مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من أولى الثورات الأردنية الصغرى ( ثورة الأردنيين عام 1519 )، في هذ البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ثورة الأردنيين عام 1557م .

 

ثورة الأردنيين عام 1557 :

شهدت الفترة ما بعد 1519 والصلح المزعوم مداً وجزراً في العلاقة ما بين الأردنيين والعثمانيين، وقد كان آخر ظهور مسجل ومدوّن للزعيم الأردني سلامة بن فواز في عام 1523 في منطقة سيل الزرقاء، ثم ظهر ابنه نعيم الذي خلفه في زعامة الفواز بينما ظلت العشائر الأردنية تتأرجح بين حلفي الغزاوية والفواز. شهدت الفترة الأولى من الحقبة العثمانية مناوشات متعددة ما بين العشائر الأردنية وقوات العثمانيين خلال الأعوام (1530) و (1545) و (1548) وذلك في محاولة من العثمانيين لسلب الأردنيين حكمهم الذاتي ونتيجة استمرار النهج العثماني بفرض الضرائب (25% على الدخل وبمعدل 10% على المبيعات بدون تمثيل سياسي أو مردود خدمي) والتضييق على الأردنيين والذي تسبب بانخفاض أعداد السكان ودفعهم للتحول من حياة الاستقرار إلى التنقل ـ إضافة إلى التراجع على الصعيد الاقتصادي والتجاري جراء نقل طريق الحج والفتن التي حاول العثمانيون بثها بين العشائر الأردنية ومكونات المجتمع، وذلك ضمن سياسة ( فرّق تسد )، حيث كان الحلف العشائري الأردني المتماسك في ذلك الوقت يشكل هاجسا للسلطة العثمانية العاجزة عن فرد نفوذها بشكل  كامل.

كانت الدولة العثمانية تتصالح مع مراكز الحكم الذاتي المحلي الأردنية حسب تنفيذ مصالحها، وكانت تتعارض معها عندما تشكل خطراً عليها، وقد كانت هذه المراكز، تلعب دور توفير الأمن لطريق الحج الشامي والمصري الماران من أراضيها التاريخية وذلك لضمان استمرارها على البقاء عبر ما تقدمه من خدمات تجارية و أمنية و لوجستية متنوعة في ظل سياسة اقتصادية عثمانية مجحفة و مدمّرة. وقد أراد العثمانيون استمرار دور الموفر للأمن لطريق الحج الشامي و المصري لكن بشروطهم وسياستهم، فلم يكن للعثمانيين حكم أو سلطة على المنطقة بل كان حكماً بالوكالة، حيث يتم تقسيم المنطقة لقطع عبارة عن ولايات وسناجق ومدن وتيمارات، فكل مدينة و قرية لها حاكم يشتري منصبه بمبلغ مرتفع ويفوض بتجميع الضرائب لاستعادة ما دفعه ومرابح تعود له بالمنفعة مما اشتراه، ومحاولات تأجيج الفتن والصراعات ما بين العشائر الأردنية، وإهلاك الناس بالضرائب التي تجاوزت طاقة السكان وأصبحت مضاعفة، فقد كان النظام العثماني يتاجر ويبيع ويشتري بالسكان من خلال بيع المناطق لسماسرة جباة يتولون مهمة جمع الضريبة مقابل مبلغ يدفعونه للعثمانيين ، فعلى سبيل المثال يشتري أحدهم ( وكالة جمع الضرائب ) في منطقة معينة بـ 100 ألف يوردهم للسلطان العثماني ليصرفها على جواريه في قصوره باستنبول، ولقاء ذلك هو يقوم بجمع 150 ألف لمنفعته الشخصية ولرشوة والي دمشق وغيره ممن يفصلون بين السلطان وجامع الضرائب على الأرض. يذكر أن الضرائب كانت تتجاوز 25% . (المزيد حول هذه الضرائب في بحث الحقبة الاسلامية المتأخرة).

%d8%a7%d8%b1%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86-%d8%b6%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%8a%d9%86

حاول العثمانيين إحداث الفوضى عام 1551 بالتظاهر بالرضوخ لمطالب الأردنيين وتعيين الشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أميراً للأردن من الكرك، أما باطن الأمر فكان لضرب العشائر الأردنية ببعضها بين زعامة الفواز والغزاوية. لكن العشائر الأردنية تحت قيادة الغزاوي كانت واعية لخطط العثمانيين فانتشرت الأسلحة التقليدية من الخناجر والسيوف والرماح والأسلحة النارية، لدرجة لم يعد بإمكان العثمانيين تحصيل الرسوم والضرائب من السكان الذين كانوا في حالة غليان، وتسببت الصراعات والفتن بين القوى المحلية في الحاق الأذى والخراب بالقرى والمزارع .

وفي عام 1557 بلغت حالة الغضب الأردني أوجها جراء إصدار العثمانيين أوامرهم بالقبض على نعيم بن سلامة الفواز الذي صد هجماتهم المتتالية المحاولة فرض سيطرة خارجية على الأردنيين، وأثناء واحدة من محاولات اعتقاله المتكررة قام بقتل بعض أفراد الجيش العثماني الذين أرسلوا لإلقاء القبض عليه نتيجة رفضه الانصياع لأمر السلطنة العثمانية، واحتجاجاً على العمليات العسكرية العثمانية لللقبض عليه ومحاولة اغتياله عمد نعيم بن سلامة بن فواز لإغلاق طريق الحج ووضع العوائق الصخرية في أحد الممرات الضيقة قرب منطقة الأخيضرة، وذلك لاستدراج القوات العثمانية، التي وقعت في الفخ والحق بها نعيم وفرسانه من العشائر الأردنية الهزيمة وسيطر على أسلحتهم. وكما عادتهم باللجوء للأساليب الخسيسة، تم إلقاء القبض على قريبه الشيخ نصر الله الفواز بدلاً منه وذلك لابتزازه للحصول على هدنة، وبعد فشل محاولة الابتزاز كما حصل عام 1519قام العثمانيون بإصدار فرمان العفو عنه لتجنب إثارة غضب العشائر الأردنية الملتفة حوله.

وبعد عامين وفي عام 1559 تعمد نعيم الفوّاز حشد قواته في نواحي حوران الأردنية، وأعدّ عدته وأقام الخيام وأحضر اللوازم الأخرى، والذخيرة التي تكفي لمدة شهر، وأعلن استعداده لنقل الحجاج وحمايتهم وتأمينهم مما اضطر الوالي العثماني لمحاولة التفاوض معه وشراء وده ومحاولة اغراءه بالمال الذي يعرف بـ “الصرة”  ومحاولة طمأنة نعيم في رسالة جاء فيها “كن في حال سبيلك فإن زعامتك لن تنتزع منك وسنعطيك صرتك”، وهو الأمر الذي رفضه نعيم فاستمر نعيم وقواته والمزيد من العشائر الأردنية في إقامة معسكراتهم على طريق الحج وذلك لإيصال رسالتهم للوالي بأنهم لم يقوموا ضد الحج وإنما ضد السلطة العثمانية وأنهم مستمرين في تأمين طريق الحج ورفض مرور أي قوات عثمانية عبره، رافضين العروض السخية التي قدمها الوالي والاغراءات المالية، مؤكدين على أن ما يدافعون عنه هو المبدأ وحقهم في سيادة أرضهم ورفضهم للحكم الخارجي.

فاستعان الوالي العثماني في دمشق بوالي حلب وطلب نجدته وارسال المزيد من الإمدادات والخيالة، بحيث طلب منه ارسال 50 سباهياً زيادة على المائة سباهي الذين يرسلون كل عام وطلب منه العمل على تهيئتهم (والسباهي هو الجندي الخيال، وأحد أفراد القبوقولي الخيالة، وصاحب الرتبة الدنيا في القوات التيمارية في الولايات الخاضعة للحكم العثماني) إلا أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها وتصدت لها العشائر الأردنية.

 فلجئ الوالي العثماني لتعيين الشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أميراً للحج من عشيرة من خارج تحالف العشائر الأردنية، وكانت هذه محاولة عثمانية لضرب العشائر فيما بينها وإشاعة الفتنة، وذلك من خلال نقل الصدام ما بين الأردنيين والوالي العثماني، ليصبح بين العشائر فيما بينها، الا أن الشيخ نعيم الفواز والشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أدركا تلك المكيدة التي حاول الوالي العثماني تدبيرها ولم ينجرا للصدام مع أبناء وطنهم.

فعمد السلطان سليمان (القانوني في توثيق العثمانيين والمعروف محلياً بسليمان الرهائن تبعاً لقصة ثورة 1519 المنشورة سابقاً) في ذات العام 1559 إلى بناء مزيد المخافر العثمانية في عجلون والقطرانة ومعان وضاحية الحج وتبوك، وزودها بقوات من الجنود للتحكم بالمنطقة والتنكيل بأهلها لتخويف العشائر من أي محاولة لاستعادة السيطرة على طريق الحج.

وكذلك أصدرت القرارات بمنع صناعة الأقواس الكبيرة والسهام المسطحة والخناجر المعروفة بـ “اقفه عقفه” والتي كانت تستخدمها العشائر الأردنية، وتم جمع كل ما يتوافر منها في الأسواق وحفظها في الحاميات العثمانية كمحاولة لتجفيف كل مصادر الدعم و الدفاع التي يحصل عليها فرسان العشائر الأردنية، وذلك يدل على حجم الرعب والقلق الذي كان يسببه تحالف العشائر الأردنية للعثمانيين.

وبالرغم من كل القمع والحلول العسكرية إلاّ أن السياسة العثمانية كانت تلجئ في بعض الأحيان للحيل الدبلوماسية بعد أن تفقد الثقة في الحلول العسكرية والقمعية التي كان يقاومها الأردنيون بشراسة وكثيراً ما كانت تزيد من صلابتهم على مواقفهم وتمسكهم بحقوقهم مفعمين بالبطولة والإباء ضاربين المثل في التضحية بكل ما هو غال ونفيس، تجسيداً لقيم التحرر والانتماء للأرض، والمترسخة فيهم جيلاً بعد جيل.

 قام الغزاوي بتوسيع تحالفه العشائري فضم الحويطات وبني عطية وبني لام (الفواز) وبدأ نفوذه يتعمق ويزداد قوة نتيجة استعادة العشائر الأردنية لتحالفهم التقليدي. وفي عام 1567 قام العثمانيين بعزل الشيخ الحكيم الغزاوي الذي اختاروه أساسا نكاية بالشيخ نعيم بن سلامة الفواز قبل أن يعود  الغزاوية والفواز للالتقاء على التحالف ضد العدو المحتل، ومن ثم قاموا بتلفيق التهم الباطلة له بسرقة المؤن الغذائية المخصصة للرعايا العثمانيين بالمخافر. فقاموا بحبسه في قلعة دمشق، وأصدروا فرماناً بتعيين سلامة بن نعيم الفواز أميراً بتاريخ 7/8/1567 الذي استمر على النهج الاستقلالي فعاد إلى باقي العشائر الأردنية الذين طالبوا باطلاق سراح الشيخ الغزاوي وعند تعذر الاستجابة قام فرسان العشائر الأردنية بسد الطرق ضمن أراضيهم حتى تم اطلاق سراحه وهذا ما كان عام 1570 قبل أن يؤول التحالف العشائري لقيادة الغزاوي بالتراضي وليقوم بتسيير أكبر حملة حج حتى وقتها.

لم تكن آلة جني الضرائب في الحكم العثماني تكف عن فرض المزيد من الضرائب على الأردنيين بدون أي مقابل على صعيد الخدمات، ففي عام 1570 فرض العثمانيون على العشائر الأردنية أن تدفع لهم 800 جمل و30 رأس خيل لقاء انتفاعها من عشب البلاد ومياهها، وهو ما استدعى من سلامة بن نعيم الفوّاز أن يأخذ على عاتقه مهمة التحرك لمحاولة وضع حد لهذا التغول من السلطة العثمانية التي لم تكن أطماعها تتوقف فأخذت تفرض الضريبة تلو الأخرى، وذلك من خلال مطالبته بحكم ذاتي للمنطقة بعد التشاور مع العشائر والتباحث معها، فأرسل سلامة بن نعيم الفواز رسالة إلى السلطان العثماني يبلغه فيها أن صلخد وعرب الجبل وعرب القصيم عهدت له بطريقة السنجق، طالباً منحه إمارة العشائر الأردنية، وقد تضمن هذا الطلب إجابة مسبقة على كافة الحجج التي قد يتخذها السلطان لمواصلة الحكم العثماني الجائر على المنطقة، فقد تعهد سلامة بن نعيم بإيلاء الاهتمام بحفظ الحجاج وتعويضهم بضعف ما يفقد من مالهم وحيواناتهم الأخرى أو ما يفقد من أموالهم،  كما تعهد بأن يقوم إلى جانب العشائر الأردنية، بتطهير بركة القطرانة بأحسن مما يقوم به الحاكم العثماني الذي منح (15000) ذهب ميري مقابل هذا الغرض، على أن يوفر هذا المبلغ، وأن يقوم بتطهير البركة بدون مقابل،  كما أنه سيقوم بإحياء وإعمار 31 قرية وخربة في حوران الأردنية على أن تلحق بلوائه، وأن يمنح التيمار ( والتيمار هو الإسم العام للإقطاعات المختلفة من : خاص ، زعامت، تيمار، وهو الإقطاع الذي يتراوح ريعه بين 3000 – 20000 آقجة ويمنح لشخص أو أكثر وفق شروط معينة محددة، أما الزعامت أو الزعامة فهو الإقطاع الذي يتراوح ريعه بين 20000 – 99999 آقجة ويسمى صاحبها المتصرف بها زعيم أي صاحب زعامت بالتركية)، وقد تمت الموافقة على ذلك لمدة عام واحد إلا أن العثمانيين انتبهوا أن ذلك أفقدهم السيطرة على المنطقة فقد توقف ابتزازهم للناس وفرضهم للضرائب، وقمع العشائر بحجة حماية طريق الحج وبدون تقديم أي خدمات فالبرك ظلت بحاجة لتطهير والقرى خربة بدون صيانة، فما لبثوا أن عادوا لعادتهم في إثارة الفتن وتحريض العشائر ضد بعضها وقاموا بإسناد إمارة الحج لوالي دمشق، إلاّ أن ذلك  كله تسبب في بروز التحالفات العشائرية وزيادة دورها كلاعب أساسي في الحركة السياسية في قيادة المنطقة وهو ما كان وبالاً على العثمانيين  في فترات لاحقة.

