080716_1022_1

يتناول الجزء الثامن من سلسلة كذبة لورانس ، رأي أبطال الثورة ومشايخ الطفيلة وبني صخر فيه وردهم على أكاذيبه ومزاعمه حول معارك تحرير الطفيلة ومحاولات السيطرة على السلط

تقديم :

كنا قد تحدثنا في الجزء السابع من هذه السلسلة عن تحرير الطفيلة والدور الذي بذله الشيخ “ذياب العوران” وأهل الطفيلة في استسلام الحامية العثمانية ، وقد اضطربت القيادة التركية بعد سقوط الطفيلة وصممت على استردادها خوفاً من أن تبادر قوات الثورة لمهاجمة الكرك ، وحشد العثمانيين قوات مهولة من كتائب مشاة وسرايا فرسان وزودت القوة بالمدافع، واستبسلت قوات الثورة وأهل الطفيلة في الدفاع عنها ضد محاولة إعادة احتلالها من القوات العثمانية ، وانتهت المعركة نهاية لم يتوقعها الأتراك ولا الثوّار وغنمت قوات الثورة فيها مغانم كثيرة ومنها على سبيل الذكر، مدفعين و23 رشاش و200 من الخيل و218 أسيراً بينهم 12 ضابطاً ، أما القتلى فبلغ عددهم أكثر من 400.

رأي الشريف زيد في لورانس ومحاولته سرقة انتصار الطفيلة:

ورغم أن الانتصار ينسب الفضل به لضباط وقادة جيش الثورة وعلى رأسهم الضابط صبحي العمري البطل الحقيقي لمعارك تحرير الطفيلة ورفاقه والشيخ ذياب العوران وفرسان عشائر الطفيلة، إلا أننا نشاهد بعد ذلك أن لورانس يتحدث عن المعركة في كتابه بإسهاب (حوالي 3 آلاف كلمة) ويحاول هو و مؤرخو حياته نسب هذا الانتصار له ووصفه بأنها المعركة النظامية الوحيدة التي أشرف عليها وأدارها واتخذوا منها دليلاً على عبقريته العسكرية ونبوغه وتفوقه في فن القيادة ومن الطبيعي القول أن أولئك الكتاب بنوا آراءهم على أقوال لورنس، وعن هذا يقول الأمير زيد في مقابلة مع الكاتب والمؤرخ الأردني سليمان الموسى :”في معركة الطفيلة لم يفعل لورانس أي شيء ، ولم يكن بمقدوره أن يفعل شيئاً ، كانت المعركة دون نظام أو ترتيب”.

رأي مشايخ أهل الطفيلة في لورانس :

يروي الكاتب والمؤرخ سليمان الموسى عن لقاءاته مع أهالي الطفيلة وعيمة ممن ساهموا في المعركة، ومنهم السادة : هويمل ذياب العوران ، وسليمان العوران وصالح المحيسن ، وموسى المحيسن ، وصفوق الجازي وسمور القرعان، وأكثر من تم التحدث إليهم يذكرون أنهم شاهدوا لورانس ، ولكن لم يكن له شخصية بارزة في الثورة فلم يسترع انتباههم كثيراً.

لورانس حافي القدمين

يقول لورانس أنه سار من الطفيلة إلى وادي الحسا مسافة عشرة كيلومترات سيراً على قدميه حافياً ولا ندري كيف يتهيأ لمن يعتبر نفسه قائداً أن يسير على قدميه هذه المسافة الطويلة كي يقدم تقريره، ويروي سمور القرعان وهو شيخ في السبعين من عمره حين اجراء المقابلة وقد كان من موظفي الحكومة العثمانية في الطفيلة قبل أن ينشق ويشارك في عمليات الثورة مرة في نسف جسر القويع شمالي محطة عنيزة ومرة أخرى في هجوم على محطة جرف الدراويش، يقول أنه يذكر لورانس جالسا في مجلس الأمير زيد وأنه كان يبدو صامتاً معظم الوقت، وكثيراً ما يجلس ورأسه بين يديه وكان يكذب بطريقة مكشوفة ويدعي انه عربي بلهجة ولغة ضعيفة وركيكة، أما مزاعمه بأنه كان يسير حافي القدمين وأن الشوك أدمى عقبيه، فهو مدعاة للضحك لأن أهل المنطقة أنفسهم ما كانوا يسيرون حفاة ولم يكونوا يستطيعوا فعل ذلك في تلك الأرض الوعرة وفي شهر كانون القارص البرد، وذكر من تم التحدث معهم أنهم يذكرون لورانس يرتدي بزة ضابط وعلى رأسه كوفية وفي قدميه حذاء عادي ولم يكن يخفى على أحد أنه أجنبي حالما يتكلم العربية بطريقة مضحكة.

لورانس ويده على خده

كما يدعي لورانس أن الذعر دب في صفوف أهالي البلدة وهذا غير صحيح ، لأن الأهالي منذ عصر اليوم السابق وطوال الليل يقاومون العدو بشدة ويحولون دون زحفه بسرعة كما يعترف لورانس نفسه، فكيف نوفق بين الذعر والاستعداد للفرار من جهة ، وبين المقاومة الجريئة من جهة أخرى ؟

ويقول لورانس أن ذياب العوران كان يحدثهم عن الخلافات بين الأهالي وعن غدرهم وهذا غير صحيح لأن ذياب كان في الواقع روح المقاومة بالنسبة للقرويين باعتباره زعيمهم، ويقول المؤرخ سليمان الموسى أنه وأثناء حديثه للمشاركين في المعركة من عائلتي العوران والمحيسن، نفى جميعهم وبشكل قاطع وجود أي خلافات وقعت في تلك الفترة، وعن ذلك يعلق العجلوني وكان ضابطاً في حملة الشريف مستور بقوله : “دخلنا الطفيلة ولم نلحظ الانقسام في صفوف الأهالي الذين قابلونا جميعاً بالترحيب على السواء ، ولعل لورانس بنى حكمه على طريقته الخاصة بتسجيل الظواهر الشاذة مهما كانت تافهة”، و الواضح أنه لم يكن بإمكانه بناء شخصيته الروائية كبطل و قائد إلاّ عبر اللجوء لتقزيم الشيوخ و الأبطال الحقيقيين و نقل الأكاذيب على ألسنتهم حتى يتفرد عبر هذه الخطة السردية بالبطولة و الزعامة و الذكاء الاستراتيجي .

وقد كان لورانس يلجأ لأسلوب النكتة والسخرية لخلط الجد بالهزل ، لتمييع الحقائق وتزييفها بالأكاذيب ، ومع ذلك تراه يعترف بألاعيبه أحيانا فلا يصدقه رؤساؤه بل يعتبرون الألاعيب جداً كل الجد ويعتبرون الاعتراف على أنه من قبيل تواضع العظماء، لاحظ هنا قوله في كتابه بعد وصف المعركة “أرسلت تقريراً للقيادة العامة في فلسطين، لقد كُتب بوضاعة، للتأثير على القادة ، وكان مليئاً بالتشابيه الطريفة والبساطات الهازئة، وجعلهم التقرير يحسبونني هاوياً متواضعاً يلحق بخطى القادة العظماء، لا بهلواناً يسترق النظر وراءهم ، كان التقرير مثل المعركة: محاكاة ساخرة ، ولكن القيادة العامة امتدحته ببراءة، ولكي تتوج المزحة قلدتني وساماً على ما جاء فيه ….ولو استطاع كل واحد في الجيش أن يكتب التقارير بنفسه عن أعماله دون شهود لامتلأت صدور الكثيرين بالأوسمة”.

وبالعودة لتقرير لورانس الذي اختتمه بقوله أنه كان منهوك القوى “بينما كان زيد يصفق بيديه مغتبطاً لنجاح خطتنا” ، ويضيف ناسبا الفضل لنفسه بطريقة مبطنة : “لقد تسببت بقراري خوض المعركة بمقتل عشرين أو ثلاثين من رجالنا”، ومن هنا نرى أن لورنس في تقريره الأول لم يدّع انه قاد المعركة أو أدارها ، رغم أنه سلّط الأضواء على نفسه ، أما في كتابه بعد ذلك فقد ادعى أن زحف الترك عكّر مزاجه فاعتزم أن يلقنهم درساً قاسياً ويقضي عليهم قضاءً مبرماً ، ومع ذلك فإن لورانس لم يستطع أن يوضح بأي شكل كيفية قيادته للمعركة، ولا نجد أي دليل مادي يقنعنا بأن ذلك كان في مقدوره تحت وطأة كل الظروف السائدة.

أكاذيب لورانس المرتبطة بمحاولة سيطرة الانجليز على السلط

بدأ الانجليزي هجوهم وأول معاركهم في الأردن ودخلوا السلط مساء يوم 25 آذار ، واضطروا للتراجع بعد خمسة أيام دون أن يتمكنوا من تدمير النفق الواقع على بعد 7 كيلومترات جنوبي محطة عمان.

وقد انتدب الأمير فيصل الشيخ مرزوق التخيمي للانتقال إلى منطقة بني صخر كي يتصل بالقوات البريطانية ويتعاون معها إذا نجحت في الاستيلاء على السلط وعمان، أما لورانس فقد أمضى أكثر من أسبوعين دون أن يؤدي عملاً معيناً، ويقول لورانس أنه غادر مقر الجيش في أبو اللسن يوم 2 نيسان مع مرزوق التخيمي باتجاه الشمال ومعهما ألفا جمل من جمال السراحين ( قبيلة السرحان ) تحمل المؤن والعتاد، وقد بلغوا وادي عطارة (عطاطير) شرق زيزياء يوم 7 نيسان، وقد كان ينزل فيه بنو صخر أثناء الشتاء والربيع ، حيث استقبلهم مفلح وفهد وعضوب الزبن، ولم تلبث الأنباء أن بلغتهم بدخول الانجليز السلط، فأخذوا يستعدون مع بني صخر للتقدم غرباً إلى مأدبا، ولكن أنباء أخرى بلغتهم بعد ذلك أن الانجليز بدأوا بالتراجع وأنهم لم يتمكنوا من نسف نفق السكة جنوبي عمان.


لورانس في زي نوريات (غجريات) والمزيد من قصص الخيال

يقول لورانس أنه شاهد جماعة من النور (الغجر) ينزلون قريبا من مضارب بني صخر، فأحب أن يستفيد منهم واتفق هو وتابعه ” فرج ” على أن يذهبا إلى عمان مع ثلاث من نسائهم، وهكذا مضى في زي النوريات إلى عمان فتجول فيها ثم عاد مسرعاً إلى رفاقه في وادي عطارة، ومنها عاد إلى مشارف معان حيث كان العرب يهاجمون تحصينات الترك منذ يومين.

على أن لورانس وبعد خمسة عشر عاماً، يعود ليناقض نفسه ويبتدع حكاية غريبة لا أصل لها من الصحة، تتعلق بهذه الواقعة، فمن المعلوم أن الإنجليز استولوا على السلط يوم 24 آذار ثم تراجعوا عنها في 2 نيسان (اليوم الذي غادر فيه لورانس أبو اللسن)، والحكاية المختلقة هي أن رجال العشائر في تلك الأثناء هاجموا خط السكة إلى الجنوب من عمان ثم عادوا ومعهم نحو 1200 أسير، واشترك لورانس في إطلاق سراح الأسرى كما زعم عندما كتب يقول : “أعدناهم إلى مواقعهم مع الاعتذار عن إزعاجنا لهم”، بل أضاف قائلاً أن جماعته والأسرى الأتراك “حلوا ضيوفاً عند البدو وسادت روح التعاطف في أثناء ذلك بين الطرفين” ، هذه الحكاية لم يسمع بها أحد من أبناء العشائر المحيطة بعمان والتي لم يرد لها أي ذكر في كتابات العرب أو الأتراك أو الانجليز، تعطينا فكرة عن شطحات خيال لورانس ، وكيف أخذت تستهويه القصص النابعة من عالم الأوهام.

مشايخ بني صخر يكذبون ويفندون مزاعم لورانس

ولا ندري من أين جاء لورانس برقم الألفي جمل ، فالسراحين ( قبيلة السرحان ) في مضاربهم في العادة إلى الشمال الغربي من الأزرق ، ومن أين للسراحين هذا العدد الضخم من الجمال في الوقت الذي كانت تعاني فيه الثروة الحيوانية في الأردن من الانحسار نتيجة سياسة العثمانيين في الضرائب على المواشي والدواب بمختلف أنواعها والتي تسببت في انخفاض الأعداد بشكل كبير، ثم إن جمال البدو في آذار ومع نهاية الشتاء تكون في حالة سيئة من الهزال ولا تصلح للاستخدام إلا في شهر أيار بعد فصل الربيع ، وقد أكد الشيخ عضوب الزبن أن الجمال التي جاءت مع مرزوق الذي رافقه لورانس، لم يزد عددها عن مائة ، أما قضية زيارة عمان بملابس النوريات فيستبعدها عضوب وتركي كل الاستبعاد ، ويؤكدان أنه لم يغادر مضارب قبيلتهما بني صخر، ويقول عضوب أن لورانس وإن لم يكن ذو أهمية قيادية إلا أنه لم يكن شخصاً مغموراً لهذا الحد الذي يتيح له أن يغيب عن عيوننا دون أن نفتقده، وكلا الرجلين لا يذكر وجود النَّوَر ويقولان أن القصة لو صحت لما خفيت عليهما، وقد ضحكا عندما سمعا عن ما اختلقه لورانس أثناء كتابته للأحداث.

المراجع :

  • لورانس والعرب وجهة نظر عربية ، سليمان الموسى الطبعة الثالثة 2010م

كذبة لورانس – الجزء الثامن


080716_1017_1

في هذا الجزء الجديد من سلسلة كذبة لورانس نتناول مزاعمه وافتراءاته على عشائر الطفيلة ومحاولاته سرقة الانتصار والتحرير من الاحتلال العثماني ونسبه لنفسه.

تقديم :

كنا قد أوردنا خلال الأجزاء الماضية ، الرابع ، الخامس ، السادس من كذبة لورانس ، أن الشريف ناصر قد أقام في العقبة بينما أقام عودة أبو تايه في القويرة بمنتصف الطريق بين العقبة ومعان ، كخط دفاعي متقدم عن المواقع التي تم تحريرها تحسباً لأية هجمات من القوات العثمانية ، ورغم أن الأتراك كانوا يواجهون مصاعب جمة ، إلا أنهم تمركزوا في الفويلة وأبو اللسن ، وحاولوا في عدة مناسبات التقدم غرباً في محاولة لاستعادة بعض المواقع التي خسروها ، إلاّ أن عودة أبو تايه كان يهاجمهم ويكبّدهم الخسائر مما يدفعهم للإنسحاب وإعادة التموضع في مواقعهم، وتزامنت تلك المحاولات مع غارات متبادلة نفذتها الطائرات التركية والألمانية من جهة مقابل طيران التحالف المساند للثورة من جهة أخرى ، وقد أخذ عدد القوات المنطوية تحت راية الثورة العربية الكبرى بالتزايد، ووصل عدد القوات لأكثر من 2000 مقاتل ما بين ضباط ومقاتلين وهجانة وفرسان ومدفعية ، وكان جعفر العسكري ينهمك في تدريب المتطوعين ويساعده في ذلك عدد من ضباط أركان الثورة الذين تزايد عددهم نتيجة انشقاقهم عن جيش الاحتلال العثماني وخلعهم للرتب والزي العسكري العثماني ورايته الحمراء الملوثة بدماء الأبرياء من الأردنيين والعرب، واستعانت قوات الثورة بالهجمات ضد سكة القطار العسكري، حيث تذكر التقارير أن العمليات المتفرقة أسفرت عن نزع ما مجموعه 7630 قضيباً، بينما تم نسف 30 جسراً خلال فترة ثلاثة أشهر من تموز إلى أيلول.

مكافأة لقطع خط سكة القطار العسكري بين معان والمدينة المنورة

وعلى النقيض من كل مزاعم لورانس لقيادته بأنه خطط لعدم قطع سكة القطار العسكري العثماني الواصلة بين معان والمدينة المنورة وذلك بمبررات سخيفة وأنه تمكن من إقناع العرب بذلك ، مبرراً للضباط الانجليز ذلك بأنه أفضل ومجدي أكثر من ناحية الجدوى مقارنة بتكلفة الأسرى العثمانيين ، فإننا نكتشف في النشرة العربية المؤرخة بتاريخ 21 تشرين الأول ، أن الشريف الحسين بن علي قد وعد بمكافأة للأفراد الذين يساهمون بقطع هذه السكة ، في دليل واضح على مساعي الثوار العرب لعزل المدينة بغية اسقاطها وأن مزاعم لورانس عن وجود سياسة مرسومة تقضي إبقاء الخط سليما هي مزاعم لا تنطبق على الواقع، وتوالت العمليات بعد ذلك ونتج عنها اقتحام عدة حاميات ومواقع للقوات العثمانية التي تحمي هذا الخط ، وتمكنت قوات العشائر التابعة و المساندة للثورة العربية الكبرى من أسر المزيد من قطعان العثمانيين، وفي ذات الوقت كان الثوار يعملون كخلية نحل منسجمة تماماً ما بين عمال مصريين وضباط عراقيين وقوات نظامية ومتطوعين من العشائر الأردنية ، جميعهم كانوا يتقاسمون المهمات القتالية واللوجستية، من عمليات عسكرية و امداد و تزويد ، إلى جانب تمهيد طريق وادي اليتم لتصبح صالحة لمسير السيارات، إلى جانب عمليات الدوريات والخفر ، وكان يتم ذلك في حماس منقطع النظير رغم أن البرد كان شديداً جداً لا سيما في ظل تواجد القوات في مناطق صحراوية في أشد فترات العام بروداً، وذلك وفقاً لما جاء في أحد تقارير الكولونيل البريطاني جويس ، الذي جاء فيه كذلك أن جنود الثورة  يحيون حياة بائسة في تلك الظروف، ولا يملك الواحد منهم سوى بطانية واحدة، وهذا كله لا يدل إلا على إيمان الثوار  بالهدف الذي يستبسلون ويتفانون في الدفاع عنه، وقد تلا ذلك معارك تحرير وادي موسى واستبسل في سبيل ذلك أهلها وفرسان اللياثنة.

