محمد علي العجلوني
محمد علي العجلوني

البطل محمد علي العجلوني… مشروع شهيد من 1917-1956، أبو شهيد، وأبَنه شهيد

لا نستطيع أن نتصور موقفا في الوطنيه يفوق موقف أولئك الرجال من أمثال محمد العجلوني الذين أدركوا مبكرا احدى اكبر عمليات التجارة بالدين والتي مارسها المحتل التركي العثماني فحسم امره بفطرة الأردني واضعا رتبه العسكرية في الجيش التركي تحت نعاله تاركا صفوف الجيش العثماني لا فراراً من المعارك بل ايماناً منه ومن اجدادنا فرسان العشائر الأردنية أن الحرب في صفوف جيش الاحتلال العثماني بعد قيام الثورة العربية الكبرى يعد خيانة عظمى ولا ينسجم مع عقيدتهم الوطنية بحال من الأحوال، لقد هجروا الجيش العثماني وغامروا بكل شيء ما عدا الشرف، أقبلوا ينضمون الى نواة الجيش العربي الفتي وقتها ويقذفون بأنفسهم في أتون المعارك الدامية، يطلبون الموت لكي تحصل أمتهم على الحياة والذين فاتهم شرف الاستشهاد لم يفتهم شرف الوقوف مع الموت وجها لوجه مرة اثر مرة، حتى كانت النجاة أعجوبة.

ولادته و نشأته

ولد في ( عنجره ) إحدى قرى جبل عجلون سنة 1893،  من بيت عِلم أردني فبدأ دراسته في الكّتاب الذي كان يديره أبوه المربي الفاضل علي العجلوني ثم في المدرسة الحكومية  في عجلون. كان الراحل محمد العجلوني يرى سلوك الجيش التركي الهمجي والذي ولد لديه كراهية لاعمالهم وهمجيتهم وانعكس ذلك على قبوله لكل ثقافتهم فظهر ذلك جلياً عندما أخذه أخوه الأكبر الى دمشق بقصد اتمامه  التحصيل هناك نتيجة تدمير تاريخ الاردن الممنهج من قبل الاحتلال التركي وتفريغ عجلون من جامعتها التاريخية على يد الاحتلال العثماني، أجبر الراحل على فحص اللغة التركية التي كرهها فأخفق فلم يتح له الانتساب الى المدرسة الاعدادية. وهكذا بعث به أبوه الى القاهرة فانتسب للأزهر الشريف، ولكنه لم يتمكن من اتمام تعلمه بسبب نشوب الحرب العالمية الاولى وهو يقضي  إجازة الصيف في (عنجرة) فتعذرت عليه العودة،  ولم تلبث حكومة الاحتلال التركي أن أجبرته على  الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال التركي  .

عجلون، 1921

بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914 والعجلوني يدرس في مدرسة ضباط الاحتياط التي كانت يومذاك تدعى باسم (الخدمة المقصورة) حيث تعززت لديه الرؤية حول تجارة الدين التي تغلف المحتل التركي ، ففي ذات صباح مرّ مع بعض المتدربين العرب من رفاقه  بساحة مدينة بعلبك التي كانت مركزا لتدريب أفراد الجيش الرابع التركي، فشاهدوا أجساد رجال عرب تتدلى على أعواد المشانق، وقيل لهم أن هؤلاء مجرمون وقد عرفوا لاحقا بأنهم من الثوار الأحرار العرب الثائرين على الاحتلال التركي. لكنهم تملكتهم الدهشة عندما سمعوا رجال الجيش التركي الواقفين هناك يصبّون اللعنات على أولئك المنكودين ويصفونهم بأنهم “عرب خائنون”،  وسأل أحد زملاء العجلوني واحداً من أولئك : إن كان هؤلاء مجرمون كما تصفهم  فقد لاقوا جزاءهم !، ولكن ما ذنب العرب حتى توجهوا  إليهم الشتائم وتتهموهم بالخيانة ؟ فأجابه الضابط التركي: العرب كلهم خائنون وسيلقون جزائهم على مشانقنا وخوازيق الدولة التركية.