المراجع :

Hütteroth, Wolf-Dieter and Kamal Abdulfattah (1977), Historical Geography of Palestine, Transjordan and Southern Syria in the late Sixteenth Century, Erlanger geographische Arbeiten 5. Erlangen: Palm und Enke. PP. 169-71

Bakhit, M. Adnan and Nufan R. Hmoud (1989), ed. and trans., The Detailed Defter of Liwā Ajlūn (The District of ?Ajlūn). Tapu Defteri No: 185, Ankara. A Study, Edition and Translation of the Text. Amman: The University Of Jordan Press (Arabic and Ottoman). PP.44-48.

Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.108

الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للغزي 1 / 455
Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.49

Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48

الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للغزي 1 / 455

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. vol. xiv, no. 973, p. 675; no. 1152, p. 794; no. 1692, p. 1149)

Abu Husayn, Abdul-Rahim (1985), Provincial Leaderships in Syria, 1575–1650. Beirut:

American University of Beirut Press.

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. Pp. 54-5, no.8, pp.77-8,no. 30, p.53, no.2 p.76, no. 28.

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. Pp. 54-5, no.8, pp.77-8,no. 30, p.53, no.2 p.76, no. 28.

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (52- 74 )، 2016.

مقابلة لفريق ارث الأردن مع المؤرخ كليب الفواز في منزله 6/2016.

 

الثورات الصغرى – ثورات الأردنيين 1557 – 1570

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف والتحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى والوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى.

في هذا البحث نقدم سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى بالحقبة الإسلامية المتأخرة وأولى الثورات الأردنية على العثمانيين ( ثورة الأردنيين عام 1519 ).

تمهيد

  كنا قد نشرنا عن انتزاع الأردنيين للحكم الذاتي في الحقبة الإسلامية المتوسطة (الأيوبية والمملوكية)  وقد ظلت الثورات مستمرة ومتقطعة، منها مثلاً عندما ثارت العشائر الأردنية فقتلت نائباً معيناً من خارجها عام 1453م. أو ما وثق في عام 1462 عندما تم بعث جيش جرار من مصر المملوكية لقمع ثورة أردنية اتخذت من آيلة وقلعتها معقلاً لها وبقيادة زعيم العشائر الأردنية وقتها مبارك العقبي (بني عقبة أجداد العديد من العشائر الأردنية اليوم). وحتى بعد قمع ثورة ال1462 ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها وعند استهتار السلطان المستمر خرجت بعض العشائر بقيادة بني لام (أجداد عشائر المفارجة ومن ثم السردية ومن ثم الفواز اليوم) فصادروا قافلة حكومية متجهة لمصر مكونة من ثلاثة عشر ألف من الابل بعام 1494م وذلك كوسيلة أخيرة للاحتجاج وتحقيق المطالب المشروعة بالاستقلال والحكم المحلي.

قلعة الزعيم الجغيمان
قلعة الزعيم الجغيمان

إمارة بني لام في الأردن

أسست إمارة بني لام على يد الزعيم الأردني للعشائر الأردنية في حينها الأمير حسان بن المفرج وامتدت من جنوب غرب الأردن وصولاً لشمال منطقة حوران الأردنية واستمر نفوذها لمائة عام وضمت تحالفاً بين عدد كبير من العشائر الأردنية، قامت هذه الإمارة بما فيها من تحالفات للعشائر الأردنية وفرسانها بالإضافة لدورها بانتزاع الحكم المحلي (كما نشرنا ببحث سابق تحت مسمى “المفارجة”) بمحاربة غزو الفرنجة للمنطقة، فعلى سبيل المثال فإن أسامة بن المنقذ ومعه 18 شيخاً من قبيلة بني لام قضوا في يوم واحد دفاعاً وصداً لغزو الفرنج وذلك في عام 1070 تقريباً، وهو نهج ثابت لأبناء المنطقة في وقوفهم ضد كافة الأطماع ومحاولات الحكم الاستعماري المتستر والمتاجر باسم الأديان أمسيحية كانت أم إسلامية. إمارة بني لام استفادت من التحالفات التي كانت تقوم بها مع العشائر الأردنية الأخرى من جهة، ومع الفاطميين في القاهرة والمماليك في دمشق من  جهة اخرى، وبعد انهيار الإمارة ارتدت بني لام نحو جبال الشراه النبطية وأقاموا فيها. ومن شراه الأنباط أعاد حفيد إمارة بني لام “حسان بن المفرج” التموضع وأسس لاحقاً إمارة أخرى اتخذت من حوران عاصمة لها وعرفت بإمارة آل مرَا واستمرت متقطعة من عام 1300 ولغاية 1550 تقريباً. وما زالت آثار آل مرا في الأردن ماثلة حتى يومنا الحالي حيث شواهد القبور التي تحمل أسماءهم في البادية النبطية بجنوب معان.

الأردنيون يتمسكون باستقلالهم وارثهم رغم محاولات الحكم الخارجي لهم

 كان الأردنيون يلتفون حول زعيم تحالف العشائر الأردنية في وقتها الشيخ سلامة بن فواز الذي تذكره الوثائق خلال الفترة من 1490 ولغاية 1523. وفقا للوثائق فقد كان لتحالف سلامة بن فواز ثلاثة عشر ألف قوس (كناية عن عدد المحاربين تحت إمرته )، من بني لام وبني تميم والعمرو وبني عطية وعباد والعدوان وبني حميدة وغيرهم من بقية العشائر الأردنية، وكانت سيطرتهم تمتد من حوران وحتى جنوب البادية النبطية شرق البحر الأحمر لتصل لمشارف تبوك. وفي السرد التاريخي لقوة هذه الإمارة و اتساعها يذكر بعض المؤرخين عبارة تقول : “لقد دوّخ بني لام دولة الشركس” والمقصود بهذه المصادر هي دولة المماليك الذين تفاوضوا مع سلامة الفواز واتفقوا أن يدفعوا لتحالف العشائر الأردنية بقيادته ما مجموعه ألف دينار ذهبي مقابل البقاء في مناطق سيطرته وعدم التعرض لقوات المماليك أثناء مرورها من المناطق المجاورة له، حيث بني في عهده قلعة الجغيمان سنة 1495، وهي نفسها قلعة المدورة القديمة، التي تبعد عن المدورة الحالية نحو 4-5 كم وهي مهملة الآن للأسف ولكن لهذه المعلومة مدلول تاريخي حيث لا يعقل لشخص أن يبني قلعة وتسمى باسمه ما لم يكن لديه سلطة سياسية وقوة ومال، وتشير الوثائق إلى أن هذه القلعة كانت أحد المراكز الرئيسية لإدارة طريق الحج والتجارة الذي رعته العشائر الأردنية لآلاف السنين، حيث تشير الوثائق العثمانية بالنص الصريح مبدوءة بـ “إلى جغيمان” ، وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته حيث تعرض للمنطقة والسكان الموجودين فيها.

وخلال تلك الفترة شهدت المنطقة نوعا من الاستقرار النسبي في العلاقات ما بين تحالف العشائر الأردنية والسلطة الحاكمة ممثلة بالمماليك،  وذلك من خلال الاتفاقات على حماية خطوط الحج التي تمر بمناطق سيطرة تحالف العشائر الأردنية وترأس نعمان بن سلامة بن فواز الحج الشامي عام 1502.

أدناه بعض الصور لقلعة الزعيم الجغيمان ويلاحظ أنها مهدمة وبحاجة للترميم

 

 

الثورة الأولى على العثمانيين 1519 – ثورة الجغيمان

نجحت الثورة الأردنية بقيادة زعيم العشائر الأردنية مبارك العقبي كما أسلفنا بالوصول لانعدام السلطة الخارجية بين عامي 1502-1505م، وبالتفاصيل فان الثورة وصلت لمحاصرة الحاكم المعين بدون توافق الأردنيين في قلعة الكرك وتكللت بالوصول لاتفاق بحيث يستسلم ويخرج آمناً الى مصر المملوكية. عيَن جان بردي الغزالي حاكماً للأردن من الكرك عام 1509م فلم يرضوا به وثارت عليه العشائر الأردنية فطرد منها وعاشت الأردن مرحلة ” لا حكم ” أخرى وتم تعيينه لحكم فلسطين من صفد.

 قاد قايتباي الخصاكي جيشا ضخما من دمشق بعام 1512 لإعادة السيطرة على الأردن بعد طرد جان بردي من أراضيها ولكنه فشل وعادت غزوتين لاحقات حتى غلب عدد العسكر كافة المطالب الاستقلالية للأردنيين بعام 1513. خان جان بردي الغزالي المماليك وتحالف مع السلطان سليم العثماني وانضم لخيانته خاير بك، والذين وعدا بالحكم مقابل تحييد القوات التي يأمرون عليها فسقطت سوريا بيد العثمانيين بسهولة في مرج دابق. مرج “دابق” كانت موقع المعركة التي سقطت فيها سوريا بيد الأتراك العثمانيين بعام 1517م وعلى اثرها انتقل صراع الأردنيين مع الحكم الخارجي من مصر المملوكية الى استنبول العثمانية، ومما يستوجب ذكره و الالتفات له بنظر ثاقب و لمرات متعددة أن اسم المعركة “مرج دابق” هو نفس الإسم الذي يستخدمه تنظيم الدولة الإرهابية في العراق والشام في أدواته الإعلامية المتشابهة.

تم تعيين جان بردي الغزالي والياً على الشام والأردن كمكافأة لخيانته للمماليك، جان بردي الغزالي ذاته الذي طرده الأردنيين سابقاً والذي خان المماليك، كان أول والي يعيَن لحكم منطقة شاسعة تضم الأردن بعام 1517م من دمشق، واستمر نضال الأردنيين ضد الحكم الخارجي فكل ما تغير هو انتقال القطب الآخر وعاصمة الخصم من مصر المملوكية إلى استنبول العثمانية؛ فلم يعترف الأردنيون بولايته خاصة أنهم قد طردوه قبلها، وقد اصطدم والي دمشق الغزالي بالعشائر الأردنية التي لم تعترف بولايته نتيجة ما كان له معها من تاريخ أسود وطردهم له قبل ذلك في عام 1509. لم ينسَ الغزالي ما فعله الأردنيون به في عهد المماليك فحاول التنكيل بهم والتضييق عليهم بشتى السبل، فلجأت العشائر الأردنية لاستخدام ورقة سياسية ذكية رداً على سياسة الغزالي القمعية، فعمدت العشائر لإيقاف الحماية التي كانت توفرها على طريق الحج وذلك كوسيلة للاحتجاج السلمي والضغط على سلطات الحكم الخارجي لإرغامها على التفاوض معها والاستجابة لمطالب أهل المنطقة التي كانت تعاني من التهميش المتعمد جراء رفض أهلها الخنوع والخضوع للسلطة الخارجية، ونظراً لما له من باع طويل في الخيانة فقد انقلب جان بردي الغزالي من جديد ولكن هذه المرة ضد العثمانيين أنفسهم، حيث ارتدت بضاعة الخيانة على العثمانيين وأعلن جان بردي الغزالي الاستقلال عن العثمانيين عام 1518م فنزلت عليه كافة الجيوش العثمانية للإطاحة والتنكيل والبطش به، حيث تم تعيين إياس باشا خليفة له وواليا على الشام مكانه بعد أن قتل جان بردي (تعددت الروايات عن تاريخ وطريقة قتله هل كانت من قبل الشعوب المقاومة له وللأتراك العثمانيين أم باغتيال سياسي، أو كلاهما). أول قرار أخذه اياس باشا هو قمع ثورة كانت في نابلس فاتخذها ككبش فداء ليظهر بأسه فشرد الكثير من أهلها وهدّ بيوتهم، قبل أن تتحد معها مناطق فلسطينية أخرى وتدحره خائباً. ثم وصل اللجون فذبح أربعة من أبناء آل طرباي حكام اللواء وأرسل رؤوسهم إلى السلطان سليم في بادرة لإظهار الولاء للحاكم العثماني. وفي خطوة هوجاء تهدف بالمنظور قصير المدى إلى تجفيف المصادر الاقتصادية المتأتية للأردنيين من أسواقهم على طريق الحجاج المسلمين والمسيحيين والمعروف بالطريق الملوكي، قام إياس باشا وبتوجيه من السلطان العثماني سليم الأول (أو ما بات يعرف لاحقاً بسليم المتآمر) عام 1519م بنقل الطريق شرقاً ونصب المخافر عليه بعيداً عن التجمعات السكانية المعادية لوجوده والمستخدمة لأداة ” ايقاف الطريق ” كأحد أدوات الضغط نحو الاستقلال، ثم قام بفرض ضريبة على ما يعرف ببازارات الحجاج، فتسبب القراران بانهيار المنظومة الاقتصادية للتجار الأردنيين والتي نجت لآلاف السنين حتى بعهد الرومان والفرس والفراعنة ولكنها لم تنجُ من العبث السياسي بحقبة العثمانيين. أما سياسياً فقد عمد الأردنيون على انشاء تحالفات عشائرية بإمارات تنتزع الحكم المحلي لهم وتراعي احتياجتهم.

بدا واضحاً أن الأردنيين بزعامة الجغيمان لن يقبلوا باستبدال حكم خارجي من مصر بآخر من دمشق فدأب السلطان على بعث قوة تلو أخرى لاخضاع الأردن لحكمه من مركز خارجي لكنها باءت بالفشل الذريع حيث أنهم لم يجدوا أمثال جان بردي الغزالي ليخون ويسلمهم الأرض لقاء منصب ومال كما حصل في مرج دابق.

وبعد مناوشات جسيمة بين جيش العثمانيين والقوات المقاتلة الأردنية في الفدين (المفرق) لجأ العثمانيون لحيلهم القبيحة حيث تسلل ليلاً بضعة أفراد من قواتهم لخطف أبناء الجغيمان شيخ الفواز وزعيم تحالف العشائر الأردنية بوقتها، وإرسالهم للسلطان سليمان “القانوني” حيث عرف حينها بسليمان “الرهائن”، ليتم بعدها مفاوضة الأردنيين على تسليم الرهائن وتولية حكام من الأردنيين مقابل السلم وانهاء الثورة عام 1519، وبعد هذه المفاوضات تم تولية الغزاوي (بتسكين الغين) كما أوردنا في بحث سابق لكن العثماني استمر برفع الضرائب في تصاعد كبير حيث توزعت ما بين ضريبة دخل تبدأ من 25% وأخرى على مبيعات الحجاج ومثلها على الأنعام من الإبل والمواشي ، وكذلك على المحاصيل الزراعية، فأتت ثورة الغزاوية بشكل طبيعي عام .

