مقدمة

يعتبر الغناء الدرزي من الأنماط الموسيقيّة المميزة في الإرث الموسيقي الأردني، إذ أنه يتمتّع بخصوصيّة في القوالب البنائيّة والألحان والمفردات الشعريّة الذي لبعضه شخصيته المستقلّة تجعل منه لونًا غنائيًا خاصًّا غير موجود في مواقع أخرى من الأردن، بينما تشترك أخرى مع غيرها من قوالب الإرث الموسيقي الأردني في التسمية والسمات الفنيّة والجذور التاريخيّة. وبني معروف، أو الدروز، هم من سكّان المناطق الشماليّة في الأردن، إذ انتشرت مضاربهم بجوار العديد من العشائر والقبائل البدوية الأردنية، وتداخلت مناطق نفوذهم مع العديد من القرى والمدن في الشّمال وحتى الوسط، وكان لهم إسهامات شتّى في الممارسات الغنائيّة الشعبيّة ساهمت، دون شك، في نشر وتطوير العديد من الألحان والقصائد التي يزخر بها إرثنا الموسيقي الذي تبلور خلال مئات السنوات من النشاط الحضاري القائم على الانفتاح والتفاعل بين مكوّنات المجتمع الأردني. نستعرض في هذا البحث ألوان الغناء الدرزي في الأردن، أو ما يُعرف بالقوالب الغنائيّة: الفن، الهوليّة، العتابا. ويُضاف إليها: الهجيني، الحداء، الشروقي، السحجة (السّامر)؛ التي سبق وأفردنا لها أبحاثًا خاصّة يمكنكم الإطلاع عليها.

الأزرق 1900 أردنيون من بني معروف ( الدروز) بلباسهم التقليدي الجميل يرتدونه بارتياح ما يدل على مجتمع أردني تتأصل به قيم الانفتاح والتنوع

الفن

يُعد اللون الغنائي المُسمّى “الفن” من أكثر القوالب الغنائية الدرزية شهرةً وانتشارًا بين القبائل الدرزية، وربما هو الأقرب إلى وجدانهم نظرًا لخصوصيّته التي يختص بها الدروز عن غيرهم من خلاله، وهو أيضًا من أكثر الألوان الغنائية سهولةً للاستيعاب والتوظيف شعرًا ولحنًا. ويعتقد أن تسميته جاءت من كثرة ما تفنّن الشعراء الدروز ببناء قصائد الفن شكلاً ومضمونًا، ولبراعتهم في التنويع على أساليب الفن الشعريّة والغنائيّة، حيث حمّلوه الكثير من المفردات والموضوعات والقوافي والألحان، سافرت جميعها بالشخصيّة الدرزيّة وفلسفتها الخاصة نحو الحياة والحب إلى آفاق إنسانيّة راقية. ويسمّي البعض الفن بالـ “الفن الدرّازي”، ولهذه التسمية تأويلان؛ أولهما أنه لون غنائي خاص بالدروز، أما الثاني فهو تشبيه نظم القصائد الفنية بعملية الدرز أو التطريز، وكلا التأويلين يعبّران عن امتلاك القبائل الدرزية لهذا اللون الغنائي واعتزازهم به وجدانيًا وثقافيًا.

وفيما يرى البعض أن الفن يشمل كافة الألوان الغنائية التي يغنيها الدروز، مشتملة على الهجيني والحداء والجوفية والشروقي وقصيدة الفن نفسها، إلا أن الأخيرة تتميّز بشكلها البنائي الخاص الذي يجعلها تختلف عن غيرها من الألوان الغنائية وإن كانت جميعها “فنون”.

تتشكّل قصائد الفنون من عدد غير محدد من المقاطع، تكاد تتشابه جميعها في البناء والنمط الشعريّ، وغالبًا ما يكون المقطع الأول ذا أهميّة بالغة لأنه مفتاح القصيدة وبابها، ولذلك فهو يختلف في تركيبته الشعرية عن باقي المقاطع، إذ تشترك الشطرات الأولى والثانية والرابعة فيه بنفس القافية التي تكون الأساسيّة للقصيدة كلها، وتنفرد الثالثة بقافية مختلفة لكسر الملل والرتابة ولترسيخ القافية الأساسية الواردة في بقيّة الشطرات. وعلى الرغم من وحـدة الموضوع والمضمون لكامل القصيدة، إلا أنه وفي بعض الأحيان تكون المقاطع الشعرية المكوّنة من بيتين في قصيدة الفن بمثابة وحدة فنيّة ذات مسار فرعيّ من الموضوع الرئيسيّ. من الأمثلة على الفنون قصيدة “زاد هم القلب زاد” التي يُلاحظ فيها ما تقدّم بيانُه فيما يتصّل بالبناء الشعريّ :

زاد هم القلب زاد .. عوّفني لذيذ الزّاد

سبب علّتي يا ناس .. غرٍّ نطحني ورّاد

غرٍّ نطحني بعيني .. طوله رمح لرديني

بسوى من هون للصيني .. وأيضاً قرايا بغداد

بسوى من الذهب مليون .. خدّه يا قمر كانون

ع فراقه سُحِت مجنون .. ذبحني حُمُر لخداد

ومن الأمثلة على قصائد الفن التي تظهر فيها التقنية الشعريّة عالية المستوى من خلال تكرار نهاية البيت السابق في مطلع البيت اللاحق، ما جاء في قصيدة “هلّي يا دموعي” :

هلّي يا دموعي هلّي .. تنبكي ع ولفٍ لي

على شوقٍ لاقيته .. مبارح من بعد الحَلِّه

على شوقٍ لاقيته .. يسوى كل اهل بيته

لولا الحيا حبّيته .. وهو على البير يملّي

ع البير يملّي جودُه .. يا مرحوم ابو جدودُه

ويلي من حُمر خدودُه .. رمّان على امّه مدَلّي

رمّان مدلّي اغصانه .. لسّا ما حل أوانه

لحرُث على فدّانُه .. واجعل هالعمر يولّي

الهوليّة

وهي رقصة غنائية شعبيّة يؤديها الرجال والنساء معًا في المجتمع الدرزي، يقف فيها المشاركون على شكل حلقة تتشابك فيها أيديهم على الأكتاف وتتحرّك دائريًا إلى اليمين على إيقاع غناء شعبيّ خاص بهذه الرقصة، وتدور الحلقة بعكس عقارب الساعة بنظام خطوتين لليمين وخطوة إلى اليسار، وبداخل الحلقة ينفرد راقصٌ وراقصةٌ بأداء منفرد، الأمر الذي يُشبه من حيث توزيع الأدوار إلى حدٍّ قريب رقصة السامر البدوية التي يقف فيها المشاركون صفًا واحدًا فيما تستعرض أمامهم الحاشي رقصتها الخاصة. والهوليّة، كالسّامر، تؤدّى في نهاية سهرة طويلة، ويشترك في أدائها الأقارب.

أما تسمية هذه الرقصة بالهولية فيعود للتهويل، والتهويل لغةً يعني المبالغة، واصطلاحًا في القاموس الشعبيّ وبخاصة عند الدروز فهو يعني النقوش والزينة والحلي التي تُظهرها المرأة للمبالغة في جمالها. وتُسمّى الهولية بهذا الاسم تشبيهًا لزينة المرأة الجميلة، فالأغاني الهوليّة مزخرفة بالكثير من المفردات والأبيات الشعريّة الجميلة التي ترافق الرقصة الرشيقة ذات الإيقاع النشط. وتشبه الهولية الزينة في عشوائيتها الجماليّة، فهي غير محكومة بنظامٍ غنائيّ محدد، لا سيّما وأن معظم الهوليّات متوارثة عبر الأجيال ولا يُعرَف قائلها، مما يسمح بالكثير من الإضافات والزخارف في الكلمة والنغمة، ويعطي مساحة للتنويعات الشعريّة الجديدة بحسب ما تقتضي طبيعة الحال والمزاج، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى ثراء كبير في مخزون الهوليّات الجماليّ، وفيما يلي نموذج لإحدى الهوليّات :

بظلّك يا شيخة لافرش وانام .. بظلّك يا شيخة يا هويدلو

بهوى المليحة ليش ولّعتوني .. بهوى المليحة يا هويدلو

بظلّ التفاحة لافرش وانام .. بظل التفاحة يا هويدلو

ما يشوف الراحة هاوي المزيونة .. ما يشوف الراحة يا هويدلو

العتابا

اشتُقّ اسم العتابا من العتب، والعتب كما يُقال “ع قدّ المحبّة”، فهو من الألوان الغنائية التي تنحاز أشعارها إلى الحديث عن الحب بكافّة أبعاده وزواياه، فمن الحنين إلى اللوم مرورًا بالوجد ووصولاً للغزل؛ تتنوّع وتتراكم أبيات العتابا التي تناقلتها الأجيال عبر مئات السنين. والعتابا غناء موّالي فرديّ غير جماعي، وغير موزون بإيقاع، أي غناء حرّ أقرب إلى الارتجال، ما يعطي للمغني مساحة أكبر للتعبير عن حالته المزاجيّة وعن انعكاس مضمون الأبيات الشعريّة التي يغنّيها على حالته الوجدانية.

يُعد العتابا ذروة من ذرى الاتقان الشعريّ واستعراض القدرة البشرية على التلاعب باللغة واظهار مكنوناتها الجماليّة، فتأليف أبياته يتطلّب براعة ودقّة لفظية كبيرة، ومخزون غنيّ من المفردات الشعبيّة الصالحة للتوظيف في قالب العتابا بحسب شروطه البنائية، حيث يتكوّن كل موّال عتابا من بيتين (أربع شطرات)، تنتهي بالضرورة الشطرات الأولى الثلاث بنفس الكلمة، في كلّ مرّة يجب أن يكون لنفس الكلمة معنى مختلف، فيما يجب أن تنتهي الشطرة الأخرى بكلمة تكون القافية فيها (آب) ككلمة (البواب، الجواب، الأحباب…إلخ). وبالرغم من صعوبة وتعقيد الشروط البنائيّة إلا أن الأمثلة كثيرة على العتابا، ومنها :

لوماهن ما انشهر الاحدب ولا انسال .. لوماهن ما انسلب ميزان جسم ولا انسال

لوماهن ما انهرق دم ولا انسال .. لوماهن ما انتصب ميزان الحساب

انسال الأولى : تعني انسلال السيف (الاحدب)، وانسال الثانية تعني : أن يصاب الجسم بمرض السّل، وانسال الثالثة تعني : أن يسيل الدم.

المضمون الشعري

تتسم الأشعار الغنائية الدرزية، كغيرها من أنماط الغناء في الأردن، بتنوّع المضامين واحتمالها لمختلف الموضوعات التي تعبّر عن الوظائف الاجتماعيّة والدوافع النفسية والحالة المزاجيّة العامّة لمختلف أفراد المجتمع، فمنها ما يعكس تنوّع المجتمع برمزيّات بسيطة كالحديث عن اختلاف لون البشرة، مثل :

بين السّمر والبيض مشروعيّة .. والكل منهن دوم يشكن ليِّه

إحنا يا البيض إحنا الحجر ألماس .. تاج الذهب مرفوع فوق الراس

والسّمر حديد للمحماس .. ولّا خلق صاجات للعزبيّة

ولم يكن مضمون الأغنية الدرزية ببعيدٍ عن النضال ضد المستعمر جنبًا إلى جنب مع بقية الأردنيين، فقد عبّرت عن قيم البطولة والحرية، خصوصًا وأن هذه القيم هي من أكثر ما تهتم به الأعراف الدرزية تاريخيًا، وتشير المصادر إلى أن العديد من الشعراء الذين صاغوا وكتبوا هذه الأغاني كانوا من بين المقاتلين في قوّات الثورة، وعند العودة لدراستها ومقارنتها بالأحداث التاريخية يجد الباحث أنها ساهمت بتوثيق التاريخ العسكري والسياسي للأحداث الجارية في حينه. ومن أمثلة الأغاني التي تضمنت الحديث عن النضال الدرزي ضد المحتل العثماني :

نمشي على الباغي بجد .. ما نختشي من حرابها

حنا على سن الرّمح .. تركيا لا ما نهابها

وبلادنا حصن منيع .. عيّت على طلابها

تفديها بغالي النجيع .. وتهوشِ عند بوابها

كما اشتملت الكثير من الأغاني الكثير من الحكم والمثل الإنسانيّة التي تمثّل فلسفة الإنسان الدرزي، ومن أمثلة ذلك :

إن جاد حظك باع لك واشترى لك .. ويحفظك من بالشان وتصير من ناس

وإن غاب حظك يكرهنّك رجالك .. ويعيب عرسك يا فتى الجود للساس

السمات الفنيّة

الشّعر : تتميّز الأشعار الغنائية الدرزية بإسهابها وسرديتها الطويلة للتفاصيل، فهي لا تقف عند بيتين أو ثلاثة، وانما تتابع الأبيات فيها لتكوّن قصيدة طويلة قادرة على حمل قصّة سرديّة أو صور وصفيّة أو حوارات غزليّة.