هذه الحادثة فعلت فعلها في نفس العجلوني واعادت اليه صور الطفولة عن سلوك افراد جيش الاحتلال التركي الهمجية ، وأدرك أن زملاءه في الجيش من العنصر التركي لا ينظرون إليه والى أبناء قومه كرفاق سلاح، لهم ما لهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات بل بنظرة فوقية استعلائية تستحقرهم كنظرة أي محتل ومستعمر. وكان هـــذا الخاطر يدور في نفوس البقية من مواطنيه في المدرسة.  ودار همس ولغط بلغ مسامع المسؤولين عن استياء الضباط و الجنود العرب واستهجانهم لممارسات الضباط الاتراك، فعمدوا الى تفريقهم قبل انتهاء الدورة العادية للتدريس وألحقوهم بصفوف الجيش العامل في الوحدات غير المحاربة خوفا من فرارهم وانضمامهم لعمليات الثوار. كان من نصيب العجلوني أن ينتقل الى طرطوس قائدا لاحدى مفارز النقل، و أتيح له هناك أن يلتقي بالكثيرين من العرب ممن عمد الاحتلال التركي الى نفيهم من بلادهم ولاحظ مظاهر الكراهية بين أفراد الشعبين العربي و التركي وقد سجن مرتين (سجنا رياضيا) بسبب تشجيعه لفريق عربي ضد فريق تركي و تم اتهامه بإثارة النعرة العرقية.

وفي طرطوس بلغته أنباء الثورة العربية التي أعلنها الشريف الحسين بن علي ولاحظ الاغتباط الذى ران على وجوه العرب هناك. لقد أعاد هذا النباً الثقة الى النفوس التي ملت من مجازر الاحتلال و جرائمه. وعاهد العجلوني نفسه أن يلتحق بميدان القتال دون وناء كي يشترك في الحرب مع أخوانه العرب. ولم يلبث ان بدأ الرحلة شمالا متنكرا وفارا، بعد ان أضاف رتبة عسكرية الى رتبته كى يسهل الانتقال عليه. وبلغ القدس بعد مشاق ومتاعب لا حصر لها. وبقي بضعة اشهر هناك يعمل في مصلحة التموين. ثم انتقل الى الكرك وأعد العدة للمسير جنوبا الى العقبة ، ولكن الاتراك اعتقلوه، بعد ان أبلغهم أحد جواسيسهم بما عقد العجلوني عزمه عليه، لم تثبت عليه التهمة فأطلق سراحه وعاد الى الخدمة العسكرية بالإكراه. ثم تمكن من الحصول على اجازة يقضيها في قريته عنجرة. وهنا اغتنم الفرصة السانحة ومضى يجتاز المسافة من جبل عجلون الى العقبة مرحلة بعد مرحلة متخفيا بملابس بالية،  وسارع قادته عند علمهم بالخبر  بالإيعاز لمفرزة من الجيش العثماني المحتل في جرش باللحاق بالعجلوني والقبض عليه حيا أوميتا، ولكن المفرزة عادت خائبة بعد أن كان العجلوني قد وصل متخفيا بملابس رثة إلى مضارب بني صخر، وقد ورد في مذكرات العجلوني عن التحاقه بالثورة العربية الكبرى ما يلي:  ” وفي تلك الليلة نفسها نزعت ملابسي العسكرية العثمانية وابدلتها بأردية رثة مهلهلة كي لا يعرفني العسكر التركي واصطحبت شابا من قبيلة بني حسن اسمه (مطر)، وبدأت رحلتي متنكرا بهذا الزي قاصدا أقرب ميادين الثورة في جنوب الأردن، فمررنا بعمان وخرجنا منها برفقة رجل من عشيرة الخريشا يمتهن بيع الملح في سوق عمان وواصلنا السير معا مشاة إلى شرق قصر المشتى حتى استقبلتنا الصحراء، فتنفست الصعداء وشعرت بالاطمئنان الكامل ونزلنا ضيوفا في خيمة هذا الرجل المرقّعة نتيجة الفقر الذي عم الاردن طوال فترة الاحتلال التركي العثماني ، وبكل فطرة الاردني وكرمه لم تثني الفاقة والفقر ذلك الرجل عن تقديم طعامه لضيوفه فقدم الينا طعام عشاء وهو عبارة عن قطعتي خبز جافتين مع الماء، وعلمنا منه ومن بعض جيرانه أن الشيخ مفلح القمعان الزّبن أحد شيوخ بني صخر ذهب إلى الجنوب وقابل الأمير فيصل بن الحسين، وأن شيوخ العشائر الأردنية يقصدونه في مضاربه للتشاور معه. وعزمت على الذهاب إلى منازل عشائر الزين لاستوثق من تلك الأخبار، ولعلني استنير في طريقي بضوء معلوماته.”

