصميم المعبد على مقدمة المعبد التي تظهر لنا عند الدخول من البوابة والمقام ومساحتهما 3.70*2.40 م، وبأقصى شمال المعبد يقع المقدس بمساحة 2.73*6.22 م أما بقية أجزاء المعبد فقد اقتصرت على البوابة الجنوبية التي تحتوي على ثلاثة مداخل .

ط. معبد مُحي  

عُرفت هذه البناية على أنها معبد لأنها امتلكت خصائص بناء المعبد الأردني النبطي على غرار معبد القصر، ويقع على المنحدر الأسفل لتلة واقعة شمال وادي الحسا على مساحة 12*23 م، تركزت المداخل الثلاثة في الواجهة الشرقية بالإضافة إلى برج سّلمي بعرض 4.05*5.5 م على الزاوية الشمالية الشرقية للمعبد، أما المعالم الداخلية للمعبد فلم يوجد أية بقايا للمعبد ما عدا البرج السّلمي والجدار الخلفي الذي تم تشييده لاحقاً .

ي. معبد قصر الربة  

يعد معبد قصر الربة من البنايات التي تم تعريفها لاحقاً بالمعبد، يقع هذا المعبد المعزول في قلب مؤاب شمال الربة، وقد تم بناء المعبد بعناية ودقة عالية حيث استُخدمت الحجارة الكبيرة مربعة الشكل وقُدرت مساحة البناية 27*31.60 م، وقسم إلى ثلاثة أقسام وصومعة بثلاثة مداخل، إلا في الجهة الجنوبية اذ احتوت واجهته الرئيسية على مدخلين وُضعت في رواق معمد عميق من أربعة أعمدة، كما احتوت الواجهة الأمامية على أبراج سَلمية، أما الأجزاء الداخلية للمعبد فقد كان تقسيمها ثلاثياً مشابهاً لمعبد التوانه .

ك. معبد ماعين  

تم الاستدلال على هذا المعبد بناءً على الزخرفة التي احتوت عليها البناية كما استُخدمت حجارة المعبد الكبيرة في بناء جدار بسيط في ماعين جنوب مادبا، ومن الأجزاء الباقية في هذا المعبد وُجد عمود مستطيل متوج مع بقايا قرنين وتمثال لرأس صغير متكسر وكان هذا التمثال مشابهاً للتماثيل الموجودة في المعابد الأردنية النبطية في السويداء وسيع وخربة التنور مما يُرجح أنها كانت أماكن تعبدية لنفس الإله .

ل. معبد السويداء  

احتوى معبد السويداء على جميع العناصر الرئيسية للمعابد الأردنية النبطية كالمقدس والصومعة بالإضافة للجدران المقسمة من حوله كما امتاز بعدد الأعمدة التي يمتلكها والتي احتضنت الصومعة، ومن الجدير بالذكر أن ترتيب رؤوس الأعمدة غير معروف كثيرا في القسم النبطي الجنوبي ولهذا السبب حمل الجزء السفلي للرأس صفين من أوراق الإقنثا، كما احتوى المعبد على جدار خارجي على شكل بهو معمد.

م. معبد أم الجمال 

اقتصرت أدلة التعرف على هذا المعبد الأردني النبطي الصغير الذي يقع في الزاوية الجنوبية الغربية لمدينة أم الجمال على واجهة بعمودين ولا تتوفر معلومات أوفى عنه.

ن. معبد جرش  

على الرغم أنه لا يوجد لحد الآن أية آثار على وجود مستعمرة أردنية نبطية في جرش، لكنها كانت تحمل اسم جرشو في نقش عُثر عليه في بترا بالإضافة إلى اكتشاف بقايا معبد بُني على الطريقة النبطية في جرش، وقد أكد على ذلك العديد من القطع النقدية الأردنية النبطية والتي عُثر عليها في أعلى جزء من مدينة جرش حيث وُجد المعبد، وقدرت مساحة المعبد الصغير الأصلي بـ 24*27 م كا اكتُشفت بقايا لثلاثة أعمدة وأجزاء لجداري المعبد الواقعة في النصف الشرقي من التيمونس، كما توسط المذبح الساحة وامتلك الرواق أربعة أعمدة بالإَضافة إلى قبو يُرجح أنه كان مكاناً للدفن أسفل الرواق، أما خلف الصومعة كانت هناك مساحة صغيرة شكلت المقدس، وفي الجانب الشمالي للساحة هناك سلسلة من الغرف الصغيرة متعددة الاستعمالات كغرف  للتخزين وللنوم، ومن الأمور التي دعمت هوية هذا المعبد أنه بُني على شاكلة المعبد ثلاثي الأجزاء في مؤاب .

س. معبد ذيبان  

تم ذكره في التوراة بمعبد ديبون ويقع إلى الشمال من قصر الربة، وتم بناؤه بجانب جدار مصطبة، تكون المعبد من حظيرة خارجية بمساحة 14.5*15.5 م يتم الصعود إليها من خلال سلمين عريضين يقودان إلى مقدمة المعبد والصومعة ذات التقسيم الثلاثي وإلى واجهته ذات العمودين، كما وُجد مدخلٌ يقود إلى المقام بمساحة 13*5 م، كما تم العثور على غرف سفلية ذات سقوف مقببة أسفل الصومعة على ما يبدو أنها كانت تستخدم كممر سري، كما احتوى المعبد على درج عريض في واجهته، واثنان من السلالم العريضة التي تقود إلى مقدمة وواجهة المعبد ذي العمودين، ومن الجدير بالذكر أن مخطط هذا المعبد متأثر بشكل كبير بمخطط معبد قصر البنت بحيث يمتلكان نفس مساحة المقدس الواسع بالإضافة إلى الصومعة ثلاثية الأقسام .

ع. معبد عبدة  

يقع المعبد في النقب ومُقام على جدار مصطبة ضخمة مع برجين ذا أدراج واقعة في الزوايا الشمالية الغربية والجنوبية الغربية للمصطبة التي تطل عليه، كما تكون البرج السُلمي من رصيف “ركيزة، دعامة” محاطة بصفوف الدرجات للسلالم والفسحات بين الدرجات والتي من خلالها يقودنا الدرج العلوي إلى رواق واسع يشغل الجزء الغربي لجدار المصطبة، وقد تم إعادة تكريس المعبد في منتصف القرن الثالث بعد الميلاد لزيوس كما اتضح من العديد من النقوش التي اكتُشفت في منتصف القرن الرابع بعد الميلاد، وقد تم هدم المعبد وبناء كنيسة في الجزء الشمالي منه .

ف. المقامات  

تعتبر المقامات من الأماكن التابعة للمعابد وعلى أية حال من المُرجح أن تكون معابد بدائية أو مزارات توضع فيها أنصاب تدل على العبادة وربما كان هناك غرفة واحدة للتعبد، ومن أهم المقامات هو مقام القمر على جبل عطوف الذي زُينت واجهته عمودان مخروطيان ينتهي بقمة كل منهما هلال، وربما كان هذا المكان لعبادة القمر .

ص. سبيل الحوريات  

يُعد سبيل الحوريات معبداً لآلهة المياه العذراوات بنات الإله أوقيانوس، وفي الحقيقة هناك سبيلان للحوريات أحدهما شمالي والآخر جنوبي يقعان في وسط العاصمة الأردنية النبطية بترا في الوادي الواسع الذي يفصل بينهما جبلا الخبثة والمذبح وجبلا الدير وأم بيارة، والذي يُعدان امتداداً لوادي فرسا ووادي الثغرة .

تكون سبيل الحوريات من نافورة على شكل عين ماء متدفقة مخصصة للعذراوات آلهة الينابيع وعيون الماء (النيمفات) وكان هذا المكان بمثابة أماكن سكن وعبادة لهن حيث جمعت في تكوينها المعماري بين المغارة والمنزل وعين الماء والمعبد، كما اكتُشف بقايا معبد أو هيكل صغير أمام السبيل .

ق. الأماكن المرتفعة “المعلاّيات”  

تعد المعلايات أحد الأماكن التعبدية البارزة وهي عبارة عن مساحة كبيرة ذات شكل بيضوي محفورة في جبل في وسطها مذبح للعطايا، ويتكون المذبح من مسلتين صخريتين تشيران إلى الإله دوشرا والإلهة العزى وكان المذبح بكامل مكوناته يشبه معبد الأضاحي المكون من بناية لها أبراج وحصن ومكونة من غرف وفناء مكشوف محاط من ثلاثة جهات بمصاطب مقطوعة من الصخر وخزان صغير للماء ومن أحواض القرابين والمسلات . وهناك عدد من المعلاّيات الأردنية النبطية في البترا أهمها معلى القرابين على جبل المذبح الذي يمكن الوصول إليه عن طريق المواكب النبطي الذي يبدأ بالصعود قرب المدرج مروراً بوادي المحافر .

ر. المسلات

كانت المسلات عبارة عن أنصاب عمودية ذات أربع وجوه تستدق قليلا كلما ارتفعت بالإضافة إلى بعض الخطوط والحزوز العرضية وانتشرت المسلات في أنحاء البترا وقد حمل بعضها كتابات ونقوش كما أن لبعضها قاعدة مدورة، ويقع ضريح المسلات على الجانب الأيسر من الطريق المؤدي إلى باب السيق، اذ انتصبت أربع مسلات أمام الضريح حمل بعضها كلمة الرقيم وهو الإسم السامي للبترا، وكانت الأنصاب في الغالب دلالة على وجود المقابر الأرضية أو المرتفعة بين الصخور .

ش. الموتاب  

ويُقصد بالموتاب  قاعدة عرش الإلهن وقد تم عبادتها كشيء بارز للإله يدعو إلى الوقار والإحترام ذلك لإن الإله نفسه روحي لا يمكن تصوره، وقد تم ذكر قاعدة عرش دوشرا مرتين في النقوش الأردنية النبطية، والذي شكل تطابقاً مع النصوص المدونة على ضريح التركمانية في البترا، والذي يسمى دوشرا “إله سيدنا وقاعدة عرشه (موتابه) المساوية لكلمة (حريشا)” واشتقاق كلمة موتاب من الجذر يتب بمعنى يجلس، كما فُسرت كلمة حريشا بمعناها المحروس أو المحص، وتُعد مقارنتها مع الكلمة العربية حرس صحيحة كما أنها تُعطي معنى الديوان أيضاً.

ت. النُصب  

قد يُطلق عليها المنحوتات وهي عبارة عن حجارة منحوتة تشير إلى إله أو مركز وقد تكون أيضاً منحوتات بلا ملامح أو على شكل حيوانات دالة وقد اكتُشفت العديد من النصب في البترا.

نصب الأسد

 يقع باتجاه الإنحدار من معلّية المذبح إلى وسط المدينة باتجاه وادي فرسا، وهو عبارة عن أسد كبير تخرج من فمه نافورة ماء، ويشير إلى الإلهة العزى حامية المدينة .

نصب الأفعى  

تنتصب الأفعى الحجرية على قاعدة صخرية مربعة الشكل في وادي الثغرة وتشير إلى الآلهة الأم ومن المرجح أن تكون اللات أو العزى .

نصب النسر

ويقع فوق التلة التي تمر من نفق المثلم على اليمين منحوتاً على كوة ومنفرشاً في وسطها، إلا أنه غير واضح المعالم وربما أشار هذا النصب إلى الإله دورا إله البترا .

زب فرعون  

وهو نصب حجري يقع خلف المعبد الكبير في البترا وقد شاعت هذه التسمية الشعبية له وربما أشار إلى الإله دوشرا .

ث. المسجدا (الكوة)

يسمى محراب العبادة لدى الأردنيين الأنباط مسجدا وتعني هذه الكلمة المكان المقدس أو الهيكل وهي عبارة عن حنايا حجرية وكوى بيضوية ومستطيلة داخل جدار أو صخرة تشبه المحراب ونُحتت فيها رموز أو أشكال الآلهة وقد وُضعت فيها تماثيل الآلهة وانتشرت هذه الحنايا في البترا وفي السيق البارد حيث عُثر عليها في الصخور المتصلة بجبال أو الصخور المنفصلة، وفي السيق البارد هناك عدد كبير من الحنايا للإلهين ذو الشرى والعزى واقفين بين فهدين وذُكر فوقهما اسم التاجر الذي تبرع بنحتهما وهو سابينوس الكسندروس .

خ. المغارات

وهي عبارة عن كهوف اتخذها العابدون أماكناً للتنسك والزهد وعملوا على تطوير شكلها البدائي ليجعلوه ملائماً لعبادتهم وسكنهم بما يروه مناسباً من رموز وإشارات ومنحوتات وأشكال الآلهة، ومن أشهر المغارات في البترا مغار النصارى الذي يقع غرب منزل دورثيوس وقد تميز بصلبان محفورة على الجدران .

ألواح الجن

تعتبر هذه الألواح نوعاً من الأنصاب الحامية للمدينة لأنها تشير إلى الإله دوشرا حامي المدينة، ومن المُعتقد أن تكون استخدمت أيضاً كخزانات مياه إلا أن هذه النظرية ضعيفة لعدم اتصالها بقنوات تدخل وتخرج المياه منها، وقد تعددت تسمياتها حيث كانت تسمى بصناديق الآلهة لاعتقاد الأردنيين الأنباط بوجود قوة روحية فيها كالجن والتي احتلت مرتبة تلي مرتبة الآلهة عند الشعب الأردني النبطي، وتعد ألواح الجن أو الصهاريج كما شاعت تسميتها بأنها أضرحة ناقصة وتوجد في عدة أماكن في العاصمة الأردنية النبطية بترا، لكن يقع أوضحها على يمين الطريق المؤدي للسيق حيث يبدو الصهريج الأول كشكل الصندوق الحجري، زُينت واجهته بأشكال مثلثة تشير إلى الرمز النبطي المسمى بعلامة الغراب، كما زُين اللوح الثاني بأعمدة ذات غطاء، ويعلو اللوح الثالث قبة مضلعة صغيرة .