تحمل الأشعار الدرزية أنظمة قوافي متعددة، فمنها ما يعتمد على قافيتين ثابتتين للصدر والعجز طول القصيدة، ومنها ما يعتمد على قافية محددة تتكرر في نهاية كل بيتين من القصيدة، ومنها ما يكون أكثر تحرّرًا على سبيل التجديد والابتكار، ما يؤشر على رشاقة وصِبا الثقافة الشعريّة عند الدروز، واتساعها للتجارب الشعريّة الجديدة.

تمتاز الحالة الشعريّة الدرزية، كغيرها من الحالات في الإرث الموسيقي الأردني، بأرضيتها الحاضنة لنمطيّة اللغة “اللهجة” المحكيّة، بكل تغيّراتها وتطوّراتها المُحتملة التي تترافق مع تغيّر أنماط العيش ودخول مفردات جديدة أو تغيّر بعض الأنظمة اللغوية فيها. وتتسع القصيدة الغنائية الدرزية الواحـدة لمفردات قد تميل للبداوة أو المدنيّة في نفس الآن.

اللحن : لا يمكن النظر إلى الخصائص اللحنيّة للغناء الدرزي بمعزلٍ عن الأخذ بعين الاعتبار الخصائص والسمات الشعريّة والبنيوية اللفظية والعروضيّة للقصائد الغنائية الدرزيّة، وعليه؛ فإن المتتبِّع والممعن في تحليل الألحان الغنائية الدرزية يجدها تحت ظلال القافية والمعنى بشكلٍ واضح، وهو ما يرسّخ فكرة الإبداع المتعدد الجوانب والمعتمد على العناصر الجمالية الأساسيّة الثلاثة : الكلمة، اللحن، الأداء.

تّتسم الألحان الدرزية عمومًا برشاقة بنيتها اللحنيّة وبساطتها باعتبارها غناءً شعبيًا، وبالرغم من بساطتها في الغالب، إلا أنها تحتوي في بعض الأحيان على قفزات لحنيّة بعيدة تعطيها الطابع الموسيقيّ الأكثر تعقيدًا دونًا عن النمطية الرتيبة للألحان الشعبيّة الشهيرة في مناطق أخرى، وتجعلها جذّابة للاستماع والأداء على حدٍّ سواء.

أما بالنسبة للمقامات الموسيقيّة المستخدمة في الأغاني الدرزية، فبحسب الدراسات والأبحاث السابقة، فإن مقام البياتي يحتل المرتبة الأولى في الألحان الغنائية، وهي سمة شائعة في الغناء الأردني عمومًا، يليه مقام السيكا فمقام الراست، بينما يأتي مقام الصبا والهزام في الآخر.

الإيقاع : تترافق معظم الأغاني الدرزية، ما عدا المواويل والعتابا، بالمرافقة الإيقاعيّة، سواء كانت باستخدام الآلات الإيقاعيّة أو من خلال الممارسات الإيقاعيّة غير الموسيقيّة كأصوات الدبكة والرقصات المختلفة، ومن الإيقاعات المستخدمة في الأغاني الدرزية : الأيوب، اللف، المقسوم، الفالس، الهجع.

الأداء : تتنوّع طرق الأداء الغنائي عند الدروز، ما يخلق تصنيفًا واضحًا للأغاني استنادًا لطريقة الغناء، فمنها ما تغنيه مرأة منفردة أو رجل منفرد، ومنها ما تغنيه مجموعة من النساء أو مجموعة من الرجال، ومنها ما تشترك فيه مجموعتان من الرجال والنساء في حوارٍ غنائيٍّ، والذي قد يكون أيضًا على شكل حوارٍ بين دور منفرد ومجموعة من الردّيدة كذلك النمط الأدائي الموجود في غناء السّامر. وتؤدى الأدوار الأدائية في الغناء بصورة تلقائيّة في المناسبات الاجتماعيّة.

ومن الملفت للنظر التنوّع الثري في الطرق الأدائية للغناء الدرزي، الرجالية والنسائية، الفردية منها والجماعية، التي تسمح بالأداء مع المرافقة العزفية أو بدونها في بعض الأحيان. أما فيما يتصل بالمرافقة العزفية فإن الآلات الموسيقية المنتشرة في المجتمع الدرزي هي الربابة والشبّابة وآلة العود.

ولقد برز على الساحة في العصر الحديث العديد من المؤدين الشعبيّين الذين انتزعوا مكانتهم وشهرتهم في الوسط الفنّي الشعبيّ، تميّزوا بأدائهم الرصين وحفاظهم على الإرث الموسيقي الدرزي، وتناولت الدراسات والأبحاث أعمالهم وأداءهم بالتحليل وساعد ذلك في فهمٍ أعمق للموسيقى الدرزية.

المراجع :

  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (1)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (2)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 23، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

قوالب الغناء الدرزي

المقدمة

عبر التاريخ، لعبت سهول حوران الأردنية دورا مفصليا في تاريخ الحضارات في الأردن. وقد كانت السهول الأردنية عامرة بالمدن ذات البصمة الثقافية والأثرية التي نلمسها حتى اليوم. ضمن سلسلة أبحاثنا في مدن الديكابولس الأردنية، نستعرض في هذا البحث مدينة كابتولياس أو كما تعرف اليوم باسم “بيت راس”.

إطلالة لبيت راس

الموقع

تقع مدينة كابتولياس (بيت راس) 5 كلم شمال محافظة إربد. على هضبة عالية ترتفع بمقدار 600 متر عن سطح البحر (الشامي: 2002) أما المدينة القديمة فقد جاءت بين مدن الديكابولس الأردنية الأخرى فمن الجنوب حدتها أبيلا (طبقة فحل) ومن الشمال مدينة بيلا (حرثا/القويلبة) ومن الشمال الغربي مدينة جدارا (أم قيس) وقبل تأسيس المدينة كانت مدينة كابتولياس إضافة لمدينة أرابيلا (إربد) ضمن سلطة مدينة بيلا (طبقة فحل). (Lenzen & Knauf: 1987)

خريطة توضح موقع مدينة كابتولياس من مدن الديكابوليس الأردنية وامتداد الطرق الرومانية التجارية القديمة. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

التسمية

 تعود تسمية المدينة بكابتولياس نسبة إلى المعبد الذي أنشئ فيها للإله “جوبيتر وسمي المعبد  جوبتير كابيتوليانس Gupiter Capitolinus يظهر المعبد منقوشا على العملات النقدية التي اكتشفت في المدينة والتي تؤرخ للسنوات 165-166 م.

من عملات مدينة كابتولياس ويظهر فيها معبد جوبيتر كابتوليانوس. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

ويعتقد  بأن الاسم الروماني جاء ليناسب الوضع الجغرافي للمدينة. حيث تعني كابيتو تعني الرأس (الأعلى) ولياس تعني المنزل أي السكن في المكان العالي (البكري: 1947) وقد ثبت هذا الاسم في منتصف القرن السادس الميلادي. (Lenzen & Knauf: 1987)

ويطابق الاسم الحالي “بيت راس” المعنى السابق ذكره. ولكن ما يستغربه الباحثون هو عدم وجود اسم للمدينة من قبل تأسيس مدينة كابيتولياس (بيت راس) في الحقبة الرومانية. إن “بيت” و “راس” هما كلمتان تشتركان في جذر عربي وآرامي. إلا أن خلو المقطع من أل التعريف يرجح أن هذا الاسم ربما يكون أقدم من العربية التي نستخدمها اليوم. (Lenzen & Knauf: 1987)

تاريخ البحث الأثري

 حظيت مدينة كابتولياس (بيت راس) باهتمام الرحالة والمستكشفين منذ مطلع القرن التاسع عشر. فكان الرحالة سيتزن من أوائل من زاروها عام 1806 وتبعه المستكشف شوماخر عام 1878 الذي أعد بعض المخططات وأشار إلى أن المدينة محاطة بسور. (الشامي: 2002)

بعدها زارها المستكشف ميرل عام 1885، وعام 1951 كانت مدينة كابتولياس من ضمن المدن التي خضعت للمسح الأثري الذي أجراه الباحث نلسون جلوك. وتبع جلوك الباحث ميتمان الذي أجرى مسحا أثريا آخرا كانت المدينة من ضمنه عام 1970. وفي الثمانينات جاء الباحثة شيري لينزن  التي قامت بعدة مسوحات أثرية موزعة على مواسم بين الأعوام 1985-1987 ركزت على أقبية المدينة (الشامي: 2002)

الأقبية التي درستها الباحثة . شيري لينزن المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

التاريخ

 كما أسلفنا فمن غير المعلوم تاريخ الاستيطان البشري في المدينة، ولكن بحسب القطع الفخارية والعملات التي وجدها الباحثون في المدافن والكنائس ومعاصر العنب والزيتون تؤرخ المدينة إلى 98/97 ميلادي أي في عهد الإمبراطور تراجان (الشامي: 2002)

جاء الإمبراطور الروماني بومبي  عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى.

ضمت مدن الديكابولس جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) ومملا لا شك فيه أن مدينة كابتولياس (بيت راس) كانت واحدة من هذه المدن فقد ذكرت في أعمال المؤرخ ألكسندريان كلاوديوس بطليموس التي تعود لمنتصف القرن الثاني الميلادي.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

عمد الأردنيون الغساسنة   في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان لمدينة كابتولياس مركز مرموق بين جميع المدن، ويعود السبب لاشتهارها بزراعة العنب وصناعة النبيذ إضافة لزراعة الزيتون وصناعة زيته. وقد كانت هاتان الصناعتان عمودان أساسيان في ازدهار المملكة الأردنية الغسانية.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

في منتصف القرن الثاني بلغت مدن الديكابولس ازدهارا كبيرا واستقلالا لا مثيل له، فبدأت المدن الأردنية الحرة بسك عملاتها الخاصة. فوجدت في كابتولياس (بيت راس) عمل سكت في عام 165 ميلادي تقريبا ومنقوش عليها المعبد الذي سميت على اسمه المدينة وكذلك كان الحال في كبرى المدن الأردنية الحرة كفيلادلفيا (عمان).

دخلت المسيحية إلى المدينة بقوة واعتنق أبناؤها الديانة الجديدة وكانت محركا للثقافة والمعمار. وصحيح أن المسيحيين الأوائل قد تعرضوا للاضطهاد الديني من الإمبراطورية الرومانية  إلا أن المسيحية ترسخت أكثر. في القرن الثاني وما بعده لعب الأردنيون الغساسنة دورا حاسما في إيقاف الاضطهاد الديني على أساس اختلاف الدين أو الطائفة المسيحية. عن طريق تفعيل علاقاتهم مع الأباطرة الرومان خصوصا الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة ثيودورا، هدأ فتيل الاضطهاد الديني وأتيح المجال للازدهار التجاري والصناعي بأن يزداد وينمو.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي تمتع بعلاقات قوية مع الأردنيين الغساسنة

في القرن الرابع الميلادي 325 كان لأسقف أبرشية كابتولياس حضور في مجمع نيقية وعام 451 ميلادي شارك أيضا في مجمع خليقدونية. (Lenzen & Knauf: 1987) وفي الفترة الممتدة بين تأسيس المدينة في القرن الثاني حتى القرن السابع تقريبا، بنيت عدة كنائس على طراز مميز.