وعندما بلغ وادي موسى في خريف سنة 1917 قـدم الراحل محمد العجلوني  نفسه لمولود مخلص قائد حامية قوات الثورة العربية الكبرى في وادي موسى. ثم واصـــل سيره فنزل في (دلاغه) ضيفا على راسم سردسست قائد حامية قوات الثورة العربية الكبرى هناك ، وفي القويرة عند رشيد المدفعي قائد الفرقة. ثم بلغ العقبة وقدم نفسه للأمير فيصل هناك، عرض عليه الأمير فيصل ان يكون مرافقا عسكرياً له، ولكنه اعتذر وطلب الالتحاق بالكتائب المحاربة في الميدان  لينتقم من الاحتلال التركي،  وكانت أول مهامه في ميدان القتال أنه انضم الى حملة الشريف مستور التي زحفت شمالا ودخلت بلدة الطفيلة في نفس الوقت الذي دخلتها فيه قوات الشريف ناصر مع فرسان العشائر الأردنية.

عدد من فرسان الثورة في حملة عسكرية قرب منطقة غدير الحاج
عدد من فرسان الثورة في حملة عسكرية قرب منطقة غدير الحاج

واشترك العجلوني في الهجوم على محطة غدير الحاج الى الجنوب من سجن معان، قائداً للمشاة في اللواء الثاني وحققت قوات العشائر الأردنية انتصاراً في هجومها وحررت المحطة وأسرت من بقي من رجال حاميتها بعد معركة عنيفة، ويذكر العجلوني في روايته عن المعركة أن الأتراك كانوا قبل حدوث المعركة قد أسروا أحد أفراد سريته الموكول لهم مهمة المراقبة والاستطلاع فمثل به جيش الاحتلال التركي وأحرقوه حياً وهو مقيد، وحينها قام جميل المدفعي قائد المدفعية باختيار أربعة من أسرى الترك ليعدموا انتقاماً لذلك الجندي الأردني، ولكنه ومن معه من الضباط لم يلبثوا أن ضربوا صفحاً عنهم ولم يقدموا على عمل يلطخ المثل العسكرية عند قوات الثورة و  العشائر الأردنية رغم أن وحشية جيش الاحتلال كانت فظيعة بشكل كبير.

قضى العجلوني فترة في مستشفى الميدان بعد أن كان قد أصيب بوجهه – وهو على رأس سريته وسط المعركة-  برصاصة من الجيش التركي في أحد المعارك كسرت فكه الأيمن وأسقطت ثلاث من أسنانه تسرب فتاتها الى داخل عنقه ،  ثم نقل الى مصر بأمر من الأمير فيصل نظراً لاهتمامه الشديد به وبقدراته العسكرية وشجاعته في ميادين القتال، وهناك أجريت له الجراحة اللازمة لاستخراج فتات الأسنان من عنقه.  وكان واحداً مــن جملة أربعة عشر ضابطاً منح لهم الوسام المعروف بـ ( نوط معان ) وهو ميدالية خاصة منحها الأمير فيصل للضباط والجنود الذين أظهروا بسالة فائقة وشجاعة نادرة في مهاجمة خنادق الاحتلال التركي. كان الأمير فيصل أصدر الامر بترقية العجلوني الى رتبة رئيس ” ترفيعا ميدانيا ” بصورة استثنائية.

عاد العجلوني من مصر والتحق ثانية بجيش الثورة العربية الكبرى الذي كان يتأهب للاشتراك في الهجوم الكبير على جيوش الاحتلال التركي والنمساوي والألماني . ولم يقدر العجلوني أن يشترك في عمليات الجحفل السيار الذي قـام بتدمير الخطوط الخلفية للاتراك شمال الأردن. ولكنه بقي مع وحدته والقسم الاكبر من قوات الثورة في مواجهة قوات العدو التركي بين محطة القطرانة في الشمال ومحطة المدورة في الجنـوب، ولم تلبث الأنباء أن جاءت تتحدث عن الانتصارات التي حققها الجحفل السيّار شمال الأردن،  و أخذ الأتراك في سجن معان سيء الذكر يتراجعون شمالأ حتى استسلموا لقوات الثورة في عمان، و أثناء انتقال قوات الثورة من أطراف معان باتجاه الشمال،  تولى العجلوني قيادة اللواء الرابع/مشاة إلى أن وصل عمان.