 

  • المراجع :
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 232-377
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 749-50
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P23
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 4، صفحة 94
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P94
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 433
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. P.124
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 15
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 382-83
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. Pp.151-59, 171-74.
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 25
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 61
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.256
  • مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ د. كليب الفواز ، ص ( 8-16 ) – ( 33- 50)، 2016.
  • بحث مؤسسة ارث الأردن (الأردن بالحقبة الإسلامية المتأخرة – الجزء الأول: 1389م-1656م ) للاطلاع على البحث انقر هنا .
  • بحث تاريخي موجز منشور بعنوان (ثورات وانتفاضات الاردن عبر العصور ) ، المؤرخ الدكتور محمد المناصير ، 2011 .

الثورات الصغرى – ثورة الأردنيين 1519

ثورة الكرك 1910 “الهيَّة”

13647220_920445531433909_686896497_o

تعد ثورة الكرك عام 1910 ضد الاحتلال التركي العثماني من الحركات التحررية التي شهدها مطلع القرن العشرين، حيث تمثل مقدمات وارهاصات لثورة العرب الكبرى ، بعد تزايد طغيان الاستبداد التركي الذي مارس جملة من السياسات تصدرتها سياسة التتريك والتهميش التنموي وفرض الضرائب بلا خدمات والتجنيد الاجباري على مدى قرون 1[1]

 ولقد توجت هية الكرك ثورات أخرى يمكن اعتبارها نمطا لعلاقات الأردنيين والأتراك حيث شهدت الأردن حالة عدم استقرار على مدار الحكم التركي  الذي بلغ ذروته عام 1916 عندما اندلعت الثورة العربية الكبرى وأصبحت المواجهة أوسع .

 لم تكن ثورة الكرك حالة ترف سياسي وانما ضرورة سبقتها دلائل ، فالواقع أن مؤشرات الثورة كانت موجودة واختارت إدارة الاحتلال التركي العثماني القمع والتطهير العرقي لأبناء الأردن كعادتها في سياستها المبنية على الإبادة منذ تمددها إلى الأراضي الأردنية ويورد الرحالة النمساوي “موزيل” توقعه  للثورة ضد الأتراك بذات التوقيت ولكن في معان وليس الكرك وفي كتابه “شمال الحجاز” مر بمعان يوم 10 ـ 7 ـ 1910،  وقال موزيل: بأن كل شيء في معان يوحي بالثورة وإنها واقعة لا محالة إما في معان أو بين الحويطات الذين سأل عنهم فأخبروه أنهم توجهوا غربا ويستعدون للثورة[2].

في ذات السياق كانت أخبار العشائر وتحركاتها التي توردها الصحف في ذلك الوقت وبخاصة جريدة المقتبس تدل على تذمر العشائر وعدم قبولها للأوضاع الادارية التركية فكانت الثورة في الكرك حيث أطلق عليها عدة تسميات بحسب ما ورد في سجل محكمة شرعية الكرك 1912[3]

ومن اهم هذه التسميات في التراث المحلي الأردني “ثورة الكرك” و “هبة الكرك ” و “الهية” . أما رسميا فعرفت “حادثة الكرك” و “واقعة الكرك”

وكتبت عنها صحف عربية كالمقتبس والبشير وصحف عثمانية كـ “طنين” و “علمدار” و”تقويم وقائع” وجميعها كانت روايات السلطة التركية التي تجرم الثورة على الظلم

تاريخ العلاقات الأردنية العثمانية

شهدت فترة الاحتلال التركي العثماني تسلط في مقاليد الحكم  حيث مارست سلطات الاحتلال التركية نفوذها دون مراعاة حاجة الأهالي تحت ذريعة تطبيق القانون والقاانون هنا لا يعني سوا مصلحة اسطنبول فأبناء الأردن بعد سرقة تاريخهم وحضارتهم ومسخ هويتهم  وتدمير مدنهم واضطرارهم للتحول من حياة الحضر للبداوة للتكيف مع محتل لا يبحث سوا عن النهب والتخريب على مدار أربع قرون لم يبنٍ فيها أي أثر حضاري ، وبالإضافة إلى نظام السخرة وفرض الضرائب فتحول الأردني إلى مجرد رقم في قطار السفربرلك حيث حروب الجنون والدم بلا جدوى فيرسلون أجدادنا في قطار الموت إلى المناطق النائية كالرومللي والأناضول وثلوج أرضروم وجبال القفقاس والقرم وغيرها حيث يموتون من الجوع والبرد .

 وقد شهدت الكرك مجموعة الاحداث التي سبقت الثورة بعهد مبكر  وسمت العلاقة بين الأهالي وسلطة النظام العثماني ككل بالحدة والتوتر وعدم القبول للعقد الاجتماعي ونسوق منها :

وهو الشيخ اسماعيل المجالي الملقب بـ “الشوفي ” والشوفي لقب و يعني الطليعة أو من يترأس الفرسان ، وتتلخص مجريات الحادثة عام 1828 من خلال واقعة حدثت بالقرب من عين ماء في الكرك يطلق عليها عين سارة ، عندما اعترضت إحدى بنات الكرك وهي السيدة خضرة المدادحة  طريق الشيخ اسماعيل الشوفي في منطقة سيل الكرك ” عين سارة ” وكن آنذاك يتجمعن لملء قراب الماء ومن ثم يقمن بنقلها إلى قلعة الكرك إجبارا على خدمة نساء حاشية القلعة من الأتراك، وأثناء مرور اسماعيل وبصحبته عدد من الفرسان جهرت خضرة بصوتها لتسمع “الشوفي” و من معه وقالت له :

“ما تشوف المي تسيل من على ظهورنا يا اسماعيل ” وتقصد بذالك الظلم والإجبار الواقع على بنات الكرك.

عندها صاح الشوفي بأعلى صوته قائلا ” وأنا اخوكي ياخضرة ” و عاد أدراجه إلى الكرك وقام بحشد الجمع من عشائر الكرك ومهاجمة حامية الخليل التابعة للجيش التركي والقضاء عليها وبعد تلك الحادثة قام الحاكم المحلي بطلب الصلح من الشيخ اسماعيل وكان من أول بنود هذا الصلح عدم إجبار بنات الكرك على نقل المياه أو خدمة نساء الحاشية التركية.

لم ينس الاحتلال التركي هذه الحادثة اطلاق، حيث اعدم الشيخ الشوفي في عام 1834 انتقاما على يد السلطة العثمانية في سوق البتراء في القدس  ومعه صالح عبدالقادر المجالي”  بعد مشاركته بتهريب قاسم الأحمد الفار من نابلس والدخيل لدى والد الذبيحين الشيخ ابراهيم الضمور

وهو إبراهيم الضمور شيخ محافظة الكرك في زمانه وأحد كبار مشائخ الأردن وقد قدم ابنيه الاثنين شهيدين في سبيل الأردن.

وتتلخص الحادثة بهروب الشيخ قاسم الأحمد من فلسطين بعد أن بطش به جيش ابراهيم باشا فلجأ إلى الأردن دخيلا لدى الشيخ ابراهيم الضمور في عام  1834 م فلحق به جيش ابراهيم باشا  إلى الكرك ، فارسل ابراهيم باشا إلى الشيخ ابراهيم الضمور يُـخيِّـره بين تسليم دخيله القاسم أو احراق ولديه (علي وسيد) الذين أسرهما عسكره خارج أسوار الكرك، ويسجل هنا دور زوجة الشيخ ابراهيم ” عليا ” أم الولدين، حيث صاحت أمام هذا التهديد بحرق اولادها:” النار ولا العار يا إبراهيم، الأولاد يعوِّضنا الله عنهم، ولكن العار لا يزول” ، نادى الشيخ ابراهيم الضمور بالحاضرين وطلب أن يجمعوا له رزمة من حطب وقال : أرسلوها إلى ابراهيم باشا  الذي لايعرف أن الوفاء بالعهد من شيم الرجال واقذفوا بها بين يديه وقولوا له: ليس إبراهيم الضمور من يُسلـِّـم الدخيل»، اشتعل الحقد في قلب ابراهيم باشا فأوقد نارا وقذف بها الشقيقين علي ثمَّ سيِّـد على مرأى من الوالدين المفجوعين بفلذتي الكبد، ولم يرضخ الأهالي لوحشية السلطة.

3- جلحد الحباشنة “دلة جلحد”

بعد أن يئس ابراهيم بن محمد علي باشا من حصار الكرك وهو يطلب رأس قاسم الاحمد الفار من جبل نابلس تحت حماية الشيخ ابراهيم الضمور، قرر العودة إلى الخليل عن طريق البحر الميت، فاستعان بجلحد الحباشنة دليلا للقوة المنسحبة معه عبر منحدرات الخرزة الوعرة بين الكرك ولسان البحر.

باتفاق مع الأهالي ، قام جلحد بتسيير القوة المؤلفة من ثلاثة آلاف جندي وضابط مع الخيل والمدافع واللوازم الأخرى، في طريق أشد وعورة عن قصد ليتكفل أهل الكرك بمهمة دحرجة  الحجارة من المرتفعات لتهشيم الجيش المنسحب عبر أرض لا يعرفها.ويغوص الفارين بأرض طينية ، حيث وصل شاطئ البحر الميت حوالي ثلاثمئة جندي من الثلاثة الاف الذين انحدروا مع جلحد من اطراف قلعة الكرك.

ولا زال بعض الأردنيين  يتندرون بالحادثة، بضرب هذا المثل حين يَستدلُّ أحدٌ من آخر بمدلّة تسبب له المشاكل فيقول له ” دلتك مثل دلّة جلحد ” وهي إشارة لقصة البطل الأردني .

كما أن الحالة الثورية ضد العثمانيين  لم تنحصر بما سبق فقد سادت أغلب فترات الحكم حالات العصيان  والثورات الصغرى في الكرك والسلط وعجلون والشوبك والتي انتهت بالتنكيل والإبادة والتعليق على أعمدة المشانق وإلقاء أبناء الكرك من فوق القلعة وهو ما يثبت أن رفض الأردنيين  لسلطة اسطنبول لم تنحصر بفترة  سقوط  السلطنة وصعود “جمعية الاتحاد والترقي” و”تركيا الفتاة ” كما تدعي الدراسات التي اعتمدت على الوثائق العثمانية  بل أن حالة الرفض للعقد الاجتماعي ككل مع العثمانيين هي سمة بدأت بظهور الأتراك على الساحة الأردنية.

*فعاليات خارج الكرك عند البدء في ثورة الهيّة[4]

  • الثورة في العراق[5]:

وعندما بلغ خبر الثورة إلى أهل العراق ( عراق الكرك )، هبوا لمهاجمة الجنود ولجنة الإحصاء المكلفة بتحرير نفوسهم، ونتيجة لأساليب الإرهاب والفوقية التي مارسها رجال الإحصاء بحق الأهالي، والأخطاء المقصودة في تقدير أعمار الشباب، كان رد الفعل عندهم شديداً، فقتلوا جميع أفراد المفرزة العسكرية وأفراد لجنة الإحصاء أيضاً، باستثناء مأمور الإحصاء الذي هرب واستجار بالسيدة الفاضلة حرم الشيخ (مسلم المواجدة) الذي كان مع بقية وجهاء القرية يشرفون على فعاليات الثورة في القرية، والحكاية كما يعرفها أهل العراق، تقول: كان الشيخ مسلم المواجدة، شيخ قرية العراق يراقب أعمال الهبّة على لجنة الإحصاء والمفرزة المرافقة للجنة، هرب رئيس لجنة الإحصاء مذعوراً بعد أن شاهد بأم عينيه مقتل عناصر المفرزة العسكرية وأعضاء لجنة الإحصاء، غير قادر على جرّ ساقيه، فصرخ عند مدخل منزل الشيخ مسلم المواجدة : (أنا بوجهك يا طويلة العمر.. أنا بوجه الشيخ مسلم)، وكان خمسة من أبناء القرية يلاحقونه وهم يهتفون بحياة الشيخ قدر المجالي، فرقّ قلب السيدة الفاضلة عليه وقبلت استجارته، ومنعت الشبان من النيل منه، وقالت لهم: أنتم في منزل الشيخ مسلم وطريدكم دخل المنزل مستجيراً، فهل تقبلوا قتل المستجير، وأنتم أهل نخوة ؟؟ فرجع الشبان من حيث أتوا .
وقد شيعت قرية (العراق) 12 شهيداً قتلوا خلال المعارك مع المفرزة العسكرية التركية التي كانت برفقة لجنة الإحصاء.

  • الثورة في أم الرصاص:

أما قرية (أم الرصاص) فالثورة فيها كانت ملتهبة، وشبابها في غضب شعبي لم تشهده من قبل، وكانوا يتهيئون للثورة منذ وصول لجنة الإحصاء إلى قريتهم. ويتحمل مسؤولية استفزازهم رئيس لجنة الإحصاء الذي كان يمارس أسلوب الإذلال وبخشونة على الشباب، حتى أنه هددهم بالسوق إلى الجندية خلال أيام. ولم يكتف بما قام به من أخطاء في تقدير الأعمار، بل أرسل إلى الكرك يطلب نجدة كبيرة!! لتأديب أهالي المنطقة لأنهم يمانعون الإحصاء ويستعدون للفرار من القرية!!
وزعم رئيس اللجنة أن الشباب يهزجون بأغان شعبية لا يفهم منها إلا ترديد اسم الشيخ قدر المجالي، ويرى شيوخهم يؤيدون أفعال شبابهم، بل يعتقد أنهم وراء تمردهم وإعاقة الإحصاء بالصورة التي أردتها حكومة الاحتلال، والحل الأمثل كما يعتقد، هو تخويفهم وإرهابهم بإرسال قوة كبيرة من الفرسان .
وما أن سمعوا بأنباء الثورة في الكرك وفي المناطق المحيطة بها، وفي القرى المجاورة لهم حتى قاموا قومة رجل واحد بالسلاح وبالعصي وبالحجارة وبأدوات الفلاحة، فتوجهوا أولاً إلى معسكر القوات التركية وإلى أماكن تواجد لجنة الإحصاء، ودارت بين الطرفين معركة حامية خسرت القوات التركية أكثر من عشرين قتيلاً، ومثل هذا العدد تقريباً خسرته قرية أم الرصاص وتمكنت بقية القوات العسكرية من الهرب و الفرار إلى قلعة أم الرصاص وظلوا داخل جدرانها إلى نهاية الثورة دون أن يتمكن شباب العشائر من إرغامهم على التسليم، وفي هذه المواجهة تجسدت روح المحبة والإخاء والتعاون بين عشائر السلايطة والكعابنة، وبني حميدة، فشكلوا جيشاً شعبياً واحداً بقيادة موحدة من مشايخ العشائر الثلاث.