النبيذ البتراسي

عدت الزراعة واحدة من أعمدة الاقتصاد في المملكة الأردنية الغسانية. فمنذ مطلع القرن الثاني حتى السابع الميلادي تنامت شهرة منتجات مدينة كابتولياس الأردنية. ساعدت خصوبة الأرض على الزراعة أما الموقع الاستراتيجي على طول خطوط التجارة القديمة والحديثة فقد ساهم على تسويق هذه المنتجات الزراعية وقد كان النبيذ من أهمها حيث يذكر ياقوت الحموي في مصنفه أن بيت راس “اسم لقريتين في كل واحدة منهما كروم كثيرة” (ملحم: 1995)

تصلنا أنباء شهرة المدينة بالزراعة عن طريق أمرين مختلفين، المعاصر الحجرية والشعر العربي. تناول الشعراء العرب منذ القرن السابع الميلادي فها هو الشاعر حسان بن ثابت يتغنى  بنبيذ بيت راس فيقول

كَأَنَّ خَبيأَةٍ مِن بَيتِ رَأسٍ …….. يَكونُ مِزاجها عَسَلٌ وَماءُ

وأنشد أبو نواس قائلا:

وتبسم عن أغر، كأن فيه……مجاج سلافة من بيت راس

وقال المعري:

كأن سبيئة في الرأس منها …..ببيت فم سبيئة بيت رأس

أما شاعر الأردن عرار فقال في نبيذ بيت راس:

واحنيني إلى كأس مشعشعة …. والدنان بتراسي (أي بيت رأسي)

أما المعاصر الحجرية فقد اكتشفت عدة معاصر تتبع نمطي الحفرة المدورة في الأرض و النمط الثاني أحواض هرس مربعة تتصل بأحواض أخرى للترسيب ومن ثم إلى أحواض تخمير مدورة والنمط الثالث أحواض صغيرة مثلثة الشكل. (ملحم: 1995)

الآثار

بدأت مواسم التنقيبات بشكل رسمي مع العالمة شيري لنزن 1988. وهدفت التنقيبات إلى الكشف عن معالم المدينة. اكتشفت أجزاء واسعة من الجدار الذي كان يحيط المدينة. (كراسنة وفياض: 2005)

مخطط عام لآثار المدينة. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

عام 2000 اكتشفت أجزاء من الجدار الشرقي والشمالي إضافة إلى عدد من  الأبراج والأقبية التي تتواجد بكثرة في المدينة وقد وجد على واحد منها نقش على حجر كلسي متآكل يعتقد بأنه يؤرخ لاسم المدينة (كابيتولياس) في الحقبة الرومانية. (كراسنة وفياض: 2005)

نقش وجد على أحد الأقبية يرجح أنه يحمل اسم المدينة. المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

المسرح

عام 2001 اكتشفت أجزاء من الجزء الشمالي. واستمر العمل على المسرح عام 2003 حيث اكتشفت المنصة التي تتصل بنفق محفور بالصخر بطول 19 متر وعرض 90 سم وارتفاع 1.85 متر ينفذ إلى خارج المسرح ويعتقد بان هذا النفق كان لاستخدام الممثلين والمؤديين حيث يوصلهم إلى منتصف المنصة لإضافة عنصر المفاجأة . (كراسنة وفياض: 2005)

مخطط المسرح المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة
مدخل النفق الأرضي

ومن ثم تم اكتشاف جدار داخلي للمنصة وغرفة يعتقد بأنها لتغيير الملابس، ولاحقاً اكتشف جدار المسرح والذي يتصل بجدار المدينة الكبير. عام 2003، أي في الموسم الرابع في التنقيبات، تم الكشف عن الكثير من عناصر معمار المسرح كالأقبية وأدراج المشاهدين وأبراج المراقبة. بني المسرح من الحجر الكلسي وقد تعرض لكثير من التهدم بفعل العوامل الطبيعية إضافة لكونه محاطا بالطمم نتيجةً لأعمال التنقيب السابقة. (كراسنة وفياض: 2005)

المدرج بعد التنقيب والترميم

الكنائس

دخلت بيت راس في الحقبة البيزنطية عام 323 م عندما أعلن قسطنطين الكبير بأن المسيحية دين رسمي للإمبراطورية إضافة لنقله العاصمة إلى بيزنطة (القسطنطينية) على مضيق البسفور وبهذا انقسمت الإمبراطورية إلى شرقية وغربية سميت الشرقية بالبيزنطية، أثر هذا على الدين والحضارة في المشرق بأكمله. دخلت المسيحية أرض الأردن منذ انطلاقها وكانت مدن الديكابوليس من أوائل المدن التي اعتنقت المسيحية حيث جال المسيح في هذه المدن ناشرا رسالته. واجه المسيحيون الجدد اضطهاداً دينيا فظيعا مارسته الإمبراطورية الرومانية الوثنية عليهم وقدمت أرض الأردن شهداء كثر في سبيل الحرية الدينية كالقديسين زينون وزناس وجراسيموس الأردني واليان العماني.

آثار لكنيسة مقابل الأقبية. المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

وتأثرا بالديانة الجديدة انطلق الأردنيون وأسسوا الكثير من الكنائس التي زينت بأبهى صور الفسيفساء الملوّنة والتي تحوي زخارف هندسية وحيوانية ونباتية وآدمية. كانت كابوتولياس واحدة من هذه المدن التي احتضنت ثورة في المعمار الديني المتمثل في بناء الكنائس. اكتشفت فيها حتى الآن ثلاثة كنائس سنعترضها في ما يلي:

الكنيسة قرب الجامع: بنيت الكنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) واكتشف منها محرابان توقع الباحثون وجود محراب ثالث. تفاوت تأريخ الكنيسة فوفقا للعالمة لينزن أرختها للقرن الخامس الميلادي بالاعتماد على اللقى الأثرية فيها. أما أقدم تأريخ آخر فهو للقرن الثالث الميلادي. تعذر وضع مخطط للبناء لسوء حالته. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الشمالية: اكتشف في موقع الكنيسة قطع رخامية من ألواح وأعمدة تعود للهيكل وقد نقش على أحد الألواح باليونانية “أبناء أركاديوس” إشارة على الأغلب إلى المتبرعين. (قاقيش: 2007)

كنيسة عطروز: كنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) وهي مكون من صالة وجناحين وأرضيتها مزخرفة بالفسيفساء. (قاقيش: 2007)

المدافن

وجد العديد من المدافن في مدينة كابوتلياس (بيت راس) والتي تدل على الرخاء والرفاه الاقتصادي الذي نعمت به المدينة زمن الأردنيين الغساسنة  من القرن الثاني حتى السادس ميلادي. لا زالت دائرة الآثار الأردنية بالتعاون مع هيئات ومؤسسات متخصصة مهتمة بآثار وحضارة الأردن تنقب عن المزيد من المدافن كان آخرها مدفن بيت راس المميز.

لوحات فريسكو مليئة بالتفاصيل وجدت سليمة في المدفن

 إن اكتشاف هذا  الموقع يلقي الضوء على فترة مهمة من التاريخ الأردني خلال العصر الروماني خصوصا لاحتوائه على 52 نقش يوناني وآرامي وتشير إلى أن الميت كان مقدرا من قبل المجتمع ويتمتع بمكانة مجتمعية عالية.

وجدت الكثير من قطع الفريسكو بتفاصيل دقيقة واضحة لم تذكر سابقا في السجلات التاريخية. يمتد المدفن على أكثر من 60 متر مربع وقد حظي بتوثيق مكثف وعمليات ترميم ومحافظة ودراسة علمية من قبل عدد كبير من العلماء الأردنيين والإيطاليين والفرنسيين والأمريكيين.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابوليس الأردنية تاريخ مدينة كابيتولياس (بيت راس) المدينة التي فاجئتنا بالكثير من الآثار التي تعكس الحضارة والثقافة التي تمتع بها أجدادنا الأردنيون عبر التاريخ وتمكنوا من أن ينقلوها لنا في معمارهم وفنونهم. تعتبر بيت راس واحدة من الوجهات المميزة في شمال الأردن والتي تحتاج إلى المزيد من الاهتمام على صعيدي السياحة والتنقيب الآثاري.

المراجع

  • الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،
  • ملحم، إسماعيل (1995)، تقنيات معاصر العنب في الأردن وفلسطين في العصرين الروماني والبيزنطي، حولية دائرة الآثار العامة
  • البكري، أبو عبيد الله. 1947؛ معجم ما استعجم، القاهرة: مطبوعات لجنة التأليف والنشر.
  • كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة
  • قاقيش، رندة. 2007؛ عمارة الكنائس وملحقاتها في الأردن في العهدين البيزنطي والأموي، عمان: دار ورد.
  • اكتشافات جديدة فريدة من نوعها بالمنطقة في بيت راس، مقال مترجم منشور على موقع إرث الأردن. http://jordanheritage.jo/new-findings-in-bait-ras-tomb/
  • Lenzen, C., Knauf, E. (1987) Biet Ras/ Capitolias a preliminary evaluation of the archeological and textual evidence, In Syria. Tome 64 de fascicule 1-2

مدن الديكابولس الأردنية: مدينة كابتولياس ذات الكروم

المقدمة

لعب شمال الأردن في مسرح التاريخ دورا هاما للغاية، فقد كان مركزا تجاريا ومحطا للنزاعات بين القوى العظمى في المشرق بسبب موقعه الاستراتيجي وغناه بالموارد الطبيعية. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردن سنستعرض مدينتين أردنيتين انضمتا لحلف الديكابولس (حلف المدن الحرة) وهما دايون (إيدون) وهيبوس (الحصن).

الموقع

تقع مدينة دايون (إيدون) على مرتفع صخري يحدها من الشمال مدينة إربد ومن الجنوب مدينة هيبوس (الحصن)  تبلغ مساحتها 14.5 كلم مربع. تشتهر إيدون بزراعة الزيتون. أما جيولوجيا فهي خليط من الحجر الأبيض سهل التفتيت (الروسان: 2011)

أما هيبوس (الحصن) فهي تقع 8 كلم جنوب مدينة إربد وهي الآن أكبر المناطق التابعة لبلدية إربد الكبرى. قامت المدينة القديمة على تل يسمى “تل الديون”. وهي الآن مقسمة إلى المدينة القديمة ذات الطابع الريفي في الجزء الغربي والمدينة الحديثة في الجزء الشرقي (الروسان: 2011)

مدينة الحصن ربيعا

التسمية

غالبا ما كان يشار إلى المدينتين باسم واحد “ديون- ديوم”  وقد التبس على العلماء والباحثين تسمية “هيبوس” حيث ذهب بعضهم إلى أن هيبوس هي مدينة شمال بحيرة طبريا تعود للقرن الأول الميلادي وهذا كان رأي المستكشف شوماخر الذي قال بإن مدينة “إيدون” هي مدينة ديكابولس أردنية ولكنها تقبع تحت تل الحصن الاصطناعي الأثري. بينما أكد الباحث لويس مخلوف أن إيدون هي ذاتها دايون وأنها مدينة ديكابولس مستقلة عن هيبوس (الحصن) (الروسان: 2011)

تعددت أسماء مدينة إيدون فسميت دايون ودينون ديون وديون. أما الحصن فيعتقد بأنها سميت نسبة لبناء حصن عسكري أموي فيها. (غوانمة: 2008)

التاريخ

يعود تاريخ المنطقة إلى العصر البرونزي 3000 سنة قبل الميلاد حيث  سكنت المغر والكهوف في المدينتين. وفي تل الحصن وجدت مقبرة بئرية (محفورة بشكل عامودي بالأرض كالبئر) وهي تعود للعصر البرونزي.

صورة جوية لتل الحصن الأثري

احتل الإسكندر المقدوني المشرق عام 333 ق.م. وتنازع خلفاؤه (السلوقيون والبطالمة) على حكم المدن التي فتحها وظل النزاع قائما بين السلوقيين والبطالمة ولكن غالبا ما كان الحكم السلوقي أكثر استقرارا في شمال الأردن. لم يقتصر الأمر على السلوقين والبطالمة إنما امتدت أطماع الحشمونيون اليهود إلى مدن الديكابولس الأردنية فمنذ عام 149 ق.م.  بدأ الحشمونيون بشن حملات غزو عديدة انتهت عام 84 ق.م. باحتلال جدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل) وأبيلا (حرثا) وهيبوس (الحصن) وديون (إيدون) (غوانمة: 2008)

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانيوس الذي احتل مدن الديكابولس الأردنية ودمر كثيرا منها

حتى جاء الإمبراطور الروماني بومبي  عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى. وكان (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وكابتولياس (بيت راس).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

في الحقبة الرومانية والبيزنطية زادت الكثافة السكانية كثيرا وقد وجدت العديد من الآثار منتشرة بين البيوت وبعض أرضيات الفسيفساء التي تدل على انتشار بناء الكنائس في تلك الحقبة. (غوانمة: 2008)

عمد الأردنيون الغساسنة   في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكانت مدينتي هيبوس ودايون إحدى هذه المدن لكونها واقعة على خطوط التجارة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة وعملوا على تقويتها.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

 وللأسف فقد ساهم التطور العمراني والسكاني منذ العصر الإسلامي حتى اليوم بطمر الكثير من آثار هيبوس ودايون.