إحدى عمليات تفجير سكك خطة سكة الحديد أثناء العمليات العسكرية لتعطيله وقطع الإمدادات عن الحاميات التركية المتحصنة في معان

أكاذيب لورانس في تحرير الطفيلة:

كانت الظروف التي يمر بها الثوار صعبة، وكان شتاء ذلك العام شديد القسوة كما أن الانجليز لم يزودوا الجيش العربي بالألبسة الشتوية والبطانيات رغم أن هذا جزء من الاتفاق معهم كحلفاء عسكريين ، ونتج عن ذلك أن توفي عدد من الجنود تحت وطأة البرد ، وكذلك وقعت خسائر جسيمة في الخيول والحيوانات وكل ذلك لم يثن الثوار عن مواصلة رحلة التحرر والطريق نحو الحرية والاستقلال فزحفت ثلاث حملات عسكرية للثورة على شكل كماشة باتجاه جرف الدراويش ثم إلى الطفيلة.

مجموعة من قوات الثورة بعد عملية تحرير جرف الدراويش

وفي إطار ذلك يروي رئيس أركان جيش الثورة الشمالي نوري السعيد أنه وفي يوم 12 كانون الثاني عام 1918م تم تهيئة حملة صغيرة مكونة من فوج مشاة (حوالي 300 جندي نظامي) ومدفعين جبليين وثماني رشاشات وقوة من العشائر تقدر بـ 1500 مقاتل ، ويصف استيلائهم على المحطة بعد عزلها ونصب الكمائن لقطع الطريق عن أية إمدادات قد تصلها من الجنوب والشمال ، وقام نوري السعيد بتوجيه مدفعيه نحو المدفع التركي وحتى تم إسكات المدفع واندفع فرسان الحويطات والصخور على جمالهم ، مما بث الفزع في قلوب الأتراك الرابضين فوق التل فانهزموا نحو داخل بناء المحطة ، وجرى تبادل لإطلاق النار وأرسل مفرزة من الخيالة للاستطلاع ، ثم مضى إلى التل فوجد مدفع الأتراك في حالة سليمة فلم يكن منه إلا أن أدار فوهته نحو بناء المحطة وأطلق منه قذيفة اخترقت جدار البناء، وبلغت حماسة الثوار أشدها فاندفعوا على جمالهم اندفاعا هد أعصاب الأتراك فأعلنوا استسلامهم، وحرص الثوار على إيقاع أكبر عدد من الخسائر المادية في المحطة وغادرها نوري السعيد مع النظاميين عائداً بالأسرى للقويرة ، بينما اتجه الشريف ناصر إلى الطفيلة مع مفرزة نظامية بقيادة رستم سردست ، وكذلك تقدم الشريف عبد المعين من وادي موسى للشوبك وغابتها (الهيشة) بعد انسحاب الأتراك منها، واتجه الشريف مستور نحو الطفيلة عن طريق وادي عربة ومعه بعض الضباط النظاميين وعدداً من فرسان الجازي.

الأمير زيد بن الحسين يتحقق من أحد مدافع canon 75mm فرنسية الصنع تابعة للقوات النمساوية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

وكان أهل الطفيلة قد انضموا للثورة، بعد أن اجتمعوا و كلفوا الشيخ ذياب العوران بإرسال كتاب للأمير فيصل يبلغه استعداد عشائر الطفيلة و جاهزيتهم للانضمام للثورة بمجرد وصول أول شريف لها، وهذا ما تم واستسلمت الحامية التركية الموجودة في الطفيلة ، ودخلها الشريف ناصر و الشيخ عودة أبو تايه ، ثم عاد الشيخ عودة لمضاربه في الجفر وسيق الأسرى الأتراك إلى العقبة ، فيما عدا العرب منهم الذين اختاروا الانضمام للمحاربة في صفوف الثورة.

عدد من فرسان عشائر الطفيلة أثناء عمليات الترقب و الاستطلاع للقوات التركية الغازية

حديثه عن الخلافات بين عشائر الطفيلة

ومن هنا نتبين أن أهل الطفيلة اختاروا الدخول في الثورة رغبة منهم في ذلك وخاصة شيخ مشايخها ذياب العوران ، ولو صمم أهل الطفيلة على المقاومة وتعاونوا مع الحامية التركية لغدت مهمة قادة الثورة عسيرة للغاية ، أما أكاذيب لورانس عن الخلافات بين عشيرتي العوران والمحيسن فهو حديث غير صحيح ولا يتفق مع واقع الحال ، لأن الخلافات التقليدية والفتن التي صب العثمانيين جهودهم على زرعها ونشرها بين العشائر لم تظهر في تلك الظروف ، وقد واجه أهل الطفيلة أحداث تلك الفترة وهم متحدون يداً واحدة.

افتراء جديد ضد عودة أبو تايه

كما أن افتراء لورانس على عودة أبو تايه واتهامه بأنه هدد أهل الطفيلة وشتمهم فهو عارٍ عن الصحة ، لأن عودة جاء كصديق لذياب العوران شيخ مشايخ الطفيلة ولم تكن الطفيلة منطقة نفوذ له ، كما انه ووفقاً لموازين القوى فان ما كان مع الشيخ عودة ومع الشريف ناصر من قوات غير كافية لدخول البلدة عنوة واقتدار بدون التوافق مع أهلها.

مقاتلو الثورة و فرسان الطفيلة من كافة العشائر يحتفلون بإنتصارهم سوية في معارك الطفيلة

قائد الحامية العثمانية يسلم المدينة وينضم لقوات الثورة :

ويروي أمير اللواء محمد علي العجلوني أحد الضباط النظاميين العاملين مع الشريف مستور، أن الرئيس زكي الحلبي قائد الحامية التركية كان على اتصال مع الأمير فيصل وقوات الثورة وأنه ساهم في دخول قوات الثورة إليها سلماً ، وبعد تحرير الطفيلة باشر الشريف زيد بتعيينه حاكماً إدارياً لها.

الفرق بين خيال لورانس وواقعية قائده جويس في معارك تل الشحم :

من خلال مطالعة تقرير الكولونيل البريطاني جويس الذي كان مسؤولاً عن لورانس في مهمة نسف محطة المدورة لتقدمه في الرتبة عليه، نستطيع تكوين فكرة واضحة عن الروح العسكرية المحضة التي يتسم بها صاحب التقرير، فهو يتحدث عن السيارات وعن الجنود بأسلوب واقعي، متواضع ، وهو كذلك لا يذكر نفسه أو يختصها بالثناء كما أنه لا يذكر اسم لورانس ، أما وصف لورانس لهذه المعركة فقد جاء كالعادة بتفاصيل جديدة ومختلقة بالإضافة لعقدة الحديث عن نفسه ومدح الذات ، وإبداء آرائه الشخصية وخيالاته.

أكاذيب لورانس عن حراسه !

يقول لورانس أنه وبعد عودته للعقبة ، قضى معظم وقته وبذل جهده الأكبر في تنظيم الحرس الخاص به ، والذي عمل على تشكيله لحمايته شخصياً، وهو هنا يدعي أن الأتراك كانوا يعلنون المكافآت لمن يأتي بضابط بريطاني حياً أو ميتاً، وأنهم رفعوا قيمة المكافأة إلى عشرين ألف دينار لمن يأتي به (لورانس) أو بالشريف علي الحارثي حياً ، وعشرة آلاف لمن يأتي بأي منهما ميتاً ، ويذكر أن عدد حراسه كان حوالي 90 شخصاً وكان يدفع لهم راتب يبلغ ضعف الرواتب العادية في الجيش ، مما جعل منهم موضع حسد الآخرين ، ويسهب لورانس في وصفهم ويحاول أن يضفي عليهم صفات البطولة ، حتى ليخيل لمن يقرأ وصفه لهم أنهم أشبه ما يكونوا برجال الحرس الفرنسي الذين وصفهم دوماس في رواياته.

ومن الأدلة على عدم دقة لورانس في هذا الموضوع، الصورة المنشورة في كتاب روبرت جريفز والتي كتب تحتها (لورانس وحرسه في العقبة – صيف 1918 ) ولا تضم سوى 14 شخصاً يختلف زي كل واحد منهم عن الآخر، ولا يبدو عليهم أنهم منظمون أو يتبعون لتشكيل واحد ولا نعلم مدى صحة عنوان الصورة أصلا فهل هؤلاء حرس شخصي له أم أنهم محاربين من فرسان الثورة أقنعهم لورانس أن يتصور معهم، كما حدث وتطرقنا له في الأجزاء السابقة عندما كان يصر على التصور بجانب المدافع و الأسلحة و الغنائم بعد كل معركة !

وفي نفس سياق المزاعم والمبالغات والتناقضات ، نرى أن لورانس يتحدث في مذكرة للنشرة العربية في 24 أيار 1919 قوله أن “عشرين من خدمي قطعوا ذات يوم مسافة ستين ميلاً في خمس ساعات” ،أما قوله أن 60 من هؤلاء ماتوا في خدمته فينطوي على مبالغة كبيرة ، يناقضها هو نفسه في رسالة كتبها بتاريخ (15 تموز 1918) جاء فيها أن عدد حراسه بلغ 50 رجلاً ، ولكن أغلب من عرفوه يتحدثون عن أن إجمالي من عمل مع لورانس من مرتزقة كمخبرين وخدم وأتباع لم يتجاوز 15 شخصاً معظمهم تتكون اسماؤهم كما يوردها من مقطع واحد وعادة ليست اسماء متداولة أو مشهورة بين أبناء المنطقة، ويتضح من كتابات لورانس أنه لم يفعل شيئاً خلال العشرين يوماً التي انقضت بين عودته إلى العقبة ثم بلوغه الطفيلة يوم 20 كانون الثاني أي بعد تحريرها بخمسة أيام.


المراجع :

  • كتاب نوري السعيد – محاضرات عن الحرمات العسكرية في الحجاز وسوريا ، صفحة 38
  • مذكرات قائد عربي ، عبد الفتاح أبو النصر أليافي (د.ت ولكن ربما 1932) صفحة 182 (نشرت في جريدة لسان الحال / بيروت)
  • النشرة العربية 77 / بتاريخ 27/1/1918
  • لورانس والعرب وجهة نظر عربية ، سليمان الموسى الطبعة الثالثة 2010م

كذبة لورانس – الجزء السابع

080716_0948_1

في الجزء السادس من سلسلة كذبة لورانس ، نوضح أكاذيبه خلال فترة اقامته في قلعة الأزرق ، والرحلة المكوكية التي ادعى القيام بها لدرعا ، ومزاعمه حول تعرضه للاغتصاب من ضابط تركي: 

تقديم :

نستكمل في هذا الجزء تسلسل الأحداث التي تزامنت مع وجود لورانس في الأردن استكمالاً لما أوردناه في الأجزاء الرابع و الخامس، وكنا قد وصلنا لحادثة قطار منيفة والاشتباك مع القوات العثمانية المهولة التي كان يحملها القطار الذي كان يسافر عبره محمد جمال باشا قائد الفيلق الثامن، ثم عاد الجمع بعد تلك العملية الناجحة رغم ما خسروه من شهداء أثناء محاولة الإنسحاب بعد الاشتباك بالقوات العثمانية خلال عملية نسف القطار، وقد عادت المجموعة مع إصاباتها لقاعدتها في الأزرق ، وأقام لورانس في جانب من القلعة هناك .

قلعة الأزرق بعد تحريرها

الإقامة في قلعة الأزرق

خلال فترة إقامة لورانس في قلعة الأزرق متأثراً بإصاباته التي تعرض لها في حادثة قطار منيفة ، نرى أنه يصف بإسهاب قدوم الوفود واستقبال الشريف علي بن زيد ، ويصل في وصفه حتى للمطر الذي جادت به السماء والعواصف والأجواء والسهرات الليلية ، ونلاحظ من جدول حركات لورانس أنه قضى عشرة أيام في الأزرق قبل ذهابه إلى العقبة ويبدو من وصفه لمشاهداته الكثيرة أنه أقام المدة كلها في الأزرق ، ولكنه يدعي أنه قام خلال الأيام الأخيرة منها بمغامرة تفوق في غرابتها وحوادثها جميع مغامراته السابقة واللاحقة.

مجموعة من مقاتلي الثورة أمام قلعة الأزرق

أكذوبة زيارة لورانس لدرعا في حوران الأردنية:

يتحدث لورانس عن وصول شيخ بلدة طفس “طلال حريذين” للأزرق والانضمام للثورة العربية الكبرى ، وقد كان الشيخ معروفا وثائراً ضد الأتراك العثمانيين وقد وضعوا جائزة لمن يلقي القبض عليه لما أذاقهم من ويلات ، وقد كان رجلاً عظيما يتنقل كيفما شاء دون خشية ، وقيل أنه قتل ثلاثة وعشرين تركياً خلال سنتين ، ويقول لورانس أنه تحدث مع الشيخ طلال أثناء زيارته للأزرق وأبلغه برغبته في زيارة مناطق درعا الواقعة على الجهة الشمالية من سهل حوران الأردني، ويزعم أنه حصل على ذلك ورافقه شخصين يصفهما بأنهما حارسين له ولا يوجد معلومات تؤكد انه كان للورانس حراس أصلاً أو أنه كان بموقع أو منصب يستدعي وجود كادر حراسة له ، فهو كما أسلفنا ليس سوى مجرد مفجّر قنابل.

وبعد زيارته ومرافقة طلال الحريذين له في زيارة عدد من المناطق والقرى المجاورة لدرعا ، يزعم لورانس أن طلال الحريذين رفض مرافقته لدرعا وهو ما يبدو أنها وسيلة لتأليف القصة دون أن ينكرها أحد، ويمضي هو ومرافقه ” فارس ” في خطتهما للسير حول المحطة والبلدة ثم المضي إلى قرية نصيب بعد الغروب ، ويصف لورانس مظهره بأنه لم يكن يثير الاستغراب وأنه كان يرتدي ملابس مرافقه حليم المتواضعة ، ويعرج بسبب الكسر الموجود في قدمه يوم نسف قطار جمال (قطار منيفة) ، ويضيف لورانس أنه بينما كان يسير أتاه شاويش تركي وقام باقتياده من ذراعه قائلا له : “البيك يطلبك” ، ويمضي معه لورانس طائعاً بحجة أن المكان مزدحم ولا مجال للمقاومة بينما يكمل مرافقه ” فارس ” طريقة دون أن يعترض سبيله أحد.

لورانس يدّعي تعرضه للاغتصاب للوصول لغاية في نفسه !

بعد ذلك يصف لورانس باسهاب كيف تم اقتياده للضابط (ناحي بك) ، ويذكر كيف حاول هذا الضابط أن يرتكب معه العمل الشنيع وسنبيّن فيما يلي مدى الأكاذيب والاختلاق في هذه القصة ليس دفاعاً عن الضابط العثماني فالعسكر العثماني اشتهر أصلا بصنوف أفعاله الشنيعة وطرق التعذيب المهينة و القاسية خاصة في سجن معان سيء الذكر لكن فقط لاستحالة ذلك مكانياً وزمانياً إضافة للنظر إلى جانب الحالة الصحية التي كان يمر فيها لورانس وإصاباته من معركة قطار منيفة وهو ما يبيّن للباحث أن لورانس كان مستعداً لإظهار نفسه في أسوأ المواقف وأن يتنازل عن كبرياءه وشرفه وكرامته في موضع معيّن مقابل إقناع الناس بأكاذيبه في زاوية أخرى ، حيث يزعم لورانس أنه قاوم الضابط عند محاولة الأخير اغتصاب لورانس وأنه ركله في بطنه مما أثار حفيظة الضابط الذي أمر بمعاقبة لورانس، فأمر ثلاثة من رجاله بتلقينه الدرس المناسب من خلال الضرب بالسياط ضرباً موجعاً سالت منه دماؤه ثم أغمي عليه، ويقول أن الضابط سحب طيه من لحمه عند الأضلع، وغرس الحربة في جنبه حتى سال دمه وأن أحد رجال الضابط رفسه بنعل حذائه ذي المسامير فكسر أحد أضلاعه ، ثم وصف كيف حملوه بعد ذلك للضابط الذي رفض أن يقترب منه عندما شاهد جسده الممزق الدامي ، وكيف أخذوه ليقضي ليلته في غرفة أخرى.

ويكمل لورانس قصته المزعومة قائلاً بأنه وقبل الفجر وجد ملابس في الغرفة فارتداها وانسل من النافذة وغادر البلدة ، حيث اكتشف إلى الجنوب واديا قريباً يصلح أن تنقض منه قوات الثورة على درعا فجأة في غفلة من الأتراك ، ثم يقول أن بدويا أشفق عليه وحمله نحو نصيب ليجتمع برفيقيه ويغادر معهما إلى الأزرق.