 

أسباب ثورة الكرك

اعتبر الباحث والمؤرخ السوري منير الريس في كتابه “الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي “أن ثورة أهل الكرك في العام 1910 هي بحق احدى الثورات المجيدة في فجر النهضة العربية[6].

كانت مؤشرات الثورة  موجودة فلم تعبأ حكومة الاحتلال العثمانية كثيرا بالناس، وانصب عملها كعهدها على الجباية والتجنيد الإجباري وهو ما شكل علاقة الغبن والظلم تجاه اسطنبول التي مارست عدة صور من الدكتاتورية ، ووصف  الشعر الشعبي تلك المرحلة ببساطة حيث ساد فيها الظلم والعسف والبطش العثماني، وإجبار الناس على السخرة، فاختصرها شاعر الكرك الشيخ “عبد الله العكشة” في أبياته  :

عبد الله العكشه
الشاعر الشيخ عبد الله العكشه

الله من قلب أضرمت بيه نيران جوّى ضلوعي زايد إلها الهابا

ع ديرة ما هي ملك ابن عثمان ظلت عزيزة بالشرف والمهابا

ترى السخرة خلت الناس نسوان أو غدت على بعض المخاليق نابا

عسكر كركنا شارب الشف فسقان حنا فريسة أو هم صاروا ذيابا

يا شيوخنا صفت عذارى بديوان والكل منهم ساعياً بالخرابا

حنّا الغنم وأنتم على الكل رعيان حسبي عليكو الله صرنا نهابا

شيخاً بلا عزوة ترى ماله الشآن إو عزوة بلا شيخاً بليّا مهابا

لقراءة القصيدة كاملة مع شرحها انقر هنا

 

ومن الأسباب الداخلية التي أدت إلى الثورة :   

أولا : ضعف الإدارة وفسادها

لم تستطع مؤسسات الحكومة في الكرك بناء علاقات ثقة مع أهل البلاد بل مارست عليهم الإذلال، وكان الجند التركي يجوبون القرى ويصادرون المؤن والحبوب، وما يتوفر من الماشية، ومن ممارسات الإذلال أن الحاكم الإداري كان يختار من الرجال من يشاء، ويأمر العسكر بحلاقة جانب من لحية الرجل وشاربه وترك الجانب الآخر إمعاناً في الإذلال، وكانت قلعة دمشق ملتقى الرجال الذين يعترضون على هذه الأساليب الوحشية والبعيدة عن الذوق والأخلاق .

ضابط من الجيش العثماني أمام أحد بيوت الكرك 1900
ضابط من الجيش العثماني متسلحا أمام أحد بيوت الكرك في أعمال مراقبتها لأسر الفرسان حال و عودتهم لمنازلهم إبان أحداث الثورة و قمعها

وقد شاهد الشاعر الكركي عبد الله العكشة مثل هذه الحالات، ونقل ما شاهده إلى الشيخ قدر المجالي، وطلب منه أن يوفد شخصاً لمقابلة الوالي ليخبره بالأعمال التي يقوم بها جند الأتراك، ولكن الشيخ قدر لم يذهب إلى متصرف اللواء ولا بعث شخصاً إلى والي دمشق، بل أعطى تعليماته إلى مجموعة من أبناء الكرك بخطف أحد الجنود، الذي كان يهين الرجال، فعملوا به مثل ما كان يعمل وزيادة على ذلك أخذوا بدلته العسكرية وأرسلوها إلى المتصرف.[7]

ثانيا :  إلغاء نتائج الانتخابات التي أفرزت الشيخ قدر المجالي لعضوية مجلس إدارة الولاية

من بين أسباب ثورة الكرك عام 1910م، رفض والي سورية اسماعيل فاضل باشا الموافقة على تعيين قدر المجالي شيخ مشايخ الكرك عضواً لمجلس إدارة الولاية عن لواء الكرك، بعد أن فاز بأكثرية الأصوات .[8]

ولكن لماذا اتخذ الوالي هذا الموقف المعادي من قدر المجالي؟؟
بالتأكيد عندما يكون شيخ مشايخ الكرك عضواً في هذا المجلس، فهذا يعني للسلطات العثمانية، أن بقية الأعضاء من لواء الكرك سيكونون تحت سيطرته ولو معنوياً، لأن منطق الولاء العشائري في الكرك آنذاك أقوى من الولاء للدولة والخوف عند الوالي كان على هيبة الدولة، لأن متصرف اللواء محمد الظاهر كان ضعيف الشخصية، إذا قورن بشخصية الشيخ قدر المجالي، هذا بالإضافة إلى أن الوالي اسماعيل باشا كان يعرف موقف الشيخ قدر من سياسة الحكام تجاه الكرك وهي سياسة الحذر.

متصرف اللواء مع مجموعة من الضباط الأتراك أمام مبنى الحاكم في الكرك إبان الثورة

وقبل شهرين من ثورة الكرك حدثت ثورة حوران وحقق سامي باشا انتصارات في قمع ثورة حوران بتكديس جثث الشهداء من أحرار العشائر الأردنية وتحت تأثير شعور الزهو بالانتصار و السادية فإنه لم يراع ولم يأخذ بالاعتبار كثيرا من الأمور واكتفى بالتنسيق مع متصرف الكرك للقيام بما يلي:

أولا: جمع السلاح من أهل الكرك.

ثانيا: تسجيل الأراضي والأملاك.

ثالثا: إحصاء النفوس مع التجنيد الاجباري[9].

وكانت المطالب السابقة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل فتيل الثورة المتأججة في صدور الأهالي فبدأت الثورة على شكل عصيان مدني وتطور إلى مناوشات متفرقة في مناطق مختلفة بين العشائر الأردنية وعسكر الأتراك، وتحت الاستفزاز والاستعلاء العسكري العثماني اصطدم الأهالي مع اللجان العثمانية المكلفة باجراء التعداد وقيد النفوس وانتهى الاصطدام بقتل أعضاء اللجان، ونجد في التقرير العثماني رقم 1/89، الملف رقم DH-SYS (3-3) 61 الذي رفعه توفيق افندي موظف تحرير عرب الكعابنة والسليط وبني حميدة حيث يروي وصول بلاغ  ينص على أن فرسان بني حميدة والسليط هاجموا موظفي التحرير وقوة العسكر التركية وتمكنوا من قتل بعضهم [10] .

وبحسب الوثائق التركية قام المتصرف بارسال وسيط  إلى شيوخ الكرك ليبلغهم ببيان الحكومة العثمانية والذي افاد بأنه اتصل ببطرس افندي وفريوان شقيق رفيفان من شيوخ المجالي ونايف شقيق الشيخ ابراهيم ومشافق شقيق توفيق بك ومحمود وكريم ابني الشيخ فارس والشيخ منصور بن طريف الحمايدة شيخ بني حميدة وجمع غفير من الأهالي[11] ، وكان بيان حكومة الاحتلال التركية يطالب بالطاعة والولاء ويحمل التهديد والوعيد، وقوبل البيان بالرفض من شيوخ الكرك

اجتماع لشيوخ عشائر الكرك في إحدى مضارب المدينة مطلع القرن العشرين
اجتماع لشيوخ عشائر الكرك في إحدى مضارب المدينة مطلع القرن العشرين

حيث خططوا لهذه الثورة للخلاص من حكم القمع والرشاوي التي كان المتصرف محمد الظاهر يتباهى بها و بعددها التي يجمعها من أهالي الكرك والاستغلال الممتد على مدى الحكم التركي فقد قاموا بمعاينة تجمعات العسكر التركي وجمع معلومات عن العدة العسكرية التي بحوزتهم وبدأوا يتداولون فيما بينهم الثورة ، وانطلقت حلقات التشاور بين الشيوخ لوضع آلية للقضاء على البلاء العثماني الذي أفقر البلاد والمواطنين حيث كان الإرهاق الضريبي قد وصل إلى وضع لا يحتمل كما كتبت مجلة (النبراس) في تشرين الأول 1910م بأن الدولة تبتز الضرائب باسم النافعة والمعارف لتنفقها في استانبول، ولا يستفيد دافعو الضرائب منها . وعددت المجلة أكثر من عشرين نوعاً من الضرائب ومن بينها:[12]

  1. ضريبة المسقفات
  2. ضريبة العشر
  3. ضريبة الأغنام
  4. ضريبة التمتع
  5. الضريبة العسكرية
  6. ضريبة المكلفين

وأسفرت لقائاتهم على أن يتزعم الشيخ قدر المجالي الثورة بصفة قائد عام للثورة، فقام هو واخوانه وأبناء عمه دليوان ورفيفان وفريوان بالاتصال مع العشائر وشيوخها لإعداد العدة ورسم الخطة لتنفيذها[13] .

الشيخ الفارس قدر المجالي يتوسط فرسان و أبناء عشيرته ابان ثورة الهية 1910
الشيخ الفارس قدر المجالي ( زعيم ثورة الكرك ) يتوسط فرسان و أبناء عشيرته ابان الهيّة 1910

ثم تصاعدت وتيرة الاحداث فاقتحم الثوار دار الحكومة في الكرك والواقعة في أعلى الجهة الجنوبية من المدينة والقريبة من القلعة وطهروا من فيها من جنود أتراك، الأمر الذي دفع حامية القلعة التابعة للأتراك إلى قصف دار الحكومة بالمدفعية فحدثت حالة من الإرباك تمكن من خلالها موظفو الدار التابعين لسلطة الاحتلال التركي من الهروب والاحتماء بالقلعة، وتحت القصف المدفعي التركي تراجع الثوار إلى منتصف المدينة، ثم نشبت معركة دامية بالرصاص بين الثوار والجنود العثمانيين استشهد فيها عدد من الثوار وقتل وجرح فيها الكثير من العسكر التركي، ليعاود فرسان الهية الكرّة ويستولوا على دار الحكومة مجددا وبدأت تصل موجات الاسناد الشعبي ليتمكن فرسان الهية من السيطرة على مدينة الكرك بشكل كامل وقاموا بطرد جباة الحكومة العثمانية الذين لاذوا بالفرار.

تجمع العسكر التركي في قلعة الكرك وتحصنوا بداخلها ، فشدد الثوار الحصار على القلعة وبدأ الرعب يتسلل  لقائد الحامية التركية خوفا من نفاد القوت والماء مما الزمهم بتقنينها على المحاصرين، حيث تصادف في هذه الأثناء عيد الاضحى فالتزم الطرفان بالهدنة طيلة أيام العيد، عاد بعدها تبادل اطلاق النار بين الطرفين، ومما زاد الأمور صعوبة أن ذلك كله تزامن مع برد قارس وثلوج كثيقة، فاستمر حصار القلعة الذي لم تكن القلعة مهيأة له لمدة عشرة ايام، فيما كان نطاق الثورة قد اتسع ليشمل مناطق خارج الكرك في العقبة ومعان، ترافق ذلك مع عدم كفاية “الجندرمه”، فحوصرت الحاميات العثمانية في العقبة وبعض مناطق معان والقطرانه[14].

قلعة الكرك عام 1900
قلعة الكرك إبان انطلاق ثورة الكرك مطلع القرن العشرين

فرفعت برقية عاجلة من الولاية إلى الصدارة العظمى تبين عجز الأتراك على مواجهة الثورة الوطنية التي تمددت حتى العقبة ويقترح فيها المتصرف ارسال سفينة دعم عثمانية من سواحل الحجاز إلى ميناء العقبة مؤكدا على الإسراع بتلبية هذا الطلب[15] ، وتوالت البرقيات العاجلة المطالبة بالإسناد من اسطنبول تسجل أن الثوار من الحويطات قد حاصروا حامية معان وانها اي الحامية تحت الحصار منذ سبعة عشر يوما فيما علم أن البدو سيشنون هجوما واسعا على مدينة معان التي يتحصن بها خمسمائة جندي تركي[16].

وكانت مشاركة عشائر الحويطات فيها بقيادة عقداء الخيل الفارس محمد بن دحيلان والفارس زعل بن مطلق والفارس عودة بن زعل أبناء عم الشيخ البطل عودة ابو تايه  والفارس محمد بن عرار الجازي،  فيما سيطر فرسان عشائر النعيمات على محطة سكة القطار وكانت عشرين محطة على امتداد 110 كم[17].

واصطدم الجيش التركي مع فرسان عشيرة الحجايا على مسافة ساعتين شرقي محطة سواقة حيث استشهد فيها  (15) فارس من الحجايا وقتل عدد من العسكر الأتراك ، وجرت مجابهة بين أهالي الطفيلة ومفرزة الطفيلة دامت نحو ساعتين استشهد فيها ثلاثة فرسان من الطفيلة وسقط قتلى من الأتراك دفعت العسكر العثماني لتشديد الاجراءات الأمنية[18].

 

اخماد الثورة

قررت الدولة العثمانية التحشيد لقمع الثورة وأبرقت إلى سامي الفاروقي قائد الجيش التركي في سوريا ومنحته الصلاحيات باستخدام كل الاجراءات القمعية الممكنة تجاه العشائر الأردنية الثائرة فجهز آلاف الجنود شملت ستة طوابير من الفرسان والمشاة وبطارية مدفع بقيادة البيكباشي صلاح بك رئيس أركان حرب الحملة الحورانية [19]، وتوجهت القوة إلى محطة القطرانة بواسطة القطار ووصلت بتاريخ 11 كانون اول 1910م وبدأت بالزحف نحو قصبة الكرك عن طريق اللجون[20].

صعد فرسان الهية لملاقاة الجيش الجرار ولكنها كانت محاولات ” كف يناطح مخرزا ” فالجيش التركي الزاحف بقيادة سامي الفاروقي كان ألوفا مؤلفة لا قِبَل للثائرين به فمارست القوة المسلحة بالمدافع وبالعتاد والعدة والعدد سياسات البطش والتنكيل بالأهالي وبدأت سلسلة من جرائم الحرب شملت الإعدامات وإلقاء الناس من أعلى أسوار القلعة إلى الوادي السحيق لتتناثر اشلاؤهم[21].