فن التصميم الداخلي للأردنيين الأنباط

من الممكن ملاحظة أن العناصر الزخرفية لم تقتصر فقط على النُصب والمنحوتات وإنما وصلت أيضاً إلى البيوت والحجر في البيوت الأردنية النبطية، وكانت هذه العناصر تجسيداً لواجهات وتفاصيل معمارية تمثلت في فتحات الأبواب والإطارات المحيطة بها، ومن الواضح أن الفنان الأردني النبطي الذي صمم هذه الديكورات كان يأخذ بعين الاعتبار مساحة المكان وكلفة التصميم إلى حد ما، ومن الأمثلة النادرة على التصميم الداخلي للبيوت الأردنية النبطية الغرفة التي تقع ضمن مجموعة غرف لمنزل على سفحة مزينة بنبات الصبار و خط طولي من أزهار الدفلى ومطل على وادي الصيغ وسط البترا، كما اعتبرت من أساليب التزيين النادرة التي وصلت إلينا من هذه الحضارة الشيقة، ومن الأمور التي تُؤخذ بالحسبان هي مكونات الألوان التي احتفظت بقوة ألوانها على مدى 2000 سنة، ومن المُعتقد أنه تم استنباط اللون الأحمر من برادة الحجارة التي تحتوي على تركيز عالٍ من أكسيد الحديد، بينما اللون الأصفر فقد تكون من خليط من المعادن أبرزها الكبريت والحديد، أما اللون الأسود الذي نجده في الخطوط الرفيعة فقد تم الحصول عليه بسهولة من خلال الكربون الناتج عن تفحم الحطب أو عظام الحيوانات، وبالنسبة لللون الأخضر فيُعتقد أن الأردنيين الأنباط قد جلبوه من مناجم النحاس في منطقة خالد الواقعة في وادي فينان في عربة .

سيأتي يوم يستحدث فيها الإنسان الحديث أسلوباً يسمح لنا بسماع صوت الأزاميل وهي تنحت في الصخر فنطرب على هذا اللحن الخافت والذي أتى من عمل شاق في حلبة صراع بين عظام الرجال وصخر الجبال، سيأتي يوم نستشعر فيه المزيد عن عظمة هذا الشعب وقوة يديه التي عظم وجودها وعَلا صداها في الأرض .

المراجع

  • عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ، ط1 1987 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • أبو حمام ، عزام ، الأنباط تاريخ وحضارة ، ط1 2009 ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون ) ، ط1 2012 ، دار النايا ، دار المحاكاة ، سوريا ، دمشق .
  • العجلوني ، أحمد ، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، ط1 2002 ، بيت الأنباط ، البترا ، الأردن .
  • المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، ط1 2009 ، وزارة الثقافة ، عمان ، الأردن .

سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط – الجزء الرابع

مقدمة

اهتم الأردنيون الأنباط بفن العمارة بشكل واسع، وهذا ما يؤكده الإرث العمراني الضخم الذي خلفوه، وما يزال قائماً حتى يومنا هذا بكل شموخ وصلابة، وحيث أن عمر الحضارة الأردنية النبطية امتد على مدى قرون، فقد كان الفن المعماري النبطي متباينا، ومتطوراً باستمرار، حيث بلغ من البذخ في ذروة هذه الحضارة، ما سبق حضارات استعمارية ضخمة، ونورد في هذا البحث ملامح هذا الفن العظيم الذي أولاه أجدادنا الأردنيون الأنباط اهتماما منقطع النظير، بطريقة تساهم في تعزيز فهم القارىء لما يراه ماثلا بعينه من إرث عمراني يشكل قفزة ضخمة في فن العمارة على مستوى البشرية.

في هذه البحث من إرث الأردن تقرؤون الجزء الثالث من سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط.

أنماط وسمات الهندسة المعمارية عند الأردنيين الأنباط

جرت عمليات البناء لدى الأردنيين الأنباط ضمن أُطر محددة بتناغم مع الطبيعة والعوامل البيئية فضلاً عن نوعية المكان والذي بدوره أغنى هذه الحضارة ومنحها هويتها الحضارية التي تميزت بها عبر باقي العصور السابقة واللاحقة، وكما ذكرنا سابقاً فقد قُسمت العمارة في الحضارة الأردنية النبطية إلى قسمين رئيسيين الأول يختص بالعمارة الدنيوية أما الثاني يختص بالعمارة الدينية وفيما يلي تفصيلٌ عن القسم الأول منها.

العمارة الدنيوية في الحضارة الأردنية النبطية :

  1. العمارة السكنية

تُعد العمارة السكنية من أهم أقسام العمارة الدنيوية لدى الحضارة الأردنية النبطية لغناها الذي بدوره تميز بإبراز الهوية الحضارية للأردنيين الأنباط

أ- فئة القصور والمساكن الكبيرة : اتصفت هذه المساكن بأنها كانت فارهة جداَ لتفي بمتطلبات فئة قليلة من المجتمع الأردني النبطي، اذ اقتصرت على فئة رجال الدولة وكبار التجار، وجرى تقسيم هذه المساكن لتتضمن عدة حُجر منها للجلوس وللنوم بالإضافة إلى غرف الخدمات كالمطابخ والحمامات التي تتكون من مرجان صغير وموضع للغُسل أُنشئ في صُلب الجدار وقريباً من مدخل الحمام وغرف التخزين، كما زُودت هذه القصور بنظام مائي متطور يتناسب وفخامة القصر، وتُعتبر العاصمة الأردنية النبطية البترا أحد أهم الأماكن التي تتواجد فيها هذه الفئة بكثرة، أما بالنسبة للمساكن الكبيرة أو ما تُعرف بالفيلا فقد انتشرت في القرى والمدن الجنوبية في الأردن وتختلف عن فئة القصور الكبيرة بأنها قُسمت إلى ثلاثة أقسام هي قسم الاستقبال وقسم الخدمات وقسم العائلة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الفئة من المساكن كانت مزودة بآبار لتخزين مياه الأمطار.

كما لوحظ أن الأردنيين الأنباط قد بنوا البيوت بشكل متلاصق أو متقارب لاشتراكها بالسطوح بالإضافة إلى الفناء الداخلي أو ما يُعرف بالحوش وهي ساحة مفتوحة على السماء الذي تتفتح عليه الغرف ومرافق المنزل مع درج خارجي يؤدي إلى الأدوار العليا، حيث كان الحوش يمثل لقاء العائلة الأردنية النبطية وحياتها المشتركة، أما النوافذ فقد صُممت مرتفعة عن الفناء الداخلي ومطلةً على الخارج، أما الأبواب فمنخفضة ومصنوعة من الخشب، كما دلت بعض الأبحاث على أنهم لم يضعوا أبواباً للغرف الداخلية، حيث كانت بعض هذه المساكن تحتوي على اصطبلات ومزاود، ومثال على فئة المساكن هذه قصر كرنب في النقب والعديد من المساكن في الحميمة .

ب- فئة البيوت التي نُحتت في الصخور

 لعل هذه البيوت هي من شكلت هوية الأردنيين الأنباط وعبقريتهم في النحت، وقد كانت البترا والسيق البارد محطاً لهذا النوع من البيوت الأردنية النبطية، ومن الجدير بالذكر أن هذه البيوت نُحتت بتناغم مع طبيعة المغاور والكهوف والتي حولها الأردنيين الأنباط بمهارة بنائيهم إلى بيوت أشبه بخلايا النحل، ومن الطبيعي أن تختلف أحجام هذه البيوت بحسب حجم المغارة والتي شكلت نُواة المنازل الأردنية النبطية، ومن البيوت المنحوتة الجديرة بالذكر البيت المصبوغ في السيق البارد قرب البيضا، حيث يُصعد إليه بمدرجات وسلالم قصيرة ويتكون من غرفة واسعة  أحيطت بغرف صغيرة واحدة منها بالعمق وقد زُينت برسوم وزخارف نبطية، والمنزل الذي يقع مقابل مسرح البترا والذي تميز بمساحته وبمنعته وبجدرانه المكسوة والمصبوغة في بعض المرافق، وقد عُثر تحت أرضيته على بعض الفخار النبطي، وكان ارتفاعه ثلاثة أمتار.

ج- فئة المساكن الريفية (مساكن المزرعة)  كان المسكن الريفي عبارة عن مجمع كبير يضم وحدات سكنية ومخازن واصطبلاً وساحات متعددة، كقصر الكرنب في النقب كما وُجد هذا النوع من المساكن في الحميمة وكان مؤلفاً من ثلاث أو أربع غرف حول ساحة مكشوفة وقد زُينت بزخارف بسيطة والتي عكست حالة المزارعين الاجتماعية والمادية .

د- فئة المساكن البسيطة  شكل هذا النوع غالبية مساكن الأردنيين الأنباط، والتي انتشرت بكثرة في الحميمة  واقتصرت على غرفتين أمامهما ساحة مكشوفة.

هـ – فئة المساكن ذات الصفة العامة  وكان هذا النوع من المساكن مصمم للأمور الخدماتية كخدمة كهنة وزوار المعابد، وانتشرت هذه المساكن في وادي رم والذريح .

2. عمارة المرافق العامة

اعتبرت العاصمة الأردنية النبطية البترا أبرز مثال على مثل هذا النوع من المباني كونها ضمت جميع أنماط المباني العامة إضافة إلى المباني الخاصة، وقد بُنيت المباني العامة وفقاً لمخطط المدينة العام حيث الشارع الرئيسي والشوارع الفرعية فضلاً عن الشوارع ذات المسارين، والشارع المحاذي للوادي والذي قسم المدينة إلى نصفين حيث لم يقف عائقاً أمام المهندس الأردني النبطي الذي بنى قنوات المياه في أسفله، وكذلك الأقواس الحجرية التي ترتفع عن سيل الوادي في فصل الشتاء، كما يمكن ملاحظة بعض من آثارها في الشارع الرئيسي بعد الانتهاء من شارع الخزنة .

أ. عمارة الحمامات

كان اهتمام الأردنيين الأنباط واضحاً بالحمامات بحكم قدرتهم على استنباط شبكات الري وتخزين المياه، ومن الجدير بالذكر أن الحمامت تختلف عن سبيل الحوريات بحكم أن سبيل الحوريات كانت أقرب إلى المعابد المائية لآلهة الينابيع الحوريات.

وهناك حمامان واضحان يقعان على شارع الأعمدة في وسط البترا، الأول صغير نسبياً ويقع على يمين البوابة الثلاثية مباشرة، أما الحمام الكبير والذي سُمي بالحمام البيزنطي فيقع على يسار الشارع المعمد وقد صنفه بعض الباحثين على أنه برج بيزنطي، وقد كانت جدران الحمام تحتوي على كوى لوضع المصابيح بالإضافة إلى الأعمدة الناتئة من الجدار والتي كانت تحمل تاجاً كورنثياً، كما وُجد في الحمام الكبير ثلاث غرف للبخار الحراري إحداها مدورة ومزودة بفرن .

ب. المسرح الأردني النبطي

بنى الأردنيون الأنباط المسرح في نهاية شارع السيق الخارجي في البترا، ثم أعاد الرومان استخدامه عام 106م، ويحتل المسرح مكاناً مطلاً على شارع السيق الخارجي حيث يقع خلفه مجموعة كبيرة من القبور والأضرحة، وتم تصميمه بشكل مقوس أو نصف دائري قُسمت مدرجاته إلى ثلاث أقسام بواسطة ممرات قوسية بالإضافة إلى منفذ دائري كما قُطعت مقاعده في الصخور الرملية بحوالي 700 مقعد، وبُنيت المنصة التي تقام عليها العروض كسطح صخري بالإضافة إلى ممران على أجنحة مكان العرض .

وقد أدى زلزال عام 263 م إلى تصدع جزء كبير وهدم القليل من المسرح، كما أدى إلى تحطيم واجهات بعض الأضرحة .

3. عمارة المداخل في الحضارة الأردنية النبطية

كانت المداخل تشكل بدايات الشوارع المؤدية إلى مركز المدينة، ويتم تمييزها من خلال بناء قوس النصر الذي يؤدي إلى باقي أجزاء المدينة وينظم شكلها وانقسمت العاصمة الأردنية النبطية البترا إلى مدخلين

أولهما : مدخل السيق  “باب السيق” حيث يمثل مدخل السيق نوعا من المداخل الطبيعية التي صنعتها الطبيعة وشذبها الإنسان، حيث ربط هذا المدخل الطريق المؤدي إلى سيق البترا بالسيق الداخلي كما عمل على تنظيم حركة الداخلين إلى المدينة، ويُعتقد أن المدخل كان قائما حتى سنة 1896 م.

وثانيهما : مدخل الشارع المعمد حيث ربط الشارع المعمد شوارع مركز المدينة وساحة قصر البنت، إذ احتوى هذا الشارع على الأسواق والحمامات والملاعب الرياضية، كما زين المدخل قوس تذكاري وأغلق المدخل بمصاريع خشبية، وكانت هذه البوابات تُبنى كشاهد تذكاري على نصر، في حين تميزت البوابة بطابع روماني حيث كانت مزينة بالرسوم والنقوش الرومانية والنبطية والتي تعلوها العقود والتيجان ذات الأعمدة المزينة بأشكال مختلفة، وقد كان هذا المدخل بأكمله نوعا من المداخل الاصطناعية التي بناها الإنسان .

4. عمارة الساحات العامة في الحضارة الأردنية النبطية

كانت الساحة بمثابة مكان يتجمع فيه الناس، وقد كانت ساحة السوق أو ساحة الندوة التي تلت البوابة التذكارية بالقرب من معبد البنت أشهر مثال على الساحات العامة في هذه الحضارة، حيث زودت بمصاطب حجرية ومدرجات ومقاعد على جانب جدار الساحة الجنوبي كما يُرجح بناء هذه الساحة في بداية القرن الميلادي الأول .

5. عمارة الشوارع في الحضارة الأردنية النبطية

كانت الشوارع بصفتها العامة واسطة لربط الأماكن ببعضها، وقد اقتصرت على ثلاث شوارع مختلفة عن بعضها بالتصميم تبعا لموقعها .

أ. الشارع المعمد   

بني الشارع المعمد في حدود العام 106م، إلا أن الأرصفة الأردنية النبطية تشير إلى تاريخ يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ويمتد الشارع المعمد من ساحة قصر البنت في وسط البترا إلى نهاية السوق كما يسمى بالشارع المبلط بسبب رصفه بالطابوق، يُقدر عرض الشارع المعمد بستة أمتار وتمتد على أرصفة الشارع مجموعة من الأعمدة ذات التيجان  ويُرجح أنه كان مكاناً لعرض المواد التجارية إضافة للقصر الملكي والحمامات والأبنية الرياضية .

ب.شارع الواجهات 

يبدأ هذا الشارع مع السيق الخارجي أمام واجهات الأضرحة الملكية التي يبلغ عددها 44 ضريحاً، ويتفرع من هذا الشارع طرق فرعية عديدة غير مبلطة، لم يتحدد غرض استخدام هذا الشارع بسبب غياب ملامحه، و يُرجح أنه كان للعربات والخيول والقوافل التي تمر عليه .

ج. السيق

يبلغ طول السيق كيلومترين وهو شارع طبيعي يفصل بين جبل الخبثة والمذبح، وهو عبارة عن ممر وشارع بين صخور عمودية مهولة تكاد تتلامس مع بعضها إذ ما نظرنا للأعلى، وتقع على جانبي الطريق قناة مياه فخارية كما نشاهد حنايا صخرية ترمز للإله ذو الشرى والإلهة العزى .