ومع أن لورانس غلف عباراته حيال هذه الحادثة بشيء من الغموض إلا أنه يزعم للسيدة “شارلوت شو” زوجة صديقه المؤلف الروائي و المسرحي الايرلندي “جورج برنارد شو” في رسالة خاصة بعث بها إليها فيما بعد بأن البيك في درعا قضى وطره منه ، وأنه لم يجد من نفسه شجاعة على ذكر الحقيقة صريحة في كتابه.

تفنيد المؤرخ سليمان الموسى لهذه القصة

يقول الباحث والمؤرخ سليمان الموسى في كتابه ( لورانس والعرب ، وجهة نظر عربية) : ” إن الكثير ممن كتبوا تاريخ حياة لورانس أخذوا هذه القصة على أنها حقيقة لا يأتيها باطل ، وأني اشك فيها ولا اعتقد بصحتها لأسباب كثيرة ـ تتعلق بالعائق الزمني والعوائق الصحية ” ، و أهمها :

  • الفترة التي قضاها لورانس في الأزرق بين عودته من منيفة وشروعه في السفر للعقبة لم تزد عن عشرة أيام (12-22 تشرين الثاني).

    وهذا يطرح عدة تساؤلات:

    – كيف أتيح له أن يشفى من الجراح التي إصابته أثناء انفجار اللغم ؟

    – كيف أتيح له أن يشفى من الرصاصات الخمس التي جلطت أماكن متفرقة من جسمه وكان بعضها عميقاً مؤلماً ؟

    – كيف أتيح له أن يشفى من إبهام قدمه المكسورة ؟

    – كيف أتيح له أن يشاهد خلال جزء من هذه الفترة قوافل البدو والحوارنة والأرمن و الدروز الذين كانوا يصلون تباعاً للأزرق بعد أن وردتهم أنباء إقامة الشريف علي  فيها ؟

    مهما قلنا عن نشاط لورانس فإنه إنسان من لحم ودم والسفر من الأزرق لطفس والحلول في ضيافة طلال والتجول في تل عرار والشيخ سعد والمزيريب وقضاء ليلة في درعا وأخرى في نصيب، لا بد أن يستغرق ذلك خمسة أيام على أقل تقدير فهل شفي من جراحه واستعاد صحته الكاملة وشاهد كل ذلك في خمسة أيام فقط ؟

    ثم كيف استطاع بعد تلك الليلة الليلاء التي زعم أنه مرّ بها في درعا أن يعود مباشرة إلى الأزرق ومنها مباشرة إلى العقبة في رحلة لا تقل مسافتها عن 400 ميل وتستغرق خمسة أيام من السفر الجدّي ؟

    إن العذاب الذي أنزل به في درعا -كما يصفه هو- يوحي للقارئ المتبصر أن أي جسم إنساني لا يستطيع أن يسترد عافيته من آثاره ، إلا بعد أسبوعين من الزمن على أقل تقدير ، فكيف بمن يكاد يواجه الموت في الليل ثم يشرع في سفرة مرهقة عنيفة عند الصباح ؟

    يستطرد الموسى بقوله أيضا : ” إنها أشبه بالأعاجيب والأساطير وأنا لا أصدق حرفاً منها، وما هي الطريق المخفية التي اكتشفها؟ ألم تكن كل الطرق المؤدية إلى درعا معروفة لدى أنصار الثورة من أهل حوران ؟ ثم أن درعا جغرافيا مفتوحة من الجوانب الأربعة في سهل حوران وليست في موقع جبلي يصعب الوصول إليه.”

    وأخيراً وليس آخراً ، لماذا تجاهل لورانس درعا ودخوله المزعوم إليها في تقريره المنشور في النشرة العربية ولماذا سكت عن ذلك بضع سنوات إلى أن كتب كتابه (أعمدة الحكمة).

قصة مختلقة بدون شهود

استشهد الشيخ طلال الحريذين في أثناء الحرب وهو الشاهد الوحيد على مزاعم لورانس أما “فارس وحليم” فهما اسمان اخترعهما لورانس من بين الأسماء الشائعة في المنطقة.

وأكد الشريف محسن الحارثي، أن شقيقه الأكبر الشريف علي الحارثي حدثه عن تفاصيل الهجوم على القطار الذي كان يقل جمال باشا وعن إقامته ولورانس بعد ذلك في الأزرق، فلم يذكر أن لورانس افترق عنه في أثناء الأيام العشرة التي قضاها معه.

الوصول للعقبة والسفر لملاقاة اللنبي

بلغ لورانس معسكر العقبة يوم 26 تشرين الثاني ، وبعد اثني عشر يوماً ذهب في طائرة إلى معسكر الجنرال اللنبي وكان لورانس يخشى أن يغضب القائد العام لإخفاقه في تدمير جسر اليرموك، ولكن اللنبي كان قد هزم الأتراك وحقق انتصارات في مناطق السويس وبئر السبع وغزة والقدس ، فلم يعر إخفاق لورانس أي اهتمام ، وخدم حسن الحظ لورانس مرة أخرى وإلا لكان لمستقبله مع الثورة والحلفاء منحنى آخر.

منافس جديد للورانس في الميدان

ومع ذلك قام الجنرال اللنبي بانتداب الكولونيل نيوكمب رئيس البعثة العسكرية البريطانية مع العرب كمنافس للورانس في الميدان ، وقام نيوكمب بعمليات ناجحة قرب الخليل كانت أكثر نجاحاً مما حققه لورانس ، واجتذب جانباً من القوات العثمانية وظل يشاغلها إلى أن وقع في الأسر وبذلك أتيح للورانس فرصة عدم وجود منافس قوي له في الميدان.

نظرة على تحركات لورانس بعد فتح العقبة : (جدول تحركات لورانس)

من

إلى

المناطق

7 تموز

3 آب

مصر وجدّة

4 آب

5 آب

العقبة والقويرة

6 آب

16 آب

مصر

17 آب

6 أيلول

العقبة والكونتيلا

7 أيلول

22 أيلول

غزو خط السكة عند حارة العمارة

27 أيلول

9 تشرين الأول

غزو خط السكة عند بير الشيدية

10 تشرين الأول

14 تشرين الأول

مصر

15 تشرين الأول

23 تشرين الأول

العقبة

24 تشرين الأول

26تشرين الثاني

غزوة تل شهاب

27 تشرين الثاني

25 كانون الأول

العقبة وغزة والقاهرة والقدس

فشل لورانس في أخذ زمام المبادرة وافتقاده لصفات القائد

يتضح من الجدول أعلاه أن لورانس لم يقض في العقبة ، وهي مركز قيادة جيش الثورة الشمالي سوى ثلاثين يوماً متفرقة خلال فترة ستة أشهر تقريباً ، وأنه قضى خارج ميدان القتال حوالي شهرين وقد اشترك خلال هذه الأشهر الستة في ثلاث غزوات ، بخبرته الفنية في تفجير الألغام لأنه كان دائماً يسير في حملة يقودها أحد الأشراف ، وعندما وجد في غزو حارة العمارة أن الأمر خرج من بين يديه عندما حاول أن يستقل بالأمر وكاد البدو يثورون عليه فاضطر مكرهاً أن يعود إلى العقبة ويستعين بالأمير فيصل الذي أرسل معه أحد الأشراف وعدداً من رجال خاصته فاستقام أمر الغزوة بعد ذلك.

القيادات العربية تحقق الانتصارات ولورانس بعيد عن الميدان

ولو كان لورانس قائداً للثورة أو لجيشها الشمالي – كما يحاول المعجبون به أن يصوروه لقضى معظم أوقاته في مركز قيادته يشرف على تنظيم الجيش الذي كانت أعداده تتزايد بصورة مطردة، ويعمل على بعث السرايا الغازية إلى مختلف الجبهات، ويصدر الأوامر لتحريك القطع العسكرية المواجهة للأعداء وينسق الخطط ويدير شؤون التسليح، ويؤدي عشرات المهام التي يقتضي أن يؤديها من يكون في منصب القائد، وهي المهام التي لم يتولَّ أي منها ” مفجر الديناميت ” بل كانت تتم حصراً بتنسيق ما بين الأمير فيصل والشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه وكبار القادة العسكريين أمثال جعفر العسكري ونوري السعيد وحسن وفقي وعلي خلقي ومولود مخلص ورشيد المدفعي، وبينما كان جيش الثورة العربية يحقق انتصاراته بقواته النظامية وغير النظامية ويخوض معارك مريرة ضد العدو العثماني كان لورانس يقوم بدور متواضع لا يرتفع بأي حال لدور قائد الجيش أو حتى الموجه لقائد الجيش.

المراجع :

  1. لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى، دار ورد للنشر و التوزيع ، الطبعة الثالثة

كذبة لورانس – الجزء السادس

كذبة لورانس الجزء 5

تمهيد

بعد وصول لورانس لقيادته في السويس وكتابة تقريره المليء بالأكاذيب وسرقة بطولات غيره ونسبها لنفسه كما أوضحنا في “كذبة لورانس الجزء الرابع” ، لم تقتصر محاولاته التسلق على بطولات القادة والأبطال العرب وتضحياتهم فحسب، بل تعدت ذلك للتسلق على أكتاف قادته من الضباط الانجليز المسئولين عنه من أبناء جلدته، فتراه منحنياً يتذلل للضابط كلايتون قائلاً بكل افتراء وكذب: “لقد استوليت على العقبة وافتتحت منطقة واسعة وجبهة جديدة على العدو سكبت روحي وأعصابي في هذا العمل وأطالب بثمرة أتعابي ، وأريد أن أكون الضابط المسؤول حتى أستطيع أن أضع عبقريتي في خدمة المجهود الحربي، وسترى أنني لن أخيب ظنكم”.

لورانس . . . عقدة الهوس بالسلطة

ورغم هالة العظمة والعبقرية التي حاول لورانس اختلاقها وإحاطة نفسه بها، وحجم الكذبة التي لا يتوقعها أحد من شخص يعمل في المجال العسكري لهول هكذا مخاطرة، مما جعل الخدعة تنطلي على قادته، ومع كل هذا فإننا نلاحظ التحجيم الواضح له حيث جاء رد كلايتون على طلب لورانس المهووس بالسلطة : “إن أنظمة الجيش لا تسمح بمنح المسؤولية لمجرد ضابط برتبة كابتن (رائد) ، بينما يحمل رئيس البعثة رتبة كولونيل (عقيد)” ، ولكنه وعد لورانس بأنه سيكون نقطة اتصال ما بين القيادة البريطانية وقيادة الثورة.

1918-Mar-Cairo-TEL,Hogarth,Col
لورانس مع أحد الضباط المسؤولين عنه ، يسلم التقارير المكذوية و يتلقى الأوامر

 

أوسمة شرف عسكري لم ينلها ولم يمتلكه

أضف إلى ما سبق أن لورانس قد صدّر تقريره حول معارك تحرير العقبة في ذلك الحين بإشارة (سري جداً) فلم يطلع عليه إلا كلايتون وبعض رؤسائه الكبار، وكان من الطبيعي أن يصدق القادة الانجليز ادعاءات لورانس، إذ لم يخطر على بال أحد منهم إن ضابطاً في الجيش يمكن أن يخترع قصة كهذه، ولم يكن أحد منهم يعرف المنطقة وأهلها بحيث يستطيع أن يكتشف الكذبة الكبيرة، وبالنتيجة كانت المكافأة بحجم الكذبة، فتمت ترقية الكاذب لرتبة ميجر (مقدم) ومنح وسام الحمام كما أن الحكومة الفرنسية منحته وسام الصليب الحربي.

 

التسلق للوصول ومحاولة التحول من رسول إلى قائد مسؤول

وخلال شهرين تحول لورانس الذي كان يرجو السماح له بمرافقة الحملة العربية المحضة التي انطلقت لتحرير العقبة ونجحت في تنفيذ خطتها المرسومة، من مغامر ومفجّر ديناميت إلى نقطة اتصال ما بين الثورة والقيادة البريطانية، وذلك بفضل الأكاذيب التي نسبها لنفسه ، فقد غادر العقبة ليستلم مخصصاته وينقل مطالب الشريف ناصر إلى قائد الجيش البريطاني، إلا انه يحاول جاهداً تحويل نفسه فجأة من رسول إلى قائد مسؤول، لكنه  في الواقع بقي مفجر ديناميت، فلم يكن خارج أوراقه أكثر من نقطة اتصال بين القيادة البريطانية وقيادة الثورة.

 

مزاعم خطته نقل قيادة الثورة للعقبة

وانطلق لورانس  إلى جدة كما هو مقرر له للالتقاء بالشريف الحسين الذي كان في ذلك الوقت قد وافق على طلب الأمير فيصل بالانتقال إلى العقبة بعد أن تحقق ما كان يتمناه ويخطط له خلال الفترة التي سبقت معارك تطهيرها، كيف لا وهو الذي كان يرى العقبة مفتاح تحرير المناطق الشمالية الممتدة على مساحة كل من الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، فيما يزعم لورانس في سلسلة افتراءاته أنه صاحب فكرة انتقال الأمير فيصل للعقبة وهو المخطط لذلك، متناسياً كل مراحل لقاء الأمير فيصل واتفاقه مع زعامات المناطق، وعلى رأسهم عودة أبو تايه وعقداء الخيل من قبيلة الحويطات و شيوخ بني عطية و الرولة، وانتدابه للشريف ناصر لقيادة الحملة، عندما كان لورانس في حينها واقفاً ينتظر الكبار لينتهوا من كلامهم ووضع خططهم، طالباً منهم السماح له بمرافقتهم لمساعدتهم في تفجير الجسور التي بالغ في ذكر عددها أصلاً ، فكيف بمن طلب السماح له بمرافقة حملة تحرير العقبة، أن يخطط لنقل القيادة إلى هناك ؟!

 

اتهامه لعودة أبو تايه وللحويطات بالخيانة بعد أن سرق انتصارهم

ولم يتوقف المذكور عن تأليف المزيد من الأكاذيب فجعبته تكاد لا تفرغ من مزاعم حتى تبتكر مزاعم أخرى، فهو يقول أنه خلال تواجد في جدة تلقى برقيتين من القاهرة ، مفادهما أن الحويطات على اتصال مع الترك في معان وأن عودة أبو تايه شريك في المؤامرة ، في محاولة لتخوين وتشويه صورة القائد والأبطال الحقيقيين الذي كان لهم الدور البارز والفضل الأكبر في معارك تحرير العقبة الذين لم يكتفي بسرقة انتصارهم ونسبه لنفسه ، بل زاد على ذلك محاولة إلصاق تهمة الخيانة الباطلة بهم، فأي فعل أكثر دناءة من هذا ؟

وبالعودة لما ذكره الباحث سليمان الموسى في كتابه “لورانس والعرب ، وجهة نظر عربية” ، استناداً لمصادره التاريخية كمؤرخ خصص مساحة من أبحاثه وكتاباته لمراجعة الأحداث وتسلسلها ، ومطابقة الوثائق المتعددة مع روايات القادة والأشخاص الذين شاركوا في صنع الأحداث خلال تلك الفترة فإنه يقول حول هذه الحادثة : أن ما حدث هو أن الأتراك اضطربوا اضطراباً عظيماً بعد خسارتهم مواقعهم في العقبة وتحريرها من قوات الثورة العربية الكبرى ، ولما تأكد لديهم أن عودة أبو تايه هو الذي أوقع بقواتهم وأنه العامل الحقيقي وحجر الأساس في هذه الحملة التي أفقدتهم مئات القتلى والأسرى خلال أسابيع، فحاولوا الاتصال بعوده وإغراءه بالأموال والمناصب كي يتحول عن ولاءه للثورة العربية الكبرى ويقف إلى جانبهم، ولأجل هذه الغاية أوفد محمد جمال باشا قائد الفيلق الثامن ثلاثة من أصدقاء عودة من بعض الشيوخ الذين لم يحسموا موقفهم من الثورة ضد العثمانيين بعد، فذهبوا إلى القويرة للتفاوض معه وعرضوا عليه الأموال الطائلة ولقب “أمير الشراه” وهي المرتفعات الشهيرة جنوب الأردن، إن هو قطع علاقته بالثورة وانحاز لجانب الأتراك.

فما كان من عودة إلا أن رفض هذه العروض السخية، وأعلن انه لن ينكث بوعد وعده ولا بعهد قطعه على نفسه ، وأجاب أنه جندي من جنود الثورة يحارب في صفوفها لتحقيق الحرية للعرب وتخليصهم من النفوذ الأجنبي فعاد الرجال الثلاثة إلى القائد التركي وأبلغوه جواب عودة ووقف الأمر عند ذلك الحد، ولو شاء عودة الغدر والخيانة لتغير مسار التاريخ وكان الأتراك وحلفاءهم النمساويين والألمان سيستعيدون السيطرة على المناطق المحررة وأهمها العقبة، فلم يكن مع الشريف ناصر سوى 30 متطوعاً من العقيلات الذين قدموا معه من منطقة الوجه، بينما كان جميع المقاتلين المشاركين في معارك تحرير العقبة من أبناء الحويطات والعشائر الأردنية.