وعاث الجيش التركي فسادا وتدميرا في الكرك حيث تم تدمير ما بين549 إلى 582 دارا في الكرك وحدها[22].

فيما أرسل طابوري عسكر وسرية فرسان أتراك وبطارية مدفع بقيادة وحيد بك إلى الطفيلة لفك الحصار عن الحامية التركية[23]، وتم اعتقال عدد من أبطال الثورة من اهالي الطفيلة ونقلهم فورا إلى سجن قونية في تركيا وهم كل من :

  • البطل عبد بن سليم السبايلة
  • البطل عبدربه بن علي المرايات
  • البطل عودة بن اسماعيل القطاطشة
  • البطل محمود بن موسى الشباطات
  • البطل عيسى بن ربيع البداينة
  • البطل ابراهيم بن عبدالله الجرادين
  • البطل سليمان بن علي الزغايبة
  • البطل علي بن محمد المرايات
  • البطل عبدالقادر بن مروح البداينة

وبلغت مدة سجن كل واحد من هؤلاء الأبطال ثلاث سنوات [24].

فيما شهدت عراق الكرك أبشع صور جرائم الحرب بإبادة رجالها في مشهد بربري تمثل بربط الرجال إلى ظهور بعض وطعنهم وانتظار موتهم ببطء .

وأرسلت قوة عسكرية تركية إلى معان فصادرت أموال الأهالي وأجبرتهم على دفع الغرامات ولاحقت عشائر النعيمات والحجايا والحويطات[25].

توفيق المجالي يقدم بيانا ناريا

قدم  توفيق المجالي  مبعوث الكرك في العاصمة الأستانه كما ذكرت جريدة المقتبس بتاريخ 3/12/1912 وصفا لبشاعة الجريمة في مداخلته في مجلس المبعوثان جاء فيها بأنها كانت الأكثر عنفا حيث اتهم الحكومة التركية بالكفر والزندقة، وبأنها تسعى إلى قتل العرب وطمس هويتهم العربية والإسلامية إنسجاما مع عقيدتهم الماسونية اليهودية، وقال الشيخ توفيق المجالي في مُداخلته : ( إن الأساليب التصفوية بحق أهلي وعشيرتي وبلدتي جريمة خطط لها كهنة لا يعرفون الله من أحقاد جنكيز خان وهولاكو لأنهم بطبعهم لا يعيشون إلا بالفتن والنعرات وتصفية الآخر) ، وبعد تلك الجلسة شدَّدت الحكومة التركية في مضايقة النوَّاب العرب وأصدر الديوان العرفي أمرا بإلقاء القبض على الشيخ توفيق المجالي وإرساله بحرا إلى بيروت لينقل منها إلى دمشق لمحاكمته بالاعدام، وتمكـَّـن في أثناء الإبحار به من إسطنبول من اللجوء إلى سفينة تجارية نقلته إلى الأسكندرية حيث أقام في القاهرة لاجئا سياسيا حتى صدور عفوعام 1912 م فعاد إلى الكرك ليواصل نشاطه في الحركة الوطنية العربية ضدَّ الاحتلال التركي العثماني، وأعاد أهالي الكرك انتخابه ممثلا لهم في مجلس المبعوثان العثماني في انتخابات عام 1914 م، وبعد خروج الأتراك عيَّـنته الحكومة العربية بعد الثورة العربية الكبرى وطرد الاحتلال التركي العثماني معاونا لمتصرف لواء الكرك وانتقل إلى رحمة الله في شهر شباط / 1920 م.

تنزيل (2)
الشيخ البطل توفيق المجالي

وتاليا قصيدة الشاعر سالم ابو الكباير في الشيخ توفيق المجالي عندما صدر عليه حكم الإعدام سنة 1912 وثم صدر عنه العفو[26]:

أبدى بذكر الله على كل معبود          الواحد الموجود ماله شريكين
يشفق لقلباً من غثا البال ملهود          جوده ولطفه واكرم دوم راجين
سبحان من شرف حبيبه شرف زود    نورا ظهر به النبي واظهر الدين
سبحان من خلق نصارى ويهود        حبوسا يبلمها ابلام الفراعين
سبحان من حط بالناس حاسود          يكتب خطايا و لاكسب نية الزين
سبحان من عطا سليمان داود            واحد يسد بيدل عشره وثلاثين
سبحان من فرح الملك بوجود             الحمد لله شفتنا البيك بالعين
توفيق كما سيفاً مصقول بالزود         ابواب خشبها ما يخشاه رديين
حطوه بالمركب على الشام مردود     تسليم يد اللي على القطع ناوين
جلس مجالس شيبت كل مولود        بيهن ترى صلف الرجاجيل مسكين
حرا شهر للبيض ما ايداني السود      صفق بيده وارتفع للقوانين
شهر من بيروت لمصر معمود          رجع على اسطنبول قابل سلاطين
خش الابواب العالية بطرز وبنود      محل تكميل الشرف حافظ الدين
روح كما حصان البحر سنسل الجود    متساميا لون القمر والميازين
اظن قمرنا عقب الياس وجحود          الحمد لله بمجازي الملاعين

وكانت له أيضا قصيدة أخرى يخاطب فيها الشيخ قدر عندما كان مطارداً من السلطات التركية المحتلة ، تحت اسم علي، تمويهاً وخوفاً من أن تعرف هذه السلطات مكانه، اذ كان الاحتلال التركي يطارد فرسان الكرك و عشيرة المجالي و أبنائها  و يطردهم من ديارهم و أراضيهم انتقاما من ثورة الكرك الشهيرة ” بالهيّة” ، ولم يبق بقرى المجالية أحد  فصعد أبو الكباير الى رأس شيحان ونظر للربة و القصر والياروت ولم ير ما كان  يراه من عربان الكرك الذين تعود على زيارتهم و لمس كرمهم وطيبهم فقال هذه القصيدة في عام 1910؛ لقرائتها أنقر هنا

وقد قدرت خسائر الدولة العثمانية جراء الثورة ب 150 قتيلا، أما الأموال التي خسرتها  فقدرت قيمتها بـ282 الف قرش إضافة إلى مبلغ 52 الف قرش اوراق مالية وهي مبالغ ضخمة حينها، إضافة إلى الخسائر التي لحقت بالممتلكات العامة والخاصة.

الأتراك ينتقمون بساديّة في محاكم صورية

في محاكم صورية وجهت التهم لزهاء 1047 شخصا، ثبتت التهمة بحق 110 منهم، فيما حكم غيابيا على 560 شخصا، وقد تم تحويل المحكومين إلى سجن القلعة في دمشق، حيث اعدم 22 شخصا خمسة منهم اعدموا في ساحة الاتحاد بدمشق رحمهم الله جميعا وهم:

  1. الشيخ البطل علي سليمان اللوانسه ” بني حميدة ”
  2. الشيخ البطل درويش بن خليل الجعافرة
  3. الشيخ البطل ساهر بن محمد المعايطة
  4. الشيخ البطل منصور بن إبراهيم الذنيبات
  5. الشيخ البطل خليل بن هلال الذنيبات.

 

 اما الباقون فقد اعيدوا إلى الكرك واعدموا في ساحة المسجد الحميدي أمام الأهالي وهم :

  1. الشيخ البطل محمد البحيري البصراوي بني حميدة
  2. الشيخ البطل ذياب بن حمود الجلامدة
  3. الشيخ البطل عاتق بن طه الطراونه
  4. الشيخ البطل فجيج بن طه الطراونه
  5. الشيخ البطل منصور بن طريف بني حميدة
  6. الشيخ البطل سليمان البطوش
  7. الشيخ البطل عبد الغني البطوش
  8. الشيخ البطل صحن بن فارس المجالي
  9. الشيخ البطل عبد القادر المجالي
  10. الشيخ البطل درويش المجالي
  11. الشيخ البطل محمود بن طه الضمور
  12. الشيخ البطل محمد بن علي الطراونه
  13. الشيخ البطل حسين بن اعوض الطراونه
  14. الشيخ البطل محمود بن اسماعيل القطاونه
  15. الشيخ البطل معمرالمعايطة
  16. الشيخ البطل سالم الصرايرة
  17. الشيخ البطل حسين بن عليان العواسا النعيمات[27].

وهناك يتجسد أعظم وأنبل مشهد انساني رجولي عبر إصرار البطل محمود بن إسماعيل القطاونة ” أبو شما ” ، وطلبه من الحاكم العسكري في ساحة المسجد الأموي، أن يعدمه قبل خاله الشيخ محمد بن علي الطراونة ” أبو فياض”، لأنه لا يقبل أن يعدم خاله أمامه، في صورة تعزز الوفاء والاحترام حتى أخر لحظة في الحياة في أبهى صورة.

طراد الخيل بين فرسان عشائر الكرك مطلع القرن العشرين
طراد – سباق – الخيل بين فرسان عشائر الكرك مطلع القرن العشرين

أما الذين حكموا غيابيا وتم تتبعهم فهم :الفارس البطل الشيخ  قدر المجالي والذي ظل مختفيا إلى أن اعلن الاحتلال التركي العفو عنه عام 1911 بعد أن اعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية.

وهناك 85 شخصا حكم عليهم بالسجن في أقسى ظروف الارهاب والتنكيل لمدد مختلفة .

دور النساء في الثورة

عندما قاد سامي الفاروقي طوابير عسكره المحتلين إلى الكرك، من أجل إخماد الثورة الوطنية الأردنية ضد الاحتلال التركي، استخدم القوة المفرطة المعززة بالمدافع كما أسلفنا، ولاحق الرجال والنساء والأطفال، وقد أدرك الدور المؤثر الذي اضطلعت به المرأة الأردنية بتوفير الاسناد والدعم ورفع الروح المعنوية وتقديم الاسناد فمنهن من باع ذهبهن لتمويل الثورة ضد الاحتلال التركي فكنّ هدفا للمحتل التركي لذا عمل على ملاحقتهن خلال إخماد الثورة فبدأ فرسان الهية إخلاء النساء والأطفال من المدينة والمناطق التي يصل إليها جيش الاحتلال التركي الذين ارتكبوا فظائع كثيرة سجلها التاريخ الرسمي والذي ورد بتفاصيله في أبحاث ثورة الكرك .

 خرجت مشخص وبندر المجالي مع بعض النساء هاربات إلى الجنوب بحماية بعض الرجال ، من أشهرهم الفارس البطل صخر المجالي الذي استشهد وهو يُشاغل عسكر الاحتلال التركي حتى ابتعدت النساء عن متناول يد جنود الاحتلال التركي .

تنزيل (1)
النشمية الشيخة بندر المجالي

وقد خلدن نساء الكرك الشهيد صخر في اهازيج الاعراس لفروسيته وتضحيته بغنائهن:

 صخر يا صخر يا كاسر الطوابير.

فيما يقول المؤرخ السوري منير الريس في تأريخه لحادثة استشهاد صخر: ( لقد عادت مخيلتي في تلك الليلة إلى الكرك وظلت في مخيلتي صورة المآتم في الكرك . والنسوة في حلقات مشعثات الشعور، ملطخات الوجوه، مشققات الجيوب،يبكين وينشدن: (صخر! يا صخر ! يا كاسر الطوابير).[28]

قُبض حينها على النشميات بندر ومشخص المجالي في الشوبك التي ثارت مسبقا على الاحتلال التركي وأُرسلن إلى سجن معان سيء الذكر المعروف لدى الأتراك بكمّ المجازر التي ارتكبوها ضد الأردنيين فيه.

 كانت الراحلة النشمية بندر المجالي حاملاً بحابس ابن الشيخ رفيفان المجالي (رئيس هيئة الأركان في الجيش العربي الأردني  وبطل معارك باب الواد واللطرون في القدس وقاد الجيش الأردني فيما بعد في أدق الظروف السياسية التي أحاطت بالأردن) وولدته في السجن وأسمته لهذا السبب حابس كناية عن الولادة بالحبس[29].

الزعيم البطل ارفيفان المجالي
الزعيم البطل ارفيفان المجالي

 

 

th_787167873_HabisMajali_Jormulti.blogspot.com.MohammadandIrshaidJaraidaAlMashagba43_122_30lo
البطل المشير حابس المجالي

وحينما علم كريم بن زعل بن عبيد العطيات (شيخ قبيلة بني عطيّة) ونخوته بين فرسان بني عطية ” أخو بخيتة ” بأمر الأردنيات السجينات بندر ومشخص المجالي زوجات اخويه  زعماء الثورة على المحتل التركي رفيفان وقدر المجالي شاور والدته (رياء بنت قاسم ابو تايه) ابنة عم الشيخ  عودة ابو تايه فقالت : ( يا وليدي بناتنا وبناتهم واحد وعرضهم عرضنا والثورة في الكرك هي ثورتنا، لوماي حيلي مهدود كان جاورتهن في سجن البوق بمعان و ما تِوخّر ) .

 فتوجه رحمه الله على فوره إلى سجن معان وقام  بإعطاء المسؤولين في سجن معان المال لقاء أن يسجنوا زوجته واخواته معهن ، حتى لا تبقى بندر ومشخص امرأتين وحيدتين في السجن يتناوب حراستهما الرجال، وهذه البادرة النبيلة غير مسبوقه إلا في الأردن سطرتها النشميات من بني عطية بحضور الفرسان.

لم يسجل التاريخ الرسمي ولم نجد في المرويّات الشعبية للتاريخ شيئاً عن سجن المرأة في ذلك الزمن وأغلب الروايات التي وصلت إلينا تتحدث عن ايداع المرأة المذنبة لدى شيخ الحارة أو المختار أو شيخ القبيلة ولكن المحتل التركي اعتاد على أدنى درجات الخسة والوضاعة في أسلوب استخدام الرهائن الذي امتهنه لكسر إرادة الأردنيين.

وقد خلدت الأشعار الشعبيّة الأردنية النشميات  وجعلت من مشخص المجالي شخصيّة بارزة في الثورة مما جعلها هدفاً للسلطة العثمانية لتقوم بسجنها مع بندر، تنفيذاً لعقوبة على جريمة سياسيّة،  كما أن مشخص أخذت موقفاً من حالة مجتمعها في ذلك الزمن بتحريضها لزوجها الشيخ قدر المجالي على الثورة.