6. عمارة الأسواق الأردنية النبطية

كانت الأسواق الثلاثية المطلة على الشارع المعمد مثالٌ واضح على النشاط التجاري الذي امتاز به الأردنيون الأنباط في حضارتهم، فقد سيطروا لفترات طويلة على التجارة التي ربطت الشرق بالغرب، حيث كان نشاطهم التجاري واسعا ليشمل البخور والتوابل وغير ذلك من السلع التجارية التي كانت منتشرة أبان حضارتهم، تقع الأسواق التجارية على يسار الشارع المعمد وهي السوق الأعلى والسوق المركزي والسوق الأسفل، وتميز السوقان الأعلى والأسفل بضخامتهما وشكلهما المربع والمستطيل .

7. عمارة مبنى الألعاب الرياضية في الحضارة الأردنية النبطية “الجمانيزيوم”

اقتصرت الألعاب الرياضية على مبنين ألا وهما الجمانيزيوم الأسفل ويقع على يسار البوابة التذكارية دخولا إلى الشارع المعمد وهو الأكبر، بينما يقع الجمانيزيوم الأعلى الأصغر منه بمحاذاته ويفصل بينهما مبنى صغير آخر .

ومن الجدير بالذكر أن الأردنيين الأنباط لم يغب عن أذهانهم بناء المسبح والذي يقع بجانب المعبد الكبير للبترا، ويُرجع تاريخ بنائه إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد .

المراجع

  • عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ، ط1 1987 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • أبو حمام ، عزام ، الأنباط تاريخ وحضارة ، ط1 2009 ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون ) ، ط1 2012 ، دار النايا ، دار المحاكاة ، سوريا ، دمشق .
  • العجلوني ، أحمد ، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، ط1 2002 ، بيت الأنباط ، البترا ، الأردن .
  • المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، ط1 2009 ، وزارة الثقافة ، عمان ، الأردن .

سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط – الجزء الثالث

مقدمة

اهتم الأردنيون الأنباط بفن العمارة بشكل واسع، وهذا ما يؤكده الإرث العمراني الضخم الذي خلفوه، وما يزال قائماً حتى يومنا هذا بكل شموخ وصلابة، وحيث أن عمر الحضارة الأردنية النبطية امتد على مدى قرون، فقد كان الفن المعماري النبطي متباينا، ومتطوراً باستمرار، حيث بلغ من البذخ في ذروة هذه الحضارة، ما سبق حضارات استعمارية ضخمة، ونورد في هذا البحث ملامح هذا الفن العظيم الذي أولاه أجدادنا الأردنيون الأنباط اهتماما منقطع النظير، بطريقة تساهم في تعزيز فهم القارىء لما يراه ماثلا بعينه من إرث عمراني يشكل قفزة ضخمة في فن العمارة على مستوى البشرية.

في هذه البحث من إرث الأردن تقرؤون الجزء الثاني من سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط.

أنواع المساكن والأبنية في الحضارة الأردنية النبطية

بيوت الشعر أو الخيام 

انتشرت بيوت الشعر بشكل واسع على أطراف المملكة الأردنية النبطية، في مناطق البادية، حيث كان سكان البادية الأردنية النبطية يسكنون هذه البيوت، وقد ورثتها العشائر الأردنية إبان الاحتلال العثماني، وكانت وسيلة فعالة لمقاومة هذا الاحتلال، والتأقلم مع الوضع القائم الجديد.

وقد اختلفت  بيوت الشعر بناءً على عدة اعتبارات، فنجد أن بيوت الشعر تختلف عن بعضها البعض من حيث سعتها وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثرائه، كما يتم قطع الخيمة إلى نصفين قسم المحرم وهو للنساء وإذا كان المحرم كبيراً يتم تقسيمه على عدد الزوجات وأم وأخوات صاحب البيت إن وُجد، وقسم المضيف أو المجلس وهو للرجال والضيوف ولباقي أفراد الأسرة في الحالة الطبيعية، ثم إذا كان صغيرا يتم قسمه إلى قسمين هما الربعة والمحي وهذا التقسيم يكون بواسطة الحواجز المصنوعة من القصب أو المنسوجة من الشعر وهي المُسماة بالقطع أو الساحة، كما تأتي الخيام على عدة أشكال وتختلف في مادة التصنيع فنجد الخيام المصنوعة من شعر الماعز هو الأكثر تفضيلاً لقدرته على مقاومة الظروف المناخية المختلفة، كما تُصنع الخيام من وبر الجمال أو صوف الضأن وتسمى بالخباء وترتكز على عامودين أو ثلاث وقيل أن الخباء من الوبر والصوف وهو من دون مظلة أوما يُشار له الآن بالسقف، وعادة ما تتميز خيمة شيخ القبيلة أو كبيرها عن غيرها من الخيام كونها قِبلة للضيوف واللاجئين وأصحاب الحاجة الذين غالباً ما يستدلون عليها من شكلها وحجمها كما كانت خيمة شيخ القبيلة منتدىً لأبناء القبيلة ومركزاً لعمل الشيخ الذي يدير شؤون قبيلته من خلالها، وفي بعض الحالات كان بعض الشيوخ يجعل لخيمته قبباً خاصة من الجلود “الأدم” والتي تُعتبر إشارة على التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه، وغالباً ما تقع خيمة الرئيس وشيخ القبيلة متوسطة لمجموعة من الخيام المتناثرة ومن الجدير بالذكر أنه لم يصلنا أية آثارعن نوع وكم الخيم أو أنماط المساكن فيها، لأن المواد المستخدمة في بناء هذه الخيام من شعر وصوف أو حتى الحلقات المعدنية التي كانت تُستخدم لتثبيت الخيام في الأرض لا تصمد في الصحراء أكثر من عشر سنوات.

الكهوف والمغاور

إن أكثر ما عُرف عن الأردنيين الأنباط وبحسب المصادر الواردة التصاقهم بالكهوف، فمساكن الكهوف كانت معروفة في البلاد منذ أقدم العصور، كما يُقال أن الأردنيين الأنباط كانوا يسكنون الكهوف في الشتاء وينصبون  الخيم في الصيف كما وُجد في بعض القرى النبطية كهوفاً لعائلات بعينها وفي الفترات اللاحقة بنوا فوق الكهوف بيوتهم، كما استُخدمت الكهوف لأغراض السكن وتخزين الحبوب والسكر أو لإيواء المواشي وامتازت هذه الكهوف بارتفاعها عن مستوى الأرض ربما لأسباب دفاعية، كما تحتفظ بعض الكهوف في جبال الشراة ببعض من الخربشات والرسوم التي تُمثل المراحل التي استوطن فيها الأردنيون الأنباط هذه الكهوف، كما عُرفت الكهوف باسماء متعددة تبعاً لحجمها أو شكلها مما يدل على أهميتها لدى سكان المنطقة، وأكبر هذه الكهوف هو “البد” يليه “المغارة” ثم “الكهف” والتي كانت تصلح لسُكنى الإنسان، أما التي كانت تستخدم لأغراض أخرى غير السكن ولم يكن ليَد الإنسان فيها أي أثر فهي الشقيف واللجف تليها السلع .

حجرات وبيوتات الحجارة الغشيمة

لا تزال بقايا هذه الأبنية ظاهرة للعيان في جنوب الأردن التي تهدم معظمها أو تُرك بعد تطور الحياة وتتلخص فكرة هذه البيوتات التي تتكون من حجرة واحدة أنها كانت بيوتاً موسمية تُسكن في فصلي الصيف والربيع تأتي إليها الأسرة لأسباب اقتصادية تقتصر على جمع الحصاد من الحقول أو قطف الثمار وحراسة المحصول، قبل أن تعود إلى حياتها في البيوت الحجرية في القرى والمدن أو إلى بيوت الشعر في البادية.

ويمتاز البيت الحجري بالكثير من المميزات التي تجعل منه منزلاً موسمياً مفضلاً فهو أقل تكلفة من حيث الإنشاء، إذ أنه لا يتطلب أكثر من جمع حجر الغشيمة ثم رصفها وبنائها فوق بعضها إذ أنها لا تتطلب أدنى قدر من المهارة كما تجري عمليات البناء بدون استخدام الملاط في أغلب الأوقات، أما السقف فيتم بناؤه من تجميع أوراق الشجر وأغصانها أو ما تجود به البيئة، كما تمتاز الجدران بالسماكة كونها مرصوفة بصفين من الحجارة خالية من الملاط فإن ذلك من شأنه أن يُعزز جواً لطيفاً داخل البناء في الصيف، لذلك تم تسميتها بالقصور لأنها بمثابة المرابع الصيفية لأصحابها، وثمة استخدام آخر لهذه البيوتات حيث استخدمها البعض كمراكز لبعض أعماله التجارية مثل الدكاكين، وتُقام عادة على أطراف الطرق التجارية والدولية كما تمت إعادة ترميم الرجوم وبقايا الحجارة من قِبل العشائر الأردنية في مطلع القرن العشرين وتقويتها بالملاط الطيني أو الإسمنتي بسبب تعرضها إلى عدة زلازل، وقد أُعيد استخدام هذه البيوتات من قبلهم لأغراض إقامة الجدران الزراعية وبعضها لأغراض البناء الحديث، ومن الجدير بالذكر أن الأردنيين الأنباط كانوا قد استخدموا هذا النوع من البيوت على نطاق واسع حيث نرى بقايا البيوتات على شكل رجوم منتشرة في المرتفعات الجبلية خصوصاً المرتفعات الزراعية كما ينتشر بعض من هذه الرجوم في البادية أيضاً .

ومن الأمور التي أكدت عليها المصادر أن الأردنيين الأنباط قد شيدوا أبنيتهم من الحجر البازلتي المتوفر في المنطقة الشمالية من المملكة الأردنية النبطية بشكله الطبيعي مع القليل من التعديلات على حالته، عندما كان التنقل سائدا في بدايات نشوء الحضارة الأردنية النبطية، ومع بدء التحول نحو الاستقرار بشكل واسع بدأ الأردنيون الأنباط بناء مواقع متفرقة على الطرق والنقاط الجغرافية التي كانت ضمن حدودهم، وأهم مثال كان تل دبة بريكة في السويداء النبطية التي أبرزت لنا العمارة الأردنية النبطية المبكرة حيث تم الكشف عن معبد وبناء إداري وبرج للحراسة وثكنة عسكرية حيث  بُني المعبد بالحجر الغشيم دون استخدام المونة وكانت النوافذ وفتحات المعبد قليلة لزيادة تحصين البناء .

ومن المؤكد أن عدداً من البيوتات كانت دائمة بعد أن قام الأردنيين الأنباط بتوسيعها، ويُلاحظ أن معظم الأبنية اشتملت على طابقين بعد إجراء تعزيزات للسقف بالملاط المدعم والأخشاب أو بالحجارة المرصوصة وبعض من هذه الأبنية اشتمل على عدد من الغرف والمرافق العديدة مثل غرف التخزين وحجرة الحيوانات والمستلزمات الزراعية، ومن المُعتقد أن مثل هذه الأبنية كانت تُستخدم كمحطات للخدمات التجارية التي من خلالها يتم تلبية احتياجات القوافل التجارية المارة وفق مواسم وطرق محددة، ومن الخدمات التي كانت تقدمها للقوافل التجارية تلك التي تُعنى بالحيوانات كحذو الخيول والبغال التي ترافق التجار وإصلاح معدات القوافل كالبرادع والسروج والمقادم وغيرها، بالإضافة إلى البيطرة مما  يؤكد على أن الأردنيين الأنباط قاموا بتعزيز قدراتهم لنجاح عملية التجارة عبر بلادهم وعلاوة على ذلك فقد وفروا الأمن والحراسة للقوافل التجارية .

البيوت الحجرية المطينة

يمتاز هذا النمط المعماري الذي خلفه الأردنيون الأنباط لنا بالبساطة، فقد جرى بناؤها من الحجارة الغشيمة التي تتم معالجتها بطريقة بسيطة بعد أن يتم تعزيزها بالملاط الطيني من الداخل والخارج وفي بعض الحالات كانت تُسقف بالملاط الطيني بعد تدعيمه بالأخشاب والحجارة المرصوصة بإحكام على شكل أقواس أو قباب، وهذا النمط لا تزال بقاياه منتشرة في بعض القرى والأرياف الأردنية، ومن المُحتمل أن هذا النمط كان أساسياً في التحول من حياة البداوة أو نصف البداوة إلى حياة الزراعة الدائمة والمستقرة، كما أقام أصحاب هذه البيوت من حولها بعض المرافق بالإضافة إلى المرافق الموصولة بالمسكن الأساسي مثل حجرات التخزين وحجرة الدواب وحظيرة جانبية للأغنام.

كما تعددت صور حظيرة الأغنام تبعاً لمكانها فغالبا ما تكون تحت البناء أو بجانبه أو على مقربة منه كما أن بعض الأبنية قد حوت على ساحات داخلية، وكانت تُقام هذه الأبنية على أطراف القرى الزراعية والتي اعتُبرت مرحلة إنتقالية لحياة الاستقرار، كما تم دمج العمل الزراعي وتربية المواشي معاً لأن أصحاب الأبنية كانوا قد غادروا حياة البداوة وصاروا أقرب إلى النمط الريفي الزراعي بالإضافة إلى تربية المواشي والتي تعتبر من ملحقات العمل الزراعي.

البيوت الطينية الخالصة

يُعد هذا النوع من المساكن الأكثر بساطة وأقلها دواماً وحاجة إلى مواد البناء والدعم، حيث يمتاز هذا النمط باعتماده على الطين المحلي بالدرجة الأولى وعادة ما يلجأ إلى التربة الزراعية الحمراء لبناء هذه المساكن كما كانت تُخلط التربة ببعض المواد المحلية كالقش والتبن، وانتشرت هذه المساكن في المناطق الزراعية مثل منطقة غور الأردن تحديداً في تل ديرعلا حيث عُثر على بيوت كانت مبنية من اللبن الذي استُخدم نيئاً، وكان أحياناً يجري بناء الجدران أولاً بأول وقليلا ما كانت الأخشاب تُستخدم في تدعيم الجدران وكان هذا النوع من الوحدات السكنية يتألف من حجرة واحدة أو من عدد من الحجرات غاضين النظر عن المرافق الأساسية كالمطبخ والحمامات، بالإضافة إلى البيوت التي بُنيت في بعض المناطق الجبلية والتي كانت لأغراض الإقامة المؤقتة، كما بنيت العديد من المرافق بجانب المنزل لإيواء الحيوانات أو التخزين أو حجرة الطابون للخبز، كما استخدمت هذه البيوت لإيواء بعض الموظفيين الحكوميين خلال المواسم التجارية لتأدية بعض الأوامر الإدارية، ومن الجدير بالذكر أن ها النوع من المساكن لم يكن معروفاً في المناطق الصحراوية لعدم ملائمة تربة الصحراء لمثل هذا البناء، وكان يقطن هذه المساكن الفقراء من المزارعين الذين توارثوا هذه الحرفة أباً عن جد .