وتزامنت هذه المحاولات الدبلوماسية من الترك ، مع محاولات عسكرية عديدة، فعودة لم  يقبل بعروضهم وانحاز لثرى وطنه ولم يتوقف عن إزعاجهم وإثارة قلقهم ، فها هو يرسل الفارس محمد بن دحيلان أبو تايه ليهاجم الخط القريب من محطة غدير الحاج ( نسف جسراً ونزع 40 من قضبان سكة القطار العسكري)، وأرسل أيضا الفارس عودة بن زعل أبوتايه إلى نواحي بطن الغول (نسف جسرين)، كما أرسل زعل بن مطلق أبو تايه إلى عنيزة (نسف جسراً)، فجن جنون الترك الذين حاولوا تحريض بعض العشائر الأردنية على محاربة العشائر الموالية للثورة كما جاء في مذكرات عودة القسوس، حيث حاول محمد جمال باشا أن يجمع في معان حوالي 500 فارس من الكرك للاشتباك مع العشائر الموالية للثورة، ولكن أهل الكرك سرعان ما فطنوا لمكيدة جمال باشا من أنه يريد إيقاع العداء بين العشائر وهو ما تؤكده النشرة العربية الصادرة بتاريخ 5 آب 1917، التي توضح حجم التلفيق والكذب في رواية لورانس وتوضح انه لم يتوخى الحقائق ولم يقترب منها في أقواله ، فهي تؤكد أن الترك حاولوا إغراء عودة للإنقلاب على الثورة ولكن مجرد محاولة الترك التي لا ذنب لعودة فيها ، انقلبت في كتاب لورانس إلى أمر خطير جداً وهي التهمة بالخيانة، مع أن روايته لا  تسندها المصادر الأخرى بل تكذبها وتفندها !

27
احد القطارات العسكرية منقلب بعد استهدافه ويظهر في الصورة بعض الهجانة من مقاتلي الثورة

صمود عودة والعشائر الأردنية في وجه المحاولات العثمانية لاستعادة السيطرة

استبسل عودة أبو تايه ومن معه من قوات العشائر الأردنية في الدفاع عن المناطق المحررة ضد محاولات العثمانيين المتكررة لاستعادتها وأخذ العثمانيون وحلفاءهم النمساويين والألمان يعدون العدة للدفاع عن معان فحشدوا قواتهم فيها وحفروا الخنادق حولها وجاءوا إليها ببضع طائرات، فكان صمود عودة ورفاقه لمدة شهر ونصف أمام العثمانيين انجازاً عظيماً إلى أن اكتمل الأمير فيصل من إرسال قطاعات الجيش الشمالي ونقل مقر قيادته من الوجه للعقبة، تزامن مع هذا كله، استمرار المناوشات والعمليات ما بين قوات الاحتلال العثماني، ومقاتلي الثورة، الذين أنهكوا عدوهم من خلال عملياتهم ضد خطوط النقل المتمثلة بالسكك الحديدية، حيث نفذوا عدة مهمات لتفجير القطارات العسكرية وغنموا ما فيها من أسلحة ومؤن، وقتلوا وأسروا المزيد من مرتزقة الاحتلال العثماني.

خيال حربي . . مفجر الديناميت يتحول  لمختار ومشعوذ يعالج الحسد والعين والسحر

يزعم لورانس في حديثه عن أحد هذه العمليات التي وصفها برحلة الأيام الستة، أنه فصل في 12 حالة اعتداء بالأسلحة و4 حوادث سرقة جمال، وقضية زواج واحدة ، و14 من حوادث الأخذ بالثأر، وحادثتي إصابة بعين السوء ، وحادثة سحر واحدة ثم تتغير التفاصيل ويعود لورانس ليناقض نفسه في كتاب أعمدة الحكمة السبعة ، فيصبح الزواج طلاقاً ويضاف لما سبق المزيد من المنكّهات، حين يقول أنه كان مصاباً في مؤخرته بعد أن أطلق عليه ضابط تركي الرصاص ، فتخيل عزيزي القارئ هذا القائد الأخطبوطي المتعدد المهام !

52c5cc580c9de7535e826d2f09ad16c9 (1)
لورانس اثناء ممارسة طقوس الشعوذة

 

الكاذب يصل للأزرق ويفشل في وادي اليرموك

في إطار التوسع شمالاً ، توجهت أنظار الأمير فيصل للأزرق التي كانت خارج سيطرة العثمانيين في تلك الفترة من الحرب العالمية الأولى مثل بقية الأماكن الواقعة إلى الشرق من سكة القطار العسكري وازدادت أهميتها بعد انتقال عمليات الثورة إلى العقبة ، فأصبحت الأزرق نقطة اتصال عسكري وتجاري بين جبل الدروز وسوريا من جهة ومركز قيادة جيش الثورة من  جهة أخرى، فاختار الأمير فيصل ، الشريف علي بن الحسين الحارثي لمهمة إنشاء نقطة أمامية هناك لاستقبال مؤيدي الثورة السوريين والدروز الذين غادروا مناطقهم للانضمام لجيش الثورة.

13523972_1705628313022438_690989177_o
أحد جسور اليرموك بدايات القرن الماضي

تزامن مع ذلك استدعاء قائد الجيش البريطاني في مصر للورانس يطلب منه الهجوم على خط الدفاع التركي الممتد من غزة إلى بئر السبع بعد أن فشلت القوات البريطانية في هذه المهمة مرتين ، وهناك يدعي لورانس أن قدرة الثوّار على قطع السكة الحديدية بشكل كامل وتحرير كامل الأراضي الأردنية وتحرير درعا يأتي لضعف العثمانيين وتعاون جميع سكان هذه المناطق، لكنه لا يريد المجازفة بذلك لحسابات عسكرية بعيدة كل البعد عن الواقع الذي يؤكد ان العدو العثماني لم يكن خاوياً نخراً كما يدعي لورانس ، فلو صح ذلك فكيف تمكن هذا الجيش الضعيف من رد البريطانيين مرتين عن أبواب غزة بخسائر فادحة رغم تفوقهم بالعدد والعدة، لكن لورانس حاول تصوير ذلك لغاية في نفسه، وهي عدم قدرته على قيادة مسار قوات الثورة وتوجيهها كما طلب منه اللنبي لأنه لم يكن يوماً قائداً او صاحب قرار في جيش الثورة بل مجرد نقطة اتصال ما بين القيادات ومفجّر للديناميت، ومن هذا المنطلق طلب منه اللنبي ان يحاول قطع خط السكة العسكرية في مكان حساس لقطع الإمدادات عن العثمانيين في غزة، وعاد لورانس للعقبة بعد أن وعد بتدمير أحد الجسور في وادي اليرموك وهو خط المواصلات لإمداد القوات العثمانية ، وفشلت تلك المهمة رغم مساعدة عدد من فرسان ومقاتلي العشائر الأردنية (السرحان وبني صخر) ومعهم الشريف علي بن الحسين الحارثي للوصول بلورانس لتلك المنطقة بعد أن انطلقوا من موقعهم في الأزرق.

جسر بنات يعقوب
أحد جسور وادي اليرموك (يعرف بجسر بنات يعقوب) وتوضح الصورة أهميته الإستراتيجية العسكرية ،  تصوير : سقراط قاحوش – الدائرة باللون الاخضر أراضي اردنية ، والأزرق فلسطين ، والأحمر سوريا

 

 

مشاهد من نهر اليرموك – فيديو لــ : محمود التل

قطار منيفة العسكري . . . عدة محاولات فاشلة قبل التفجير وأفلام هوليودية في كتاب لورانس

بعد فشل مهمة تفجير جسر وادي اليرموك، شعر الجميع بالمرارة وأخذوا بالتفكير في التعويض بمهمة أخرى، فاقترح الشريف علي بن الحسين الحارثي أن يتم تفجير قطار فوافق الآخرون على تفجيره باستخدام أصابع الجيلاتين المتبقية معهم بعد أن نفذ الديناميت في محاولة نسف جسر اليرموك، رغم وجود صعوبة أخرى تمثلت بنفاذ الطعام المتبقي معهم.

قررت المجموعة تنفيذ العملية وان لا يعودوا إلى الأزرق إلا بانجاز فدفنوا ما معهم من المتفجرات في قوس العبارة القائمة عند الكيلو متر 172 في منيفة (بين المفرق والخربة السمراء) وكمنوا ينتظرون القطار المرتقب ، فمر قطار قبل الانتهاء من تركيب الأسلاك، ومر الآخر فضغط لورانس زر التفجير فلم ينفجر ، فانتظروا الثالث الذي كانت إحدى عرباته من النوع الفاخر مزينة بالأعلام ليتبين فيما بعد أن محمد جمال باشا قائد الفيلق الثامن كان مسافراً فيها، ويرافقه أربعمائة من جنود الاحتلال العثماني،حيث اشتبكت المجموعة معهم ثم قامت بالانسحاب.

وعن هذه المعركة يقول لورانس في مزاعمه بأنه بطل خارق؛ أنه كان قريباً على مسافة 50 ياردة من سكة القطار العسكري لحظة تفجير القطار وأنه تعرض للإصابة جراء ذلك واصفاً ذلك بطريقة هوليودية في كتابه حيث يسهب في التوصيف بأن ملابسه تمزقت وتعرض للإصابة وتطاير شعره، بينا نفى ذلك كل من الشيخ عضوب الزبن والشيخ تركي المفلح الزبن اللذان كانا من المشاركين في تلك العملية وأكدا أنهما كانا إلى جانبه عند تفجير اللغم وكانت المسافة لا تقل عن 200 متر.

_69304079_lawrence2
ضوء وظل . . النصف الحقيقي المخفي من كلام لورانس

الثوار ينقذون لورانس من الموت وناكر المعروف يسيء لمنقذيه !

المثبت فعلا هو أن لورانس تعرض للإصابة لكن في تبادل لإطلاق النيران ، وأنه ومع الانسحاب وجد نفسه مرمياً في ارض المعركة ما بين الطرفين وسط تفاجئ الثوار بعدد الجنود الكبير الذي كان يحتويه القطار بعد توقفه وانقلاب بعض عرباته، ومما تجدر ملاحظته هنا ان تسعة من أبناء العشائر الأردنية اللذين افترا عليهم لو رنس قد قتلوا في محاولتهم لإنقاذ لورانس نفسه، وأصيب بعضهم بجراح خطيرة وكاد الشريف علي بن الحسين أن يلقى حتفه أيضاً ، وهذا دليل واضح أنهم أبرياء من التهم التي كالها لهم المغرضون، وأنهم كانوا يحاربون من أجل أهداف سامية وتمسك بالمبادئ والقيم، ولم يقاتلوا من أجل النقود والأمتعة، فلو كانوا يحاربون من أجل ذلك لما واجهوا الموت وخسروا تسعة من رجالهم في محاولة إنقاذ أحد أفرادهم وهو لورانس.

حقاً أن لورانس مدين لفرسان العشائر الأردنية بحياته في هذه المعركة وفي كل خطوة خطاها معهم ، وأن بقاءه حياً رغم كل معاركه وأسفاره معهم لدليل عظيم على وفائهم وطيب عنصرهم وسمو أهدافهم ورفعة نفوسهم وشجاعتهم، وهل أعظم من أن يبذل المحارب نفسه في سبيل إنقاذ رفيقه في السلاح ؟ مهما كان دور هذا الرفيق ثانوياً فلا يضر فرسان عشيرة السرحان عملهم الذي عيرهم به لورانس، بعد أن افتدوه بأنفسهم ولم يتركوه وحيداً في تلك الساعة العصيبة.

المراجع :

  1. لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى، دار ورد للنشر و التوزيع ، الطبعة الثالثة

كذبة لورنس – الجزء الخامس

كذبة لورانس

تمهيد

مع اتساع رقعة أحداث الثورة العربية الكبرى بما يتوافق مع حجم الطموح والآمال العربية التي رأت في هذه  الحركة فرصة للخلاص من الويلات التي عانت منها المنطقة لقرون طويلة تحت الاحتلال العثماني، فبرزت الحاجة لضرورة فتح العقبة وتطهيرها لما لها من مركز استراتيجي بالغ الأهمية في سير الأحداث حيث كانت تعتبر مفتاح التوسع شمالا لتطهير بقية المناطق، والى جانب ما تقدم، كانت العقبة من أهم المواقع المطلة على البحر الأحمر والتي استعملها الترك والألمان والنمساويين لزراعة الألغام في مياهها وبرزت المخاوف لدى الحلفاء من استعمالها من قبل الألمان كقاعدة للغواصات الحربية في إطار التنافس على المواقع الإستراتيجية في خضم اشتعال الحرب العالمية الأولى بغية التحكم بموازين القوى، ونذكر هنا محاولة الأسطول البريطاني الحد من الدور التركي في العقبة، حيث ضربت مدافعه القوات التركية مرتين، وفي المرة الثانية بتاريخ 20 نيسان 1917 تكبدت الحامية العثمانية الموجودة في العقبة خسائر جمة وذلك نتيجة الاشتباك مع مفرزة بريطانية نزلت للساحل، مما دفع أفراد الحامية للاحتماء بالتلال المطلة على العقبة وإنشاء استحكاماتهم فيها ، مما لم يتح المجال للبريطانيين بالبقاء هناك طويلاً او التقدم نحو التلال الوعرة.

إلا أن الكثير من المصادر تؤكد عدم رغبة قوات الحلفاء في ذلك الوقت بان يكون تحرير العقبة على أيدي عربية أو رغبتهم الحقيقية بإنهاء الوجود العثماني في مناطق جنوب الأردن، لان ذلك سيبعثر مخططاتهم ، وخصوصا فيما يتعلق باتفاقية سايكس بيكو التي لم تكن قد كشفت بعد ، ومن ذلك نستنتج أن المهمة المطلوبة التي كان يريدها الحلفاء لقوات الثورة هي فقط إثارة الشغب والعمليات المحدودة والغير حاسمة للإبقاء على انشغال العثمانيين بمحاربتها وملاحقة القائمين عليها ، لضمان تواجدهم في المناطق وعدم انسحابهم وحشد قواتهم في المناطق الشمالية التي كان الحلفاء يخططون لاحتلالها ، وهو ما لم يكن أبداً سيلبي طموح وأهداف ثورة أحرار العرب و فرسان العشائر الأردنية و شيوخها كافة و الذين قاموا رفضا لظلم الاحتلال العثماني لا لاستبداله ، مما جعل إيمانهم بقضيتهم دافعاً لتنظيم أنفسهم ووضع الخطط العسكرية وتوجيه الضربات للعثمانيين بشكل فاق توقعات الحلفاء وأثار قلقهم.

التخطيط والإعداد لحملة تطهير العقبة ولورانس يرجو السماح له بمرافقة الحملة

وكان البحث في السيطرة على العقبة وتطهيرها من أولويات الأمير فيصل  لدفع الثورة شمالاً وهو ما يؤكده نسيب البكري الذي عاصر تلك الإحداث وكان من أول العاملين على أعداد الثورة ومن المقربين للأمير فيصل ، حيث يذكر البكري ان الأمير فيصل كان يتحين الفرصة المناسبة لرفع الثورة في مناطق الأردن وسوريا وظل على اتصال مع عودة أبو تايه و نوري الشعلان وشيوخ العشائر الأردنية في  مدن جنوب الأردن وزعماء المناطق الشمالية من مدنيين وعسكريين، لذلك كان قدوم عودة أبو تايه الفارس المشهور بجرأته وزعامته العنصر الفعّال الذي ينتظره فيصل، حيث رحب عودة  ترحيباً بالغاً بفكرة رفع علم الثورة في معان والعقبة، وبناء على ذلك تم انتداب الشريف ناصر لقيادة هذه المهمة كما تم انتداب نسيب البكري رسولاً لزعماء جبل الدروز لتهيئة أفكارهم وإقناعهم بقضية الثورة، وهكذا جرى بحث الشروع في الحملة للتوسع شمالاً والقيام بها دون أن تبدو ضرورة مرافقة لورانس لها، ولكن لورانس مدفوعاً بحب المغامرة وربما ما هو أكثر من ذلك ، رجا الأمير فيصل كثيرا ان يأذن له بمرافقة الحملة قائلاً أنه يستطيع المساهمة في زرع الألغام وتفجيرها ، فتمت الموافقة على ذهابه بهذا المفهوم لا أكثر.

الوصول لجنوب الأردن ، تسجيل وتسليح المتطوعين والتخطيط للعمليات

انطلق الشريف ناصر يرافقه عودة أبو تايه ونسيب البكري والقائد زكي الدروبي و35 متطوعاً من عشيرة العقيلات ، ومعهم لورانس، وأخذ الشريف معه عدداً من البنادق وكمية من العتاد وأصابع الديناميت ، واتجهت الحملة الصغيرة شمالاً وسط الصحراء الموحشة القاحلة ، ونفذ رجالها عددا من المهمات التي تمثلت بنسف قضبان السكة الحديدة وقطعوا خطوط الهاتف، قبل وصولهم لمنطقة العيساوية في ضيافة عشائر الحويطات ومنها بدأت مرحلة الحشد والتجهيز وتسجيل المتطوعين والفرسان وتسليحهم ونذكر منهم أيضا فرسان الرولة الأشاوس، حيث أخذ البدو يتوافدون لإعلان انضمامهم للثورة.