وكان هنالك شقيقة لمشخص ذات دور بطولي لم يأخذ حقه بالتوثيق و التأريخ  وهي شفق المجالي والتي قامت عندما أخذها الأتراك بالتظاهر أمامهم بالجنون وبدأت تقوم بــ نثر التراب على رأسها من أجل أن يطلقوا سراحها وبالفعل اضطر الأتراك مجبرين للتخلص منها بعد أن وجدوا أن لا حاجة لهم بها طالما أنها لن تشكل خطرا عليهم كما أنهم غير مستعدين لتحمل صراخها و عويلها مما قد يجلب لهم الانتباه و ينبه القريبين للسجن من الأهالي لموقع السجينات  وكانت غاية شفق المجالي أن تقوم بتبليغ زعماء العشائر عن موقع مشخص وبندر و أسرهما وباقي النساء من أجل المسارعة في تحريرهم من أيدي الاحتلال العثماني.[30]

وكان أيضاً من بطولات المرأة في ذلك الوقت إقداِمهن على وضع رماد النار في علائق خيول الفرسان بدلاً من مادة الشعير لإشعال صدور الخيول بالحرارة والهيجان مما يؤدي لاندافعها السريع في المعارك ومنع ترددها أمام الحواجز و الطلقات النارية و صعوبة الوقوف في وجهها أثناء الاشتباكات.[31]

وكما أسلفنا لم تسجل المروّيات الشعبيَة ولا التاريخ المدوّن أية إشارة عن السجينة السياسيّة في منطقة الشرق الأوسط قاطبة. حتى عام 1910 (أحداث ثورة الكرك) بذكرها لأولئك الأردنيات الخالدات.

لقد أصبحت بندر ومشخص المجالي رمزاً وطنياً متفرداً، يكشف ما تمتعت به المرأة الأردنية منذ فترة مبكرة من مكانة، مكنتها من إدراك دورها وأداء واجبها بمبادرة فطرية، مستعدة بذلك لتحمل الثمن الباهظ، حتى وإن خسرت زوجها أو شقيقها، أو حتى حياتها، لأن الأوطان لا تبنى ولا تصان إلا ببذل الغالي والنفيس، وحمل الأحرار لأرواحهم على أكفهم إذا ما ادلهمت المخاطر وعصفت الأحداث بالأرض والإنسان، فتحية للأردنيات المنافحات عن الكرامة والمبادئ السامية، والسجل الوطني حافل بالنساء الكثيرات اللواتي قدمن للوطن ما لم يقل عن ما قدمه الرجال في أي مرحلة تاريخية مضت [32].

ويردد الأردنيون في أهازيجهم في ذكرى الثورة على  المحتل التركي وعسكره  في الهية و تقديرا لدور مشخص و المرأة الأردنية عموما  بقولهم :

يا سامي باشا ما نطيع … ولا نعد ارجالنا

لعيون مشخص والبنات …ذبح العساكر كارنا

ارفيفان معهم باول الخيل القدام…..لعيون مشخص يطرد الترك بشمام

يا راكبين الغاليات بالاثمان…..حطو كلايفها وعدو عددها
جنزيرها يقدح على الصخر نيران…..من كف حر ما نزل عن وتدها

 

 

التقارير الصادرة عن ثورة الكرك

مع قرائتنا للبحث و فهم وإدراك أهداف الثورة والمبادئ التي أعلنها قائد الثورة الشيخ قدر المجالي، قد نكون نحن في الأردن أقل إنصافاً لدوافعها الوطنية ، لأن الهية قد وصفت في بعض الكتب وعند بعض المؤرخين  بـ (فتنة الكرك) والبعض الآخر وصفها بالتمرد والعصيان على الدولة والخلافة، وبالتالي لم تأخذ هذه الثورة حقها في دراساتنا التاريخية، ولم يأخذ قائدها وفارسها حقه الذي يستحقه، ولم يكن حظ شهداء الثورة أوفر من حظ شيخهم في الفداء والشهادة، ويكاد يكون أكثر من أنصفها قناصل الدول الغربية، والكتاب والرحالة الأجانب، بالإضافة إلى بعض الكتاب من الدول العربية، ، فماذا قالوا عن ثورة الكرك ؟؟[33]
قال القنصل الفرنسي في دمشق في تقرير إلى حكومته يحمل الرقم في الوثائق الفرنسية رقم 409/32، ما يلي: ( لم تكن حملة الفاروقي لإخضاع الكرك فحسب، بل أرادت الدولة أن تخيف العرب، كي لا ينقضوا عليها في جو سياسي غير ودي بين الأتراك والعرب، وفي جو سادته القلاقل والتمرد والاضطرابات في أكثر من مكان ) .
وجاء في تقرير للسفارة البريطانية في استانبول يحمل الرقم 5988/371، ما يلي: ( وفي الحقيقة كانت الدولة العثمانية تراقب وتتربص بالعرب منذ عام 1908م، وجاءت الحملة العسكرية على حوران والكرك، تنفيذاً لسياستها بإخضاع العرب قبل ثورتهم الشاملة ) .
وكتب القنصل الفرنسي في القدس تقريراً إلى حكومته يحمل الرقم 9 تاريخ 15 نيسان 1911م، يحتل الصفحة 136- 137 في وثائق وزارة الخارجية الفرنسية، يقول التقرير: ( إن الأسباب السياسية والوطنية هي الأقوى في معركة البدو في الكرك، وأن الأسباب التي أوردها المحقق التركي وهي زوال النعمة التي يغدقها السلطان على مشايخ الكرك كانت السبب في الثورة لم تكن صحيحة، ولم يكن المحقق دقيقاً، ولم تكن المحركة لإعلان الثورة، فالأسباب المباشرة سياسية بحتة ) .
وفي تقرير آخر للقنصل الفرنسي في القدس، تاريخه 19 نيسان 1911م يقول فيه: ( جاءت حملة القائد التركي سامي الفاروقي متأخرة، ولهذا لم يقتنع البدو المنتشرون في المدينة المنورة إلى الكرك شرق البحر الميت بجدية الدولة، وكان دافع عصيانهم هو رفضهم للإحصاء الذي كانوا يعتقدون أنه سيؤدي إلى تجنيدهم خارج مناطقهم، مما جعل السلطة تتظاهر بمحاولة إخضاعهم، ولهذا ثاروا وقتلوا موظفيها ) .
وقد بلغ عدد التقارير الفرنسية حول ثورة الكرك حوالي 11 تقريراً، وملخصها أن ثورة الكرك سياسية ووطنية، واتهمت فيها السلطات التركية بخرق حقوق الإنسان، وأورد القنصل الفرنسي في تقريره إلى حكومته بأن الفاروقي قال له رداً على استفساره حول حقيقة الأنباء التي تذكر أن المسيحيين تعرضوا للذبح ، إنني سأقتل كل سكان الكرك المسلمين والمسيحيين حتى يتعلم هؤلاء كيف يكونوا مخلصين للدولة .

أما تقارير القناصل البريطانية في القدس واستانبول فكانت حوالي 7 تقارير، ملخصها: أن العرب ثاروا في الكرك لأنهم يرون أنفسهم أعلى ثقافة وحضارة من الأتراك، لذلك ثاروا ورفضوا سياسة الدولة العثمانية .

 الثورة تستنهض همم الشعوب العربية المجاورة

وذكر القنصل البريطاني في بيروت، السيد (كمبر باتش) في تقرير إلى وزارة الخارجية البريطانية يحمل الرقم 1246/37  تاريخ 23/1911م، أن الطوائف اللبنانية تأثرت بحماسة بثورة الكرك وأن والي بيروت زار الفئات شبه المستقلة كالعلويين ويبلغون 80 ألفاً وقد طلب منهم الخضوع للدولة، وتسليم أسلحتهم، ولكنهم رفضوا تسليم سلاحهم، وكان من المتوقع أن يتخذ الفاروقي موقفاً حاسماً ضدهم، لكن ثورة الكرك المجاورة هي التي أنقذتهم من عقاب الدولة.
وآخر تقارير القنصل الفرنسي في القدس قال فيه: أن ثورة العشائر الكركية، جعلت تركيا المريضة غير قابلة للشفاء.

لماذا هي ثورة  ؟

نستطيع أن نطلق على هذه الحادثة التاريخية ثورة الكرك لأنها قد خطط لها تخطيطا دقيقا سواء بعدد العشائر المشاركة في الثورة وكيفية الاتصالات التي جرت بين قادة الثورة مع كافة العشائر من العقبة جنوبا إلى بني حميدة والكعابنة والسلايطة في البلقاء شمالا ومن معان وسكة الحديد شرقا إلى غور الصافي غربا على امتداد الارض الأردنية واتفاق العشائر الأردنية على قائد عام للثورة هو الشيخ قدر المجالي يساعده في ذلك هيئة مشاورة بحيث تم بناء خطة للثورة (خطة موقعة) وتوقيت محدد لتنفيذها وهذا ما أذهل سلطات الاحتلال التركي فمع أن الاحتلال التركي وصلته معلومات عن احتمال قيام العشائر الأردنية بثورة إلاّ أنه عجز عن تحديد موعدها حتى بوغت الاحتلال التركي بساعة الصفر[34].

مسيرة الاستقلال

تعتبر ثورة الكرك حلقة وصل بين سلسلة الثورات الصغرى التي خاضها الأردنيون في طريق الاستقلال الطويل منذ أول سنة مدّ فيها الاحتلال التركي ظلاله الواهية على هذه الأرض حتى توج هذا الدرب الشاق بالثورة العربية الكبرى للخلاص من أبشع فترات الاحتلال الذي عاث في الأرض الأردنية خرابا على مدار أربع قرون لم يترك فيها أي أثر حضاري ومارس صنوف التعذيب والهدم والتدمير والسرقة  ومسح الهوية التاريخية للأردن و عشائره .

وتعمد الاحتلال التركي خلال هجماته الهمجية على أبناء الأردن تبني سياسة هدم البيوت واستباحة التجمعات السكانية الحضرية التي تميز بها الأردن على مدار آلاف السنين مما دفع السكان إلى التكيف والعودة لحياة الترحال لمواجهة أعنف فترة تطهير عرقي يمارس تجاه جذوره التاريخية ويسجل في ذات السياق ما وثقته الوثائق التابعة للاحتلال التركي حيث تم تدمير ما بين 549-582 دارا في الكرك وحدها أثناء ثورة الكرك على يد الاحتلال التركي.[35]

وقد أبهرت ثورة الكرك المؤرخين العرب في تلك الحقبة مما دفع المؤرخ السوري منير الريس في كتابه الكتاب الذهبي لوصفها بأنها احدى الثورات المجيدة في فجر النهضة العربية[36].

قائمة المراجع و المصادر 

[1]نوفان رجا السوارية و محمد سالم الطراونة ، اضاءات جديدة على ثورة الكرك (1328هـ/1910م)، ط1 ،الأردن، الكرك، دار رند للنشر والتوزيع، 2000) ، ص1

[2] د.سعد ابو دية ،ثورة الكرك 1910 “الهية”

[3] سجل محكمة شرعية الكرك(1) ، حجة 13،13 جمادى الثاني هـ/ 1912 م،ص 35-36

[4] منتديات أبناء الأردن،محمود سعد عبيدات،تاريخ 2008

[5] يقصد بها عراق الكرك

[6] الريس ، الكتاب الذهبي ،ص23-34

[7] منتديات أبناء الأردن،محمود سعد عبيدات، 2008

[8] التطور السياسي لشرق الأردن،كامل خلة،صفحة 8

[9] د.سعد ابو دية ،ثورة الكرك 1910 “الهية”

[10]  نوفان رجا السوارية و محمد سالم الطراونة ، اضاءات جديدة على ثورة الكرك (1328هـ/1910م)، ط1 ،(الأردن، الكرك،دار رند للنشر والتوزيع، 2000) ، ص36-37

[11] DH-SYS (3-3) 61 التقرير رقم 2/89، الملف رقم

[12] منتديات أبناء الأردن،محمود سعد عبيدات،تاريخ2008

[13] الريس ، الكتاب الذهبي ، ص26-27

[14]اوابد من التاريخ د.أحمدالعبادي

[15]DH-SYS (3-3) 61 وثيقة رقم 74 الملف رقم

[16]DH-SYS (5-2)61 وثيقة رقم 21 الملف رقم

[17]DH-SYS (5-2) 61 وثيقة رقم 7(99،409/2) ملف رقم

[18]DH-SYS (5-2)61 وثيقة رقم 22 الملف رقم

[19] المقتبس ع552،(2كانون الاول 1910م) ص1

[20] البشير ع2006 (2شباط 1911م) ص3

[21] الريس ، الكتاب الذهبي ، ص29-30

[22] المقتبس، ع649(12 نيسان 1911م)

[23] القسوس،مذكرات،ص74

[24] السوارية والطراونة،اضاءات جديدة على ثورة الكرك،ص55-57

[25] المقتبس،ع615 (4 اذار 1911م) ، ص2

[26] كتاب الفاظ وأشعار كركية،فراس دميثان المجالي،مطبعة السفير،تاريخ2009،صفحة 146-147

[27] اوابد من التاريخ ، د.احمد عويدي العبادي

[28] الريس،منير الريس،الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي،ط1 1969،ص32

[29] محمود الزيودي ،كركيات”1″،صحيفة الدستور الأردنية 28 ايار 2009، العدد رقم 17494 السنة 50

[30] مقابلة من قريق ارث الأردن مع عاطف عطوي المجالي ومقابلة مع رايق عياد المجالي في تاريخ 4/6/2016،الكرك-الربة

[31] منتديات أبناء الأردن،محمود سعد عبيدات، تاريخ 2008

[32] هزاع البراري،بندر ومشخص،رائدات العمل النضالي

[33] منتديات أبناء الأردن،محمود سعد عبيدات، 2008

[34] نوفان رجا السوارية و محمد سالم الطراونة ، اضاءات جديدة على ثورة الكرك (1328هـ/1910م)، ط1 ،(الأردن، الكرك،دار رند للنشر والتوزيع، 2000) ، ص73

[35] المقتبس، ع649(12 نيسان 1911)م

[36][36] الريس،الكتاب الذهبي،ص23-34

ثورة الكرك 1910 “الهيَّة”

13681734_921150494696746_1170020439_o

تمهيد

في زمن صعب، أخرج الأردن فيه عن سياقه التاريخي لمدة اربعمائة عام و في أعتى سنوات الاحتلال التاريخي التي غلفت بقشرة الدين مارس العثمانيون أبشع أساليب الهدم الممنهج لحضارة الأردن التاريخية والتمزيق المحترف لنسيج الأردن الاجتماعي دفع الأردنيين لابتكار وسائل تكيف اجتماعية تمكنهم من البقاء في صراع مرير وطويل مع الاحتلال التركي ، تخلل ذلك الصراع أكثر من ثلاثة وخمسين ثورة أردنية صغرى سبقت تتويجها جميعا بالثورة العربية الكبرى التي كان فرسان العشائر الأردنية عمودها الفقري .