تاريخ البحث الآثاري

حظيت مدينة هيبوس (الحصن) بنصيب جيد من البحث الآثاري على عكس توأمها مدينة دايون (إيدون). فقد ذكرت هيبوس في كتب المستكشفين والرحالة والمستشرقين الذين شغفوا بآثار الأردن. ذكرها المستكشف السويسري بيركهارت لأول مرة واصفا موقعها. وبعده ذكرها المستكشف بيكنغهام وليندسي وستزين ولكنهم اكتفوا بذكر الموقع والخصائص الاجتماعية.

أما من قام بأول مسح آثاري فيه المنطقة فكان الباحث نلسون جلوك تبعه ماكدونالد ولكن بحثهما كان منصبا على مرحلة العصر البرونزي بشكل خاص. حتى جاء الباحث لانكستر هاردنج الذي كتب كتابا كاملا أسماه “آثار الأردن” ودرس الموقع وأجرى عليه مسوحا مكثفة واستنتج أن المدينة كانت مأهولة بكثافة في العهد الروماني والبيزنطي وقد أكد ذلك باستناده لمجموعة من النقوش والمصادر الرومانية التي تؤكد وجود هاتين المدينتين، يقول في كتابه واصفا تل الحصن:

“هنالك دلائل عديدة عثر عليها  في الأضرحة الأخرى وفي نقوش وكتابات سواها على أن ذلك التل كان قائما في أيام الرومان والبيزنطيين. وهذا الموضع هو أحد المواقع التي يتأرجح بينها وبين موقع مدينة ديون، وهي المدينة الوحيدة من مدن الديكابولس  التي لم يحدد مكانها تحديدا قاطعا” (هاردنج:1967)

الآثار

 الكنيسة

مخطط عام للكنيسة المكتشفة. المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

عام 1992 قامت دائرة الآثار بحملة  تنقيبات أسفرت عن الكشف عن كنيسة بيزنطية بديعة الفسيفساء تعود للقرن السادس الميلادي الذي تجذرت فيه المسيحية. في خربة الجدة على بعد 1 كلم عن تل الحصن الأثري، تقع الخربة على مرتفع صخري بارتفاع 640 متر عن سطح البحر. وهي محاطة بالبساتين المزروعة من كل جانب.

فسيفساء حيوانية تصور طائرا من كنيسة الحصن البيزنطية المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

بعدما أخبر أحد المواطنين عن اكتشافه لرقعة من الفسيفساء أجرت دائرة الآثار العامة حملة إنقاذية. اكتشفت الحملة كنيسة بيزنطية على نظام البازليكا (الكنيسة المستطيلة) ولكنها متهدمة ومعالمها غير واضحة، أما الفسيفساء فقد تجرفت ولم يبق منها غير قطع متفرقة. يبلغ طول الكنيسة 20 مترا شرق غرب و10 أمتار شمال جنوب أما قطرها 4 متر تقريبا.

لوحة فسيفسائية من كنيسة الحصن تصور إنسانا يقطف العنب بالمنجل

بجانب الكنيسة حددت مرافق أخرى كالخزانات المائية المحفورة بالصخر والتي ينزل إليها بأدراج ومداخل. إضافة لقبر فردي مقطوع من الصخر أيضا. الفسيفساء المكتشفة غنية بالرسوم الحيوانية والآدمية والهندسية.

من الزخارف الهندسية في الكنيسة المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

البركة

انسجاما مع فكرة الأنظمة المائية التي بنيت في عهد الأردنيين الغساسنة في الحقبة الكلاسيكية كان ولا بد من بناء بركة لتجميع مياه الأمطار ولتخدم الحركة الزراعية في المنطقة. وللأسف فإن المعلومات عن البركة ضئيلة وهي الآن تعاني من إهمال شديد جعلها تتحول لمكرهة صحية.

البركة الرومانية عند اجتماع مياه المطر فيها.

 الخاتمة

في الختام، نجد أن شمال الأردن ومنذ مطلع القرن الثاني حتى السادس الميلادي قد لعب دورا جوهريا في حركة التجارة العالمية، فقد ازدهرت المدن والقرى الأردنية حتى تلك التي نعتبرها اليوم مدنا صغيرة كانت مراكز حيوية كالحصن وإيدون ورغم أن التوسع المدني قد حرمنا من استكشاف أعمق لتاريخية هذه المدن إلا أن ماضيها يظل محل تقدير.

المراجع

  • الروسان، عاطف و الرجوب، عبد الكريم (2011) إربد الكبرى، دراسة الواقع الأثري والتاريخي والتراثي، وزارة الثقافة، الأردن: عمان
  • غوانمة، يوسف (2008) مدينة إربد ماضيا وحاضرا- أعمال مؤتمر مدينة إربد، ج1، وزارة الثقافة،  الأردن: عمان
  • هاردنج، لانكستر (1967) آثار الأردن، تعريب سليمان الموسى، منشورات وزارة السياحة الأردنية، الأردن: عمان
  • ملحم، إسماعيل وخصاونة، ناصر، حفرية كنيسة الحصن/خربة الجدة لعام 1992، حوليات دائرة الآثار العامة 1993

مدن الديكابوليس الأردنية: هيبوس ودايون المدينتان التوأم

المقدمة

تعد أم قيس (جدارا) إحدى أهم الوجهات السياحية في الأردن، إنها مدينة متكاملة ومحتفظة بأغلب بمعالمها رغم العوامل الطبيعية التي أدت إلى تهدم بعض مبانيها الأثرية. حظيت أم قيس (جدارا) بالكثير من الاهتمام على صعيد البحث والتنقيب الآثاري وفي رحلة تتبعنا لمدن الديكابولس الأردنية كان لا بد أن نقف على أطلال جدارا المدينة السوداء الجميلة.

إطلالة من الأكروبولس الجبل الذي بنيت عليه مدينة جدارا، وفي الأفق نرى جبال الجولان المحتل وطبريا

الموقع والطبوغرافية

تقع مدينة أم قيس (جدارا) شمال الأردن على بعد 120 كلم من العاصمة. وتتبع إداريا للواء بني كنانة وتعد من أكبر مدنه.  تتخذ المدينة موقعها على مرتفع يبلغ 364 مترا فوق سطح البحر. يفصلها عن الجولان نهر اليرموك ومن الجنوب وادي العرب ومن الغرب بحيرة طبريا، حيث ينحدر سهل أم قيس (جدارا) حتى بداية نهر الأردن عند طبريا. (بيضون: 1997)

تقع المدينة الأثرية غربي مدينة أم قيس الحديثة. تبلغ مساحتها 1600 متر من الشرق إلى الغرب و450 متر من الشمال إلى الجنوب. أما طبيعة جدارا فهي تجمع ما بين طبيعة الهضبة العالية وبين التربة الخصبة ويقول عنها المستكشف غوتليب شوماخر “من الصعوبة أن تجد في هذه البقعة من جبال عجلون مكانا يجمع بين التربة الرائعة والمكان القيادي مثل أم قيس.” (بيضون: 1997)

التسمية

أطلقت عدة تسميات على أم قيس، ولكن الاسم الأكثر التصاقا بها هو “جدارا” وقد حاول الباحثون إيجاد تفسيرات لهذا الاسم. ربط الباحثون اسم جدارا بمنحدر وادي العرب الذي يطلق عليه “جدر” (العوض: 1993) أما البحث في أصل الكلمة فجدارا مأخوذة من الجذر “جَ دَ رَ” وهو جذر سامي الأصل يعني الحصن أو التحصين وعند تحويل الاسم ليناسب اللفظ الروماني أو اليوناني أصبح جدارا.  (بيضون: 1997)

ونقلا عن الباحثين شوماخر وهنري سكين فإن اسم جدارا محفوظ في تسمية كهوف مدينة أم قيس حيث يسمي الأردنيون المنطقة الشرقية من المدينة والمليئة بالكهوف “جدور أم قيس” (بيضون: 1997)

ومن الأسماء الأخرى “أم قيس ومكيس” بوضع السكون على الميم والسين فهو يعني “التخم” أي الحد الفاصل وهو يعكس الدور السياسي والتجاري والعسكري الذي لعبته المدينة فيما سبق. (بيضون: 1997) بينما يقترح آخرون بأن مكيس تعود للفظة المكوس والتي تعني الضرائب حيث كانت المدينة نقطة لجمع الضرائب. (العوض: 1993) إضافة لتلك الأسماء فقد أطلق عليها “بومبيا” تيمنا بالإمبراطور الروماني بومبي الذي دخل المنطقة عام 63 ق.م. وأسس تحالف المدن العشر “الديكابولس”.

ذكرت جدارا في المصادر التاريخية اللاحقة كمعجم البلدان للحموي “جدره هي قرية في الأردن” وقال الشاعر أبو ذؤيب “فما أن رحيق سبته التجار…. من أذرعات فوادي جدر” (العوض: 1993)

تاريخ البحث الأثري

جذبت جدارا أنظار الكثير من الرحالة والمستكشفين. زارها لأول مرة المستكشف الألماني ستزن  عام 1806 وكان أول من صنفها كواحدة من مدن الديكابولس العشر. ومن بعد زارها المستكشف فيتنستاين ووصف القناة المائية التي كانت تغذي المدينة  من عين التراب والتي لا يزال القطع الحجري ظاهرا منها على طول الشارع  الأسفلتي الحديث ويسميه الأهالي قناة فرعون (بيضون: 1997)

وزارها الرحالة بيركهارت عام 1912 وكتب عن المسرحين اللذان فيها. وزارها المستكشف بانك أيضا. أما من درسها دراسة معمقة فكان المستكشف غوتليب شوماخر عام 1886 الذي قام برحلة في شمال الأردن ووثق مدينتي أم قيس وملكا. وبالنسبة لجدارا عمد على صنع مخطط للمدينة ووثق مبانيها وآثارها كما أرفق كتابته بوصف للثقافة والحياة اليومية الأردنية آنذاك (بيضون: 1997)

أعمدة أم قيس البازلتية

أما في القرن العشرين فقد بدأت أعمال التنقيب والترميم منذ عام 1930. تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والعلماء لإجراء التنقيبات. فكشف الباحث ميتمان عام 1959 عن الحمام (سبيل الحوريات) وعن أرضية فسيفسائية ووصف الطريق المرصف بين جدارا ودرعا إضافة لتوثيقه عددا من النقوش. (بيضون: 1997)

عام 1961 كشفت دائرة الآثار العامة عن أرضية فسيفسائية غربي المدينة الأثرية في بيت حسين الفرج. وعام 1968 وجراء القصف الإسرائيلي للمنطقة اكتشف المدفن الأرضي. توالت مواسم التنقيب ولكن التنقيبات الأساسية أجرتها دائرة الآثار العمة بالتعاون مع المعهد البروتستانتي للآثار منذ سبعينات القون الماضي على عدة مواسم تم الكشف عن أغلب معالم المدينة، توثيق القطع الفسيفسائية والنقوش والتماثيل. (بيضون: 1997)

تاريخ المدينة

سُكنت أرض الأردن منذ فجر التاريخ، فقد وجدت عدة دلائل على الاستيطان البشري الأول كالمدافن والكهوف التي تنتشر في محافظة إربد وما حولها. إلا أننا في هذا البحث سنتبع تاريخ جدارا منذ الحقبة الهلنتسية. قام الإسكندر المقدوني بغزو المشرق في القرن الرابع قبل الميلاد 333 ق.م. وعقب وفاته انقسمت البلاد التي خضعت لحكمه بين السلوقيين والبطالمة (العوض: 1993)، ودارت معارك عدة بين الطرفين على حكم المدن الأردنية كفيلادلفيا (عمان ) وجراسا (جرش) وغيرها. وضع كل من البطالمة والسلوقيين بصمتهم الحضارية على حضارة وعمران المدن الأردنية.

عندما حكم البطالمة مدينة جدارا أعادوا بناءها وجعلوها حصنا قويا في وجه أعدائهم السلوقيين. لقد عرف عن البطالمة اتخاذهم المدن كحاميات عسكرية وثغور تحصينية ضد العدو وقد كانت جدارا بموقعها الاستراتيجي حصنا ممتازا (العوض: 1993).