وتمكن الشريف ناصر وعودة أبو تايه من تجنيد أكثر من 500 متطوع وانطلقوا بهم لمنطقة باير، ولما كان له من الحنكة والدهاء ، قرر عودة أن يخدع الترك حول اتجاه الحركة المقبل ، فأرسل ابن أخيه زعل على رأس مئة من الفرسان شمالاً ورافقهم لورانس لوضع المتفجرات بصفته متخصصا بتركيب المتفجرات في المواقع التي يحددها له قادة الثورة ، فنفذوا عددا من عمليات نسف للعبارات ونزع للقضبان الحديدية.

329JPG
الشريف ناصر و الشيخ عودة أبو تايه في مضارب الحويطات  أثناء حشد المتطوعين من العشائر الأردنية

بداية معارك تحرير العقبة 

انطلقت الحملة من باير باتجاه الجفر وفي أثناء الليل بلغتهم أنباء وصول كتيبة تركية إلى موقع أبو اللسن بقيادة الأميرالاي نيازي بك ، فانطلقوا طوال الليل ووزعوا أنفسهم على التلال المحيطة بالموقع وانضمت لهم هناك بعض عشائر الحويطات ، فأحاطوا بالموقع من جميع الجهات وبدأ العرب بإطلاق النار وقام بعض الخيالة بقطع خطوط الهاتف الموصلة الى معان لعزل الكتيبة عن قيادتها.

واستمر تبادل إطلاق النار طيلة صباح يوم 2 تموز ، واستعمل الأتراك مدفعاً جبلياً كان معهم ولكن قذائفه كانت تقع على الصخور وراء ظهر العرب / والواقع أن الترك أساءوا اختيار موقعهم عند عين الماء في واد منخفض  تحيط به التلال، وعند العصر شن عودة هجوما من ناحيتين على مراكز الترك يرافقه خمسون من الخيالة من جانب ويقابلهم أربعمائة من الهجانة من الجانب المقابل ، وارتبكت فوف الترك أمام هذه الهجمة الخاطفة وحاولوا الفرار دون جدوى  من ذلك وانتهت المعركة بمقتل 300 من الترك وسقوط 160 أسيرا في أيدي العرب من بينهم قائد الكتيبة نيازي، بينما استشهد اثنان من أبطالنا المقاتلين العرب الأشاوس، الذين ضحوا بدمائهم من اجل حرية أمتهم.

233JPG
عربة يقودها مقاتلو الثورة محملة بمدفع و أسلحة في طريقها لأبو اللسن

لورانس في ام اللسن ، دور بطولي ويتحارب مع ناقته !

عندما قرر لورانس أن يمثل الدور البطولي خلال معركة أم اللسن؟ ماذا حدث ؟

 لقد اعترف في كتابه أنه ساق ناقته نحو القتال وأخذ يطلق النار من مسدسه فأصابت إحدى طلقاته ناقته، وكانت هذه الإصابة الوحيدة التي حققها خلال المعركة، فخرت على الأرض وسقط هو مغمى عليه ولم يصحُ إلا بعد انتهاء المعركة لكتابة وتأليف الأحلام والأكاذيب التي شاهدها أثناء نومه، ثم تسليمها لقيادته في تقارير مليئة بالأكاذيب، بينما لم يُصب الفارس الشيخ عودة أبو تايه بأذى رغم أن فرسه قتلت تحته بإجماع المراجع و الروايات الشفوية و إحداها رواية لورنس نفسه.

 

قوات الثورة والعشائر تحرر العقبة

313JPG
مجموعة من فرسان ومقاتلي الثورة تشن هجوما على حامية تركية في إحدى تلال العقبة

واصلت الحملة تقدمها وأرسل العرب عدة رسائل لشيوخ الحويطات في المناطق القريبة من الساحل طلبا لمساندتهم، وكذلك رسائل من نوع لقادة الحاميات التركية في القويرة وكثارة وخضرا وهي المراكز التركية الثلاث المشرفة على العقبة طالبين منهم الاستسلام ، فانضمت العشائر ، واستسلمت حامية القويرة بعد محاصرتها ، وتلتها حامية كثارة التي رفضت في البداية قبل أن ترغم على الاستسلام بعد انهيار مقاومتها ، فسارت الحملة في وادي اليتم ليكتشف العرب أن الأتراك اخلوا جميع مخافره وتجمعوا في موقع خضرا وهو موقع منيع محصن يتحكم في ثغر العقبة ويدافع عنه أكثر من 300 جندي وضابط ، ولما وصل العرب للموقع كانت أعدادهم قد تضاعفت وهبت جميع عشائر المنطقة لمساعدتهم خصوصا عشيرة الدمانية استجابة للرسائل التي وصلتهم ، فعرضوا على الترك المتحصنين في الموقع الاستسلام فرفضوه  بداية ثم أعادوا تقييم موقفهم ، نتيجة عدم كفاية المؤن ، وانصاعوا لمطالب القوات العربية ورفعوا رايات الاستسلام.

298JPG
قوات الثورة في مسيرة عسكرية بقيادة حملة الرايات في العقبة بعد تطهيرها من الاحتلال العثماني

وبلغ مجموع أسرى الاحتلال العثماني خلال هذه المعارك   ما مجموعه 780 أسيراً ، 745 جندياً و 35 ضابط احدهم برتبة أميرالاي ، ومن بين هؤلاء ضباط وجنود وخبراء ألمان ونمساويين كانوا يقدمون المساعدة للاحتلال العثماني ، وجاء في رسالة الشريف ناصر بتاريخ 6 تموز 1917 ، أن أبناء العرب من الأسرى يودون الانضمام لقوات الثورة.

 وأقام الشريف ناصر في العقبة بعد تحريرها بينما عاد عودة إلى القويرة  ليتخذ منها ومن أبو اللسن والمريغة وعين وهيدة ودلاغة مراكزاً له، للوقوف في وجه الأتراك إذا حاولوا استعادة تلك المواقع ،بينما مضى لورانس في نفس اليوم (6 تموز) مع ثمانية من الحويطات للاتصال بالجيش البريطاني المرابط عند قناة السويس، وتسليم تقاريره واستلام مخصصاته.

وحالما دخل الشريف ناصر و عودة أبو تايه إلى العقبة مكللين بالانتصار، بادر الشريف ناصر بالكتابة إلى الأمير فيصل وأرسل رسالته مع عدد من هجانة قوات العشائر الأردنية إلى معسكر الأمير فيصل قرب الحدود الأردنية الحجازية، ومن هناك أرسل الأمير فيصل بن الحسين رسالة إلى أبيه الشريف الحسين بن علي قال فيها ” إن جيوشكم المنصورة استولت على العقبة و أخذت جميع حاميات درب العقبة و معان  ، وتكريما لقادة الثورة على هذا الانتصار أهدى الحسين سيفين إلى كل من الشريف ناصر بن علي والشيخ عودة أبو تايه  نظير بسالتهم وإخلاصهم وشجاعتهم في العمليات العسكرية لتطهير العقبة من الاحتلال التركي.

ملخص خسائر المسار الاول

لورانس يسرق انتصار وفتح العقبة وينسبه لنفسه

بعد وصول لورانس لمركز القيادة في الجيش البريطاني ، نكتشف هول التزييف والفرق بين الحقيقة والخيال في تقريره السري الذي قدمه الى الجنرال كلايتون بتاريخ 10 تموز 1917 والذي يصفه الكاتب المؤرخ سليمان الموسى في كتابه لورانس والعرب بأنه “يتضمن مجموعة من الاختلافات لا يعتقد أن تقريراً رسمياً آخر في تاريخ الحروب يجاريه فيها” ، حيث يستطيع أي قارئ ان يكتشف جانبا كبيراً من هذه الأكاذيب والتناقض ، إذا ما قارن بين ما كتبه لورانس في التقرير وبين ما كتبه هو نفسه في (النشرة العربية) وفي كتابه (أعمدة الحكمة السبعة).

 

رحلة افتراضية وبطولات وهمية وتناقضات ، لورانس يكذّب نفسه

يتحدث لورانس في تقريره عن رحلة افتراضية يزعم انه قام بها لتدمر ودمشق ثم الأزرق  ثم العودة للنبك موقع تجمع الشريف ناصر والحملة، ثم انطلاقه إلى زيزياء ووادي اليرموك وأم قيس ثم المفرق والزرقاء وما قام به من بطولات واجتماعات ومباحثات مع شيوخ عشائر ضلت موالية للترك حتى الأيام الأخيرة من الثورة نتيجة انخداعها بشعارات التجارة بالدين أو إجبارها من قبل العثمانيين واستخدام أبناءها كرهائن ودروع بشرية، حيث يدعي في تقريره التحالف مع هذه العشائر والتخطيط للمعارك وإدارتها.

ومن الجدير بالذكر هنا أن لورانس يورد في تقريره أن رحلته (المزعومة) إلى تدمر ودمشق حدثت قبل ذهاب رسول الأمير فيصل نسيب البكري إلى جبل الدروز لمخاطبة زعمائها بشأن انضمامهم للثورة وانه أعطاه “التعليمات” يوم 18 حزيران ، بينما نراه يناقض ويكذب نفسه في كتابه أعمدة الحكمة السبعة ويقول أن تلك الرحلة حدثت بعد ذهاب نسيب ولا يذكر تفاصيل عنها، وهو الادعاء الذي ينفيه نسيب البكري بشدة حيث أكد في رسائله للكاتب والمؤرخ الأردني سليمان الموسى أن لورانس بقي معهم في وادي السرحان حتى اليوم الذي تحرك فيه البكري لجبل الدروز وتحرك الشريف ناصر وعودة إلى منطقة باير، وأكد ذلك كل من عيد بن قاسم ومحمد أبو تايه وآخرون.

 لورانس جسور

 وفي ذات التقرير يدعي لورانس انه بلغ ومن معه من المقاتلين البدو أم قيس وخط السكة في وادي اليرموك بينما يقول في كتابه أعمدة الحكمة انه بلغ منطقة منيفه فقط (عند الكيلومتر 173) على مشارف المفرق، وهو الادعاء الذي يفنده أيضاً واقع الأمور ويدخله في حكم الاستحالة نظراً لطبيعة منطقة أم قيس وما حولها من نواحي اربد المأهولة بالسكان الذين كانت علاقتهم متوترة مع البدو في ذلك الوقت نتيجة ما زرعه العثمانيين من فتن بين البدو والحضر.

 

نسيب البكري يفضح أكاذيب لورانس

ويقول نسيب البكري المجاهد السوري الذي عايش أحداث الثورة ومراحلها كاملة وأكمل بعد  ذلك مقاومته للاحتلال الفرنسي لسوريا وقد كان كما ذكرنا من الموجودين مع الحملة منذ انطلاقتها ، حيث انتدبه الأمير فيصل رسولاً له لجبل الدروز : “أما زعم لورانس بأنه ذهب متخفياً إلى دمشق وبعلبك وتدمر فأستغربه جداً لأنه يبعد كل البعد عن الحقيقة ، وأنا واثق من أن لورانس لم يفارقنا يوماً واحداً ولم ينفصل أحدنا عن الآخر ، إلا بعد أن ذهب هو مع عودة وناصر نحو العقبة وذهبت أنا لجبل الدروز، كما أن مزاعم لورانس الغريبة عن قيادته للثورة، تدل على جهل تام بالحركات العربية الرامية إلى الاستقلال منذ سنة 1908 ، وعلى تجاهل للضحايا والشهداء  الذين قدمت منهم الأمة العربية المئات والآلاف “.

لورانس عقدة الطول

محاولات لورانس إيقاع الفتنة بين صفوف الثوار

يضيف نسيب البكري : “ولا بد لي من القول أن لورانس كان يميل إلى تفريق الصفوف، وقد حاول تحريض عودة وناصر على أن يأخذا مني السبعة آلاف جنيه التي خصصها الأمير فيصل للإنفاق والتسليح في سوريا وجبل الدروز، لكنهما كانا يملكان من الفطنة ما يكفي لاكتشاف اللعبة وقلبوا السحر على الساحر، حيث اعلمني الشريف ناصر ان لورانس  قام بتحريضهما لأنه لم يكن ارغب ان اذهب إلى جبل الدروز، وقال لي الشريف ناصر انه حسماً للخلاف وضمانا من أي ألاعيب قد يقترفها لورنس سوف يقول بأنني سلمته المبلغ وهكذا كان، وأظن أن لورانس بقي إلى حين وفاته يعتقد أنني سلمت المال بينما لم أسلم منه ليرة واحدة”. ، وهو الأمر الذي يعترف به لورانس في كتابه، حيث يقول بأنه لجأ إلى الدس والتفريق بين نسيب البكري من جهة وبين الشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه من جهة أخرى، كما زعم أن نسيب عرض عليه القيام بحركة في سوريا تحت زعامته -نسيب- على أن تكون منفصلة عن الثورة العربية الكبرى التي يقودها الشريف الحسين، وأنه وعد نسيب بمساعدته إذا نجح في ذلك، ولا حاجة للقول أن نسيب البكري نفى هذا الزعم لأنه وإخوانه كانوا من أشد أنصار الشريف حسين ابان الثورة، وما قبلها حتى، وذلك حين استضاف الشريف فيصل بن الحسين في داره بدمشق عند مروره بها قادما من اسطنبول سنة 1916 وفي داره أقسم الشريف يمين الإخلاص لجمعية الفتاة ، ومن بيت البكري انطلقت صرخة الشريف فيصل الشهيرة : “طاب الموت يا عرب”، ومنه أيضاً أبرق برقية جاء فيها “أرسلوا الفرس الشقراء”، وهذا كان مصطلحاً سرياً يعني بدء إعلان الثورة العربية الكبرى وإطلاق الرصاصة الأولى، وذلك بعد إعدام جمال باشا للقافلة الثانية من أحرار العرب يوم 6 أيار 1916م، رغم توسط الأمير فيصل لدى جمال باشا، مقرونة بوساطة الشريف الحسين نفسه، فقد أقدمت السلطات التركية على إعدام مجموعتين من الأحرار العرب في كل من ساحة المرجة في دمشق وساحة الشهداء في بيروت.

لورنس يتهم بني صخر هذه المرة !

وفي مثال آخر على محاولة لورانس ومساعيه الحثيثة لإيقاع الفتنه وخلط الأوراق ومناقضة نفسه، نجد لورانس يتحدث في كتابه أعمدة الحكمة (ص532)، عن زيارته في طريق عودته لمنطقة زيزياء ولمضارب بني صخر وقضاء ليلة في ضيافة الشيخ فواز الفايز، بينما يذكر في تقريره أن زيارة زيزياء كانت في طريق الذهاب وليس العودة وانه مر بها وانطلق مباشرة إلى أم قيس،  ولكن هنا يضيف لورانس كذبة وافتراء من نوع آخر لشق الصفوف بين الثوار ، حيث يتهم فواز الفايز وبعض من رفاقه بمحاولتهم تسليمه للترك، وهو الأمر الذي يستحيل تصديقه، وعن هذا يقول الشيخ مثقال الفايز شيخ مشايخ بني صخر وشقيق فواز : “أنه لا يشك في اختلاق لورنس للقصة لأن تقاليد البدو لا تبيح لصاحب البيت أن يسلم ضيفه أبدا و مهما كانت الظروف، كما أن الشيخ فواز كان عضواً في جمعية العربية الفتاة المعروفة بموقفها الرافض للاحتلال العثماني”.

لورانس يقترب . . أنصاف حقائق ونصف اعتراف

والحقيقة أن لورانس اقترب ذات يوم إلى الاعتراف بأن قصة رحلته هذه كانت محض اختلاق، ونستند في ذلك إلى ملاحظات كتبها إلى مؤرخ سيرة حياته روبرت جريفز بتاريخ 22 تموز 1927 ، فقد ذكر أن ما تضمنه تقريره لقيادته كان جزءاً من الحقيقة ، وانه لا يريد لأحد أن يتمكن من  التحقق من صحة القصة، وطلب منه كتابة تفاصيل يعترف هو بعدم واقعيتها وتجنب ذكر تفاصيل أخرى حقيقية ، كما طلب من جريفز أن يذكر أن لورنس زوده بأقوال متناقضة، أو مضللة “وهذه أفضل طريقة لإخفاء ما حدث، إذ صح أن شيئاً ما قد حدث فعلاً”.

مشاهد محذوفة من كتاب لورانس ، ووثائق لم يستطع تعديلها

يتضح للباحث بكل سهولة هنا أن لورانس في كتابه “أعمدة الحكمة السبع” أسقط زعمه بلوغ أم قيس ونهر اليرموك وزيزياء ، كما أسقط الزعم بقيادته لمعارك تحرير الشوبك ووادي موسى والطفيلة التي لم تحدث، وحذفت من الكتاب لأن كل هذه المزاعم لم تكن صحيحة، وكان هو يعرف ذلك، فاضطر إلى إسقاطها خشية الفضيحة واكتشاف أكاذيبه، ولكن التقرير الذي قدمه لقيادته لم يكن لديه الصلاحية على حذفه أو تعديله فبقي على حاله ولم يستطع ان يسقط منه شيئاً، وهو ما ساعدنا في الكشف عن هذه الأكاذيب.

كما نلاحظ من كتابات لورانس المنشورة في النشرة العربية، والتي كتبها مباشرة بعد فتح العقبة، أنه لم يزعم أبداً أنه كان قائداً للحملة التي حررت العقبة أو انه اقترح القيام بها أصلاً، وقد كرر أكثر من مرة قوله أن الشريف ناصر كان يقود الحملة وأن عودة أبو تايه كان هو القائد الفعلي للمقاتلين، وتجدر الإشارة هنا أن الجريدة الرسمية لشرقي الأردن أبّنت عودة أبو تايه عند وفاته سنة 1924 ، فوصفته بأنه فاتح العقبة.