واحدة من مفاصل هذه الثورات كانت ثورة بني حميدة والتي تؤرخ لبدأ العد التنازلي لنهاية الاحتلال التركي البغيض حيث تصنف ثورة الحمايدة كواحدة من أهم النضالات التي بذلها أجدادنا  في سلسلة الثورات الصغرى التي قادها الأردنيون ضد الاحتلال التركي  بحيث تؤشر كل الأحداث بعدها الى تسارع الانهيار في قوة الاحتلال العثماني .

بني حميدة

قبيلة بني حميدة ويُعرفون أيضاً بــ (الحمايدة) من أكبر قبائل المملكة الأردنية، حيث يتوزع أبناء هذه القبيلة في ثلاث محافظات أردنية كبيرة في الطفيلة و الكرك و مأدبا، ذكر القلقشندي قبيلة تدعى (الحميديين) وهي أحد بطون ” جُذام “، وقال الجزيري في الدرر المنظمة ج2 ص1324 (أن عقبة والد حميدة) .

وأشار الراحل روكس بن زائد العزيزي في معلمة التراث الأردني الى أن جميع الدلائل والمراجع تشير على أنهم بطن من من جذام وكانوا أربعة أخوة هم ( فاضل ، تايه ، ذويب ، قبلان) مع مجموعة من أقاربهم .

وتوزع بنو حميدة على تجمعيين للماء في بادية الأردن هما “وادي الموجب، ووادي الوالة والهيدان”

The Mojib Valley [View of mountains and valley
عام 1900 / اطلالة عامة على وادي الموجب و الجبال المحيطة به ؛ إحدى مناطق امتداد بني حميدة

 ذباحة الدول

بعد أن تحول الأردنيون من حالة الحضر التاريخية إلى البداوة نتيجة التشتيت الممنهج والهدم المتواصل لتجمعاتهم السكنية من قبل قوات الاحتلال التركي الذي تفنن بجرائم الردم لكل بيت حجري مبني على أرض الاردن حيث تقلص على اثر ذلك عدد السكان بشكل متسارع، دفع الأردنيين إلى التحول لنمط حياة قابل للتكيف مع هذا الإرهاب المغولي الممارس من قبل الاحتلال التركي، وفرض العثمانيون سلسلة ضرائب مقرونة بعمليات نهب متكرر فتبدأ الضريبة تصاعديا بخمسة وعشرين بالمئة وتصل إلى حد المصادرة الكاملة للأملاك بمزاجية الجابي التركي وحجم الرشوة المدفوعة .

The Hamadida 1913
عام 1913 نشمية من بني حميدة ، و يظهر خلفها بيوت الشعر و الخيام حيث ذاق بني حميدة مرارة الترحال و التنقل الدائم نتيجة هدم منازلهم و نهب مؤنهم و الإمعان في الانتقام من أبنائه من قبل الاحتلال العثماني و بدأت ملامح الاستقرار تعود بقيام الثورة العربية الكبرى وانتصارها

تحت هذا النمط من الظلم والاستغلال اضف لذلك أخذ أجدادنا كحطب لمعارك الترك في رحلة السفربرلك لحماية عرش حريم السلطان المتخم بمنهوبات الدول المحتلة ومسروقات تنمية الشعوب الخاضعة للاحتلال التركي البغيض، فاختارت العشائر الأردنية أنماطا مختلفة من المقاومة للاحتلال وتميز بنو حميدة باختيار أماكن تجمع ضباط الاحتلال التركي وعسكرهم وإبادتهم على مدى سنوات حتى وصل عدد الجنود الأتراك الذين قضوا على يد فرسان عشائر بني حميدة إلى أكثر من مائتين جندي تركي ولعل تسمية بني حميدة بعد تلك الثورة بــ ( ذباحة الدول ) كانت فأل خير على الأردنيين ونذير شؤم على محاربيهم وإن كانت كلمة ( الدول) تعني مراكز العسكر والمخافر ولكن أخذت على معناها المجازي بعد أن (ذبحت) دولة الاحتلال بهمة وعزم كل الأردنيين بعدها بعشرين عام  يوم استجاب القدر لكفاح الأجداد بإعلان الثورة العربية الكبرى ضد أربع قرون من القمع والإرهاب والحرق والقتل والسرقة باسم الدين.

 ﻭﻛﺎﻥ ﺳﺒب الثورة ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﻓﺮﺽ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ اﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﺠﻨﻴﺪ ﺍلاﺟﺒﺎﺭي وﺯﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﻀﺮﺍﺋﺐ ﺿﺪ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻨﻲ حميدة وﻗﺪ ﺃﻏﺎﺭ ﻓﺮﺳﺎﻥ ﺑﻨﻲ ﺣﻤﻴﺪﻩ في ذلك الوقت على مركز العسكر العثماني والتي كانت تسمى  “الدول” واشتبكوا مع عسكر الدولة العثمانية وقتلوا منهم الكثير حتى أطلق عليهم اللقب الدارج                       ( ذبّاحة الدول).

وقد استبق ثورة بني حميدة عام 1889 سلسلة من المواقع الحامية خاضها بنو حميدة مع الأتراك استبقتوا فيها ثورتهم الرئيسية ونسرد منها على سبيل الذكر لا الحصر :

  1. موقعة صباح الهروط

 و التي وقعت في عام 1887 أي سبقت ثورة بني حميدة الرئيسية بعامين ووقعت في أراضي ماعين الى الغرب وتمرد فيها بنو حميدة عن دفع الضرائب وواجهوا حامية تركية مدججة بالسلاح فاقت المائتين من جنود الاحتلال.

أحداث المعركة: تلخصت بصباح ذات يوم من أيام نهاية الحصاد حيث جمعت المحاصيل على شكل بيادر وكانت في منطقة ” لب ” حيث أغار المحتلون الأتراك وسرقوا ما طالت أيديهم من قطعان ومحاصيل فرد عليهم بنو حميدة الغارة بعد إطلاق صيحة الحرب (سياح يا هلي) ويقصد به وادي السياح إحدى نخوات بني حميدة .

وخاض المعركه فرسان بني حميدة الذين سمعوا الصيحة ووصلوا أرض المعركة واستمر القتال حتى مغيب الشمس .

وفي نهاية الموقعة ولعى اثر عدّ الشهداء و الجرحى  كان بنو حميدة قد قدّموا كوكبة من الشهداء ونالوا من المحتل التركي عددا من القتلى وبقيت حالة التوتر صفة العلاقة بين الأتراك والعشائر الاردنية .

  1. موقعة الذهيبة والثمد

جمع الأتراك قوة عسكرية مدججة لتأديب بني حميدة فوضع بنو حميدة خطة دفاعية تلخصت بإدخال الجيش التركي حقول القمح اليابسة وإشعال النار بها وكانت ضربة قاصمة وصف على إثرها بنو حميدة بقاهرة الأتراك لما تركته من أثر بالغ في جسد دولة الاحتلال التركي نظرا لدقة التخطيط وعدد الخسائر .

 

ثورة بني حميدة 1889

على إثر التراكمات وتراجع هيبة المحتل أمام الضربات المتلاحقة من فرسان العشائرالأردنية قرر الاحتلال التركي الإمعان في غلوه فرفع الضرائب ووفر فرقة ضخمة لجباية المال وبدأوا بسرقات منظمة لقطعان الإبل والخراف التابعة للعشائر الأردنية ويسرت عمليات متابعة وملاحقة لأبناء العشائر الاردنية واستمر الكر والفر ورفض الظلم الذي تلخص بتصيد العشائر الأردنية في مواسم الحصائد والتنقل بحسب دوران الفصول لفرض ارهاب الاحتلال معتقدين ان هذا النمط من الهمجية سيخضع القبائل الأردنية ومن بينها بنو حميدة الذين باتوا هدفا مهما على قائمة الاحتلال التركي نظرا لما فعلوه بجسد الاحتلال من طعنات يصعب اخفاؤها .

bani hamid
عام 1913 – صورة لرجال مسلحين من بني حميدة إبان فترة المواجهات و تظهر بيوت الشعر و الخيم التي تبرز معاناة الترجال و التنقل التي عانتها بني حميدة من الاحتلال العثماني و هدمه لمنازلهم

وحينها حشد الاحتلال التركي لحملات انتقامية ارتكزت على مصادرة أملاك بني حميدة ونهب ممتلكاتهم وفرض ضرائب مضاعفة وطرح أملاكهم في مزايدة ونهب أموالها لتغذية حكم حريم السلطان في اسطنبول، وتشير صحيفة البشير البيروتية تفاصيل لتحدي بني حميدة وباقي العشائر المتعاضدة معهم في شهر تموز من العام 1889 في الأردن بعد أن رموا قفاز التحدي برفض الضريبة والإنصياع لإجرام الاحتلال التركي وتشير البشير : ( فقد عهد والي سوريا إلى صاحب السعادة (فوزي باشا) قومندان جاندرمة ولاية سوريا بتحصيل الأموال الأميرية واجراء التعداد فسار حتى بلغ مضارب بني حميدة الذين يرفضون دفع تلك الضريبة)، وعندما وصل القومندان فوزي باشا إلى مضارب بني حميدة صاحوا صيحة الحرب واستنصر لهم أبناء العشائر الاردنية فركب الخيل أكثر من ألف فارس من بني حميدة يرادفهم فرسان العشائر الأردنية وكانت واقعة عظيمة بين دولة الاحتلال وفرسان العشائر الاردنية تحت لواء بني حميدة  قدّم فيها الأردنيون خيرة أبنائهم شهداء على مذبح الحرية وطريق الاستقلال من أبشع أربع قرون من التجارة بالدين على أرضنا وانتهت المعركة بقتل العشرات من الترك الذين مارسوا متعتهم بخطف الرهائن والتمثيل بالأسرى وفضت المعركة دون كسر شوكة العشائر الأردنية الذين أعادوا الكرة بعدها على الاحتلال بأكثر من موقعة حتى اذا ما أُعلن عن ثورة الكرك بعدها في عام 1910 كان فرسان العشائر الاردنية وبنو حميدة معهم على رأس طوابير الثورة التي كانت فيما بعد الخط الفاصل بين تاريخ الثورات الصغرى وقدوم الثورة العربية الكبرى التي أطاحت بتاريخ الاحتلال والاستبداد لتتوج مسيرة العشائر الأردنية الطويلة لنيل الاستقلال وإعادة الأردن إلى مسار التاريخ والحضارة والبناء والتنمية .

 

بنو حميدة في كتب الرحالة

قدم الدكتور غازي الذنيبات مقالا لخّص فيه بعض ما ذكره الرحال بيركهارت  قبل نحو مائتي سنة وتحديدا في عام 1804 حيث زار الرحالة الفرنسي المولد جون لويس بيركهارت بلاد الشام والحجاز ومصر والسودان ووضع إحدى روائع كتب الرحالة التي وصفت المكان والزمان والسكان برز فيها جزء من تاريخنا وما امتاز به الأردنيون من سماحة وخلق وكرم وانسانية، وفي معرض حديثه يذكر الكاتب عرب الحمايدة بما هم أهله إذ يسرد الرحالة السويسري ثلاث قصص تصف كرم الحمايدة وشهامتهم.

يذكر هذا الرحالة اقامته لدى عائلة حميدية حيث كان بضع أمتعته عندهم بينما يتجول هو وفريقه في المناطق التاريخية والأثرية، وقد أمضى أياما بضيافة الرجل وعندما همّ بالرحيل وجد ابنه الصغير في البيت فأراد أن يكرمه فاعطاه بضعة قروش ذهبية ورحل، وبعد مسير ساعات وإذا بالبدوي الحميدي يتبعه على جمله ليعيد له نقوده غاضبا وموبخا وقائلا له : ( ماذا تريد أن تقول عني العرب؟ أخذ بدل ضيافته، والله لو كان ابني يدرك معناها لقتلته)، وهنا يقول بيركهارت:( وأقسم أن بيت هذا البدوي ليس فيه حبة من قمح أو قطرة من سمن).

The Mojib Valley [General view
اطلالة عامة على وادي الموجب و الجبال المحيطة به حيث مناطق امتداد بني حميدة

كما يذكر بيركهارت أيضا أنه وفي احدى زياراته لشيوخ بني حميدة وبعد أن أقام ليلته مكرما في مضاربهم علم في اليوم التالي أن شيخهم قد تعرض لطعنة قاتلة؛ كان يئن منها أنينا يقطع نياط القلب حتى أدركه أجله، ولم يخبروه حتى لا يفسدوا عليه ضيافته .

أما الواقعة الثالثة أن هذا الرحالة قد زار إحدى المدن في دولة مجاورة (نعرض عن ذكرهها احتراما لأهلها الطيبين) وبعد أن ذاق الأمرين من اهلها يقول : ( وجدت فيها أناسا يدعون أنهم عرب وحاشا لله أن يكونوا عربا، العرب الأقحاح اؤلئك الذين عرفتهم في في مضارب بني حميدة الذين لن انسى ما حييت ما بلغه جودهم وكرمهم ). هؤلاء هم أهل الجود (هلا الجود) قبائل بني حميدة ، لقد كانت القبائل والعشائر الأردنية حاضنة خير، تفوح طيبا كحامل المسك، وكان لزعماء القبائل وشيوخها اهتماماتهم التي تتجاوز حدود القبيلة إلى حدود الوطن الكبير والأمة، وتشهد لهم أعواد المشانق التركية التي حملت رؤوس أحرار العرب الذين كانوا يهتفون على أعواد المشانق أن طاب الموت يا عرب والمنيّة ولا الدنيّة .

المصادر والمراجع:

  • صحيفة البشير، عدد شهر تموز 1889م .
  • الصحافة مصدرا، (تاريخ الاردن) (1876- 1923) ، د.هند ابو الشعر ، 2015 .
  • الاستاذ سليمان القوابعة، بحث غير منشور.
  •  تسامح العشائر- عرب بني حميدة مثالا ، د.غازي الذنيبات ، وكالة عمون الاخبارية ، 1 أيار 2011.
  • رحلات بيركهارت، ترجمة أنور عرفات، وزارة الثقافة والإعلام، عمان، الأردن، 1969 .
  • اضاءات على ثورة الكرك 1910، د. نوفان السوارية و محمد الطراونة ، دار رند، الكرك ، 1999 .
  • معلمة التراث الاردني، روكس بن زائد العزيزي، دائرة الثقافة والفنون، 1983  .
  • تاريخ الأردن المعاصر للأول الثانوي الأدبي، مساهمة الأردنيين في اليقظة العربية و حركة بني حميدة، وزارة التربية و التعليم، 2015.
  • الصور من المجموعة الصورية لإرث الأردن .