البيوت الحجرية المهندسة كالمعابد والمساكن والأبنية العامة

إن إيفاء هذا النمط المعماري حقه ليس بالأمر اليسير، بسبب مجيئه ضمن أكثر مراحل الفن المعماري الأردني النبطي تطوراً، كما احتل هذا النمط جل اهتمام دارسي وباحثي ومنقبي الآثار نظراً لفرادته التي جعلته عنواناً حضاريا مهماً للأردنيين الأنباط المتميز بالتنوع والغنى الروحي والفني، وعلى الرغم من وجود الكثير من الأبحاث المختصة بهذا الجانب من العمارة الأردنية النبطية، إلا أن هناك مناطق عديدة ظلت دون إجراء المسوحات والحفريات الأثرية، كما قُسمت هذه الأبنية ضمن فترتين الأولى التي امتدت من نهاية القرن الأول قبل الميلاد إلى منتصف القرن الأول الميلادي حيث وقعت معظم المساكن في منطقة جنوب الأردن وفي العاصمة الأردنية النبطية البترا وفي خربة الذريح والحميمة والعقبة، أما الفترة الثانية فقد امتدت بين منتصف القرن الأول الميلادي إلى بداية القرن الثاني الميلادي، كما سنعرض هذا النمط على وجه الخصوص بشكل مستقل ومفصل.

المراجع

  • عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ، ط1 1987 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • أبو حمام ، عزام ، الأنباط تاريخ وحضارة ، ط1 2009 ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون ) ، ط1 2012 ، دار النايا ، دار المحاكاة ، سوريا ، دمشق .
  • العجلوني ، أحمد ، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، ط1 2002 ، بيت الأنباط ، البترا ، الأردن .
  • المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، ط1 2009 ، وزارة الثقافة ، عمان ، الأردن .

سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط – الجزء الثاني

 

مقدمة

لقد كانت مملكة آل غسان التي امتدت لأكثر من أربعة قرون على قدر عال من الرقي الحضاري. يعتبرها الباحثون في شأن الحضارات القديمة حلقة الوصل التي نقلت بدو القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية والبادية الجنوبية إلى الحياة المدنية.

رغم نقص المصادر الحاد في ملامح الحياة الاجتماعية إلا أننا استطعنا تتبع أهم محاور حياة الفرد الأردني الغساني عن طريق الاعتماد بشكل رئيس على ما كتبه الباحث البروفيسور والمؤرخ عرفان شهيد (1926- 2017) فقد كتب الراحل شهيد بالإنجليزية ثماني مجلدات تحت عنوان “الإمبراطورية البيزنطية والعرب” تعد من أهم ما كتب عن العرب من القرن الرابع حتى السادس ميلادي متناولا جميع جوانب حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

الأردنيون الغساسنة، سكان البلقاء وصولا إلى معان، تركوا بصمات كبيرة في التكوين الحضاري الاجتماعي للإنسان الأردني اليوم، وفي هذا البحث سنشعر بمدى قرب هذه الحضارة لحياتنا اليومية.

تركيبة السكان: قبيلة آل غسان

تعد الروابط القبلية من أقوى الروابط في العالم. ويعرف علماء الاجتماع القبيلة على أنها “جماعات متجانسة تحمل نفس الكنية وتعترف برئيس واحد فيما يخص المسائل العليا” (العيسى: 2007)

وتتلخص مهام شيخ القبيلة في تنظيم مظاهر الحياة الاجتماعية كالرعي والاستسقاء إضافة لكل ما يتعلق بأمن وأمان القبيلة كشن الحروب والغارات والثأر. وبحسب التقاليد، يجب أن يكون الشيخ أكثر الناس كرما وشجاعة وأكثر قدرة على إبقاء شعور الأخوة والعدالة بين أفراد القبيلة.

لقد أخذ الشكل التنظيمي القبلي شكلا أكثر حضارية وتعقيدا في المجتمع الأردني الغساني، فسرعان ما قويت شوكتهم وتنامى نفوذهم فغطى القبائل العربية جميعها في المنطقة لدرجة أن الإمبراطورية الرومانية أطلقت لقب ملك على الحارث بن جبلة الغساني وصار رئيسا لما يشبه الحكومة المركزية في الأردن.

الحياة البدوية- الحضرية (تأثير القبيلة على المجتمع  الأردني الغساني)

انتقل الأردنيون الغساسنة إلى نظام المدينة سريعا، ولكنهم رغم ذلك لم يتخلوا عن العادات والتقاليد البدوية. فكما ناقشنا، لدى الأردنيون الغساسنة شيخ أو رئيس وبحسب العادة يذكر الأشراف والشيوخ في المخطوطات والنقوش ولأن التأثير الروماني طال بعض جوانب الحياة  الأردنية الغسانية فقد خلدت أسماء الأعلام المشهورة باليونانية خصوصا في التأريخ المسيحي.

فحسب المصادر اليونانية، يذكر الحارث باسم “أريتاس” ويوصف بأنه “قائد جميع مسيحيي الحواضر” ويمكننا رؤية هذا التجانس الحاصل من تلاقي التنظيم القبلي المتمثل بشيخ القبيلة البدوي وبين التوسع الحضري الذي شهدته المدينة الأردنية  الغسانية فانتقل الحارث من شيخ إلى قائد فملك. (العيسى: 2007)

ونستشف من النقوش أن قبائل آل غسان كان فيها ما يعرف بطبقة الأشراف الذين يُعتبرون “حكم الأقلية” وهم على خلاف المجتمع القبلي في شبه الجزيرة العربية  لهم تأثير لا بأس به على قرارات الحاكم.  وهنالك الطبقة المتوسطة طبقة المزارعين وتليها طبقة التجار الصغار والكبار والحرفيون وتقبع طبقة العبيد نهاية السلم الاجتماعي.

الطعام

الطعام هو أحد الأوجه الحضارية المهمة للغاية فعند الأردنيين يعكس الطعام قيمة أخلاقية محورية في حياة أي أردني وهي قيمة الكرم. ويمتاز الأردنيون بأنهم يمتلكون نار مخصصة لإطعام الضيف تسمى نار القِرى وكانت نار الأردنيين الغساسنة لا تنطفئ أو كما نقول في الأهازيج الأردنية التقليدية اليوم” نارهم وقّادة”.

 لقد قيل في أدبيات التراث الشعبي العربي “أوقر للضيف من بني غسان” أي أنه يكرم الضيف أكثر مما كان يفعل آل غسان دلالة على أن الأردنيين الغساسنة كانوا مضرب مثل في الكرم والجود.

وقد عرف الأردنيون الغساسنة بين العرب بكونهم مختصين “بالطيبات” كما عرف الفيلارخ امرؤ القيس أحد ملوك آل غسان “بقاتل الجوع” لأنه أجار الناس في المجاعة.

ورغم أن المؤرخين اليونان وصموا عرب القرون الأولى للميلاد بالتأخر الاجتماعي إلا أنهم أنصفوا الغساسنة فقالوا عنهم أنهم ذوو ذائقة حسنة وتقدم اجتماعي وانفتاح كبيرين. (شهيد: 2009) يعرف آل غسان بآل جفنة وجفنة بالعربية تعني الطبق الكبير، أي أنهم سموا كذلك نسبة لشدة كرمهم وجودهم.

ميّز الأردنيون الغساسنة أنفسهم عن باقي القبائل بأنهم أهل الطيبات وبأن مأكولاتهم تمتاز بالترف والبذخ. وذكر المؤرخون بأن نساء الغساسنة كن يعرفن من عدم أكلهن لطعام بقية العرب. وقد عرف الاردنيون الغساسنة طبقا يسمى “الثريدة” وهي خبز بمرق اللحم أو اللبن وقد اشتهرت هذه الأكلة فقيل لا ثريدة أطيب من ثريدة آل غسان (شهيد:2009 )  .

ويمكننا أن نرى الثريدة حاضرة في المائدة الأردنية التقليدية. فعندما تتبّعت إرث الأردن الأطباق الأردنية من الشمال إلى الجنوب خلصنا إلى نتائج مذهلة. العديد من الأطباق الأردنية ترتكز على فكرة الثريدة من تقطيع الخبز وتشريبه بمرق اللحم أو اللبن (الجميد) وتمتد هذه الأطباق من البلقاء وصولا إلى الجنوب في معان والكرك ونذكر منها على سبيل المثال الفطيرة الكركية والمجللة الطفيلية والفطيرة المعانية.

وقد عرف الغساسنة طبقا آخر مميزا سمي “المَضيرة الغسانية” وهو لحم مسلوق يقدم مع اللبن الحامض والجريش، ألا يذكّر هذا بالمنسف الأردني الشهير؟ ارتبطت المضيرة  بالحاكم الأموي معاوية بن أبي سفيان فسميت أحيانا بمضيرة معاوية، ويعود السبب لأن معاوية زار عاصمة الأردنيين الغساسنة الأولى الجابية (شمال حوران الأردنية ) في بداية حكمه وقد كانت الوجبة الرئيسة في المائدة التي حضرت له وقتها. (شهيد: 2009)

الموائد الأردنية الغسانية: الترف الحضاري والحياة الاجتماعية الثرية

يذكر الباحث عرفان شهيد مدى تأثر الغساسنة بأجدادنا الأردنيين الأنباط. لقد تداعت المملكة الأردنية النبطية عام 106 ميلادي إلا أن الوجود النبطي الاجتماعي لم ينمحِ من المنطقة. لقد عُرف عن الأردنيين الأنباط حبهم لإقامة الولائم حتى أنهم سموا “سادة الولائم أو الموائد” وقد انصبغ الإرث الغساني وتأثر تأثرا كبيرا بعادات الأردنيين الأنباط الغذائية كما يظهر جليا واقتبسوا لقب سادة الولائم منهم.

باعتبارهم أبناء جفنة الذين يضرب في كرمهم وطعامهم المثل عند العرب لا بد لنا من وقفة عن أبرز الموائد التي كان يبسطها الأردنيون الغساسنة عند مناسباتهم. وتتباين هذه المناسبات من اجتماعية ودينية.

كان الغساسنة يبسطون المائدة في مناسبات الزواج وكانت تسمى مائدة النكاح أو مائدة القرى. ويقول الأردنيون إلى اليوم عن مائدة الزواج بأنها مائدة “لقرا/ لجرا”. تقدم المائدة قبل عقد القران، حيث يلقي كبير العائلة أو شيخ القبيلة خطبة ويتم على إثرها الزواج ويتناول الضيوف الطعام وهذا أيضا ما يعرف لدى الأردنيين اليوم بغداء العرس.

تعددت الولائم الأخرى بين غداء الجنازة ووليمة الانتصار في الحرب أو وليمة إنجاب الأبناء. احتلت الموائد الدينية مكانة خاصة كذلك. فقد كانوا يعقدون وليمة في عيد الميلاد المجيد، كما كان لهم احتفالات دينية خاصة بتعميد الطفل حديث الولادة وكانت ترافقها الموائد الفاخرة وموائد أخرى تنصب عندما يبلغ الطفل السابعة من العمر وتسمى “مائدة العقيقة” وهي عادة أردنية لا زلنا نراها إلى الآن مارسها مسيحيو الأردن ومسلموه في وقت لاحق.

الخبز

 اختلف المؤرخون على سبب توافر الخبز في الحمية الغذائية الغسانية فرجح بعضهم أن ذلك من تأثرهم بالإمبراطورية الرومانية ولكن اقترح آخرون أنه عائد لكون أراضي البلقاء وحوران الأردنية أراض خصبة كان الأهالي يزرعونها قمحا. (شهيد: 2009) يُصنع الخبز من دقيق القمح وسمي عند الغساسنة “حوارة” ولا غرابة في ارتباط هذا الاسم باسم منطقة حوارة في اربد شمال الأردن فقد اكتسبت اسمها من الحكم الغساني؛ وربما يعود ذلك لارتباطها بإنتاج الدقيق فحوارة تعني بالعربية “البيضاء”.

كان الأردنيون الغساسنة، كما يفعل الأردنيون اليوم، يغمسون الخبز الأبيض بالجبن والعسل وزيت الزيتون وكانت وجبة (الخبز وزيت الزيتون) من الوجبات الشهيرة المفضلة لديهم لأن الأراضي الأردنية كانت من المناطق الأكثر إنتاجا لزيت الزيتون في العالم آنذاك (شهيد: 2009)

الفواكه والبهارات

اشتهرت الفواكه كثيرا عند الغساسنة وذكرت بشكل متكرر في الأشعار والأدبيات، وكانت أشهر الأصناف هي التفاح والعنب والتين. لقد استفاد الأردنيون الغساسنة من الأرض الزراعية فأنتجوا المحاصيل وقاموا بصناعة العديد من المنتجات الأخرى عبر استخدام تقنيات التجفيف والحفظ. فاشتهر لديهم الزبيب والفواكه المجففة والمربيات.

لم تذكر البهارات بشكل كبير ولكن يمكن الاستدلال على أن الغساسنة استخدموا عدة أنواع من البهارات كالزنجبيل والكافور.

الماء والحليب والخمر

لقد كان تأمين الماء من أهم أولويات القبائل الأردنية البدوية وقام الغساسنة بتأمين احتياجاتهم من الماء من الآبار والينابيع وغيرها. لقد تميز ماء الشرب الغساني بأمر لم يعرفه سواهم وهو تنكيه المياه بالفواكه خصوصا العنب والتين ولا تذكر المصادر أكثر من ذلك بخصوص هذا الأمر.

عاش الغساسنة حياة جمعت بين الحضارة والبداوة والفلاحة فمارسوا التجارة والرعي وتربية الماشية إضافة للزراعة، ولهذا نجد أن الحليب ومشتقاته الكثيرة كانت أصنافا رئيسة في المائدة الغسانية. ويعد حليب الجمال من أهم أنواع الحليب وأشهرها لديهم.

احتفى الغساسنة بالخمر وعدوها “ابنة العنب” وكانت منتشرة في المجالس والبيوت وذكرت كثيرا في الشعر الغساني الذي أنشده حسان بن ثابت والنابغة الذبياني والنابغة الجعدي وغيرهم. كانت كروم العنب منتشرة في البلقاء وسهول حوران الأردنية وغيرها من المناطق إلا أن أشهر مورد للعنب والخمور كانتا منطقتين إحداهما في الأردن. الأولى في بيت راس   ( كابيتولياس) شمال الأردن والثانية في غزة.

مدرّج بيت راس

لقد استدل العلماء باستخدام التحليل الكربوني للفخار في بيت راس إلى أنها واحدة من أكبر مناطق إنتاج العنب وهي مدينة أردنية غسانية. إضافة لبيت راس كان هنالك مكد maqadd  وهي منطقة أردنية على حدود نهر الأردن، ويرجح أن تكون جرش (جراسا) إحدى المدن التي أنتجت الخمر بشكل كبير أيضا فقد وردت بعض الإشارات التاريخية إلى وجود مدينة اعتبر مسيحيو الشرق أن خمرها مقدس، وجاء ترجيح العلماء لجرش بسبب وجود معبد ديونيسيوس إله الخمر فيها.