ندرة الوثائق وغياب الرواية العربية أتاح المجال لكتاب الخيال

يقول الكاتب سليمان الموسى في كتابه لورانس والعرب : “لا يستطيع أي عربي أن يصدق أن ضابطاً أجنبياً يستطيع أن يتولى حملة كهذه الحملة ، ولكن العجيب أن لورانس ادعى هذا الفضل لنفسه فيما بعد، ووجد كتاباً عديدين من أبناء بلده يتقبلون هذا الادعاء بروح الثقة الكاملة ويروّجون له ويجرّون معهم قراءهم الكثيرين والرأي العام في بلادهم، ومن حسن حظ لورانس أن القادة العرب في جيش الثورة ، لم يكتبوا مذكرات مفصلة عن أحداث الثورة وعن دور الضباط الأجانب فيها، وقد يكون لهم العذر، وان كنت لا أجد عذراً مقبولاً، فالثورة العربية كانت أعظم حدث في تاريخ العرب منذ بضعة قرون، وكان لا بد أن تتوافر المعلومات عنها للأجيال اللاحقة، ولا بد أن وثائق مهمة ذات قيمة تاريخية كبيرة ضاعت نتيجة لانتهاء الدولة الهاشمية في الحجاز وإخلاء مكة على عجل عام 1924م.

 

ضياع أوراق الثورة في الحجاز مع نهاية الدولة الهاشمية هناك

يذكر حافظ وهبة في مقدمة كتابه (جزيرة العرب في القرن العشرين) أن أكداساً من الورق لفتت نظره مهملة في فناء دار الإمارة بمكة، وأنه عندما بحث فيها وجد السجلات الإدارية للحكومة الهاشمية، وكثيراً من الأوراق السياسية الهامة التي لها علاقة بالثورة العربية والحركة العربية في أطوارها المختلفة، ولو بقيت هذه الأوراق أو وجدت من يحتفظ بها ويرتبها ، لأستطاع المؤرخون أن يجدوا فيها مادة كافية لوزن الأمور وتقييمها ، ووضع الحقائق من الجانب العربي مقابل المعلومات المتوافرة في الجانب الآخر والرواية المقدمة من جانب واحد.

المراجع :

  1. لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى، دار ورد للنشر و التوزيع ، الطبعة الثالثة

كذبة لورنس – الجزء الرابع

lawrence
تمهيد

قدم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما  التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “ ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها ، و بالإعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية ( ، إضافة إلى عدد كبير من مؤلفات الكتاب و علماء النفس و المؤرخين من الغرب.

في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل التي تضع شخصية لورنس على محك التحليل النفسي من وجهة نظر المؤلفين و علماء النفس الغرب، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .

 

نظرة جديدة في لورنس[1]

ما تزال سيرة حياة الكولونيل لورنس – الذي اشتهر في بلاد الغرب باسم لورنس العرب –  تثير اهتمام الكتاب والباحثين وتجتذب أنظار القراء، وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن على ذيوع شهرته بُعيد الحرب العالمية الأولى فإن الكتب التي تبحث في مختلف جوانب حياته ما تزال تصدر تباعاً، وما يزال كل مؤلف في هذا الموضوع يعلن أنه عرض تلك الجوانب من نوايا جديدة وعلى ضوء وثائق جديدة، وأنه فسر الغامض منها تفسيراً أقرب ما يكون إلى الصواب.

ونعرض هنا تسليطا للضوء على الكتاب الذي أتى من تأليف المستعرب دزموند ستيوارت، الذي قضى سنين عديدة من حياته في بلاد العرب، وخاصة في مصر والعراق، والذي صدرت له نحو عشرة مؤلفات عن قضايا العرب والشرق الاوسط، وقد أفاد المؤلف في بحثه هذا من المصادر العربية ومن معرفته بالعرب وعاداتهم، ولكنها لم تكن الإفادة الكافية الشافية.

وقد يتساءل المرء عن الحافز وراء كل هذه الكتب عن لورنس، ما دام أن خطوط سيرة حياته أصبحت معروفة للجميع : خاصة بعد صدور كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة ) وبعد صدور الكتب الإنتقادية التي كشفت النقاب عن شطحات خياله في اختراع القصص والروايات عن نفسه و أهمها كتاب ريتشارد الدنجتون وكتاب الصحفيين نايتلي و سمبسون, ولكن على الرغم من كل التساؤلات، نرى أن الموضوع ما يزال يلهب مخيلات القراء وما يزال يمثل تحدياً مثيراً بالنسبة للمؤلفين، حتى وصل الأمر الى أن ورثة لورنس اختاروا الكاتب الشاب جريمي ولسون لوضع كتاب جديد عن حياة لورنس يعتمد على وثائق ومراسلات ظلت إلى يومنا هذا في طي الكتمان.

وإذا عدنا الى كتاب دزموند ستيوارت ألفينا أنه ينحو وسطاً بين مدح المادحين وقدح القادحين، فهو يتتبع حياته خطوة خطوة منذ أن ولدته أمه من زواح غير شرعي, الى دراسته فى اكسفورد إلى رحلته الأولى في بلاد الشرق، إلى عمله في حفريات كركميش، الى اشتراكه في الثورة العربية ودخوله في معترك الصراع السياسي بين العرب والانكليز ثم ما حدث بعدها عندما ألقى المنصب جانبا ودخل في قوة الطيران برتبة نفر عادي.

 والمنحنى الوسط الذي يسير عليه المؤلف هو انه يتتبع الاحداث محاولاً اكتشاف الحقائق من بين القصص والأساطير العديدة التي حيكت حوله، والتي نبع أكثرها من شطحات مخيلة لورنس.

لقد احرز لورنس شهرته الواسعة نتيجة اشتراكه في الحرب مع العرب, وفي هذا الصدد علينا أن نقدر لـ ستيوارت موضوعيته التي أبت ان يسير مع الفكرة القائلة بأن لورنس هو الذي قاد العرب وهو الذي وضع الخطط لهم وهو الذي كان يحلم منذ نعومة اظفاره بتحريرهم من ربقة الأستعباد، وأنه هو الذي دخل دمشق فاتحا على رأسهم, انه لا ينكر عليه جهده الذي بذله في ميدان الحرب، ولا ينكر ذكاءه وشجاعته، ولكنه يضعه في في مكانه الطبيعي دون مبالغة أو انتقاص, ومن جملة استنتاجات هذا المؤلف ان لورنس لم يكن يهتم بحرية العرب إلا في حدود ولائه الشخصي للزعماء الذين عمل معهم واعجب بهم.

ويرى ستيوارت ان النقطة الحاسمة في حياة لورنس تنطلق مما حدث له في تشرين الثاني عام 1917 عندما ذهب مع الشريف علي الحارثي من العقبة إلى نهر اليرموك لنسف أحد الجسور المهمة في خطوط مواصلات الاحتلال التركي العثماني كضابط استخبارات بريطاني مختص بعمليات التفجير, وأخفق لورنس في تنفيذ المهمة، ولكن ذلك الاخفاق ساق لورنس الى السقوط في زلة اكتشف من خلالها حقيقة ميوله الجسدية، ومن رأي المؤلف أن السقطة التي وقع فيه لم تحدث في درعا ولم تحدث قهرا كما قال في كتابه وفي رسائله بل حدثت في واحة الأزرق أثناء الأيام العشرة التي قضاها هناك مع الشريف علي، ودفعه عذاب نفسه و شعوره بالخزي الى أن يطلب من الشريف أن يجلده بالسياط.

 وينطلق دزموند ستيوارت من هذا الى حل لغز آخر حير الباحثين من قبله، الا وهو اللغز المتعلق بالأسم الذي اهدى لورنس إليه كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة )، فقد اكتفى لورنس بوضع حرفي ( S.A. ) وترك للقراء مهمة تفسير اللغز الكامن وراءهما، بل أنه ساعد على تعميق اللغز باجوبته المتناقضة لمن سألوه ، وذهب أخرون الى القول انهما يرمزان الى الجاسوسة اليهودية سارة ارونسون وذهب آخرون الى القول انهما يرمزان الى سوريا العربية، أو الى الشيخ احمد صديق لورنس في حفريات كركميش, ولكن دزموند ستيوارت يرى أن الحرفيين يرمزان الى الشريف علي صديق لورنس وموضع اعجابه واحترامه.

ولايعطي ستيوارت رأياً جديداً فيما يتعلق بانصراف لورنس عن سلك المناصب الرفيعة في الخدمة الحكومة, وتبديله اسمه ودخوله في الجيش برتبة نفر عادي, فهو يرى أن ذلك حدث بفعل سيطرة الرغبة في تعذيب الذات على نفسه، وفي هذا النطاق، نراه يهمل قول بعض الكتاب أنه فعل ذلك تكفيراً منه على الخداع الذي مارسه مع العرب.

ويستبعد المؤلف أن يكون لورنس قام بتلك المغامرة الفريدة، التي زعم لورنس كاذبا انه قطع خلالها مسافات شاسعة ابتداء من وادي السرحان الى تدمر وبعلبك ودمشق وجبل الدروز، كما أنه لا يعطي الفضل للورنس في قضية تحرير العقبة كما أدعى لورنس نفسه و سرقته المتكررة لانجازات الأمير زيد بن الحسين و الشيخ عودة أبو تايه تحديدا, وكذلك عند دخول العرب الى دمشق.

ومن مطالعة هذا الكتاب يتضح لنا أكثر واكثر أن لورنس كان يتميز بتلك الموهبة النادرة التي لا يتصف بها إلا القلائل من الناس، ألا وهي قدرته على اقناع الناس بالأفكار التي يحملها، وعلى اقناعهم بأنه يكن لهم الاحترام والتقدير والولاء حتى و هو يضمر عكس ذلك.

لورنس على محك التحليل النفسي[2]

 من الكتب العديدة التي وضعت عن لورنس والتي ترجمت وانتشرت في معظم أرجاء العالم، ومن بينها كتاب نشر في امريكا وبريطانيا في آن واحد، وهو من تأليف الدكتور جون ماك أستاذ علم النفس في احدى الجامعات الامريكية, وقد جاء نشر هذا الكتاب في الذكرى الأربعين لمصرع لورنس في حادث دراجة نارية، ونتيجة لعشر سنوات من البحث والدراسة قضاها المؤلف وهو يتابع موضوعه ويجمع مصادره، وينقب عن الجوانب الغامضة في حياة هذا الرجل الذي يعتبره المؤلف واحداً من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في القرن العشرين.

 يرى جون ماك أن الناس عموماً يعجبون بأصحاب المواهب الفائقة الذين حققوا لأنفسهم ما نحلم كلنا بتحقيقه، وكتابه هذا دراسة من الناحيتين التاريخية والنفسية لشخصية مرموقة أثرت قراراتها واعمالها في حياة ملايين الناس في حينها، واذا كان الجانب التاريخي قد أصبح معروفاً، فإن قصد المؤلف من البحث في الجانب النفسي كما يقول – هو أن يظهر كيف يستطيع الشخص المؤمن بهدفه أن يؤثر في مجالات الأحداث التاريخية، ثم كيف تعمل تلك الأحداث بدورها على التأثير فيه.

 ولا يكتم ماك انه تأثر تأثراً عميقا بما عاناه لورنس، وانه تعرف تدريجياً على اسباب تلك المعاناة، ثم قادته دراسته للصراع الداخلي في نفس لورنس، الى تقدير انجازاته حق التقدير، بل ان المؤلف يصرح علناً ” انه لم يكن حيادياً في تناول موضوعه “، لأنه يعتبر لورنس حسب رأيه رجلاً عظيماً وشخصية تاريخية مهمة، وأنه أثّر تأثيراً قوياً في مجرى الأحداث العسكرية والسياسية في بلاد العرب.

من هذا المنطلق يضع خبرته كعالم نفسي على محك تفسير التناقضات العديدة في اقوال لورنس, فهو يخفي احيانا جزءاً من حادث معين وأحيانا أخرى يعطي صورتين متباعدتين لقضية واحدة، احيان يفتح قلبه تماماً ثم يعود إلى التراجع, ولكل ذلك اسباب ومبررات عند المؤلف الذي يبدأ موضوعه من منطلق التأثير الذي تركه في نفسه كونه وُلد من زواج غير شرعي، ثم ما كان لأبيه وأمه من تأثير عليه, وبذلك نراه على هذا الأساس وجد لكل علة سبباً ولكل قضية تعليلا.

يتتبع المؤلف سيرة لورنس مثل من سبقه من المؤلفين، ولكنه يضع معلوماته على محك النظريات النفسية, وهذه هي الميزة الرئيسية التي ينفرد بها عمن سبقه من مؤلفي الكتب في حياة لورنس, وهو يعالج موضوع شعور لورنس بالخدعة التي تعرض لها على أيدي والديه، وهي خدعة خلقت عنده فيما بعد شعوراً بأنه خدع العرب بدوره، وهو يرى أن مقدرة لورنس على ” اختراع ” الحوادث انما تنبع من شعوره بأنه ابن غير شرعي.

وتمر سنوات الطفولة والدراسة، كما تمر بعدها سنوات الرحلة إلى سورية والعمل في آثار كركميش, ثم تبدأ الحرب العالمية الأولى فيقضي لورنس السنتين الأولى والثانية منها في القاهرة ( التي كانت يومذاك مركز القيادة البريطانية في مصر ), ثم تبدأ الثورة العربية في حزيران 1916 ولا يلبث لورنس يلتحق بها، ويقضي أهم سنتين في حياته كما يقول المؤلف – في صفوفها, إذ لولا اشتراكه في تلك الثورة لما كان هناك ” لورنس العرب “، ولما كانت الأسطورة التي حيكت حوله.

 لقد وفرت الثورة – في رأي المؤلف – فرصة فريدة لإبراز مواهب لورنس المتعددة- ومنها نسج القصص و الحكايات – ولذيوع شهرته.

يتحدث المؤلف باسهاب عن المعارك التي اشترك فيها لورنس، وهو يتبع في ذلك خطى اكثر المؤلفين من الغرب الذين كتبوا عن لورنس واعربوا عن اعتقادهم بأنه هو الذي قاد تلك المعارك وخطط لها, وهو يرى أن لورنس كان يملك مقدرة عجيبة على التأثير في رؤسائه من امثال الجنرال اللنبي وونستون تشرشل، إذ كان يقنع اولئك الرؤساء بوجهة نظره فيعملون على تنفيذها.

وهنا نرى المؤلف يستشهد بقول لورنس أنه كان يتخذ مع العرب دور ” العراب “، وأن هدفه كان دائما ان يجعلهم يقفون على اقدامهم، وهو ينفي التهمة القائلة بأنه جعل نفسه في خدمة الدوائر الاستعمارية، ويقول أنه خدم العرب وخدم الانجليز سواء بسواء، وانه من خلال ذلك حاول ان يحل الصراعات الشخصية في داخل نفسه، حتى اصبح يعتقد بصورة لا شعورية أنه قائد العرب, ويرى المؤلف أن من بين مواهب لورنس ذاكرة متفوقة وذكاء حاد ومرونة وخيال عالٍ وشجاعة شخصية عظيمة ويذكر اعجاب لورنس بمزايا الشريف فيصل، ويذكر رأي المندوب السامي البريطاني ( ريجنالد ونجت ) من أنه يرجح ان الشريف فيصل بن الحسين قد استخدم لورنس لتحقيق اهدافه وليس العكس.

 وفي حديث الدكتور جون ماك عن تحمل لورنس ما يسميه ” مسوؤلية ضخمة ” في اثناء الثورة, وعن كيفية نشوء الأسطورة سيرى أن قيامه بدور الوسيط بين الشريف فيصل واللنبي يمثل ذروة المسؤولية, وهو يخالف القائلين بأن الصحافي الأمريكي لوسل توماس هو الذي خلق تلك الاسطورة, على أساس ان الاسطورة نمت وترعرعت من عناصر نفسية لورنس وشخصيته، تلك العناصر التي برزت في أعماله وفي كتاباته, ومن هنا فهو يرى ان ظهور اسم” لورنس العرب ” كان مسألة حتمية، ويستدل على ذلك باستمرار جاذبية الاسطورة طوال هذه السنين رغم كل الخيال الذي يعتريها.

ويحاول الدكتور جون ماك تفسير ذلك الجانب الغريب من حياة لورنس بعد أن اعتزل الحياة العامة، وترك الوظائف الكبيرة وبدل اسمه وانضم الى قوة الطيران برتبة ” نفر “،  ألا وهر اتصاله بشخص يدعى ( بروس ) وإقناعه بأن يجلده بالسياط فى فترات متباعدة على ظهره العاري, ومن رأيه أن ذلك يعود إلى أسباب عدة منها إحساسه العميق بالخطيئة التى ارتكبها والده ونتج عنه ولادته من زيجة غير شرعية، وأن شعوره بتلك الخطيئة حال بينه وبين الزواج, وان اختياره تعذيب نفسه بتلك الطريقة كان ينبع في كسر حدة الرغبات الجنسية في جسده والبحث عن تطهير نفسه.