دارت حروب عديدة بين البطالمة والسلوقيين بهدف مد النفوذ وقد أحصاها المؤرخون أربعة حروب. ويأتي ذكر جدارا في الحرب الرابعة عام 217-218 ق.م. حيث قاد الحاكم السلوقي أنطيوخوس الثالث جيشا فيه 162 ألفا من المشاة و102 فيلا من الهند واحتل جدارا (أم قيس)  وأبيلا (حرثا) وقد أعاد أنطيوخوس احتلال المدينة مرة أخرى عام 198 ق.م. بعد انتصاره على البطالمة في حرب بانياس (قرب منابع نهر الأردن) وقد أحكم قبضته على جدارا وسميت حينها “سلوقيا وأنطاكية” وهما لقبان شاع استخدامها في عهد السلوقيين للمدن المهمة (العوض: 1993).

لم تهنأ مدينة جدارا بالسلام فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جانوس باحتلالها إذ حاصرها مدة عشرة أشهر بغية إخضاعها، هي ومدينة أبيا (حرثا) التي دمرها لأنها لم تتحول لليهودية أو تخضع للزي اليهودي.  دمر جانوس الكثير من معالم جدارا أيضا أثناء الحصار ولكنه استطاع دخولها وضمها مع مدن شمال الأردن تحت منطقة سمها بيرابا (العوض: 1993).

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانوس الذي دمر أرابيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له.

يذكر المؤرخون توطد العلاقات بين ثلاثة مدن أردنية في تلك الفترة فيلادلفيا (عمان) وجدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل،) أسست المدن الثلاث أحلافا تجارية وعسكرية جعلتها تنهض وتزدهر. ولكن قبل عام 34 ق.م شن الحارث الرابع، الملك الأردني النبطي، حملة للسيطرة على مدن شمال الأردن ومن بينها جدارا. (العوض: 1993)

ضعف الحكم السلوقي شمال الأردن، واستغل الرومان الصراعات التي شبت بين السلوقيين والبطالمة والحشمونيين وعمدوا إلى شن حروب عدة انتهت بسيطرة الإمبراطور الروماني بومبي على المشرق بأكمله عام 63-64 ق.م. خلص بومبي مدينة جدارا من احتلال الحشمونيين وأعاد بناءها تكريما لصديقه ديميتريوس الجداري الأصل وقد لقبت جدارا في تلك الفترة “بومبيا” نسبة لبومبي وبدأت باستخدام التقويم البومبي أيضا (العوض: 1993).

أسس بومبي حلف المدن العشر الحرة (الديكابولس) ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة أو المستقلة. وقد ضم الحلف عشرة مدن في البداية وما لبث أن توسع حتى امتد ليشمل 14 مدينة أغلبها أردنية. شكلت هذه المدن حلفا تجاريا وعسكريا قويا. واتصلت جدارا بطرق تجارية قوية مع بوسطرا (بصرى) وكابتولياس (بيت راس) وبيلا (طبقة فحل) وفيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

كانت المدن العشر ملزمة بدفع ضريبة للإمبراطورية الرومانية وكانت جدارا مركز جمع الضريبة وقد ذكر المؤرخ جوزفيوس “إن فيها مواطنين أغنياء يسكنون الفلل والقصور التي تحيط بالمدينة “(العوض: 1993)

انتصر الرومان بقيادة اكتافيوس على انطيونيوس وكليوبترا عام 30 ق.م. في معركة اكتيوم التي شارك فيها الأردنيون الأنباط. أعطى أكتافيوس هيرود الملك اليهودي الحشموني السلطة على المناطق التي أخذتها كليوبترا منه وكان من ضمنها جدارا وهيبوس (الحصن). صار هيرود تابعا للإمبراطور اكتافيوس في روما. عانى أهالي جدارا من تدخلات هيرود وظلمه وقد اشتكوا كثيرا للإمبراطور الروماني ولكنه لم يعر انتباها، ولكن بعد وفاة هيرود وذهاب جدارا لابنه اركلوس الذي كان أشد ظلما من أبيه أقام الأردنيون في جدارا ثورات عديدة وبعدها أخذت السلطة من أركلوس وأعيد الحكم الذاتي والاستقلال لمدينة جدارا (العوض: 1993).

في القرن الأول الميلادي، ازدهرت مدن الديكابولس كثيرا ونعمت بالاستقرار التجاري والعسكري، وكانت جدارا المدينة التي تجمع الضرائب من المدن الأخرى. استرجعت جدارا مكانتها التجارية، فصارت طريقا رئيسا للتجارة مع الحواضر المحيطة، كما أعيد بناؤها واستأنف سك العملات الخاصة فيها. (العوض: 1993)

في القرن الثاني لمع نجم الأردنيين الغساسنة وقد استطاعوا تشكيل حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس واستحدثوا طرقا تجارية وحافظوا على أمن القوافل لمدة أربعة قرون 2-6 ميلادي. ولكن جدارا كانت مطمعا على الدوام، في القرن الأول (68م) أعاد الحشمونيون احتلالها ولكن الإمبراطور فسبسيانوس حررها مرة أخرى. وفي القرن الثاني، عمل الأردنيون الغساسنة والجيوش الرومانية على تخليصها من الحملة الفارسية 162 م. التي دمرت كثيرا من معالمها وقتلت كثيرا من أهلها. (العوض: 1993)

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

استقرت الأمور حتى عاودت الهبوط بسبب الحروب الأهلية وضعف التنظيم وقام حينها الإمبراطور دكلتيانوس  بإعادة التنظيم الداخلي للمشرق بأكمله. كانت المسيحية في الأردن قد انتشرت سرا منذ مطلع القرن الأول الميلادي، ولكنها كانت تنتشر ببطء في جدارا على عكس مدن الديكابولس الأردنية الأخرى التي كانت مسيحية بشكل شبه كامل في نهاية القرن الثاني. مورست شتى أنواع العذاب على معتنقي الديانة المسيحية في البداية، وقد قدم الأردن شهداء كثر في سبيل حرية المعتقد. في القرن الثالث بدأت الأمور تتحسن مرة أخرى، حيث بدأت الحقبة الكلاسيكية البيزنطية، حيث أعلن  الإمبراطور قسطنطين أن الديانة المسيحية هي ديانة الإمبراطورية ونقل العاصمة إلى مدينة بيزنطة (القسطنطينية) على البسفور عام 312 م. (العوض: 1993)

بذل الأردنيون الغساسنة وقتهم وجهدهم لتحسين أوضاع الأردنيين المسيحيين وقد رفضوا الخضوع لأي نوع من أنواع الاضطهاد الذي تحول من أن يكون (وثني-مسيحي) إلى اضطهاد بين المذاهب المسيحية. في القرن الرابع كانت المسيحية قد تجذرت في المدينة، وأصبح لها أسقف خاص بها ومثلها في مجمع نيقية[1] وفيما بعد أصبحت جدارا مقرا لأبرشيه مقاطعة فلسطين الثانية. ولكن لم يدم الأمر كثيرا فعام 612 م. شن الفرس أعنف حملة عسكرية على جدارا أدت لتدمير أغلب معالمها وقتل الكثير من أهلها. (العوض: 1993)

الثقافة والعلم

كانت جدارا مركزا للثقافة والفن والحضارة على مر التاريخ. ومنها لمع نجم العديد من الفلاسفة والأدباء وتخلد اسمهم كمساهمين في إرث الحقبة الكلاسيكية. ونذكر منهم الشاعر ميلياغروس الجداري الذي كان من أهم شعراء عصره. ولد في القرن الأول الميلادي، كان شاعرا وجامعا للقصائد وقد جمع 134 قصيدة كانت هي نواة الأنثولوجيا اليونانية وسماها الإكليل [2]، كتب القصيدة الساخرة والقصيدة الأيروسية وقد اختار هذه القصيدة كي تنقش على قبره وتظل حتى يومنا هذا:

أيها العابر من هنا

لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى

فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة

إنه ميلياغروس ابن أوقراطس

الذي تغنى بالحب

وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي

لأنه وقف واسطة

بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر

لقد كان رجلا من مدينة صور

التي باركتها الآلهة

ولكن مدينة جدارا المقدسة

كانت هي مسقط رأسه

ويونوماوس المولود في القرن الثاني والذي اشتهر بمهاجمته للأوراكل (التنبؤ والوساطة الروحية في الحضارة اليونانية) له كتب عديدة في السخرية والسياسية والفلسفة.

والشاعر أريبوس الذي له نقش شهير محفوظ في متحف أم قيس:

أيها المارّ من هنا.. كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتّع بالحياة لأنك فانٍ“.

نقش أريبوس المحفوظ في أم قيس

وأبسينس الجداري المولود في القرن الثالث الميلادي فقد درس علم البلاغة اليونانية وصار معلما في أثينا  وكان عسكريا رقاه الإمبراطور ماكسيمينوس إلى رتبة القنصلية.

 أما مينييوس الجداري الذي لقبه المؤرخون بالمهرج الجاد فقد ناقش في كتبه أمورا جدية ومهمة ولكن بقالب من السخرية والتهكم وكان يسخر ويرد على الأبيقوريين[3] والرواقيين[4]. وللأسف ضاعت أشعاره وأعماله إلا أننا نعلم أنه كتب عدة كتب منها: كتاب استحضار الأرواح، كتاب رسائل الآلهة، كتاب الردود على الفلاسفة والطبيعيين والرياضيين والنحويين، ولادة أبيقور.

رسم للأديب مينبيوس

والأديب تيودوروس الجداري الذي كان معلما للإمبراطور الروماني تيبيريوس الذي ترك الكثير من الكتب منها:  أسئلة في النطق (في 3 كتب)، كتاب عن التاريخ، الأطروحة، عن التشابه بين اللهجات وعرضها (كتابان)، عن الدستور (كتابان)، عن قدرة الخطيب.

مصادر وأنظمة المياه

تعد جدارا من المدن الأردنية كثيرة المصادر المائية. حيث تسقط الأمطار عليها بمعدلات عالية مقارنة بباقي المدن 400-500 ملم، إضافة للأمطار تشتهر المنطقة بالينابيع والعيون ومن أشهرها عين العسل جنوبي منطقة القبو وهي عين غزيرة تحوطها عدة مصاطب. وعين أم قيس التي ترتفع عن سطح البحر 220 متر. وفي المنحدر السحيق جنوبي عين أم قيس تقع عين الفخت التي تصب مياهها متحدة مع مياه عين أم قيس في وادي العرب. وهناك ينبوع خنيزير وهو صغير جدا وعين ماقوق في المنحدر الشمالي الغربي وترتفع العين عن سطح البحر بمقدار 100 متر. وهنالك عيون أخرى في أماكن منخفضة في المدينة متل عين شيحان وعين الطبق وعين حية وعيون قرط وأغلبها قد جف في وقتنا الحالي (العوض: 1993)

كما تطل المدينة على عدة أودية خصبة تغذيها مياه الأمطار والينابيع مثل وادي الفخت ووادي العين (عين أم قيس) ووادي خنيزير. غذت هذه الينابيع حركة الزراعة في المدينة إلا أنها لا يمكن أن تكون قد غذت المدينة نفسها بماء الشرب نظرا لانخفاضها عن مستوى بناء المدينة. ولكن عينا غزيرة تدعى عين التراب تقع على ارتفاع 470 متر عن سطح البحر كانت تغذي المدينة عبر القنوات بماء الشرب، هنالك عيون أخرى مرشحة لهذا الغرض كعين الخراج وعين الشيخ 450 متر فوق سطح البحر وعين الحراثين 350 متر فوق سطح البحر.(العوض: 1993)

نفق جدارا المائي

بدأ نظام القنوات والأنفاق المائية منذ العصر البرونزي ولكنه ازدهر وبلغ أوجه في العصور الكلاسيكية، حيث كانت الأنفاق المائية التي تزود المدن بالماء أمرا ضروريا، كانت تلك الأنفاق سرية تحت الأرض ويدخل إليها المهندسون للصيانة عبر مداخل منحدرة وبعيدة عن أعين العدو في حالات الغزو والحصار. بنيت الأنفاق المائية في الصخر عبر نحتها وفي التراب عبر إنشاء قناطر. (العوض: 1993)

تعد شبكة المياه والحصاد المائي التي توجد في جدارا واحدة من أعقد وأبرع الشبكات التي أنشئت في الحقبة الكلاسيكية. فهي تعتمد على نظام الجسور، حيث صنع جسر يحمل قناة مائية، عثر على 60 متر متبقي من هذا الجسر وقوس بطول مترين تقريبا. وعبر هذا الجسر نقلت المياه من تلة إلى تلة، بأمان حيث كان الجسر مدعما بالحجارة الضخمة وبالأقواس. (العوض: 1993)

نفق جدارا المائي من الداخل

وفي هذه القناة تم التحكم بتدفق الماء عبر محابس حجرية ضخمة. تتصل هذه القناة بقنوات أصغر سميت محليا بقنوات فرعون لأنها وحسب قصة متداولة بنى أحد الفراعنة هذه القنوات وصادر قمح سهول حوران الأردنية بأكمله وأمر بأن يكوم على شكل جبلين وعندما أرسل عماله ليجلبوا القمح إلى جدارا تحول جبلا القمح إلى جبلين من الصخور البازلتية السوداء. (العوض: 1993)

واليوم بجهود علماء آثار أردنيين افتتح جزء من نفق جدارا العظيم عام 2019 والذي يصل مدن الديكابولس ببعضها ويمتد عبر المدن بشبكة قنوات دقيقة.