على الجانب الأيسر من شارع الأعمدة تقع البوابة الضخمة الغنية بالأشكال المنحوتة لمعبد (ديونيسيوس الروماني) والذي بني في القرن الثاني للميلاد، ثم أعيد بناءه في القرن الرابع للميلاد ليكون كنيسة تسمى حالياً (الكاتدرائية)

يقودنا استعراض أهم مكونات الحمية الغذائية للفرد الأردني الغساني لعدة استنتاجات، أهمها أن لا شيء مما يقوم به الفرد الأردني اليوم وليد الصدفة، إننا بكل تفاصيل حياتنا اليومية نتيجة انصهار كرم أجدادنا الأنباط مع ذكاء وترف أجدادنا الغساسنة. أحجار فسيفساء ملونة تكون الصورة الكبيرة الجميلة والغنية لحياة الإنسان الأردني اليوم.

الملابس

مما لا شك فيه أن الهوية الحضارية تتجلى في الملابس كذلك. لقد أراد الأردنيون الغساسنة أن يتمايزوا عن الرومان واليونان وحتى عرب الجزيرة واتخذوا لهم لباسا مميزا كان مزيجا يعبر عن هويتهم الخاصة. يعكس اللباس عند الغساسنة الكثير من الصفات الاجتماعية كالسن والجنس والطبقة الاجتماعية والمهنة والترتيب السياسي والديني. (شهيد: 2009)

رسم توضيحي للزي الغساني في القرن الرابع الميلادي. المصدر: موقع World4u

استمر الغساسنة بارتداء زي قريب للزي العربي فكان لديهم البُردة[1] والحَبَرة[2] والحُلّة[3] وغيره. والمعلومات والأدلة محدودة في المدن الغسانية، فلم تكتشف الكثير من الآثار التي يمكن استغلالها في وضع تصور واضح للباس الغساني ولذلك عمد الباحثون لمقارنة ما وجدوه في الحيرة عاصمة المناذرة. لقد وجدوا أدلة على وجود أسواق للنساجين وعلامات تجارية “كأثواب الرضا” وهذا قد يلمح لنا عن الحالة التي كان عليها الرداء الغساني رغم العداء السياسي بين المملكتين والتوافق الاجتماعي والاقتصادي.

لا يقتصر تأثر اللباس الغساني بتأثرهم بعرب الجزيرة العربية ولكنهم بوصفهم في صف الإمبراطورية الرومانية تأثروا كثيرا في الزي الروماني. يمكن تلخيص تأثرهم في الحضارة الرومانية بارتباط الزي بالألقاب التي تمنحها الإمبراطورية للأمراء العرب فمثلا يمتلك “الفيلارخ – الوالي” زيا خاصا، إضافة لذلك، فقد كان الأباطرة الرومان يغدقون بالهدايا على الأمراء وكانت الملابس والمجوهرات من أهم أصناف الهدايا التي تقدّم (شهيد: 2009).

رسم توضيحي لملابس الأردنيين الغساسنة  من القرن الرابع حتى السادس الميلادي. المصدر: موقع world4u

ولا يمكن أن نغفل عن الازدهار التجاري الذي حصل بعد تنامي تجارة الحرير فالمملكة الأردنية الغسانية تعتبر إحدى مضارب طريق الحرير الواصل إلى روما قلب الإمبراطورية الرومانية.

ملابس الملك والأمراء

لا نمتلك الكثير من المصادر حول لباس الملوك والأمراء الغساسنة ولكن بحسب تحليل الباحثين للشعر الغساني فإنه الأسرة الغسانية الحاكمة كانت تمتلك زيا يسمى ” باسيلية” يورثه الملك لولي العهد ويوصف هذا اللباس بكونه رداء بنفسجي اللون مقصب بالذهب وعلى صدره “بروش أو قلادة” فضية. ويمكن أن يرتدي الملك طيلسانا[4] أو قبعة فضية تكشف جزءا من الرأس. كل الأقمشة التي تحاك منها ملابس الأسرة الحاكمة حريرية ثمينة ومقصبة بالذهب أو الفضة ومزينة ببعض الحلي الغالية. (شهيد: 2009)

وبما أن الإمبراطورية الرومانية كانت قد منحت الأمراء الغساسنة ألقابا شرفية فقد منحتهم أيضا ألقابا كنسية رغم اختلاف المذهب الديني بين المملكة الغسانية والإمبراطورية. وكما هو معلوم، فإن الأردية الكنسية الدينية تتميز بطابع مختلف عن الأردية العادية أو تلك التي تلبس في المناسبات والاجتماعات السياسية. فيتحدث الشاعر النابغة الذبياني مثلا عن أردية خاصة تعلق على مشاجب (علّاقات) يلبسها الأمراء والملوك فقط في أحد الشعانين (Palm day) وهو عيد مسيحي لإحياء ذكرى دخول السيد المسيح إلى بيت المقدس.

رسم متخيل لملابس النساء الأردنيات الغسانيات في القرون الميلادية الأولى. المصدر: موقع world4u

كما عرف البلاط  الملكي الغساني  الرداء الأبيض الطويل إلى ما بعد الركبة بقليل، إذ كان مشهورا وترتديه الأميرات الغسانيات كما يُهدى منه إلى الشعراء الذين يمدحون الملوك في البلاط (شهيد: 2009)

وكان الخمار لباسا مشهورا لدى نساء العرب منذ القرن الأول ميلادي. تغطي النساء من العوام ومن الأسرة الحاكمة وجوههن بطبقة رقيقة من القماش على ثوب أبيض طويل من الحرير أو القطن وقد ذكر هذا في عدة مصادر تاريخية.

ورغم أن الحاكم الأموي معاوية ابن أبي سفيان قد جعل من الجابية -عاصمة الغساسنة الأولى- عاصمة ومقرا له إلا أن الزي الغساني التقليدي استمر في الوجود حتى قرون متأخرة واكتسب أهمية اجتماعية. وجد الباحثون في الجابية والجولان وسهول حوران العديد من الأدلة كقطع قماش قديمة تعود إلى تلك الحقبة إضافة لكون الشعر أهم مصدر يمكننا استخدامه للبحث عما ارتداه الغساسنة. (شهيد: 2009)

بهذا نكون قد رسمنا صورة قريبة قدر الإمكان لملابس  الأردنيين الغساسنة. لقد كان للغساسنة توليفة جميلة ومتنوعة من الملابس والأقمشة واهتموا كثيرا بجعل كل لباس يلائم المناسبة التي يقصدونها.

الفنون (الرقص والغناء)

لقد كان المجتمع الغساني مجتمعا يقدر الفن. فقد برع الغساسنة بالشعر وكما هو معلوم، يقوم الشعر على الأوزان الموسيقية. وكانت ظاهرة مجالس الغناء والرقص مشتهرة ومنتشرة وقد شكلت جزءا لا يتجزأ من المشهد الحضاري الغساني. ولم تكن العقيدة المسيحية (المونوفيزية[5]) التي كان يدين بها الأردنيون الغساسنة تنبذ الفنون بل تشجعها وترى فيها سبيلا للروحانية والاتصال بالسماء.

ورغم نقص المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها بشكل كبير إلا أننا نمتلك شعر حسان بن ثابت والذي يعده الباحثون الوثيقة الاجتماعية الأهم لحياة الغساسنة الاجتماعية. يذكر حسان بن ثابت في شعره وصفا دقيقا لمجلس الغناء فهناك “المُسمِعة” أي المغنية وهنالك “المنشِد” وهو المغني وهنالك “الساقي” الذي يصب الخمر لمرتادي المجلس.

كما يصف لباس المغنيات وهو لا يختلف كثيرا عن لباس النسوة الأخريات عدا عن أنهن يرتدين الحلي الغالية جدا مما يحصلن عليه جراء غنائهن. ويذكر أسماء المغنيات اللواتي كن يرتدن ديوانه أيضا فهنالك ليلى وزينب وشذى والنادرة وأم عمر والعامرة ولميس. وللمغنيات تحديدا العديد من الألقاب الوظيفية عدا عن المسمعة، فقد سماهم الغساسنة “مدجِنة، داجنة، صادحة، رومية ” (شهيد: 2009) وبإمكاننا أن نعتبر أن تعدد مسميات الأمر عند العرب هو دلالة على أهميته ولا يمكننا أن نغفل عن الثورة الشعرية التي أحدثتها القيان في أوزان البحور الشعرية فقد كان وجودهن محفزا للشعراء على الإبداع والتجديد (الأسد: 1969)

الآلات الموسيقية

صورة للآلات الموسيقية القديمة ويظهر فيها القيثار والجلاجل والصنج والمزمار والقصاب

تنوعت الآلات الموسيقية التي استخدمها الأردنيون الغساسنة بين الآلات النفخية والآلات الوترية وآلات الضرب. ويعد (العود) أحد أهم الآلات الوترية ويمكننا أن نستدل بعدد الأسماء التي حملها العود والتي استخدمها الشعراء الغساسنة في شعرهم. سمي العود عند الغساسنة إذن بعدة أسماء نذكر منها: المِزهَر، الكِران، البربط، الموتّر. (الأسد: 1969)

صورة لآلة العود الحديثة

كما وجدت العديد من الآلات الأخرى، فمن الآلات الوترية وجدنا الصّنج، ومن الآلات النفخية وجدنا القُصّاب والمِزمَر. لقد رسم لنا شعر الغساسنة صورة زاهية الألوان لمجلس تجتمع فيه تلك الآلات يرافقها غناء القيان (المغنيات) في جو من الترف الحضاري والحرية (الأسد: 1969)

نموذج قديم من آلة الصنج

الموسيقى والاحتفالات الدينية

 قلنا سابقا بأن المذهب المسيحي الذي اعتنقه الأردنيون الغساسنة لم يكن يتعارض مع الموسيقى بل كان يشجع عليها. وقد أسس لهذا التناغم القديس بطرس الذي أدخل الترانيم المغناة وعلمها لآباء الكنائس. إذن، لقد شجعت البيئة الدينية أيضا على تعلم الموسيقى بوصفها أمرا روحيا يترافق مع تلاوة المزامير المقدسة والترانيم والتسابيح بل يعتبر الباحثون أن كنائس الشرق خصوصا في جرش ومادبا وكثير من مدن شمال الأردن هي السبب الرئيس في تطور الترتيل المسيحي الذي نعرفه اليوم. (شهيد: 2009)

لقد كان للغساسنة أوزان شعرية وأنماط غنائية تترافق حصرا مع التراتيل الدينية مثل الزمزمة والرجعة والهينمة والسبحة والجعرة وقد اختفت تماما مع مجيء الإسلام (شهيد: 2009)

الطب والعلوم

تصوير كنسي لأطباء غساسنة

ربما يكون القديسين قزميان ودميان (Cosmas and Domian) من أهم الشخصيات التي يمكننا أن ندلل بها على رقي العلوم والحضارة عند الغساسنة. في جرش، تستقر كنيسة القديسين على مصطبة عالية بجانب كنيستين. بنيت الكنيسة لتمجيد ذكرى القديسين اللذان اتجها لمعالجة المرضى والمحتاجين مجانا خدمة للرب. تعج الكنيسة بواحدة من أكبر وأجمل وأسلم الصور الفسيفسائية في المنطقة وتصور هذه اللوحات القديسين وهما يستخدمان عدة الجراحة والنباتات العطرية العلاجية ويصنعان الأدوية ويعالجان المساكين مرتديان الزي الأردني الغساني.

إحدى التصاوير المسيحية للشهيدين قزمان ودميان

ورغم أنهما ولدا في حلب إلا أنهما تنقلا كثيرا هربا من الاضطهاد الديني واستقرا في بلاد الغساسنة ومارسا الطب، قتل القديسين مع أمهما وأخواتهما على يد الإمبراطور الروماني دقلديانوس الذي ارتد عن المسيحية وعاد للوثنية. ” لقد ظلت ذكراهما تتردد لمدة طويلة وقد بنيت العديد من دور العبادة للاحتفال بذكراهما خلال العصور البيزنطية الوسطى في سورية وإيطاليا وغيرها من البلاد. ولكن الكنيسة في جرش هي أقدم كنيسة بنيت لذكراهما وظلت قائمة حتى يومنا هذا. إن بقايا الجدران والأسس والفسيفساء وبقايا الهياكل العامة هي الوحيدة التي ظلت لتمجد ذكرى القديسين قزمان ودميان، كما بقيت لتعزز أمجاد مواقعنا التاريخية.”[6]

لم يقتصر المشهد العلمي عند الغساسنة على الأطباء الذين ينذرون أنفسهم وحياتهم لخدمة العلم والفقراء. لقد كان الأردنيون الغساسنة على صراع دائم مع المناذرة ولم ينعموا بالسلم لمدة طويلة؛ لهذا فقد كانوا بمواجهة ما تخلفه الحرب من جروح وأمراض. إضافة لذلك، فقد هاجمهم وباء الطاعون الدملي الذي أودى بحياة أكثر من 25-50 مليون شخص في عهد الإمبراطور جوستنيان الأول حتى سمي الطاعون بطاعون القرن السادس.

صنع الأردنيون الغساسنة مضادات سمية وعلاجات كثيرة لمختلف الجروح والإصابات. ذكر الشاعر حسان بن ثابت في شعره “البياطرة” أي أطباء الحيوانات ويظهر أن الغساسنة برعوا في علاج الأحصنة ومداواتها.