ثورات بني حميدة ( قاهرة الأتراك 1889 )

ثورة الشوبك 1905م، هي  واحدة من سلسلة الثورات الصغرى في تاريخ الاردنيين النضالي ضد الاحتلال التركي العثماني، والشوبك مدينة اردنية عريقة وصفت بأنها  قلعة حصينة بين عمان وأيلة قرب الكرك[1]، وجاء اسمها من تشابك الاشجار المحيطة بها[2] قبل ان يتم سحق غاباتها على يد الاحتلال التركي العثماني لبناء قطار قواته وعتادها.

وعرفت باسم مونتريال واشتهرت تاريخيا  بانتاج سكر مونتريال  الذي عرف عالميا

الشوبك 1900 قلعة الشوبك (مونتريال) قلعة تاريخية انشأها بلدوين الأول نظرا لأهمية الاردن الاستراتيجية
الشوبك 1900 م قلعة الشوبك (مونتريال) قلعة تاريخية انشأت نظرا لأهمية الاردن الاستراتيجية وثراء مونتريال وصادراتها العالمية كالسكر

وقد سبقت ثورة الشوبك في تاريخ انطلاقها ثورة الكرك (الهية)عام 1910م وقامت كذلك في الشوبك قبلها ثورة خلاص من الحكم التركي في مطلع عام 1900م، ولكنها ثورة اخمدت وقمعت بقسوة، فاندفاع السكان كان تحت الحاح الرغبة في الاستقلال والانعتاق بدافع التخلص من وطأة الاحتلال وقسوة الحكم التركي، وتميزت الحكومة التركية العثمانية المركزية بتصدير ارهابها الى القوميات الاخرى لتخفي طبيعة الصراع بين ابناء القوميات العثمانية، ذلك الصراع الذي نخر جسم الدولة، وتعد ثورة الشوبك الاولى والثانية من اهم الانذارات بدنو سقوط سلطة الاحتلال التركي بالأردن.

وقد كان الحافز المباشر للانتفاضة الاولى كثرة الضرائب الباهظة التي كانت تنهك كاهل الاهالي بلا أي مردود تعليمي أو صحي أو أمني فهاجم فرسان الشوبك الحامية التركية المعسكرة في القلعة وتسلقوا اسوارها وقتلوا بعض رجالها، وبسب غياب عوامل اندلاع حركة استقلالية شاملة فقد تمكنت السلطات من القضاء على هذه الثورة. وبعد ان طفح الكيل اخذ الشوبكيون ينتظرون فرصة مواتية لكي يترجموا مشاعرهم وجاءت المناسبة عام 1905م[3].

محاولة استخدام النساء في السخرة:

كانت البداية عندما حاول رجال الحامية التركية تسخير النساء لنقل الماء اليهم من الينابيع التي تجري في الوادي الذي ظل حتى الحقبة المملوكية يصدر السكر، وقد أدت هذه المحاولة الى اثارة رجال الشوبك الاحرار الذين يترفعون عن انحطاط توظيف المرأة في سياق فقه الحرملك التركي فهاجموا الجنود وطردوهم من القلعة ثم تحصنوا داخل اسوارها المنيعة للدفاع عن انفسهم،[4]

يقول سليمان الموسى في كتابه المشترك مع منيب الماضي (الاردن في القرن العشرين) ما يلي:

»على ان رجال الحكومة انفسهم كانوا كثيرا ما يلحقون الاذى بالاهلين ويوقعون بهم شتى المظالم فيستفزونهم للخروج عن الطاعة وحمل راية العصيان ومن المعروف ان الموظفين والحكام والمسؤولين الذين كانت تعينهم الحكومة لادارة البلاد لم يكونوا دائما ممن يحسنون الادارة ويهتمون بمصلحة الاهليين العامة ويقدرون المسؤولية حق قدرها ويراعون عادات البلاد وتقاليدها، ومن امثلة سوء تصرف مأموري الدولة ان رجال حامية الشوبك حاولوا سنة 1905م، تسخير نساء البلدة لنقل الماء اليهم من الينابيع التي تجري من الوادي وقد ادت هذه المحاولة الى اثارة رجال البلدة فهاجموا الجنود وطردوهم من القلعة، ثم تحصنوا داخل اسوارها المنيعة للدفاع عن انفسهم «.

رفضت ادارة الاحتلال التركي العثماني الممثلة باللجنة التي بعثها متصرف الكرك الى الشوبك شرط زعماء الثورة المتمثل بوقف سياسات القمع تحت قوة جنود الاحتلال التركي من منطلق ان الحكومة لم ولن ترغب ان يفرض الاهلون شروطا عليها« فارسل متصرف اللواء مئة جندي فرسان ومعهم رشاشات للقضاء على الثورة والقاء القبض على زعامتها وعسكرت هذه القوة على الجبال المقابلة للبلدة قصد الارهاب وحمل الثوار على الاذعان، ولكن ثوار الشوبك صمموا على الدفاع وانضم اليهم عدد من اخوانهم من البدو المجاورين، وهدد قائد القوة بتدمير القلعة على من في داخلها من الثوار،

واشترط المحتل التركي المطالب التالية:

  1. اخلاء القلعة من الثوار.
  2. تسليم الثوار لانفسهم دون قيد او شرط
  3. عودة رجال البدو الى مضاربهم قبل حلول الليل
  4. عودة الاهالي الى منازلهم وعدم التجمع بالقرب من القلعة الى حين استدعائهم للقصاص منهم
  5. يرفع زعماء ووجهاء الشوبك الاعتذار الخطي الى الحاكم الاداري.

 تدارس زعماء الشوبك مطالب قائد القوة المهاجمة فوافقوا على بعض الشروط مقابل ان توافق الحكومة على مطالبهم،

وتلخصت مطالب اهالي الشوبك في :

1-ان تحسن الحكومة اختيار الموظفين والحكام  الذين يديرون شؤون الادارة في المنطقة، وان يكونوا على دراية بعادات وتقاليد اهل المنطقة.

2- معاقبة ومحاسبة قوى الدرك ورجال الحامية الذين اساءوا لنساء بلدة الشوبك ونقلهم من الشوبك نهائيا.

3- منع الجنود من دخول احياء الشوبك الا في الحالات الامنية الضرورية.

4- ان اهالي الشوبك- رجالا ونساء- غير ملزمين بجلب المياه من الينابيع الى الحامية وجنودها، والى منازل الغرباء مهما كانت صفاتهم ورتبهم

5- اختيار العناصر العسكرية والامنية وجباة الضرائب من ابناء الشوبك او من ابناء القرى الشوبكية المجاورة.

6- عدم تعرض الثوار الى المساءلة او الاعتقال او الملاحقة الامنية

فهدد قائد قوات الاحتلال التركي ثوار الشوبك بالابادة ردا على مطالبهم ، فقرر اهالي الشوبك الموت بشرف ولا العيش بمذلة الاحتلال، فما كان من القوة الا ان هجمت على البلدة وفتكت بعدد كبير من رجالها، واحتلت القلعة واخضعت اهل البلدة باشد ضروب التعسف والتنكيل وشردت الاهالي وصادرت الاموال والممتلكات لتخضع الشوبك الى فصل طويل من فصول الارهاب الذي مارسه الاحتلال التركي العثماني على مدى قرون، واقدمت على اعتقال زعماء الثورة وساقتهم الى الكرك فتوترت أجواء الكرك وأنذرت بثورة مناصرة لاخوانهم زعماء الشوبك فتم نقلتهم الى دمشق للمحاكمة العسكرية بتهمة الخيانة والتمرد والقتل وهم:

  1. مصلح الهباهبة
  2. مطلق حسن البدور
  3. احمد خلف الغنميين
  4. صورة للرجلين من نشامى الشوبك قبل الثورة بخمسة اعوام 1900م
    صورة لرجلين من نشامى الشوبك قبل الثورة بخمسة اعوام 1900م

واستشهد مطلق حسن البدور واحمد الغنميين في السجن بينما انهى مصلح الهباهبة مدة السجن وهكذا انتهت الثورة ولكن الشوبك سجلت من جديد اروع معاني البطولة في رسم طريق الاردن الشاق نحو الاستقلال


[1] القلقشندي،أحمد بن علي(ت821هـ) صبح الاعشى في صناعة الانشا، تحقيق:محمد حسين شمس الدين،ج4،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت1987،ص162

[2] الرشايدة،فوازعودة الرشايدة ،تاريخ الشوبك 1893-1946م،وزارة الثقافة،ص34

[3] الهباهبة،طه الهباهبة، الشوبك في التاريخ والوجدان الشعبي،الجزء الاول،ص75

[4] المصدر السابق

 المراجع الرئيسية:

  • تاريخ الاردن،سليمان الموسى
  • الشوبك في التاريخ والوجدان الشعبي الجزء الثاني ،طه الهباهبة
  • تاريخ الشوبك 1983-1946م ، فواز عودة الرشايدة
  • الشوبك في التاريخ والوجدان الشعبي الجزء الاول ، طه الهباهبة

ثورات الشوبك: 1900م و 1905م

karak_38 (1)

بعد أن يئس ابراهيم بن محمد علي باشا من حصار الكرك 1834م وهو يطلب رأس قاسم الاحمد الفار من جبل نابلس تحت حماية الشيخ ابراهيم الضمور . قرر ابراهيم بن محمد علي باشا العودة الى الخليل عن طريق البحر الميت. فاستعان بجلحد الحباشنة دليلا للقوة المنسحبة معه عبر منحدرات الخرزة الوعرة بين الكرك ولسان البحر.

14628059_10211330088828361_1617854259_n
لوحة فنية تصف مشهد ” دلة جلحد ” – للفنانة هند الجرمي – إرث الأردن

باتفاق مع الاهالي في الكرك ، قام جلحد بتسيير القوة المؤلفة من ثلاثة الاف جندي وضابط مع الخيل والمدافع واللوازم الأخرى ، في طريق اشد وعورة عن قصد ليتكفل اهل الكرك بمهمة دحرجة الحجارة من المرتفعات لتهشيم الجيش المنسحب عبر ارض لا يعرفها.

ويغوص الفارين بارض طينية ، وصل شاطئ البحر الميت حوالي ثلاثمئة جندي من الثلاثة الاف الذين انحدروا مع جلحد من اطراف قلعة الكرك. ولا زال بعض الاردنيين يتندرون بالحادثة، بضرب هذا المثل حين يَستدلُّ أحدٌ من آخر بمدلّة تسبب له المشاكل فيقول له ” دلتك مثل دلّة جلحد ” وهي اشارة لقصة البطل الاردني .

المراجع:

  • د.سعد ابو دية ، ثورة الكرك 1910 ”  الهية “
  • مذكرات عودة باشا القسوس

البطل جلحد الحباشنة “دلة جلحد”

karak_38 (1)

الشيخ ابراهيم الضمور والد الذبيحين وهو إبراهيم الضمور الغساني شيخ الكرك في زمانه وأحد كبار مشايخ الأردن؛ قدم ابنيه الاثنين شهيدين في سبيل الأردن. وتتلخص الحادثة بهروب الشيخ قاسم الأحمد من فلسطين بعد ان بطش به جيش ابراهيم باشا فلجأ الى الاردن دخيلا لدى الشيخ ابراهيم الضمور الغساني  في عام 1834 م فلحق به جيش ابراهيم بن محمد علي  باشا إلى الكرك وأرسل إلى الشيخ إبراهيم  الضمور الغساني الذي أجار القاسم في بيته يُـخيِّـره بين تسليم دخيله القاسم أوإحراق ولديه (علي وسيد) الذين أسرهما عسكره خارج أسوار الكرك ليمارس جيش ابراهيم باشا المحتل أسلوب العثمانيين التاريخي وولاتهم بالابتزاز الذي يتمثل باستغلال الأبرياء تهديدا بالحرق أو القتل في مفاوضاتهم لتحقيق غايتهم وكان نص الرسالة : ( إلى ابراهيم الضمور زعيم الكرك تسلمنا الكرك والدخيل وتخضع أنت ورجالك وإلا أحرقنا ولديك)، ويسجل هنا دور زوجة الشيخ ابراهيم عليا أم الولدين، حيث صاحت امام هذا التهديد بحرق اولادها:(يا ابراهيم بالمال ولا بالعيال وبالعيال ولا بالعرض والأرض وإذا دخل الجيش ابراهيم باشا العثماني مدينة الكرك فسوف يدوس ولا يبالي وإنني اعتبر السيد وعلي فداء للكرك ، والحرب أولى بيننا وبين المحتل)، نادى الشيخ ابراهيم الضمور بالحاضرين وبعث كتابا كان نصه : ( إلى قائد الجيش المحتل إن لم يكن لديكم حطب ونار فسأبعث لكم ما تريدون اقتلوا واحرقوا فهي شيمكم ،ولن تدخلو الكرك ونحن احياء) ، اشتعل الحقد في قلب ابراهيم بن محمد علي باشا فأوقد نارا بعد أن جمع كتلة حطب وشد إليها علي و سيِّـد ابناء الشيخ ابراهيم الضمور الغساسنة على مرأى من الوالدين المفجوعين بفلذتي الكبد.

ابراهيم الضمور
الراحلة عليا الضمور و الشيخ ابراهيم الضمور في وداع ولديهم الشهيدين علي و سيد – لوحة للفنانة التشكيلية هند الجرمي .

لم يرضخ الاهالي لوحشية العثمانيين وولاتهم المنقلبين عليهم واستمر النضال الاردني لينتقموا من جيش ابراهيم بن محمد علي باشا في موقعة جلحد العرود الحباشنة :

للاطلاع على قصة جلحد العرود الحباشنة او ما يعرف بـ(دلة جلحد) انقر هنا.

وقد توفيت عليا يونس العقول الضمور والدة الشهيدين علي و السيد بعد حادثة حرقهما بأقل من عام

المراجع:

1-كتاب شيخ القلعة ،احمد جميل الضمور

2-معلمة التراث الأردني/للباحث روكس بن زائد العزيزي

3-مجلة الدفاع ،النار ولا العار،16/5/1936

 

الشيخ ابراهيم الضمور

Scroll to top