تخطيط المدينة

كباقي مدن الديكابولس الأردنية هناك مخطط رئيسي تشترك فيه المدن. عادة ما يكون للمدينة شارعان متعامدان (كاردو وديكامانوس) ويشكلان قلبا للمدينة ومحورا للحركة فيها، حيث تقع على جانبيهما المباني الأثرية كسبيل الحوريات 21 والساحة المعمدة والبوابة التذكارية وغيرها (بيضون: 1997) ولا توجد في المدينة سوى كنيسة واحدة صغيرة كانت قبرا بيزنطيا.

الأدراج النازلة من الساحة المعمدة ومقابلها يأتي سبيل الحوريات

بنيت المدينة على مرتفع جبلي سمي بالأكروبولس وقد تم تحصينه بسور حجري دفاعي بني في الحقبة الهلنستية وأعيد ترميمه في الحقب اللاحقة. إضافة إلى البوابات التي لم يبق منها الكثير.

الأبواب البازلتية محفوظة في متحف أم قيس

الآثار

المنحوتات

أثناء عمليات التنقيب والترميم وجدت الكثير من المنحوتات في المدينة وقد قسم هذه المنحوتات حسب موضوعاتها فالمنحوتات التي تصور الميثيولوجيا الإغريقية بلغ عددها 19 منحوتة 12 منها للآلهة، 1 منها لشخصية أسطورية، و6 تتعلق بشخصيات شهيرة. صنعت هذه المنحوتات من الحجر الرخامي الأبيض المبلور عالي الجودة ومن المرجح أن هذه الخامة قد تم استيرادها من الخارج لقلة توفرها محليا، عرضت هذه التماثيل في الأماكن العامة والساحات وقد وجدت مبعثرة بجانب أماكن عرضها  (بيضون: 1997)

تمثال الآلهة تايكي ربة الحظ والعناية وهي تحمل قرن الوفرة، وجد هذا التمثال في تنقيبات المسرح الغربي وهو محفوظ في متحف أم قيس

ووجدت منحوتات آدمية يقدر عددها 40 منحوتة نصفية و22 منحوتة أنثوية نصفية وتخدم أغراضا جنائزية وقد وجدت في المقابر الفردية والجماعية. وتشكل هذه المنحوتات الآدمية تشكيلا رمزيا للفرد حيث تصور المنحوتة الرأس والرقبة والكتفين دون الاهتمام بالتفاصيل والملامح، استخدمت هذه المنحوتات لإبراز مكانة الميت فإن كان التمثال النصفي يحمل كتبا أو لفائف فمن المحتمل أن يكون الميت فيلسوفا أو أديبا، وإن كان التركيز على إبراز الحلي التي يرتديها فهي إشارة على ثرائه ومكانته الاجتماعية. صنعت هذه المنحوتات من الحجر المحلي البازلتي، وتحمل كثير منها ملامح شرقية فهي تصور أبناء جدارا أنفسهم (بيضون: 1997)

وجد أيضا تمثالان حيوانيان يصوران ثورا وأفعى وتعود قلة هذه التماثيل لاهتمام الثقافة آنذاك بالآلهة على شكل الإنسان وبالأساطير التي تمتلك الآلهة حياة تشبه حياة البشر. (بيضون: 1997)

المسارح

في جدارا مسرحان، المسرح الشمالي الذي بني في الجزء العلوي من المدينة، استخدمت حجارة هذا المسح في بناء المدينة التي بنيت على انقاض مدينة جدارا، كما استخدمت أقبيته كثكنات عسكرية مما زاد في تهدمه مع الوقت. كان الباحث والمستكشف غوتليب شوماخر أول من درس هذا المسرح فقد قدم وصفا شاملا له ولأبعاده وللمواد المستخدمة في بنائه (حجر البازلت والحجر الجيري) وقد ذكر بأن جدار المسرح كان متصلا بجدار المدينة. ورجح شوماخر أن جدارا كانت “منتجعا” حيث عرف عنها الثراء والغنى وبعدما ينتهي الناس من الاستمتاع بالمياه الكبريتية حول المدينة يصعدون لها ويمارسون نشاطات ترفيهية كالمسرح.(الدهش: 1993) المسرح الشمالي مسرح كبير يبلغ قطره الخارجي 85 متر والداخلي 49 متر وقد اقتطع جزء منه من الصخر. يرجح أن المسرح بني في نهاية القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي واكتشاف تمثال الآلهة تايكي

أما المسرح الثاني فهو المسرح الغربي ويزوره آلاف السياح حتى يومنا هذا، ولا يزال المسرح محتفظا بشكله على عكس المسرح الشمالي، وربما يعود السبب إلى بعده عن الطريق العام وإلى صعوبة الوصول إليه فكان من الصعب أخذ حجارته لبناء البيوت. يبلغ قطر المسرح الخارجي 58 متر. وجد في المسرح تمثال رخامي بديع يصور الآلهة تايكي ربة الحظ والرعاية وهي تمسك قرن الوفرة والخير دلالة على ثراء المدينة وجرت عملية نقل التمثال وعرضه في متحف أم قيس. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي بعد الترميم

مجمع الحمامات

شرق الشوارع المبلطة وفي طريق ترابية تقبع هنالك عدة حمامات على الطراز الروماني، تحوي الحمامات غرفا للماء الساخن وأخرى للبارد وغرفا لتغيير الملابس. بنيت هذه الحمامات في القرن الرابع الميلادي وظلت تستخدم حتى القرن السابع الميلادي. على بعد 500 متر نجد نصبا تذكاريا متصلا من الخلف بصهريج ماء كبير.

المقابر

تعد المقابر الفردية والجماعية إحدى أهم الدلائل على رخاء المدينة، وتنتشر المقابر العائلية في جدارا فنجد مقبرة عائلة جيرماني ومقبرة موديستوس ومقبرة تشيرياس ومقبرة كرياس وفي هذه المقابر، وجدت المنحوتات النصفية والمتعلقات الشخصية وأغراض أخرى للاحتفالات الجنائزية.

بوابة طبريا

 على بعد 800 متر من تقاطع شارعي الكاردو والديكمانوس، توجد آثار أساسات لبوابة المدينة الغربية وتحيط بها أبراج عديدة. وعلى بعد 400 متر من أساسات البوابة الأولى تقابلنا آثار البوابة الثانية على شكل قوس ثلاثي، ويدلنا هذا على التوسع والازدهار الذي عاشته المدينة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي.

الخاتمة

 استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية تاريخ وحضارة مدينة جدارا، المدينة التي عاشت أحداثا مفصلية كثيرة وعظيمة وضعتها بجدارة واستحقاق على خارطة السياق الحضاري العالمي والتي ما زلنا نرى آثار صمودها وعظمتها حتى يومنا هذا.

المراجع:

  • بيضون، غادة (1997) المنحوتات الحجرية في أم قيس، دراسة أثرية فنية  مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • العوض، عمر (1993) الأنظمة المائية في أم قيس، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • الدهش، منذر (1993) طرق بناء المسارح الرومانية في عمان وفي أم قيس، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك
  • زريقات، ميساء ( 2011) أم قيس مدينة تروي قصة حضارات مختلفة، مقال منشور على صحيفة الرأي

[1] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفق للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية وتقع في الشمال الغربي لآسيا الصغرى. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%85%D8%B9_%D9%86%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84

[2] الأنثولوجيا، أو المختارات الأدبية، أو المقتطفات أو المقتطفات الأدبية المختارة هي مجموعة منتقاة من الأعمال الأدبية للكاتب، يتم تجميعها من قبل المؤلف الذي يقوم باختيار اعماله وتنسيقها

[3] الأبيقورية أو المذهب الأبيقوري (بالإنجليزية: Epicureanism) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق. م ـ 270 ق. م)، الذي أنشأه وقد ساد لستة قرون، وهو مذهب فلسفي مؤداه أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى، والألم هو وحده الشر الأقصى، والمراد باللذة في هذا المذهب ـ بخلاف ما هو شائع ـ هو التحرر من الألم والاهتياج العاطفي.

[4] الرواقية بضم الراء وتشديدها مذهب فلسفي، وإحدى الفلسفات المستجدة في الحضارة الهلنستية، أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي.

مدن الديكابولس الأردنية: جدارا حصن الشمال

مقدمة

أرخت عمان جدائلها، ولربما إن أمعنا النظر لكان لنا أن نرى في كل جديلة تاريخا تليدا. وقع اختيار الأردنيين عبر التاريخ على عمان مرارا لتكون واحدة من أبرز حاضراتهم إذ كانت ولا زالت مركزا حيويا مهما ومدينة تعيد رسم التاريخ الأردني البهي. في هذا البحث، سنتعرف على العاصمة الأردنية من جديد، وسنسلط الضوء على حقبة ذهبية عاشتها، حينما كان اسمها “مدينة الحب الأخوي فيلادلفيا”

ما قبل فيلادلفيا: موجز تاريخي

يعود تاريخ الوجود البشري في عمان للعصور القديمة ولأكثر من عشرة آلاف عام حيث خطا الإنسان الأردني الأول أولى خطواته نحو تأسيس أول مجتمع زراعي في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري في موقع عين غزال. ولم تقتصر المكتشفات الأثرية على موقع عين غزال إنما امتدت لاكتشاف مواقع أثرية للثقافة النطوفية[1] (10-8 آلاف ق.م) ومواقع أثرية أخرى للثقافة الغسولية[2] أو الغسولينية وموقع تليلات الغسول جنوب البحر الميت. وتظهر هذه المواقع ثراء وتطورا كبيرا في الأدوات التي ابتكرها الأردنيون الأوائل إضافة لتطور أولى الممارسات الدينية كدفن الموتى وتقديس الجماجم والحيوانات وغيرها.

المواقد الحجرية الدائرية في موقع الشبيقة حيث وجدت بقايا الخبز. المصدر: موقع مشروع الشبيقة الآثاري وهو أحد مواقع الثقافة النطوفية في الأردن

منذ بداية العصر الحديدي الثاني (1200-330 ق.م.)  ظهر اسم عمون والذي اشتق منه اسم المدينة الحالي عمان. استقر الأردنيون العمونيون (1250 ق.م) في المدينة واتخذوها عاصمة لهم تحت اسم “ربة عمون” أي “عاصمة العمونيين”. تنتشر آثار العمونيين في ربة عمون، فنرى آثار جبل القلعة المطلة على وسط المدينة ماثلة أمامنا لتشهد على عظمة ما بنوه، إضافة لجبل القلعة، تنتشر الأبراج التي استخدمت لغايات دفاعية كبرج رجم الملفوف وبرج خلدا. وأكدت المسوحات الأثرية أن المدينة في ذلك العصر شُيّدت على 245 دونما قسمت مناصفةً بين القسم السفلي والعلوي من المدينة. (غوانمة: 1979)

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

 

اتسمت المملكة الأردنية العمونية باقتصاد جيد معتمد على الزراعة والتجارة، وذلك لوفرة مصادر المياه ووقوعها على طريق التجارة الواصل بين الحضارة المصرية وحضارة بلاد الرافدين. وبسبب ذلك، كانت المملكة العمونية مطمعا لكل الحضارات المجاورة بما فيها الحضارة اليونانية والمصرية لذلك كانت محاطة بالأسوار والأبراج الدفاعية (غوانمة: 1979).