 شهد القرن السادس ظهور المستشفيات الرومانية ولم تكن بلاد الغساسنة ببعيدة عن هذا التطور ولكنه هذا التطور سرعان ما اكتسى بطابع ديني حيث انتشرت فكرة التنقل لعلاج المرضى مجانا إرضاءً للرب كما هو الحال في قصة القديسين قزمان ودميان. رغم انتشار هذه الظاهرة إلا أن المجتمع الديني لم يكن يتقبل العلاج الطبيعي وكان يؤمن في كثير من الأحيان بالعلاج الإلهي، إلا أن الملك الغساني الحارث استعان بالأطباء كي يعالج المصابين بالطاعون في بلاده وقد أسس هذا لعقلية الغساسنة التي تحترم العلم والطب على عكس العديد من المجتمعات المسيحية المجاورة لهم آنذاك وأمست العلاقة بين الدين والطب علاقة تكامل لا علاقة صراع (شهيد: 2009)

وبحسب النتائج التي وصل إليها الباحث عرفان شهيد فإن الأردنيين الغساسنة كانوا قد نقلوا معارف الطب اليونانية وحفظوها وطوروا عليها ويعود لهم الفضل في إدخال مهنة الطبيب بصفة علمية بعيدة عن السحر والشعوذة. كما أن أطباءهم استمروا في الوجود حتى العهد الأموي . وارتبط عندهم الإيمان المسيحي باحترام الأطباء والعلماء بسبب موقف ملكهم الحارث عند انتشار الطاعون. وأخيرا، لا يمكننا أن نتأكد ما إذا كان الغساسنة قد أسسوا مستشفيات أم لا. (شهيد: 2009)

لم تكن المرأة بمعزل عن المشهد العلمي، ويمكننا أن نستدل على ذلك بشعر حسان بن ثابت الذي أنشد في الطبيبات. كما يمكننا أن نفهم مدى أهمية الدور الذي لعبته المرأة من واقعة يوم حليمة بين الغساسنة وأعدائهم المناذرة، وقد سمي هذا اليوم نسبة إلى أميرة غسانية تدعى حليمة كانت مسؤولة عن تطبيب الجرحى وساهمت مساهمة عظيمة في انتصار الغساسنة حتى قالت العرب “ما يوم حليمة بسر” أو “أشهر من يوم حليمة” دلالة على شهرة هذا اليوم.

يمكننا أن نستنتج أن الأردنيين الغساسنة كانوا قد تحلوا بعقلية علمية جعلتهم يبرعون في الطب خصوصا، ومن المثير أن ترتبط شخصياتهم المهمة وأحداثهم التاريخية بأمور علمية كما هو الحال عند القديسين قزمان ودميان والأميرة حليمة.

خاتمة

الطعام، الملابس، الفنون والعلوم أوجه الحضارة الأردنية الغسانية التي كانت – كما استعرضنا –  على قدر عال من الترف الحضاري والحرية والرقي. لقد أحبوا الموسيقى وبرعوا فيها، قدسوا مهنة الطب وجعلوها مهنة سامية وأخيرا تركيبتهم السكانية التي لم تتخل عن المبادئ والقيم البدوية ولكنها أضفت عليها طابعا حضاريا.

لقد صدَر الغساسنة ثقافتهم للجزيرة العربية، أثروا وتأثروا بالرومان والفرس. إننا لا زلنا نمارس إلى الآن عادات وتقاليد غسانية الأصل، وقد صُبغت الحياة الأردنية بمكونات ثقافية تمتد جذورها إلى القرون الميلادية الأولى.

مراجع

  • Irfan Shahid (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • الأسد، ناصر. (1969)، القيان والغناء في العصر الجاهلي (ط2)، دار المعارف: مصر

[1] البردة: كساء مخطط يلتحف به. المصدر: معجم المعاني الجامع

[2] الحبرة هي الثوب الحريري. المصدر: معجم المعاني الجامع

[3] الحلة رداء من قطعتين. المصدر: دولة بيزنطة وعرب القرن السادس ميلادي، المجلد الثاني، الجزء الثاني

[4] غطاء عربي للرأس

[5] عقيدة مسيحية تؤمن بأن للمسيح طبيعة واحد عبارة عن اندماج الطبيعة الإلهية والبشرية معا وهي نختلف عن عقيدة الرومان الذين يؤمنون بالميافيزية أي  وجود طبيعتين منفصلتين للمسيح.

[6] المصدر: أبحاث إرث الأردن، الكنائس الأردنية القديمة: كنيسة قزمان ودميان

الأردنيون الغساسنة: الترف الحضاري والحرية والعقلية العلمية

مقدمة

اهتم الأردنيون الأنباط بفن العمارة بشكل واسع، وهذا ما يؤكده الإرث العمراني الضخم الذي خلفوه، وما يزال قائماً حتى يومنا هذا بكل شموخ وصلابة، وحيث أن عمر الحضارة الأردنية النبطية امتد على مدى قرون، فقد كان الفن المعماري النبطي متباينا، ومتطوراً باستمرار، حيث بلغ من البذخ في ذروة هذه الحضارة، ما سبق حضارات استعمارية ضخمة، ونورد في هذا البحث ملامح هذا الفن العظيم الذي أولاه أجدادنا الأردنيون الأنباط اهتماما منقطع النظير، بطريقة تساهم في تعزيز فهم القارىء لما يراه ماثلا بعينه من إرث عمراني يشكل قفزة ضخمة في فن العمارة على مستوى البشرية.

في هذه المدخل البحثي من إرث الأردن تقرؤون الجزء الأول من سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط.

ملامح الهندسة المعمارية لدى الأردنيين الأنباط

تعتبر العمارة الأردنية النبطية فناً قائما بحد ذاته، تنوع بين العمارة الدينية (المعابد والأضرحة) والعمارة الدنيوية (البيوت والأسواق والحمامات وصولاً للصالات الرياضية)، كما أثبت الأردنيون الأنباط قدرتهم على تطوير الفنون المعمارية من الحضارات المحيطة بهم ومنحها طابعاً نبطيا أردنيا خالصا، لتمتاز آثارهم بخصوصية عميقة على الجانبين الروحاني والمادي.

عكست الآثار المتبقية من المنحوتات النبطية عبقرية المهندسين الأنباط بما قاموا به من فنون نحت وعمارة حيث صبغ أجدادنا الأردنيون الأنباط فنهم المعماري بطابعهم الخاص.

أما بخصوص النحت في الصخر فقد تميز الأردنيون الأنباط بطرق وأساليب مدروسة بدقة في تنفيذ أعمالهم فبعد اختيارهم للسطح الصخري المناسب يقوم النحات النبطي بتحويله إلى لوح يُستطاع الرسم عليه وبعد إجراء الحسابات اللازمة للوح الصخري يتم البدء بتنفيذ أعمال النحت من أعلى السطح باستخدام السقالات، ومن المُعتقد أن النحاتين كانوا على مراتب ودرجات فبعضهم يقوم بتسوية السطح ثم يأتي الآخر للقيام بالحسابات والتسويات والآخر الذي يقوم بأعمال النحت والتي تتطلب مهارة عالية للتنفيذ ومن بعدها يأتي الفنانون الذين يختصون بنحت التماثيل والأشكال الفنية المعقدة، كما دلت بعض النقوش على أسماء القائمين بأعمال البناء بـ “بنيا” والنحات بـ “فسلا”.

ويبدو أن مهنتي النحت والبناء كانتا من المهن ذات الاحترام العالي في المجتمع الأردني النبطي، حيث وجد نقش البناء فلان أو النحات فلان على العديد من شواهد القبور النبطية.

المواد المستخدمة في العمارة الأردنية النبطية

استثمر الأردنيون الأنباط العديد من المواد المتوفرة في البيئة المحيطة، حيث وظفوا كل أنواع  الحجارة المحيطة بحضارتهم، ففي صحراء أم الجمال وصلخد وأبنية جبال الشراة جرى استخدام الحجارة البازلتية السوداء لأغراض البناء المختلفة، كما استُخدمت الحجارة الكلسية في خربة الذريح على الرغم من صعوبة التعامل معها بسبب لينها، ومع ذلك فقد كان نمط البناء الأردني النبطي يعتمد على الخلط بين العديد من الحجارة في البناء الواحد مثل قصر الربة الذي بُني إجمالاً بالحجر الكلسي والحجارة البازلتية التي جُلبت من شمال المنطقة بالقرب من وادي الموجب .

أما بالنسبة للحجارة المستخدمة في البناء فقد كانت تُستخدم الحجارة الغشيمة “الصغيرة ” إلى جانب الحجارة المنقوشة والمهندسة بعدة أشكال، وأما بالنسبة إلى الملاط المُكون من الشيد والجير الذي كان يتم تحضيره من اللتونات بالإضافة إلى التربة المحلية، فقد استخدم الأردنيون الأنباط الملاط بكثرة في أبنيتهم كمونة بين صفوف الحجارة الكبيرة لقدرته على العزل الحراري وعزل الرطوبة والأمطار ونرى فائدة الملاط واضحة في الفنون المعمارية الكثيرة كالأقواس التي تعتمد على تراص الحجارة والتي جرت تغطيتها بالملاط الطيني العازل، كما يمكن أيضاً مشاهدة الملاط المستخدم في قصارة الآبار والخزّانات المائية كخزان الحميمة والمساكن النبطية في النقب والتي أكدت على صلابة ومتانة البناء حيث فضلت مسكونة حتى القرنين الخامس والسادس الميلاديين، إضافة إلى الصلبان التي عُثر عليها في الكرنب حيث نُقش أكثر من صليب على عضادات الأبواب وبعض الأسكفة.

كما استُخدمت الأخشاب في أعمال التسقيف وصناعة الأبواب والشبابيك ويبدو ذلك واضحاً في وادي موسى لتوفر الأشجار في المنطقة ومنطقة جبال الشراة التي كانت غنية بالأشجار الحرجية، كما عرف الأردنيون الأنباط استخداماً آخر للأخشاب في البناء من شأنه تعزيز صمود الجدران أمام الهزات الأرضية، وقد أكّد على ذلك وجود الأخشاب في بقايا بعض الأبنية كقصر البنت في العاصمة الأردنية النبطية بترا.

المراجع

  • عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ، ط1 1987 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • أبو حمام ، عزام ، الأنباط تاريخ وحضارة ، ط1 2009 ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن .
  • الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون ) ، ط1 2012 ، دار النايا ، دار المحاكاة ، سوريا ، دمشق .
  • العجلوني ، أحمد ، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، ط1 2002 ، بيت الأنباط ، البترا ، الأردن .
  • المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، ط1 2009 ، وزارة الثقافة ، عمان ، الأردن .

سلسلة الفن المعماري عند الأردنيين الأنباط – الجزء الأول

مقدّمة

يعد الفخار النبطي المتميز برقته ودقة ونعومته، دليلاً واضحاً على ما وصل إليه الأردنيون الأنباط من تميز وشهرة في هذا المجال من الصناعات، فكان أجود أنواع الفخار ذلك الذي صنع في الفترة التاريخية المقاربة للقرن الأول الميلادي. حيث صنع من مادة الطين، النضيج المحلي واستخدم الدولاب السريع في صنعه، فصنعوا الكـؤوس والأطبـاق والزبـادي والجـرار والسُرُج وأدوات الطبخ. وقد صنعوا نوعين من الفخّار، النوع العادي الخشن وهـو المستعمل في الطبخ والنوع الناعم المدهون.
كما أن الأعمال الأثرية في المملكة الأردنية النبطية، أرجعت تاريخ  الفخار النبطي إلى القـرن الأول ق . م. واستمر انتاجه في البترا حتى بداية القرن الرابع بعد الميلاد . وقد استعمل الفخار الأردني النبطي كدلالة على تحديد الخارطة الجغرافية لمملكة الأردنيين الأنباط. بحيث رسم “جلول” خطـاً هامشـياً افترض فيه الحد الشمالي للفخار المدهون امتد مثل هذا النوع من البحر الميت – أي مـن نهايته إلى مادبا في الأردن. أبحاث وأعمال أثرية أخرى في شمال هذا الخـط أظهـرت وجود قطع فخارية أردنية نبطية في عمان وجرش وأم الجمال وبصرى . بالإضافة إلى كسـر وشظايا وجدت في جنوب فلسطين وسيناء وشمال الجزيرة العربية والفاو وفيلكا في شـرق الجزيرة العربية. وهذه القطع الفخارية التي وجدت خارج منطقة نفوذ الأردنيين الأنباط يمكن عزوها إلى الرحالة أو التجار الأردنيين الأنباط، اذ نقلوا الأنية معهم في رحلاتهم طويلـة المسافة وتاجروا بها في كافة خطوطهم التجارية عدا النوع الرقيق الذي كان يصعب الاتجار به لسهولة كسره أثناء نقله.

وقد أنتجت معظم الحضارات إلا أن الفخار النبطي الرقيق فائق الجودة والمسمى بـ’فخار قشرة البيض‘ لرقته هو أكثر الأنواع تميزاً، وهو من بين أفضل وأرق ما أنتج من الفخاريات المعروفة عالمياً.

نظريات أصل الفخار النبطي

هناك أربع نظريات حاولت تفسير أصل الفخار الأردني النبطي والتأثيرات الفنية التي خضع لها بفضل الانفتاح المميز للحضارة الأردنية النبطية على باقي الحضارات وتلك المجاورة تحديدا وهي :
النظرية الأولى
: اقترحت من قبل هورسفيلد ( Horsfield ) الذي عزى نوعين من الفخـار إلى تأثير الفخار الأردني الأدومي .
النظرية الثانية : اقترحت من قبل جلوك (Glueck) اقترح فيهـا تأثيرات أتت من باريثيا والعالم الإغريقي، وقد تم رد الكثير من اقتراحات جلوك.
النظرية الثالثة : اقترحت من قبل عدد كبير مـن الباحثين في الآثار النبطية والتي أشارت إلى التأثيرات الإغريقية .
النظرية الرابعة: اقترحت من قبل شمد (Schmid)  والتي لاحظ فيها أن بعض أشكال الفخار النبطي قد تكون مبنية أساساً على نماذج أولية ذات أصول رومانية وإيرانية ومن حوض الرافدين .

أهداف انتاج الفخّار النبطي

الآنية الفخارية النبطية غير المصقولة أو المدهونة استعملت لأغراض منزلية متنوعة فـأنواع مختلفة من الجرار استعملت في المملكة الأردنية النبطية لتخزين السوائل والحبوب وأنواع أخرى مـن الطعام. ومثل هذه الجرار كانت تنتج في مواقع مختلفة في المملكة الأردنية النبطية مثل العقبة، حيث صنعت هناك الجرار المحلية والآنية المسماة بالأنفورا وهي قارورة ضيقة العنق ذات عروتين كان الرومان يشربوا بها الخمر. وفي إحدى هذه الأواني المسماة بـالأنفور وجدت في مدينة البترا وجد فيها ثلم أوشق تحت حافتها من الخارج، وهذه الأنفورا تدل علـى انتاج الخمور، على الرغم من استخدامها لأغراض أخرى . كما وجدت في العقبـة أيضـاً تشكيلة من الفخار النبطي المصنوع محلياً، ويشمل أواني الطبخ وأطبـاق الخـبز وأغطيتها التي استخدمت لأغراض منزلية. بالإضافة لوجود مصابيح نبطية في عدة مواقع وتظهر المصابيح الأولية أو المبكرة القديمة، بأن هناك تبني للعناصر الغربيـة مـن المصـابيح الرومانية والإغريقية .
وقد بدأ الأردنيون الأنباط بانتاج مصابيحهم الخاصة بهم حوالي الربع الثاني والنصف الثاني من القـرن الأول بعد الميلاد، وهذه المصابيح كانت مزخرفة بمناظر طبيعية أو شخصـيات أردنية نبطيـة محفورة على القاعدة. وأواني المراهم أو العطور تعتبر منتجات أردنية نبطية فريدة من نوعهـا فهي أواني صغيرة كانت وظيفتها إما كأوعية لتخزين ونقل الزيوت العطريـة وربما انتجت لتعمل بالتوافق مع المصابيح الزيتية.