ويرى الدكتور جون ماك في ذلك دليلا على الصراع الداخلي الذي كان يعاني منه والذي دفعه الى إيذاء جسده كما كان يفعل الأولياء والقديسين, ويرجح المؤلف في تفسيراته ان لورنس تأثر الى حد كبير بما حدث له في درعا على يد الضابط التركي، وأن ذكرى تلك الحادثة كانت مبعث عذاب دائم له، حتى انه كان يود لو يقضي على قدرته الجنسية, كما أنه يضيف الى كل ذلك شعور لورنس بالذنب ازاء العرب في اثناء الثورة, ومن الغريب ان المؤلف يرى ان الطريقة التي سلكها لورنس لإيهام ( بروس )  ودفعه الى جلده بالسياط – تدل على مقدرة لورنس الفائقة على خلق التصورات واختراع الحكايات، ولا ندري كيف لم يتبادر الى ذهن المؤلف الدكتور جون ماك ان حادثة درعا كانت من أولها الى يائها اختراعاً في اختراع ولم تحدث على أرض الواقع ، ما دام انه يرى فيه تلك المقدرة على تلفيق الحكايات.

 ومن الواضح أن الدكتور جون ماك بذل ما بذل من جهد لكى يفسر حياة لورنس على ضوء معطيات علم النفس، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وناقشها واعطلى تفسيراً لها، ولكنه بلا شك وقع فيما وقع فيه معظم الذين كتبوا عن لورنس؛ أكثرهم كال له المديح وأسرف في اعلاء شأنه وتمجيد مواهبه، وبعضهم تتبع سقطاته وهفواته وحاول الحط من قدره دون مبرر.

ولايشك أحد في أن الرجل كان كثير التناقضات، وأن هذه التناقضات وما أحاط بها من غموض، هي التي زادت من انتشار اسطورته, والمؤلف لا يرى ضيراً في تأكيد هذا على اساس أن تلك التناقضات لم تحل بين لورنس وبين تحقيق الإنجازات التي وضعها نصب عينيه.

المراجع

  • [1] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص388-391، مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995.
  • [2] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص384-387

مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995 .

كذبة لورنس – الجزء الثالث (التحليل النفسي لشخصية لورنس)

13140531_10154029248950211_1533711072_n

تمهيد

قدّم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما “التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “ ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها ، و بالإعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية ( ، إضافة إلى عدد كبير من مؤلفات الكتاب و علماء النفس و المؤرخين من الغرب.

في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل التي تضع شخصية لورنس على محك التحليل النفسي من وجهة نظر المؤلفين و علماء النفس الغرب، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .

آراء حول لورنس

يتضح لنا من مذكرات القائد العسكري صبحي العمري والذى شارك كقائد لإحدى مفارز المدفعية في جيش الثوره،  بعض الأقوال والشهادات حول لورنس الأسطورة الكاذبة التي ملأت الدنيا وأشغلت الناس إعلاماً خيالياً عندما تلقفه الكتاب والصحفيون و الموتورين حتى وصل أخيراً إلى أيدى الغرب المنتجين السينمائيين فقاموا بتصوير فيلم لورنس العرب حيث ظهر لورنس بطلاً أسطورياً يقود العرب كيفما يريد وإن شاء كل ذلك من خلال هذا السيناريو الغريب ، الذي شوه فيه المخرج وكاتب السيناريو كل ما يتعلق بأبطال الثورة فظهروا بحالة سيئة يرثى لها من التخلف والانحطاط في الهجوم على الغنائم من جهة وفي قلة معرفتهم لأدنى وسائل الحضارة من جهة أخرى، بينما الحقيقة مغايرة تماما و تكاد تكون صادمة لأؤلئك الموهومين بكذبة لورنس و أوهامه .

لورنس يكشف مهزلة الأوسمة

يقول لورنس في وصفه لتقريره عن معركة الطفيلة: ( أرسلت تقريراً للقيادة العامة -للجيش البريطاني – في فلسطين، لقد كُتب بوضاعة للتأثير على القادة الانجليز وكان مليئا بالتشابيه الطريفة والبساطات الهازئة، وجعلهم التقرير يحسبونني هاوياً متواضعاً يلحق خطى القادة العظماء لا بهلواناً يستدق النظر وراءهم، وكان التقرير الخاص بالمعركة محاكاه ساخرة، ولكن القيادة العامة للجيش البريطاني امتدحته ببراءة ولكي تتوج المزحه قلدتني وساماً على ما جاء فيه، ولو إستطاع كل واحد في الجيش البريطاني أن يكتب التقرير عن أعماله دون شهود لامتلأت صدور الكثيرين بالأوسمة ).

ماذا قال لورنس عن نفسه  ؟

يقول في مقالة نشرت له عن تصوره للثورة : ” من سوء الحظ أنني كنت مسئولاً عن سير القتال إلى أي حد أريد ، دون أن يكون لي أي خبرة في شؤون القتال تؤهلني لهذا العمل ” .

وقال في فصل محذوف من كتابه ( أعمدة الحكمة السبعة ) :

” لقد كانت الثورة حرباً عربية خاض غمارها العرب جنوداً وقادة لتحقيق هدف عربي في بلاد العرب، وكان نجاح الثورة طبيعياً لا بد من وقوعه، هذا النجاح لم يعتمد إلا على القليل من المساعدة الخارجية التي قدمها البريطانيون القلائل في الثورة ” .

 وقال :  ” كان دوري الحقيقي في الثورة دوراً صغيراً ، ولكن نتيجة لقلم سيال وذهن ناشط فإنني أخذت لنفسي دوراً رئيسياً مصطنعاً “.

 وقال أيضا : ” لا مجال لأي تهرب أو تملص، لقد فرض علي أن أعود من جديد إلى لبس قناع الخداع في الشرق ورغم الإحتقار الذي أواجه به أنصاف الحلول سارعت إلى الإقناع للعب الدور المناط بي ” .

لورنس يشكو أوزار كذبته

وبعد أن شكا أتعابه بإحدى المناسبات قال :

“وهذه المتاعب ما كانت لتصيبني شيئاً نظرا لعدم إكتراثي بما هو جسدي وإنما هناك الخداع المرهق الذي اضطررت أن أحمل ثقل وزره، وهو إدعاء قيادة ثورة وطنية لعنصر آخر، بعد أن لبست لها لباساً لا عهد لي بمثله من قبل، وتسلحت بلغة أجنبية يصعب علي التبشير بها مع يقيني التام بأن الوعود التي أطلقناها للعرب لن تكون لها أية قيمة عملية فيما بعد إلا بمقدار ما سيظهر العرب أنفسهم من قوة “.

 

آراء من عرفوا لورنس و خبروه

   (  الصحفى الأمريكى  لويل توماس )

وهو أول من كتب عن لورنس وأول من أذاع شهرته وعرف العالم العربي به، وقد اعتمد في تأليف كتابه على سعة خياله وعلى ما قاله لورنس عن نفسه فخرج به كرواية أساسها شيء من الواقع وفي بنائها الكثير من الخيال .

( المؤرخ سليمان الموسى ) 

يقول : إن الكتاب الذين إمتدحوا لورنس مثلهم مثل الذين قدحوا فيه وكل ذلك على حساب العرب ولم يجرؤ أي فريق منهم أن ينصفهم، وأبدى الموسى شكوكه في صداقة لورنس للعرب ومحبته لهم .

   ( برنارد شو ) 

كان هو وزوجته يعطفان على لورنس دائما .

و قال عنه : عندما كان يقف في وسط المسرح والأضواء الساطعة تتجه إليه رأيت كل واحد يشير إليه قائلاً : أنظروا إنه يختبيء إنه يكره الدعاية لنفسه ” .

ثم قوله : ” لم تكن محاولاته لإخفاء نفسه تنطوي على عزم صادق، لقد كان ممثلاً يفوق أذكى الشياطين في أدوار الكوميديا ” .

وقال عنه أيضاً : ” وصفه اليصيفي بأنه كان خجولاً ولكنني لم أر أي دليل أو إشارة  تدل على خجله، كان لورنس مخلوقا غريبا جدا، مطبوعاً على التمثيل منذ مولده، متصرفاً لجميع أنواع الحيل والألاعيب و لم يكن المرء يعرف بأي منظار ينظر إليه ” .

 (السير ريدر بولارد ) 

زميل لورنس في ( دائرة الشرق الأوسط ) التي ألفها تشرشل عام 1921  والمعتمد البريطاني في جده

 قال يصفه : ” كانت بعض تصرفات لورنس يكتنفها الدجل والخداع، ورغم أنني شاهدته في في لندن يعلن أحياناً عن نفسه ويطمسها أحيانا أخرى إلاّ أننى أستطيع القول أنه كان رجلا عظيم التفوق، وكان بمقدوره أن يحقق نجاحاً كبيراً فى مجالات عديدة مختلفة من علم الآثار إلى هندسة الآلات ولا يمكن لمحض مشعوذ أن أن ينال كل ذلك التقدير من قبل العديد من مشاهير الرجال “.

 

 ( الشريف الحسين بن علي ) 

كان لا يميل إلى لورنس ولا يوافق على تدخله فيما لا يعنيه وقد رده فاشلاً في أكثر من مره

 

 (الملك عبدالله الأول بن الحسين) 

يقول عنه : لورنس…أُطلقت له الحرية في جيش الملك فيصل فأصبح بما بذل من مال وما قال من أقوال، ملك العرب غير المتوج، وأنه صاحب الثورة، وأنه لولاه لما نال العرب أي شيء !، وفي الحق أنه كان المزهو بنفسه الغريب الطباع .

 (الملك فيصل الأول ملك العراق) 

كان رأيه فيه كرأي والده وإخوانه ولكنه سايره بقصد الإستفادة منه حينما رآه حائزا على ثقة المسؤولين من الإنجليز، يقول الملك فيصل في حق  لورنس : ”  لورنس ؟ قال عني أمورا كثيرة لا تتصل مع الواقع في شيء، وقد في أقول عنه مثل ذلك “.


المراجع:

  1.  التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية، بكر المجالي و قاسم الدروع ، مطابع القوات المسلحة الأردنية، 1995.
  2.   لورنس و العرب، وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى

كذبة لورنس: الجزء الثاني …آراء حول لورنس

13140531_10154029248950211_1533711072_n
من أقوال توماس ادوارد لورانس

تمهيد

قدم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما “التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “[1] ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها من أمثال الراحل صبحي العمري، و بالاعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية) الذي يعد واحداً من أفضل الكتب التي تناولت شخصية لورنس بشكل تفصيلي وموضوعي حيث استطاع الوقوف على كل مغالطة ومبالغة وتناقض أورده لورنس خلال مذكراته ويعود هذا بالدرجة الأولى لسعة إطلاع الأستاذ الموسى على المراجع الإنجليزية المختلفة ولقدرته الفذة على فهم شخصية لورنس وجوانبها النفسية المختلفة. ومن الجوانب الهامة التي أبرزها مؤرخنا الفاضل في كتابه هي صورة التباين الواضح بين ما كتب لورنس من تقارير عسكرية أرسلت لقيادته العسكرية وبين ما كتب هو لنفسه بمذكراته عن نفس الموقف ونفس الحدث وهذا كان جلياً واضحاً في معظم كتاباته حيث كان له أسلوبان في الكتابة أثناء تناوله للحدث الواحد أسلوب واقعي عسكري وآخر خيالي شاعري إنشائي تشوبه المبالغة والتهويل.

في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل والتوضيحات التي تكشف زيف الرواية البطولية التي تم تأليفها للورنس ودوره في الثورة، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .

مقدمة

شهدت الأرض الأردنية ما يزيد على عشرين معركة توزعت معظمها على صحراء البادية النبطية استشهد خلالها العديد من رجالات الثورة وفرسان العشائر الأردنية وقد بلغت قوات الثورة العربية المشاركة عشرات الآلاف من الجنود النظاميين والمتطوعين من أبناء العشائر، حيث شارك عدد من الضباط العرب الذين التحقوا بالثورة وقد كان هؤلاء الضباط على مستوى عال من التدريب والإعداد والمعرفة بشؤون الحرب والقتال خاصة وأنهم من خريجي الكليات العسكرية .

وفي هذا الوقت من الحرب كانت القيادة البريطانية قد أرسلت ( لورنس ) وبرفقته ( ستورس ) على أساس أنهما يستطيعان معاً الحصول علي تقييم جيد للوضع في منطقة عمليات الثورة وفي هذه المناسبة يقول لورنس: “ولكني التمست العذر لنفسي بدافع من ثقتي بنجاح الثورة العربية إذا قدمت المشورة الملائمة، لقد كنت عاملاً “محركاً” على بدئها وكانت أمالي تتركز عليها” [2] هذا على الرغم من قوله في كتابه أعمدة الحكمة السبعة : (كانت الثورة حرباً عربية، خاض العرب غمارها لتحقيق هدف عربي في بلاد العرب. كان دوري الحقيقي في الثورة دورا صغيراً، ولكن نتيجة لقلم سيال وذهن ناشط، فإننى أخذت، لنفسى دوراً رئيسياً مصطنعاً، ألم أفقد شرفي عندما أكدت للعرب أن إنجلترا تحافظ على عهودها؟ لا أدري إذا كانت عظمة جميع المشاهير بنيت على التزييف مثلما بنيت شهرتى؟!”،  أي أن لورنس يعترف بنفسه أنه لم تكن له علاقه بالثوره عند إبتدائها،  وهذا بالطبع من أشد التناقضات التي وقع بها لورنس على شاكلة التناقضات الكثيرة التي سسنلط عليها الضوء في هذا البحث، ذلك أن لورنس ومن خلال أسلوبه هذا نال إهتماماً بالغاً من الكتاب لم ينله غيره من العاملين من الضباط البريطانيين في قوات الحلفاء. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ العراقي عبد المنعم مصطفى: “لم ينل شخص في تاريخ الشرق الأدنى الحديث من الشهرة والصيت ما ناله لورنس الذي أحاطت به هالة من الأساطير والأقوال وقد تشابكت القصص التي تروى عنه في حقيقتها وخيالها حتى لم يعد للإنسان القدرة في التفريق بين الإدعاء والصدق، ولقد بلغ من شدة تأثيره في أحداث الشرق أن لا فتته تنشب أو أزمة تحدث أو ثورة تقوم إلا ويقال أن لورنس له يدٌ فيها؛ وهذا ما حدث فعلا بعد نشوب ثورة العرب الكبرى ضد الحكم التركي إبان الحرب العالمية الأولى وهذا ما فكر به حتى أصحاب الرأي حيث نشبت ثوره الأكراد في تركيا وامتدت إلى العراق سنة ١٩٢٩ فقالوا أن لورنس هو الذي أشعل فتيلها لينال من تركيا ويفتح ثغره لتغلغل الإنجليز فيها )[3] .

وهكذا تناولت الكتب شخصية لورنس بالكثير من المبالغة والتهويل لم ينلها أحد من العاملين معه في ذلك الوقت، فأشادت به الكتب الأجنبية كثيراً، مديحاً وإطراءً مسرفاً حيث البسوه هالة عظيمة أكبر بكثير من حجمه كضابط تنسيق وارتباط وخبير متفجرات يعمل مع جيش الثورة العربية منتدباً من الجيش البريطاني. قد تكون المبالغة والتهويل في مذكراته بالدرجة الأولى وذلك لاعتماده على أسلوبه الإنشائي الخيالي المصطنع الذي انتهجه في معظم كتاباته ومذكراته الشخصية، وعلى هذا النحو تناولت الكتب الأجنبية شخصية لورنس تهويلاً ومبالغة درامية فبهر الناس بهذه الشخصية التي عاشت في صحراء العرب وأدارت معارك الثورة حسب زعمها حتى بلغ في أحد المحاضرين البريطانيين أنه جمع عشرات الآلاف من الجنيهات لقاء إعطائه محاضرات تاريخية حول دور لورنس في معارك الثورة.

ومن هنا سنمر مروراً عابرا وسريعاً على أبرز الأحداث خلال معارك الثورة لتظهر بشكل جلي مواقف الإدعاء والإنتحال في شخصية لورنس لبعض المواقف العسكرية والتعبوية التي طالما أظهر لورنس نفسه من خلالها وكأنه غرفة العمليات المتنقلة لمعارك الثورة وحروبها المختلفة وأكثر من ذلك بأنه ينبوع الأفكار والتنظير للمعارك المختلفه، طامساً بذات الوقت بطولات أدوار العشرات من الثوار الأردنيين والعرب ومن هنا جاءت أهمية هذه الوقفه مع كذبة لورنس.