فيلادلفيا: التسمية والمكانة

مع اجتياح الإسكندر الكبير للمنطقة عام 333 ق.م بدأت المملكة الأردنية العمونية بالاضمحلال ككيان سياسي، و خضعت المنطقة للحكم الإغريقي وعند موت الإسكندر الكبير، اختلف ورثته بطليموس وسلوقيوس على الأردن، واستطاع السلوقيون السيطرة على المنطقة لمدة من الزمن، إلا أن البطالمة سرعان ما استطاعوا السيطرة على الأردن من جديد وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المدينة. (غوانمة: 1979)

 دخلت المدينة حقبة جديدة، كما أسلفنا، في عهد الحاكم بطليموس فيلادلفيوس الثاني ابن الملكة كليوبترا السابعة والإمبراطور بطليموس الأول. حيث اعتلى عرش مصر عام 285 ق.م. وكانت حقبته تمثل أبهى عصور التلاقح الحضاري بين حضارتي المشرق والغرب، في جو ثقافي حيوي قل مثيله.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

تولع بطليموس فيلادلفيوس بربة عمون فأمر بإعادة بنائها وسماها تيمنا باسمه حيث انه اشتق من اسمه اسم المدينة –فيلادلفيا- وتعني الحب الأخوي في اللغة اللاتينية وهي مكونة من شقين فيلا (Phila) وتعني المحبة وديلفيوس (delphios) وتعني الأخوة.

 عام 218 ق. م. استعاد السلوقيون السيطرة على المنطقة واستطاعوا احتلال فيلادلفيا، بعد مدة طويلة من الحصار كادوا أن ييأسوا من دخولها خلاله، إلا أن أحد سكان المدينة وقع في أسرهم واستطاعوا أن يحصلوا منه على المدخل السري الذي تتزود منه المدينة بالماء، واستطاعوا قطع المياه عن المدينة التي استسلمت لاحقاً. (غوانمة: 1979)

واستمر حكم السلوقيين لفيلادلفيا، إلى أن سيطر أجدادنا الأردنيين الأنباط على المنطقة من البتراء جنوباً حتى دمشق شمالاً، وقد وجدت العديد  من الآثار الأردنية النبطية في فيلادلفيا واشتملت على الفخار الأردني النبطي عالي الجودة وتماثيل الآلهة والقبور النبطية كالقبر المكتشف عام 1943 في سفح منطقة جبل عمان (العابدي: 2009)

نماذج متنوعة من الفخّار النبطي الملوّن عالي الجودة

  ظل اسم فيلادلفيا ملازما للمدينة حتى انتهاء الحقبة الهلنستية ودخولها الحقبة النبطية التي انتهت باضمحلال المملكة الأردنية النبطية على يد الإمبراطور الروماني تاراجان، الذي غيّر طريق التجارة مما أضعف الاقتصاد الأردني النبطي. وبكل الأحوال، كان طريق تراجان الجديد يمر بفيلادلفيا فلم يتأثر اقتصادها إنما ازدهر. (غوانمة: 1979)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصون دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة وثباتا ثمان منها أردنية

ظلت فيلادلفيا تتمتع باستقلال ذاتي نسبي في الحقبة الرومانية هي ومدن الديكابولس الأردنية الأخرى. حتى جاء  القرن الثاني الميلادي وما تلاه، عمد الأردنيون الغساسنة  إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان ذلك لفيلادلفيا الواقعة على سيف البادية الأردنية الشرقية. لهذا اعتبرت فيلادلفيا المرفأ البري الأهم لكل القوافل التجارية القادمة من اليمن والصين والهند وروما ومصر (غوانمة: 1979)

فيلادلفيا مدينة المياه ومعدن الحبوب

إطلالة أخرى على نهر عمان- المصدر: مكتبة الكونغرس

تميزت فيلادلفيا بموقعها الاستراتيجي، فهي تقع في قلب الخطوط التجارية في العالم القديم؛ وهذا ما جعلها من أكثر مدن الديكابولس ثراء وازدهارا، حيث شكلت مجلسا خاصا للمدينة وصكت فيها نقودها الخاصة (أبو حمدان: 2016) إلا أن ما جعلها أكثر تميزا هو وفرة المياه فيها، خصوصا في وادي عمان، الوادي الذي بنيت على التلال السبعة المحيطة به المدينة القديمة والحديثة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

وصفت فيلادلفيا في المصادر التاريخية بكونها مدينة المياه، حيث احتوت على مصادر مياه متجددة وطبيعية. كان أهمها نهر عمان الذي سمي في بدايات العصر الحديث بسيل عمان العمومي وهو يمر في منتصف المدينة وفي سفح جبل القلعة ليصب في نهر يبوق (نهر الزرقاء)، وينبع من أحد جبال عمان وسمي منبعه برأس العين. يذكر أن هذا الرافد كان مصدرا مهما لمياه الشرب إضافة للري، حيث زرعت الأراضي حوله، والتي كانت مزروعة بالقمح بالكامل، وانتشرت مطاحن القمح في المدينة منذ القدم لتضيف لها لقبا آخرا وهو “معدن الحبوب” دلالة على إنتاجها الوفير من الحبوب (غوانمة: 1979)

الزرقاء 1900 إطلالة على وادي الزرقاء ونهر الزرقاء – مجموعة إرث الأردن الصورية

أما في جبل القلعة، مركز فيلادلفيا وربة عمون سابقا فقد وجدت العديد من البرك لجمع مياه الأمطار إضافة لوجود ممر مائي ضخم يصل جبلة القلعة في الوادي. (غوانمة: 1979)

بناء وتخطيط المدينة

بنيت المدينة على غرار تخطيط مدن الديكابولس والتي يشابه تخطيطها معكسر الجيش. حيث يأخذ التخطيط أقرب نقطة إلى الهيكل (هيكل هرقل في جبل القلعة) ويصير مركز المدينة ومن ثم يرصف شارعان كبيران متقاطعان في زاوية قائمة وعلى جوانبهما صفين من الأعمدة، وخلف الأعمدة يقام شارع مسقوف للمارة وعند تقاطع الشارعين وعند كل بوابة هنالك قوس نصر. يسمى الشارع الرئيس (ديكيومانوس) ورصف بموازاة نهر عمان والشارع الثاني يسمى (كاردو) ويسير من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وكان مركز تقاطعهما قرب سبيل الحوريات ويسمى هذا التخطيط “هيبودامي” (أبو حمدان: 2016)

المدرج الروماني 1927

 وحتى عام 1860 كان هنالك شارع يمتد من منطقة راس العين حتى منطقة جسر رغدان ويقاطعه شارع آخر يأتي من طريق السلط (بعرض 37 قدم)  ليلتقي الشارعان في ساحة الجامع وسط المدينة. وكان هذا الشارع مزدانا بصفين من الأعمدة وعلى جانبه طريق آخر مسقوف (بعرض 16 قدم). وعلى غرار باقي مدن الديكابولس، فالشوارع مرصوفة ببلاط صخري أملس. وهنا نرى أن تخطيط فيلادلفيا الأول استمر حتى العصر الحديث. (العابدي: 2009)

أما بالنسبة للخطوط التي تصل فيلادلفيا بغيرها من المدن فهي ثلاث طرق رئيسة الأول قادم من جراسا (جرش) عابرا سيل الزرقا والرصيفة ومن ثم يدور حول الجبل حتى يصل ماركا ومن ثم فيلادلفيا. الثاني طريق فيلادلفيا-القدس وقد أقيم في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس في القرن الثاني ميلادي. والثالث هو طريق فيلادلفيا إلى الجنوب والذي سارت عليه سكة القطار العسكري العثماني ( سكة الحديد ) في عهد الاحتلال العثماني. (أبو حمدان: 2016)

وكانت فيلادلفيا محاطة بسور دفاعي قوي اندثرت معالمه بفعل الزمن. (غوانمة: 1979) ومن المتوقع أن المدينة توسعت عدة مرات لتغطي المساحة الواقعة ما بين نهر الزرقاء ونهر الأردن ويقطعهما نهر عمان. ويصعب الوصول لمعلومات أكثر دقة عن المدينة وتخطيطها وطبوغرافيتها بسبب وقوعها في الوادي بجانب نهر، الذي بلا شك، ساهم فيضانه بمحو وطمس آثار المدينة (غوانمة: 1979)

نقود الفيلادلفيين

لتمتع فيلادلفيا باستقلال ذاتي، كان لابد لها من صك نقودها الخاصة. في نقود ومسكوكات وجدت في عدة مواقع أثرية في المدينة، كانت عبارة “نقود للفيلادلفيين” منقوشة عليها باللغة اليونانية. وقد وجدت عدة نقود أخرى تحمل صورة أباطرة الرومان مثل طيطوس وأدريانوس وأوريليوس وفيروس وكوموذس وكركلا واليوغابل وأنسنازيوس. (العابدي: 2009)

عملة صكت في فيلادلفيا حصرا، “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم”

 قد وجدت عملة “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم في قصر العبد في عراق الأمير. ولهذه العملة أهمية كبيرة إذ أنها ضربت من الفضة وقد وضع عليها صورة بطليموس  فيلادلفيوس الشخصية مما يدل أنها العملة الرسمية في تلك الحقبة، أما جمالياً فقد تميزت هذه العملة من جهة بصورة بطليموس التي احتوت طابع البعد الثلاثي إذ يمكن ملاحظة تقاسيم الوجه النابزة على العملة، ومن الجهة الأخرى فقد ضُربَ النسر البطلمي التقليدي –نسر زيوس-  كبير آلهة الإغريق.

تتنوع النقوش على عمل فيلادلفيا، وغالبا ما كانت صورا للأباطرة أو رسوما للآلهة كالإله هرمس والإله مركور إله الفنون والتجارة. ونجد في بعضها صورة الآلهة مينرفا آلهة الحكمة والفنون، ونلحظ أيضا كثرة تواجد عنقود العنب على المسكوكات أو على الآثار بشكل عام، حيث كان عنقود العنب رمزا محببا في فيلادلفيا دلالة على الخير والخصب. (العابدي: 2009)

الدين في فيلادلفيا

رأس تايكي المعروض في متحف الأردن

مرت فيلادلفيا بمرحلتين أساسيتين يمكن تصنيف الدين فيهما: الأولى وثنية والثانية مسيحية. في الحقبة الهلنستية والرومانية شاعت عبادة الآلهة الرومانية واليونانية كالآلهة أثينا المنحوتة من الرخام وهي آلهة الحرب، كما حضرت آلهة الأولمب بشكل عام في التماثيل والنقوش والمسكوكات. أما في الحقبة الرومانية فكان إله فيلادلفيا الأهم هو هرقل أو (هيركليس) الذي أقيم له هيكل ضخم للغاية على جبل القلعة، كما عبدت الآلهة تايكي وهي آلهة الحظ والرعاية والسعادة وقد عثرت دائرة الآثار العامة في حفريات 1957 على تمثالها المنحوت في القرن الثاني ميلادي.[3] (غوانمة: 1979)

منظر عام لمعبد هرقل في جبل القلعة عام 1950
قبضة يد هرقل الرخامية الضخمة كما تظهر في أعالي جبل القلعة قرب هيكله

أما الحقبة الثانية فهي حقبة المسيحية وكانت شديدة الازدهار في فيلادلفيا، نظرا لكونها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الأردنيون الغساسنة. اعتنق الأردنيون الغساسنة المسيحية على المذهب المونوفيزي وكانوا مؤمنين مخلصين، وقد جاهد حكامهم أمثال الحارث الأردني الغساني لإيقاف اضطهاد البيزنطيين للمسيحين في المشرق.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

وبوصفها مدينة ذات حكم ذاتي كان لها أبرشيتها الخاصة وقد حضر مجمع نيقية[4] وخلقدونية[5] عدد من أساقفة فيلادلفيا. (MacAdam: 1992) وازدادت أهمية أسقفية فيلادلفيا مع الزمن حتى تحولت إلى بطركية، فبعد موت بطريرك بيت المقدس انتقل مركز البطريركية إلى يافا ومن ثم إلى مدينة دورا إلا أن بطريركية فيلادلفيا كانت هي المسؤولة عن شؤون مسيحي بيت المقدس.  (غوانمة: 1979) كما كانت فيلادلفيا مركزا لأبرشية البترا، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن مطران حسبان قد تسلم رسالة من بابا بطريركية أنطاكيا يعلمه فيها أنه عين أسقف فيلادلفيا نائبا عنه (العابدي: 2009)

قدمت فيلادلفيا العديد من شهداء الاضطهاد الديني الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية على المسيحيين في القرون الميلادية الأولى ومنهم من خلد اسمه إلى الآن. وتذكر المصادر التاريخية قصة ستة شباب اجتمعوا للصلاة وقد وشى بهم أحد ما فأخذوا وعذبوا ونقلوا إلى سجن فيلادلفيا وتم إعدامهم هناك (MacAdam: 1992) إضافة لهؤلاء الشباب الستة كان هنالك شهداء وقديسون من فيلادلفيا وأهمهم إليان (إيليانور أو إيليانوس) العماني والقديسان زينوس وزينان.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. (MacAdam: 1992)

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب فيلادلفيا، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. (MacAdam: 1992)

الكنائس

نظرا للأهمية الدينية التي تمتعت بها فيلادلفيا كان لا بد أن تنتشر الكنائس فيها، رافق انتشار الكنائس انتشار فن الفسيفساء الذي استخدم لإضفاء لمسة جمالية على أرضية الكنيسة. اشتهرت كنيسة البازليكا وهي نمط معماري مستطيل الشكل.