ويعتبر الفخار المطلي أو المدهون أحد المنتجات الرئيسية المميزة التي صنعها الأردنيون الأنباط، وكانت الزخارف الوردية التي تحويها الأواني، من ضمن المواد الرئيسية التي استخدمت من قبل الصـانعين للفخـار . وأكثر العناصر الزخرفية أو الزينة التي كانت شائعة هي تصاميم النخيل والرمان والصـنوبر وعناقيد العنب، التي كانت ترتب على شكل مثلثات، أما الزخرفة التي تحوي أشكال نسائية فلم تكن شائعة في الفخار الأردني النبطي، وحتى الآن القليل فقط من الأمثلة اكتشفت عن الفخار النبطي الذي يحوي زخارف رقمية . ومن الواضح أن صانعي الفخار النبطي كانوا أكثر ميلا للزخارف التي تحوي أزهار منها إلى المناظر التي تحوي أشكالاً وأرقاماً .

وهناك بالطبع عدة نظريات تم طرحها فيما يخص هدف الإنتاج الأردني النبطي للفخار المطلي أو الملون؛ منها :
النظرية الأولى : حيث يربط شمد كورتي ذلك بالقرابين التي تقدم للموتى والمراسيم الجنائزية، والتي كان المحتفلـون يكسرون فيها الفخّار في مثل هذه الاحتفالات على شكل أكوام، كما ذكر بعض الباحثين أن الفخار الرقيق الملون كان يستخدم في الأغراض الدينية مرة واحدة، ثم يحطم بعدها، ويقذف خارج المعبد ليتحطم على الصخور المحيطة به. ولهذا لم يكن هناك داع لوجود القاعدة الحلقية أو المنبسطة في هذه الأوعية، حيث أنها ستبقى في يد مقدمها حتى تقدم للآلهة، ويعزى ذلك حسب طقوسهم الجنائزية إلى أن الأواني التي تستعمل في المقبرة تعتبر غير نظيفة من الناحية الروحية، وبالتالي كانت تكسر في الموقع مباشرة.

النظرية الثانية: ويبدو أنها أكثر اقناعاً وتربط ذلك بالاستعمالات الدينية.  حيث كان الفخار النبطي المدهون أو المطلي يزخرف برسوم مكررة على شكل أزهار والتي تشـير إلى أبعاد دينية. ويذكر بار أن استخدام مثل هـذا الفخار كان مقيداً أو محدوداً بالمواقع الأردنية النبطية .

مراكز إنتاج الفخار في المملكة الأردنية النبطية

كشفت الحفريات الأثرية عن ثلاث مراكز رئيسية لإنتاج الفخار في المملكة الأردنية النبطية، جميعها تقع على حواف مواقع المدينة وتم اختيار هذه المواقع بناءً على توفر الماء والطين وأكثر هذه الأفران موجودة في وادي موسى والذي كان مركزاً متخصصاً في إنتاج الفخار النبطي. ومن خلال المسوحات الأثرية التي قام  بها علماء الآثار استطاعوا تحديد المواقع النبطية عـن طريق الفخار النبطي، وأثناء هذه المسوحات تم العثور على مراكز صناعة الفخار حيث عثر على أفران لصناعة الفخار، مثل أفران الزرابة إذ تعتبر أكبر المراكز الصناعية البحتة الخاصة بالفخار والمكتشفة في الأردن حتى الآن وأطولها فترة تقع ضمن منطقة وادي موسى واكتشف في هـذا الموقع سبعة أفران للفخار، والاكتشاف الأول تم سنة ١٩٧٩، يتكون كل فرن من فتحة وغرفة احتراق، حيث يتم حرق الوقود فوق هذا الجزء، وهناك فرن توضع فيه الجرار أو الأباريق، هـذان الجـزءان مفصولان بحاجز ويصنع عادة من الأقـواس التي تسمح بمرور الغاز الساخن الذي يحتـرق وينتقل من غرفة الاحتراق إلى الفرن. وتتوقع بعض الدراسات باسـتخدام الأنباط لخشـب الزيتون كوقود في هذه الأفران، وفيما يخص مصادر الطين فقد تم إجراء تجربة على عينات من مصادر طين مختلفة في وادي موسى، أخذت هذه العينات مـن المواقع الستة التالية في منطقة البترا، زرابة وعين التينة وعاصم، والمعالق، وعـين موسـى وتويلات .
وتشير نتائج هذا التحليل إلى أن معظم مخزون الطين في هذه المواقع لم يسـتخدم لانتـاج الفخار النبطي المصنع في أفران زرابة، وترجع نتائج التحليل بأن عين الطينة هـي الأكثـر احتمالية أن تكون المصدر الذي تم منه صناعة فخار زرابة. كذلك تم العثور على فرن لصناعة الفخار في منطقة أذرح حيث تم حفره في الطبقة السفلى والتي تسمى صخر الأدريم وتم حفر خندق ابعاده ( ٥×٥ م ) لانتاج طن واحد من الفخار. كما تم العثور على فرن في منطقة عبده في النقب ويتكون من غرف لعمل الطين، وغرفة العجلة التي يستخدمها صـانع الفخار، والفرن نفسه. كما تشير المسوحات الأثرية إلى أن العقبة كانت أحد اهم مراكز انتاج الفخار النبطي على الرغم من عدم وجود أفران هناك خلال العهد النبطي حيث تم العثـور علـى كميات ضخمة من مخلفات صهر السيراميك ومخلفات الأفران من هذه الفترة في العقبة. كما تم اجراء أبحاث علمية على تجمعات السيراميك في هذا الميناء أظهـرت نوع جديد من الفخار، الذي أنتج في العقبة التي كانت تابعة ميناءً أردنيا نبطيا مهما أثنـاء القـرنين الأولين بعد الميلاد. كما أن هذا الفخار من العقبة الذي يتميز بلونه ونسيجه الرملي؛ قـد تمتـع بتوزيع واسع في أنحاء المملكة الأردنية النبطية. كما عثر على فرن لصـناعة الفخـار في منطقة بئر مذكور من قبل “جلوك”، ويشير جلوك إلى وجود تأثيرات خارجية علـى الفخار النبطي كالتأثيـر الباريثي والهلنستي والاخميني. بينما رد آثاريون على أنه لا وجود لتـأثيرات خارجية أخمينية على الحضارة الأردنية النبطية، لأن الحضارة الأخمينية، ولاسيما في مجـال العمـارة والآثار ما هي إلا فرع من الحضارة الأشورية، كما أن الحضارة الباريثية ما هي إلا خليط من الحضارة الأخمينية والحضارة الاسكتية الهندية. بينما يحتمل أن الأردنيين الأنباط كانوا قد تأثروا بما صنعه الأردنيون الأدوميون من الفخار بسبب الشبه الكبير بين شكل الفخار الأردني النبطي والفخار الأردني الأدومي الذي وجد في المنطقة، كما وجد بعض من الفخار النبطي في جرش وتل الذهب الغربية، وأماكن أخرى متفرقة.

الصلصال
يتميز الصلصال الذي استخدمه الحرفيون من الأردنيين الأنباط بمرونة عالية، الأمر الذي مكنهم من الوصول إلى هذه الجودة في الإنتاج، كما كان لنسبة الحديد العالية فيه الفضل في اللون الأحمر المميَّز لفخارهم. وقد استخدم الحرفيون الأنباط الدولاب في صنع جميع أنواع الفخار النبطي الرقيق، أما الآنية فكانت إما بسيطة الشكل خالية من الزخرف، وإما مبطنة أو مزينة بالرسومات، أو مزخرفة بأسلوب الضغط أو الدحرجة.

كانت الزبادي المفتوحة بقواعدها المحدبة، والتي تحتوي على رسومات دقيقة من الداخل، هي أبرز ما أنتجه الحرفيون الأردنيون الأنباط من الفخاريات الرقيقة. إلا أن هذا الشكل غير ملائم للاستخدام اليومي، الأمر الذي دفع العديد من الباحثين إلى الاعتقاد بأن هذه الزبادي كانت تستعمل للطقوس الدينية والتقدمات الجنائزية، ولكن الأمر المحير هو أنها وجدت في داخل المنازل وليس فقط في المعابد والمقابر مما يدل على أن الحالة المعيشية كانت عالية بحيث تنفق الأسرة العادية على الفخار الأفضل جودةً.

كانت عجينة أولى أواني المنتجات الفخارية النبطية والمؤرخة إلى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد نقية خالية من الشوائب ولكنها سميكة.


أنواع الفخار النبطي

صنعت في المملكة الأردنية النبطية أنواع الفخاريات المختلفة، من الرقيق إلى العملي الخشن، بما في ذلك السُرُج والتماثيل، وأثبتت الدراسات  وجد تحوّل تحول واضح من إنتاج الفخار أحمر اللون خلال المراحل المبكرة نحو إنتاج الفخاريات ذات السطح الأبيض في المراحل المتأخرة. من أسباب هذا التحول درجة الحرق الأعلى الناتجة عن التطور في بناء الأفران، حيث تنتج الفخاريات البيضاء على درجات حرارة أعلى من الحمراء، وهناك اتجاه آخر في صناعة الفخار الملون إذ تضاءلت نسبة إنتاجه مع مرور الزمن رغم استمراره حتى القرن السادس ميلادي.
وقد اعتمدت تحليل مادة الفخار كيميائيا على استعماله مصدر واحد للصلصال في صناعة كافة الأنواع المنتجة في الزرابة، كما أنتج الأردنيون الأنباط أصنافا متنوعة من الفخار إلا أن أكثر منتجاتهم تميزا كان فخارهم الرقيق ذو الخامة الصافية الذي صنعوه إما بدون زخرفة أو ملون أو مزينا بزخارف مطبوعة أو مدحرجة وقد انتشر الفخار النبطي في مركز صناعته في الزرابة – البترا إلى كافة أنحاء المملكة الأردنية النبطية. ويمكن تنصيف الأواني والمصنوعات الفخارية النبطية إلى ثلاثة أنواع رئيسية هي :
1. الفخار الملون: حيث وجدت معظم الزخارف الملونة على الأطباق الصغيرة المقعرة إلا أن أشكالا أخرى لونت أيضا كالأباريق الصغيرة والفناجين، وبالإمكان تقسيم خامات وزخارف الفخار الملون إلى خمسة طرز رئيسة ذات دلالات تاريخية، رغم أن هناك تداخلات بين هذه الطُرز مما يشير إلى تطورها تدريجيا.

نماذج متنوعة من الفخّار النبطي الملوّن

أ. الطراز الأول: الذي يؤرخ إلى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد ومن أمثلة هذا الطراز الفخار ذو اللون الوردي أو الأحمر الفاتح والزخرفة حمراء اللون على شكل خطوط عريضة أو مموجة تتقاطع عند القاعدة.
ب. الطراز الثاني: الذي يؤرخ إلى نهاية القرن الأول قبل الميلاد حتى بدايات القرن الأول الميلادي ومن الأمثلة على هذا الطراز الفخار الرقيق ذو الزخارف بأشكال أوراق وأكاليل نباتية طبيعية.
ج. الطراز الثالث: الذي يؤرخ إلى القرن الأول حتى بداية القرن الثاني الميلادي ويمثل الطراز النبطي الكلاسيكي، تتراوح سماكة الجدران بين 1,5- 4 سم أما اللون فهو أحمر إلى أحمر مصفر، والزخرفة حمراء غامضة إلى بنية والأمثلة المبكرة ذات الزخارف الدقيقة الشبكية المتنوعة تطورت إلى زخارف نباتية محورة على خلفية مخططة.
د. الطراز الرابع: يؤرخ إلى ما بعد منتصف القرن الثاني والقرن الثالث الميلادي وهو من حيث الرقة تشبه الطراز الرابع تقريبا. أما الزخرفة فبنية غامضة أو سوداء وقد استمر استعمال الزخارف النباتية المحورة من الطراز الثالث لكن بدون الخلفية المخططة، وبدأ ظهور تصاوير الحيوانات خاصة الطيور.
هـ. الطراز الخامس: الذي بدأ مع نهاية القرن الثالث وبداية الرابع الميلادي حيث تغيّرت صناعة الفخار النبطي حيث انتجت آنية أكثر سماكة تحوي عجينتها الكثير من الشوائب وألوانها أقل نضارة مما سبقتها، الأمثلة المتأخرة عبارة عن فخار خشن نسبيا مزخرف ببقع سوداء وتشير نتائج حفريات الزرابة والبيوت السكنية في البترا إلى استمرارية هذا الطراز حتى القرن السادس الميلادي.

الفخار النبطي الملوّن

2. الفخار ذو الزخارف المدحرجة أو المطبوعة: كان الفخار ذو الزخاف المدحرجة يصنع بواسطة عجلة أو دولاب صغير حيث تتم دحرجة الزخرفة على سطح الإناء قبل وضعه بالأفران، أما الزخارف المطبوعة فتصنع بواسطة ختم صغير. وكان هذان النوعان من الزخرفة شائعين على الآنية الكلاسيكية، ويظهران أيضا على الآنية الملونة من الطرازين الثالث والرابع المبكر، وقد زخرفت أجزاء مختلفة من الآنية بهاتين الطريقتين بما في ذلك المقابض والفوهات.
3- الفخار الخشن: ويشمل هذا النوع من الفخار الآنية المستعملة يومياَ كأواني الطبخ والجرار وتكون الأشكال المستوحاة فيها عادة متأثرة بالأشكال الهيلنستية السابقة، ولقد تطورت مع الأشكال الرومانية وفيما بعد البيزنطية غير أنه بقي حتى لهذه المنتجات المتواضعة طابعها النبطي المميز شأنها شأن مجمل منتجات الفنون الأردنية النبطية، ومثال على ذلك القوارير الصغيرة المستعملة للعطور والزيوت الثمينة التي أصبحت مؤشر للوجود الأردني النبطي رغم أنها كانت شائعة من قبل خلال الفترة الهيلنستي.