لورنس يسرق بطولات رجال الثورة

وقد يكون لهذه القصة التالية كبير الأثر في ضرورة تناول شخصية لورنس خلال هذا الجزء من البحث، خاصة ما ترمي إليه هذه الحادثه من دلالات، وقد ورد ذكرها في مذكرات صبحي العمري وملخصها أن صبحي العمري كان قائداً لإحدى سرايا معركة الطفيلة، وقد تمكن صبحي العمري بسريته من دحر قوة عثمانية محتلة شمال مدينة الطفيلة عند ( رجم كركا ) [4] وتمكن في ذلك اليوم من تحرير بعض الأسلحة والعتاد الألمانية والنمساوية والمدافع فلما انتهت المعركة جاء لورنس وطلب من صبحي العمري أن يأخذ له صورة تذكارية مع الغنائم، وبالفعل أخذ له صورة ثم طلب لورنس من أحد مرافقيه بأن يأخذ ماكنة التصوير ليلتقط صوره مشتركة للورنس وصبحي العمري، ويضيف صبحي العمري قائلاً عن هذه الحادثة ( وبعد مدة أراني لورنس مجلة إنجليزية وفيها تلك الصورة التي كان فيها بجانبي واعتذر عن عدم إمكانه إعطائها لي بسبب عدم وجود غيرها لديه إنما وعدني بأن يأتيني بواحدة ولكنه لم يف بوعده، ولم أقرأ ما كتب تحت تلك الصورة لعدم معرفتي باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، ولكن بعد أن مرت السنوات وقرأت ما كتبه لورنس عن موقعة الطفيلة وعن أنه كان بطلها وقائدها، وعن مكافأته بأكبر وسام عسكري إنجليزي وبرتبة كولونيل؛ أقول عند ذلك خطرت لذهني تلك الصورة وما كان يمكن أن يكون كتبه لورنس لتلك المجلة عن أنه هو الذي غنم هذه الرشاشات وأن الشخص الذي بجانبه تابعه ) [5]

صبحي العمري : لورنس كان متفرجا في معركة الطفيلة

 وعلى هذا الموقف يعلق صبحي العمري بعد أن اطلع على البطولات الصورية التي كان ينسبها لورنس لنفسه في كتابه فيقول العمري: “أما فيما يتعلق بلورنس وقد قرأت فيما بعد ما كتبه عن الدور الذي لعبه في هذه الموقعة وعن أنه نظم خططها ورتب أمورها وقاد صفحاتها وكان أثناء القتال يكر ويفر ويصدر الأوامر إلخ، فكل ذلك كذب واختلاق من أساسه وليس له أي مقدار ولو قليل من الصحة، لقد كان لورنس متفرجاً في بداية المعركة إلى نهايتها ولم يكن بإمكانه أن يكون خلاف ذلك، ولو أنه تدخل بأي أمر أو حاول ذلك ولو بأتفه الأعمال لوجد صدا وإهانة ( وهنا يبدو حجمه الطبيعي )، ولهذا السبب فإن لورنس وأي إنجليزي آخر لا يجرؤ على الظهور بأي مظهر يستشف منه المداخلة وهم يعلمون ذلك حق العلم فيتجنبونه كل التجنب أما لورنس الذي يعرف ذلك أكثر من الآخرين فإنه اتبع قاعدة عدم الظهور أكثر من غيره ولكنه يختلف بأنه كان ضابط مخابرات مطلوب منه تقارير عن جميع الأمور والوقائع وهذا ما يجعله يهرع إلى كل مكان يشتم منه رائحة معركة ليكتب إلى رؤسائه بأنه حضر الموقعة وفعل ” كيت وكيت ” وينسب لنفسه كل شيء من خطط وفكر وقيادة وليس هناك من يكذبه أويصحح ما كتب وكان يكتب بالجرائد الإنجليزية ما يشاء وعلى أسلوب ألف ليله وليلة )[6]

لورنس المنتحل

إن الأمثلة على مبالغات لورنس وتناقضاته أكثر من أن يحاط بها أو يأتي على آخرها باحث بهدف إحصائها والوقوف عليها مما يدفعنا لأن نذكر بعضاً منها على وجه الخصوص. و من هذه المواقف انتحال لورنس فكرة القائد العسكري عزيز المصري وادعائه أن الفكرة كانت له وقد فضح هذا الإدعاء نوري السعيد في مذكراته عندما أكد أن فكرة تقسيم الجيش إلى قسمين تعود في الأصل إلى عزيز المصري وليس كما يدعي لورنس، وقد تلخصت هذه الفكرة بأن يقسم الجيش إلي قسمين قسم يحارب بصوره اعتيادية والآخر يبقى بأسلحته الخفيفة بحيث تتركز واجباته على الحركة خلف خطوط الأتراك بهدف إثارة الرعب وزعزعة الروح المعنوية لدى الاحتلال التركي تاعثماني وحلفائه الألمان والنمساويين ليكون هذا الجيش قادراً على التحرك وضرب مؤخرة القوات والعودة إلى قواعده وأماكن تزويده واستراحته بسهولة. وقد لاقت هذه الفكرة إستحسان الأمير فيصل، وهكذا تعكس فكرة الإنتحال هذه الضعف الذي عليه لورنس كي يدعي مثل هذا الأمر، علماً بأن مستوى لورنس العسكري أمام عزيز المصري لا يساوي شيء، ذلك أن عزيز المصري خريج كلية عسكرية وقائد عسكري مشهود له بالكفاءة والإقتدار، وبإمكان الباحث المتمعن في ثنايا كتاب لورنس ” أعمدة الحكمة السبعة ” أن يقع بصره في كثير من الأحيان على بعض العبارات التي تعطي الحكم الحقيقي لطبيعة مسؤوليات لورنس كضابط إرتباط. ونستنتج ذلك من خلال سؤال الأمير فيصل للورنس عن معركة ( سمنه ) وماذا يعرف عنها وعن جعفر العسكري، فيرد عليه لورنس بما قاله نوري السعيد حول المعركة ويستمر في حديثه في كتاب أعمدة الحكمة السبعة ص 326 بقوله: “وأمضيت الأيام التالية أراقب العمليات مع ” مينارد “[7]  فقد إستولى بنو تايه بقيادة ( عودة )[8] على مركزين أماميين للعدو في الجهة الشرقية من المحطة، بينما سيطر صالح بن شفيع[9] على حاجز دفاعي مهم مع رجاله العشرين ورشاشه الوحيد وأتاح لنا هذا الكسب أن ننتقل الآن بحرية أكثر حول معان، وفي اليوم الثالث ركز جعفر العسكري مدفعيته على القمة الجنوبية فيما كان نوري السعيد يغير على مخازن المحطة ومستودعاتها وبما أنه قد نجح في الوصول إليها فقد توقفت المدافع الفرنسية عن القصف وكنا نحن في سيارة فورد نحاول إقتفاء آثار قواتنا )[10] ، وهكذا نلحظ في هذا المقتضب السريع من الكلام أن القادة الفعليين الميدانيين هم من شيوخ العشائر الأردنية والضباط العرب وكما ذكرهم لورنس نفسه وهو يردد أسماءهم “عودة أبو تايه، صالح بن شفيع، جعفر العسكري ونوري السعيد ” ويخلص لورنس نفسه إلى حقيقة مفادها أن قادة الثورة علي قدر كبير من الشجاعة والضراوة والحنكة ويأنهم قادرون على القتال دونما مساعدة الإنجليز، ويستطرد لورنس: “هكذا أثبتت لنا معركة معان أن العرب يمكنهم أن يقاتلوا بشجاعة ويحاربوا بضراوة وحنكه دون مساعدة الإنجليز” [11] .

ولقد زعم لورنس في كتابه بأن القائد مصطفى كمال وقع أسيراً في أيدي العرب أثناء إنسحابه من درعا باتجاه دمشق حيث قام العرب بإطلاق سراحه بغية بناء علاقات ودية وحميمة مع الأتراك في المستقبل، غير أنه لم يشير إلى هذا الكلام أحد من المؤرخين العرب ولو كان هذا الإدعاء صحيح  لما غفل عنه نوري السعيد وأمين سعيد ممن كتبوا عن الثورة العربية .

ومن الأدله الدامغة التي يوردها المؤرخ سليمان الموسى رداً على إدعاءات لورنس بأنه كان يخطط للحملات العسكرية في جيش الثورة العربية الكبرى قوله: “وهكذا عاد لورنس إلى العقبه في ٢٨ تموز بعد غيبة استمرت حوالي خمسين يوماً قضاها في مصر وفلسطين وفي الرحله إلى جدة، ومن هذا نرى أن الدعوة القائله أنه كان يقود العرب لا تمت إلى الحقيقه بصلة فقد تغيب عن ميدان الجيش العربي حوالي ثلاثة أشهر من أصل التسعه أشهر الأولى من عام ١٩١٨ ومن المؤسف أن الكتاب الإنجليز حاولوا إستغلال كل الطرق للتدليل على أهمية وجهود لورنس مع العرب فهذا الكابتن ” ليدل هارت ” يقول أن المدة التي غاب فيها لورنس عن الجيش الشمالي كانت فترة ركود، وهذا غير صحيح لأن قوات الثورة تلقت خلالها عدة ضربات أهمها عدم الاستيلاء على الجردونة في حينه وهذا الكاتب يعزو فشل العرب في تحرير معان إلى عدم أخذهم برأي لورنس وقد نجد شيئاً من العزاء في أن هذا الكاتب وأمثاله عزوا كذلك فشل الجيش البريطاني في الإحتفاظ بالسلط إلى عدم إستشارة لورنس !” [12]

وهكذا أيضا يمكن القول عن الجسور التي ادعى لورنس بأنه دمرها جميعاً حيث بلغ عددها تسعة وسبعون جسراً، فماذا يبقى لجيش الثورة ولضباط الثورة ممن تدربوا على قصف الجسور في العقبة؟ .

 وبعد أن يعدد الأستاذ سليمان الموسى الجسور التي دمرها لورنس والبالغ عددها سبعة جسور مضافاً إليها جسر من نوع العبارة يتساءل وبأسلوب إستفهامي إستنكاري: “أين هي الجسور الأخرى وهل تستطيع قياساً على هذا أن تسقط من أقوال لورنس تسعة أعشارها ؟!”[13]

 يتضح لنا أنه هكذا كان ديدن لورنس في كل حركاته وسكناته قادراً على مخادعة بني قومه الإنجليز نظراً لأنه يعمل خارج دائرتهم وبعيداً عن رقابتهم ولا نتصور أن لورنس نفسه قد إقتنع بأنه قادر على خداع العرب كل الوقت، وهنا يقول صبحي العمري في مذكراته “وأني متأكد أن لورنس لخبرته بالعرب خلال وجوده معهم قبل الحرب في الحفريات الأثرية، ثم أثناء الثورة فإنه يعرف حق المعرفة أنهم أذكى من أن تخذلهم المظاهر الكاذبة ولكنه يقصد قبل ذلك أن يخدع قومه الإنكليز فيظهر أمامهم بمظهر البطل المغامر الأسطوري الذي عرف العرب حتى صار واحداً منهم، وفهمهم حتى قادهم وسيرهم في مصلحة بريطانيا” [14]

وما يفاجأ به الباحث المدقق في أقوال لورنس يجده أثناء حديثه عن إستدعاء الجنرال اللنبي له إلى مصر حيث أعلمه بأنه أي اللنبي يعد العدة للقيام بهجوم جديد على خط الدفاع التركي من غزة إلى بئر السبع وذلك بعد فشل الجيش التركي بالهجومين اللذين قام بهما ضد الجيش البريطانى سابقاً وفي معرض حديثه حول النصح الذي قدمه للجنرال اللنبي في أهمية إبقاء سكة الحديد عامله بشكل جزئي خشية إيقاف الإمدادات عن الجيش التركي في المدينة يقول لورنس: “أوضحت له أننا لا نريد تعطيل ذلك الخط كلياً بل إلى الحد الذي تتمكن قوات فخري من الحصول على الحد الأدنى من وسائل العيش لأن بقاءها في المدينة يكلفنا نفقات أقل مما يمكن أن نتكلف عليها إذا جئنا بها إلى معسكرات الأسرى في القاهرة”! [15].

لورنس رجل النصائح المجانية

كثيراً ما أظهر لورنس قدرته على تقديم المشورة والنصح رغم عدم طلب مشورته حتى إلى اللنبي نفسه فهو يورد أثناء حديثه عن خطة اللنبي للهجوم في تشرين الثاني قوله: “كنا – هو يعني العرب هنا – أعرف من اللنبي بخواء العدو وضعفه، وأننا يجب أن نستعد للمساهمة عندما تحين اللحظة الحاسمة. وكانت النقطة الملائمة في نظري بالنسبة للجبهات التركية، خاصة لأنها المنطقة التي يوجد بها عدد كبير من المقاتلين الذين دعمهم فيصل وسلّحهم من العقبة. وحيث يمكن أن نستعمل هنا خدمات فرسان الرولة والسردية والخريشا، بالإضافة إلى أهل حوران وجبل الدروز وفكرت بعض الوقت فيما إذا كان يجب أن ندعو كل هؤلاء الأنصار لتدمير المواصلات التركية. وكان من المؤكد أننا نستطيع جمع ١٢ ألف مقاتل وهو عدد كاف لإحتلال درعا، وتحطيم كل الخطوط الحديدية، بل لأخذ دمشق على حين غره، ولا بد أن أي عمل من من هذه الأعمال كان سيجعل موقف جيش بئر السبع حرجاً ولم تكن تلك المره الأولى والأخيرة التي أشعر فيها بالإنزعاج من خدمة سيدين، كنت ضابطاً موثوقاً عند اللنبي، وكنت مستشار فيصل الذي كان بدوره يثق بي وبكفاءة مشاورتي، كان أهل البلاد يحثوننا على القدوم، وأرسل طلال الحريذين زعيم القرى المحيطة بدرعا رسائل متكررة يقول أن باستطاعته أن يسلمنا درعا إذا أرسلنا عدداً قليلاً من رجالنا كدليل على معاضدتنا له. ولكن إحتفاظنا بالبلاد كان مشكوكاً فيه، والفلاحون يستطيعون الثورة مرة واحدة فقط فإذا تراجعنا قضى عليهم الأتراك، ووزنت الجيش البريطاني في ذهني، ولم أكن بالحقيقة واثقاً من قدرته، وأخيرا صممت على تأجيل المجازفة من أجل خاطر العرب ” .

وفي هذا الصدد نستعرض رداً قوياً على إدعاءات لورنس هذه في ” كتاب لورنس وجهة نظر عربية ” حيث يقول المؤرخ سليمان الموسى: “الجيش التركي لم يكن خاوياً نخراً كما يدعي لورنس، وهو الجيش الذي رد البريطانيين مرتين عن أبواب غزة بخسائر فادحة رغم تفوقهم بالعدد والعدة،  وإذا كان الترك كما يظنهم لورنس، فلماذا لم يسحقهم الإنجليز وعدد جنودهم المقاتلين يومذاك 92 ألفاً مقابل 21  ألف جندي مقاتل من الترك؟”

 لورنس يقوي مركزه الشخصي

كان لورنس يكثر التنقل والسفر بين القيادة الإنجليزية والعربية بهدف التنسيق واطلاع الحلفاء على إنجازات العمليات العسكرية في قيادة الجيش العربي ويعد أن شاهد العمليات العسكرية التي قام بها رجال الثورة على خط سكة حديد القطار العسكري بين معان والمدورة سافر إلى السويس لبحث الخطط المقبلة مع القائد البريطاني اللنبي وفي هذه الأثناء فوجئ لورنس بأنباء زحف قوات الحلفاء إلى عمّان والسلط، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الأردني سليمان الموسى في كتابه لورنس وجهة نظر عربية: “ولا يخفي لورنس شماتته بالقادة البريطانيين الذين صدقوا هذه الأقوال وزحفوا إلى السلط وعمان فلم يجدوا شخصاً واحداً يساعدهم وكانت النتيجة أن الترك أرغموهم على التراجع. وشماتة لورنس هنا ناتجة عن إتصال القادة البريطانيين مع رجال القبائل دون إستشارته والرجوع إليه وهو يعتبر نفسه المرجع الموثوق فيما يتعلق بالقبائل وأنه لو استشير لما وقع الإنجليز ضحية لهذا المقلب ولما تكبدوا أية خسائر، وقد أفاد لورنس من إخفاق الإنجليز في هجومهم على السلط وعمان فعمل علي تقوية مركزه الشخصي إذ اقتنع رجال القيادة البريطانية أن حروب النظاميين تختلف عن حروب غير النظاميين.


المراجع :

[1]  التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية، بكر المجالي و قاسم الدروع ، مطابع القوات المسلحة الأردنية، 1995.

 [2]  لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى ، ص 50 .

[3]  لورنس ” حياته ، د .  عبد المنعم مصطفى ، ص 7 .

[4]  رجم كركا : مكان يقع إلى الشمال من الطفيلة ب 10 كم ، وهوتل أثري شهد العديد من معارك الثورة.

[5]  المعارك الأولى ، صبحي العمري،  ص ١٧٤.

[6]  المعارك الأولى ، صبحي العمري ، ص 180.

[7]  مينارد : أحد ضباط البعثة البريطانية

[8] عوده أبو تايه أحد فرسان قبيلة الحويطات جنوب المملكة الأردنية الهاشمية وقد كان فارساً شجاعاً وزعيماً لقبيلة الحويطات ورغم أنه كان يقارب السبعين من العمر غير أن بنيته كانت قرية حيث إمتاز بالذكاء البدوي الفطري وقدرته على قيادته الرجال

[9]  صالح بن شفيع : أحد رجال قبيلة الحويطات

[10]  أعمدة الحكمه السبعة،  لورنس،  ص 326.

[11] المرجع السابق ص327

[12]  لورنس وجهة نظر عربية / سليمان الموسى ص ( 55 )

[13]  لورنس وجهة نظر عربية ، سليمان الموسى ص ( ٢١٨ )

[14]  المعارك الأولى ، صبحي العقري ص ( 158)

[15]  لورنس وجهة نظر عربية، سليمان الموسى ص 123 .

كذبة لورنس: الجزء الأول…أكاذيب متفرقة واثباتها

Scroll to top