نقش كنيسة نتل الغسانية وقد كتب باليونانية ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” والمقصود الملك الأردني الغساني الحارث ابن مارية

وجدت العديد من الكنائس الأثرية، ككنيسة مارجاورجيوس في اللويبدة، التي اكتشفت في ساحة بيت السيد عبد الله الحمود. كما اكتشفت ثلاثة كنائس من القرن الخامس على أطلال نهر عمان. كما اكتشف كنسية كرسي الأسقف التي لا تزال بقايا جدرانها وأعمدتها الرخامية موجودة ومبعثرة. (العابدي: 2009)

الآثار في فيلادلفيا

أدخل لفيلادلفيا عبر العصور أنماط معمارية جديدة هلنستية ورومانية، فبنيت فيها الحمامات والملاعب والمسارح والساحات العامة والهياكل الوثنية وكما ناقشنا في فصل تخطيط المدينة فقد أعيد تخطيطها وتوسعتها بشكل كبير.  تعد أغلب آثار فيلادلفيا مرافق اجتماعية وترفيهية تعنى بالاجتماعات الثقافية الكبيرة كالمسارح ودور الموسيقى والملاهي والحمامات إضافة إلى المدافن العائلية التي تدل جميعها على مقدار الرخاء الذي عاشه الأردنيون في المدينة. وفيما يلي استعراض لأهم وأبرز الآثار المكتشفة في فيلادلفيا.

جبل القلعة

عمان كما نراها من جبل القلعة 1944

تقع آثار جبل القلعة على واحد من جبال المدينة الشوامخ، يسمى الجبل جبل الطهطور والطهطور هو رجم الحجارة الذي عبده العمونيون. كان الجبل محاطا بسور دفاعي أسس في زمن بطليموس فيلادلفيوس (285-257 ق.م.) تظهر آثاره إلى اليوم،  تعاقبت الحضارات على جبل القلعة منذ العصور الحجرية، واتخذه العمونيون مركزا لعاصمتهم، كما كان مركز مدينة فيلادلفيا. فلذلك يحوي الجبل عدة آثار تتبع لعدة عصور، فوجدت تماثيل عمونية وأدوات تعود للعصر الحجري، كما وجدت المساكن البيزنطية وهيكل هرقل إله فيلادلفيا مكان إله العمونيين السابق ذكره، ونرى يد هرقل الرخامية الضخمة على قمة الجبل إضافة لبقايا الأعمدة الكورنثية والبوابة التي ظلت حتى عام 1911. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على هيكل هرقل
نموذج ثلاثي الأبعاد لهيكل هرقل كما يعتقد أن يكون

وفي جبل القلعة العديد من الكهوف التي تعود للعصور الحجرية ولكن أعيد استخدامها كمدافن في العصر الروماني. كما تنتصب بعض الجدران التي تحوي محاريبا كانت توضع فيها تماثيل الآلهة. وفي جبل القلعة هيكل آخر لعبادة فينوس (الزهرة) آلهة الخصب والجنس والذي أمر ببنائه الإمبراطوران بيوس وأوريليوس ومن ثم تحول إلى كنيسة العذراء مريم وقد تهدم الهيكل بفعل زلزال عام 747 م.

الحمام (سبيل الحوريات)

سبيل الحوريات – عمان – 1879

يشكل بناء الحمام في فيلادلفيا مزيجا من الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن وأحواض السباحة والنوافير ذات الشكل الجمالي. وسبيل حوريات فيلادلفيا يتبع هذا النمط مما يجعله شديد التميز والجمال. وكما أسلفنا، فقد كانت فيلادلفيا مدينة المياه وتميزت بهذا الحمام الذي ارتاده الأردنيون في فيلادلفيا لغايات الترفيه والاستجمام. (العابدي: 2009)

المدرج والساحة

 يعد المدرج الروماني الذي يتوسط قلب عمان أحد أهم آثار المدينة، بني على شرف الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138-161 م) وتشير إلى ذلك اللوحة المثبتة على المدخل المنقوشة باليونانية. يقع المدرج على السفح المقابل لجبل القلعة، وبني عن طريق اقتطاع الصخر على شكل نصف دائرة. المدرج مقسم لثلاثة أقسام، القسم الأول يحوي 15 صفا لعلية القوم ويحوي هذا الصف أيضا ثلاثة مداخل ومخارج للمشاهدين، والقسم الثاني يحوي 14 صف أما الثالث فيحوي 17 صفا وهو لعامة الشعب. وفي المدرج ممرات للمشاهدين وثلاثة بوابات تنفذ إلى ساحة الفورم وشارع الأعمدة. يتسع المدرج لعشرة آلاف متفرج ومهو مصمم بطريقة توزع الصوت. أطلق على المدرج عدة أسماء في العصور اللاحقة فبعض المؤرخين العرب أسموه مدرج سليمان والبعض الآخر أسموه مدرج فرعون. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على المدرج الروماني عام 1880

أقيم في المدرج الاحتفالات الوثنية في البدء ومن ثم بدأ يأخذ المسرح غايات تثقيفية وترفيهية أخرى، كعرض المسرحيات والمبارزات والمصارعة وغيرها. أما أمام المدرج فكانت الفورم أو الساحة، بطول 180 قدما، تستخدم لغرض استقبال القوافل التجارية والاجتماعات العامة  (العابدي: 2009)

الملهى أو قاعة الموسيقى

شرق المدرج الكبير يوجد مدرج صغير (بقطر 38 متر ويتسع لستمائة شخص) مختلف قليلا في الشكل والحجم عن المدرج الكبير. يرجح أن هذا المبنى هو الملهى أو قاعة الموسيقى. كان المبنى مسقوفا ويتجه تجويفه نحو الغرب على عكس المدرجات الأخرى التي تتجه نحو الشمال.

الأوديون كما يظهر من جبل القلعة

قسم المدرج الصغير إلى درجتين، تحوي العلوية على سبعة صفوف والسفلية على اثني عشر صفا، إضافة لثلاثة ممرات طويلة. وله خمسة بوابات. بني هذا الملهى في القرن الثاني الميلادي وكان يستخدم للقراءات الشعرية والمسرحيات الدرامية الخاصة بالطبقة المثقفة في فيلادلفيا. (الغوانمة: 1979)

قبو السيل

شاهد العديد من المؤرخين أمثال كوندوز بقايا نهر عمان والقناطر الرومانية التي كانت تعتليه. عام 1881، تم توثيق آخر 100 متر من هذه القناطر، ويوصف هذا العمل بأنه إبداع هندسي لا مثيل له في فيلادلفيا، حيث كانت القناطر تغطي النهر من منبعه في راس العين إلى منطقة رغدان. (العابدي: 2009)

سيل عمان 1890 وما تبقى من القناطر الرومانية فوقها

المقابر والأضرحة العائلية

منظر عام لوسط مدينة عمان ويظهر في الصورة بقايا ضريح روماني قديم والمدرج الروماني وخلف المدرج الروماني جبل الجوفة وجبل التاج عام 1930

انتشرت المقابر والأضرحة العائلية كدلالة على الثراء والرفاه الذي عاشه الفيلادلفيون. وقد اكتشفت أربعة مدافن رئيسة في المدينة:

ضريح نويجيس: في الطريق إلى خربة طبربور وعين غزال، تقع خربة نويجيس أو “قصر النواقيس” الذي يعود إلى القرن الثاني أو الثالث ميلادي. وترتفع قبته المزينة منطلقة من الجدران الأربعة المزينة بشتى أنواع الزخارف النباتية والحيوانية. (العابدي: 2009)

ضريح النويجيس

القويسمة: تقع قرية القويسمة التي تعود إلى العصر البيزنطي جنوب العاصمة عمان. اكتشفت في هذه القرية لوحات فسيفسائية رائعة الجمال، كما يوجد فيها بناء يسمى “قصر السبع” وهو بناء مستطيل يرتفع جداره عشرين قدما بمساحة 33 متر يعود للقرن الثاني ميلادي. في القصر تابوت مزخرف لطفل. وقد كشفت تنقيبات دائرة الآثار عامل 1967 عن وجود درجات حجرية على جانبها مذبحان، ينتهي الدرج بفتحة باب قليلة الارتفاع لإدخال الميت. (العابدي: 2009)

مدفن الدوار السادس: عام 1982 بدأ العمل على تنقيبات مدفن الدوار السادس في عمان قرب المركز الأمريكي للدراسات، اكتشف في المدفن 11 تابوت حجري والبناء مربع بأبعاد 190 سم × 190 سم.[6]

مدفن الجوفة: اكتشف هذا المدفن أثناء عمليات حفر الصرف الصحي في الجوفة، ويتميز بجدارياته الملونة التي تصور معجزة المسيح في إحياء الموتى. المدفن عبارة عن حجرة صغيرة بأبعاد لا تتجاوز الثلاثة متر وجدرانه مغطاه بالجص. [7]

مدفن خربة عثمان: اكتشف هذا المدفن في منطقة خلدا أثناء عملية تجهيز لبناء منشأة سكنية عام 2002، الحجرة بأبعاد 60× 180 سم. كما اكتشفت حجرات أخرى لاحقا تحوي عدة توابيت وأسرجة للإنارة وفخار ونقوش متنوعة. [8]

خاتمة 

فيلادلفيا معدن الحبوب ومدينة المياه ومدينة الحب الأخوي، لا زالت إلى اليوم تحمل ألقابها ببهاء. تقيم عمان العاصمة الحديثة على ذات الأرض التي سخرها الأردنيون عبر التاريخ منذ العصور الحجرية إلى الحقب الكلاسيكية وحتى يومنا هذا.

المراجع العربية

  • الغوانمة، يوسف (1979) عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء: عمان
  • أبو حمدان، تيسير (2016) فيلادلفيا المدينة والفندق، دار أزمنة: عمان
  • العابدي، محمود (2009) عمان ماضيها وحاضرها، منشورات وزارة الثقافة الأردنية
  • بطليموس المخلص، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/ptolemy-the-saviour/
  • أبو شميس، أديب (2003 ) اكتشاف قبر بيزنطي مبكر في خلدا خربة عثمان، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • زيادين، فوزي (1982) حفريات جبل الجوفة- مدفن روماني مزين بالرسوم الملونة، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • الرشدان، وائل (1984) قبر روماني في منطقة الدوار السادس، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • تدرا دراخما- عمان مدينة الحب الأخوي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammanphelphdlios/
  • العاصمة الأردنية العمونية-ربة عمون، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammonit-capital/
  • الفخار الأردني النبطي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/nab-pottery/
  • الأردنيون الغساسنة: الترف الحضاري والحرية والعقلية العلمية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/social-life-of-the-ghassinids/
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanid-an-introduction/
  • الدين عند الأردنين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/christianity-and-the-ghassanids/
  • الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanids-religion-introduction/

المراجع الأجنبية:

-MacAdam, H., Bowsher, J. and Hubner, U (1992) Studies on Roman and Islamic Amman, VI, The British institute in Amman for Archeology and History

[1] اسم لثقافة سادت في العصر الحجري امتازت بقرى ومساكن حجرية على شكل تكتلات تحوي 200 فرد تقريبا، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9_%D9%86%D8%B7%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%A9

[2] الحقبة الغسولينية أو الغسولية أو الغازولية هي مرحلة ثقافية وتاريخية تعود إلى أواسط  العصر النحاسي وأبرز مواقعها هو موقع تليلات الغسل الأثري في وادي الأردن جنوب البحر الميت، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%BA%D8%B3%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9

[3] انظر: حولية دائرة الآثار العامة، مجلد 4/5 لسنة 1960، ص23

[4] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفقا للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها

[5] انعقد سنة 451م يُعتبر من أهمّ المجامع، إذ نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس المشرقيّة عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة الذين يرون أن مجمع خلقيدونية هو المجمع المسكوني الرابع

[6] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1984

[7] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1982

[8] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 2003

مدن الديكابوليس الأردنية: فيلادلفيا مدينة الحب الأخوي

Scroll to top