أ. السُرُج الفخارية
كانت صناعة السُرُج (مصابيح النار) في الأزمان القديمة مرتبطة بالفخار أكثر من الحجر والمعدن. وكان تشكيل هذه الأسرجة بسيطاَ حيث يستعمل جسم السراج لاحتواء الزيت أما الفوهة فكانت تحتوي على فتيلة وكانت هناك في الغالب يد لمسك السراج.
وينظر إلى القيمة الفنية للسُرُج من خلال أمرين أولهما شكلها  الذي قد يأخذ عدة أشكال حيوانية أو إنسانية أو هندسية أو إلهية. وكانت النقوش والمنحوتات والزخارف التي كانت تنقش تعتبر قيمة جمالية.
تعود أقدم السُرُج الفخارية إلى العصر البرونزي المبكر، حين كانت عبارة عن صحون وزبادي بسيطة مصنوعة يدويا. ثم صنعت فوهة السراج لتركيز الفتيلة وذلك بضغط الطين قليلا عند حافة الزبدية وبحلول العصر الحديدي أضحت هذه الفوهة عميقة ومتينة. وحين ظهرت العجلة الصناعية منذ العصر البرونزي الوسيط تطورت صناعة السُرُج وفي العصر الحديدي الثالث أصبحت أطراف السُرُج المصنوعة على العجلة مضغوطة معا لإغلاق البدن الذي يحتوي  على الزيت وكان ينتج عن ذلك شكلا متطاولا وفوهة بارزة، وفي الفترة الهيلنستية استعمل القالب ولأول مرة في صناعة السُرُج وبقي الشكل الطولي والفوهة الطويلة البارزة، وكانت تزخرف هذه الأسرجة المصنوعة بالقالب بأشكال بسيطة عبارة عن خطوط إشعاعية وسنابل قمح وبعضها زخرف بلفيفات صغيرة، ومنذ ذلك الوقت وحتى الفترة الإسلامية المبكرة طغت السُرُج المصنوعة بالقالب على الإنتاج رغم استمرار صناعة السُرُج على العجلة بشكل محدود.
وفي العصر الروماني وصلت صناعة السُرُج بالقالب إلى ذروتها، وظهرت في القرن الأول الميلادي (السُرُج ذات القرص) وهي سُرُج لها بدن مستدير وظهر مقعر قليلا رسمت عليه زخارف مختلفة ومناظر أسطورية. وفي البداية استوردت هذه السُرُج من أوروبا وبخاصة من إيطاليا، وأدخلت معها العديد من الزخارف الفنية القريبة إلى الشرق لكن الجيل الثاني من السرج ذات القرص شهد صناعة شرقية محلية كان يغلب عليها بساطة الشكل.
تميزت السُرُج الاردنية النبطية بخصوصيتها وزخارفها بالخطوط الشماعية والأزهار الصغيرة وبعضها كان على قاعدة حروف أردنية نبطية. وفي القرن الثالث الميلادي استبدلت السُرُج ذات القرص بأخرى مستديرة ذات فتحة كبيرة للزيت وأتت زخرفتها على الكتف كما أصبحت فوهات الفتيلة أكثر تطاولا وخلال الفترة البيزنطية اتخذت السُرُج أشكالا لوزية.
ومن السُرُج الفخارية في البترا، عثر على سراج من العصر الحديدي وهو سراج آدومي كان يستخدمه الأردنيون الأدوميون الذين سكنوا البترا في حدود القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.
وهناك سراجان من الفترة الهلنستية المتأخرة من البترا في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول قبل الميلاد. وعثر على سراج مستورد له يد على شكل هلال من حفريات الكتونة في القرن الأول قبل الميلاد وسراج آخر مستورد من نفس الفترة تقريبا في معبد الأسود المجنحة.
كذلك عثر على سراج عليه صورة أوروبا راكبة الثور من حفريات الزرابة وهو سراج من انتاج محلي وبقالب مستورد من ( القرن الأول – بداية القرن الثاني الميلادي) وعثر على السراج على صورة قرني الرخاء متقاطعين وهي نفس الصورة الموجودة على العملات الأردنية النبطية.

سراج نبطي

ب. أواني المطبخ
تشير الأدلة من الزرابة على أن أواني المطبخ صنعت من ذات الصلصال المستخدم في صناعة الفخار النبطي الرقيق غير أن دقائق الجير كانت تضاف إلى عجينة أواني الطبخ بعكس عجينة الفخاريات الرقيقة التي كانت صافية جداً، ولهذا السبب كانت أواني الطبخ توضع على النار مباشرة أي أنها كانت تتحمل الصدمة الحرارية وأثبتت التجارب أن الجير مادة مثالية لتحمل مثل هذه الصدمات. وقد اكتشف عدد كبير من أواني الطبخ في مختلف مناطق البترا من شارع الأعمدة ومعبد الأسود المجنحة وحفريات الزنطور.

ج. الصحون الفخارية
كانت الصحون الفخارية تستخدم لتقديم الطعام وكانت على أحجام وأنواع مختلفة وذات زخارف منوعة. فقد اكتشف صحن صغير ملون (يعود لبداية القرن الأول الميلادي) وحتوي على قاعدة ثلاثة رسوم لزاحفة (أم أربع وأربعين) ويعتبر هذا الصحن مثالاً نادراً للرسوم الحيوانية على الفخار النبطي.
وهناك صحن ملون اكتشف في البترا (يعود لنهاية القرن الأول – الثاني الميلادي) بإشارة ثلاثية تحددها رسوم ورق النخيل ومن المعتقد أن الرسوم في الأجزاء الثلاث تمثل أنواع مختلفة من الفاكهة.
وعثر في البترا على صحن ملون (يعود لنهاية القرن الأول – الثاني الميلادي) بأشكال ثلاثية تحددها رسوم ورق النخيل، وهناك اعتقاد بأن المثلثات المزدوجة ترمز إلى جبل الشراه رمز الإله ذي الشرى.
وكانت أغلب الصحون الفخارية ملونة بالأحمر وتظهر أحيانا ألوان رمادية ومصفرة بسبب ارتفاع درجة الحرارة في بعض أماكن الفرن.
ومن حفريات معبد الأسود المجنحة هناك صحن ملون (يعود لنهاية القرن الأول – الثاني الميلادي) بأشكال ثنائية تحددها ورقة نخيل ورمانة ثلاثية. ومن نفس المعبد هناك صحن ملون (يعود لنهاية القرن الثالث – بداية الرابع الميلادي) بأشكال ثنائية تظهر طيرين يأكلان عناقيد العنب.
وعثر على صحون وزبادي كثيرة في الزرابة والزنطور وغيرها من مواقع البترا الأثرية.

د. قوارير العطور النبطية
زخرت المواقع الأردنية النبطية بالكثير من قوارير العطور والزيوت الفاخرة والمعطرة، وقد صنعت بأشكال وأحجام قياسية معينة مما يشير إلى أن الأردنيين الأنباط استخدموها لتغليف عطور وزيوت الشرق استعدادًا لتصديرها إلى الغرب، أو للاستهلاك المحلي كما تدل كميات القوارير الهائلة المكتشفة في المواقع الأردنية النبطية، ولقد عثر على قوارير العطور الأردنية النبطية في عدد من المواقع في آسيا الصغرى وأوروبا، بما في ذلك البلقان وإيطاليا. وقد صنعت هذه القوارير من جزئين منفصلين، البدن والرقبة، كان يتم لصقهما قبل الشواء في الفرن، ولمعظم قوارير العطور النبطية قواعد مدببة قليلا يعتقد بعض الباحثين أنها كانت لوضع القارورة على قرص السراج وذلك لإضفاء رائحة زكية على الغرفة عند تسخين محتويات القارورة، وربما استعمل الزيت المعطر من القارورة مباشرة لإشعال السراج، وكان يتم ختم رقبة القارورة الطويلة بسدادة من الطين قبل بيعها أو شحنها للتأكد من عدم العبث بمحتواياتها.

قوارير نبطية كانت تستخدم لحفظ العطور والزيوت المستخدمة للتحنيط

هـ. المباخر النبطية
احتكر الأردنيون الأنباط تجارة البخور في القرن الأول قبل الميلاد بعد أن كانت بأيدي السبئيين والمعينيين وكانت محاصيل البخور والمر تجمع في مرفأ قنا وهي ” حصى الغراب ” اليوم في خليج عدن، ومنها تنتقل براً إلى شبوه ثم على مأرب سبأ، ومنها إلى قرنو عاصمة قتبان ثم إلى نجران ومن نجران تسير القوافل إلى يثرب (المدينة المنورة) ثم إلى الحجر (مدائن صالح) وتصل إلى البترا في 12-15 يوماً. وكانت التوابل تنتقل بالحبر أحياناً إلى ميناء أيله – العقبة النبطي.
ومن ثم إلى مصر عبر صحراء سينا ومن البترا كانت تنتقل البضائع إلى غزة ثم إلى صحراء سيناء أو عبر النقب في خمسة إلى سبعة أيام. وكانت غزة والعريش مرافئ الأردنيين الأنباط الرئيسية على البحر الأبيض المتوسط.
وكانت صناعة المباخر جزء من تجارة البخور النبطية، وكانت المباخر النبطية تصنع على غرار ما كانت تصنع المباخر في العصور التي سبقت توسع نفوذهم في الأردن. وقد عثر في معبد الأسود المجنحة على المبخرة فخارية الصنع، الجزء العلوي منها كصحن منفصل ثم يتم إلصاقه بالقاعدة العالية المزخرفة بعض الشي، وتشير علامات الحرق على الفوهة أن المبخرة استعملت في القدم.

و. الجرار الصغيرة
وجدت هذه الجرار بكثرة في المواقع الاردنية النبطية ويعتقد بعض الباحثين أنها كانت آنية لجمع زيت الزيتون، وقد ذكر المؤرخ سترابو في بداية القرن الأول الميلادي أن أشجار الزيتون لم تُزرع في أراضي المملكة الاردنية النبطية على نحو واسع، وأن الأردنيين الأنباط استخدموا زيت السمسم (السّيرج) عوضا عن زيت الزيتون، غير أن هنالك بقايا معصرة زيتون قديمة مشرفة على البترا في منطقة الزرابة، وقد عثر على معصرة زيتون في موقع خربة الذريح النبطي إلى الشمال من الطويلة نسب تاريخها إلى بداية القرن الثاني الميلادي. وقد تكون الجرار الصغيرة ملونة أو خالية من الألوان وبزخارف أو بدونها، وقد تكون لها قبضة واحدة أو أكثر. وعثر على الكثير منها في البترا، الكاتونة، معبد الأسود المجنحة، البيوت السكنية على جبل قبر جميعان، منطقة الشارع المعمد وغيرها. ووجدت جرار أخرى كبيرة الحجم.

جرار فخارية نبطية من عدة أحجام

ز. الأباريق الفخارية
تعتبر الأباريق الفخارية أوعية مهمة لحفظ السوائل والأطعمة السائلة. كاستمرار للإرث الأردني العريق في استخدام هذا النوع من الأباريق. واستخدم الأردنيون الأنباط هذه الأباريق، إذ عثر عليها في حفريات الكاتونة والبيوت السكنية على جبل قبر جميعان، ومعبد الأسود المجنحة والزنطور وغيرها. وعثر على أنواع مختلفة من الأباريق الملونة وغير الملونة والمزخرفة وغير المزخرفة تمتد مساحتها الزمنية من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن السادس الميلادي.

ابريق فخّاري نبطي

ح. جرار التخزين
كانت جرار التخزين تتميز بكبر حجمها ومتانة جدرانها ولها مقابض كبيرة نسبياً، وقد تم اكتشاف كسر تعود ل (21) جرة تخزين كبيرة وجرة صغيرة ومحقانين فخاريين في المنطقة الوسطى والغربية من الرواق الجنوبي لكنيسة البترا البيزنطية وجميع جرار التخزين ذات شكل واحد وأربعة مقابض ولكنها تختلف في الحجم، وتظهر أشكال الفوهة اختلافات بسيطة غير أن جميع الجرار شكلت بنفس الطريقة.
وكانت تصنع هذه الجرار أولاً من كرة صلصال للقاعدة ثم يبنى عليها البدن باستعمال حبال صلصالية، أما الفوهة فكانت تصنع على العجلة ثم تلصق بالبدن المصنوع يدوياً.
ولمعظم الجرار بطانة من أعلى السطح الخارجي تسيّلت إلى مستوى أفقي على البدن مما يدل على أن الجرار كانت موضوعة داخل حفرة أو وعاء كبير أثناء تصنيعها، وقد صنعت جميع الجرار من فخار خشن يحتوي على الكثير من الرمل لكنها تختلف بألوانها وزخرفتها.

ط. الكؤوس

تعتبر الكؤوس النبطية ذات خصائص فريدة من نوعها، ومن أبرز تلك الخصائص صغر حجم تلك الكؤوس، ما دفع الباحثين لترجيح عدم استخدامها لشرب الماء لأن حجمها لا يروي الظمأ، ومن المحتمل أكثر أنها استعملت في شرب الخمر، إذ بينما كانت تقام الاحتفالات والمناسبات في مدينة البترا من قبل الأردنيين الأنباط، في مجالس ومضافات لها طقوس محددة يذكرها المؤرخ اليوناني سترابو، حيث يذكر أنهم كانوا يجتمعون في حلقات مؤلفة من ثلاثة عشر شخصا، إضافة للموسيقيين، بينما للملك قاعة كبيرة يقيم فيها الولائم وخلالها لا يشرب كل مدعو أكثر من 11 كأسًا من النبيذ، وكل مرة يشرب من كأس جديد . وكان الملك يشارك الناس والعامة ويقوم على خدمة الآخرين في المعبد (المزراح) ونذكر حتى اليوم المثل القائل (كبير القوم خادمهم) المستقى من هذا الطقس، وعقب هذه الطقوس تم تأليه هذا الملك وسمي “رب مرزحا” أي سيد المعبد.

المراجع:

  • الماجدي، خزعل(2012)، الأنباط التاريخ-المثولوجيا-الفنون،(ط1)،دمشق: دار النايا ودار محاكاة للنشر والتوزيع.
  • عباس، احسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط،(ط1)،عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عبدالعزيز، مهدي ، القدرة، حسين، نظرية الالتزام في الكتابات القانونية النبطية، معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث، الجامعة الهاشمية

الفخار الأردني النبطي

 

مسجد القينة المعاد ترميمه، محافظة الزرقاء. حقوق الصورة محفوظة للباحث نادر عطية

بني مسجد القينة في محافظة الزرقاء وتعود أساساته للعهدين المملوكي والأيوبي، ويرجح الباحث محمد وهيب أن هذا المسجد شكل حلقة وصل مهمة لبناءه على موقع عال واستراتيجي. يحاط المسجد القديم بأشجار الزيتون ومقبرة من ثلاث جهات. أمام المسجد ساحة اسمنتية وفي جدرانه نوافذ للإضاءة وأخرى لوضع المصاحف.

باب مسجد القينة، ويلاحظ الإهمال اللاحق بالمسجد. حقوق الصورة محفوظة للباحث نادر عطية

أعيد ترميم المسجد عدة مرات وسقفه اليوم من الاسمنت، ولكنه يعاني إهمالا شديدا. وتظهر القصارة الاسمنتية متأكلة والسقف شبه آيل للسقوط.

المراجع:

  • الدرادكة، فتحي (1998) القصور والمساجد الأموية في الأردن، دراسة منشورة.

المساجد الأردنية القديمة: مسجد القينة

Scroll to top