بعد انتهاء العمليات العسكرية ضد الاحتلال التركي وتقديرا لخبرته وبسالته عُيّن قائداً للحرس الأميري الخاص بالأمير فيصل، وبنشاطه المعهود أخذ العجلوني يعمل على رفع المستوى العسكري لهذه القوة حتى غدت حقا من وحدات الجيش الممتازة. بعد انتهاء مهامه عاد العجلوني الى قريته “عنجرة” في عجلون،  وأقام فيها بضعة أشهر حتى بلغه نبأ قدوم الأمير عبدالله الى معان.
وقام العجلوني متعاوناً مع خلف التل وأحمد التل وعدد من رجال عجلون، بجولة في أنحاء البلاد يبثون الدعوة والبيعة للأمير عبدالله فيقابل الناس الفكرة بالترحيب والتأييد ويوقعون العرائض مطالبين الأمير التقدم أكثر بالأردن،  وأخيراً حطت بهم عصا التسيار في معان فقدموا للأمير الرسائل التي كانوا يحملونها وأبلغوه ان البلاد تنتظر تحركه إلى عمان لإنقاذها من فوضى الحكومات المتعددة. ووافق الأمير على الاقتراح وانتدب الشريف علي بن الحسين الحارثي أحد رجال الثورة البواسل، وعين العجلوني مستشاراً عسكريا للشريف الحارثي. وتقدم الحارثي الى عمان في كانون الاول 1920 ثم زار السلط فلقي ترحيبا والتف الناس من حوله وفي آذار 1921 تقدم الامير عبدالله الى عمان معلنا توحيد الاردن بالتفاف العشائر الأردنية حوله و بيعتها له بعد قرون من التمزيق العثماني الذي مسح حضارة الاردن التاريخية ليردم فجوة الانقطاع عن التاريخ معلنا مواصلة الاردنيين لدورهم الحضاري في المسيرة الأنسانية تحت لواء الهاشميين .

وبعد أن أستقر الأمير عبدالله في شرق الاردن، عيّن محمد العجلوني قائدا للدرك في منطقة البلقاء تقديرا لخبرته و انتمائه للأرض الأردنية واحترام العشائر الأردنية له. وكانت حينها قوات الامن العام مستقلة عن قوات الجيش، وشارك العجلوني في مرحلة بناء الأردن كدولة حديثة تأخذ بأسباب النظام وبقي يعمل في الجيش العربي حتى بلغ رتبة مساعد قائد الجيش.

كما عمل العجلوني في السلك الدبلوماسي الاردني وزيراً مفوضاً للدولة الأردنية  في العراق ولبنان وتركيا واشترك في وزارة السيد سعيد المفتي عام 1956 وزيراً للداخلية والدفاع،  ثم عيّن بعد ذلك عضواً في مجلس الاعيان.

محمد على العجلون وابنه مازن

نذر الحر !

نذر العجلوني عددا من أبنائه للعسكرية وهم نجله الضابط في الجيش العربي الأردني والوزير الأسبق العميد مازن محمد علي العجلوني، وما لا يعلمه الكثيرون أن الحر محمد العجلوني نذر ابنه الرائد الطيار المقاتل فراس العجلوني على درب الخلود الأردني، فراس الذي لم يخلف وعد ابيه رحمه الله وانفذ النذر  شهيداً في سبيل الوطن وذلك يوم 5 حزيران 1967، وبرهن على أن البطولة والتضحية والاخلاص للوطن يورثها الآباء لأبنائهم . قال في رثاء ابنه الشهيد الطيار فراس:

لست وحدي من افتقد ” فراساً ” ولا هو وحده من افتُقد … فقافلة الشهداء عبرت تلالنا وسهولنا وصحارانا، حياكم الله رفاق القافلة،  وستخرج من شعبي الأردني قافلة إثر قافلة ، حتى النصر.”

الشهيد الطيار البطل فراس محمد علي العجلوني

جنازة الشهيد فراس العجلوني
جنازة الشهيد فراس العجلوني

اذا شئنا أن نصف العجلوني قلنا انــه : ربع القامة، أشم الأنف ” كـ خشم العقاب” ، أسمر اللون ، وقد ساعدته بنيته القوية على احتمال المشاق التي اعترضت حياته، بقيتا قامته ممشوقة حتى فارق ابنه الشهيد البطل فراس العجلوني حينها بدأ يظهر عليه الوهن، حيث توفي في عمان عام 1971 و أقيم له حفل تأبين حاشد في الجامعة الأردنية في تشرين ثاني 1971 بحضور رئيس الوزراء وقتها الشهيد وصفي التل، ورئيسي مجلسي النواب والأعيان والقائد العام للقوات المسلحة، وقدم السادة: ضيف الله الحمود، ومحمد أديب العامري ومنيف الرزاز وعبدالله التل ومعن أبو نوار وسليمان الموسى كلمات مؤثرة في ذكرى تأبينه.

حابس ووصفي أثناء تأبين العجلوني (المصدر: موقع زمانكم)
حابس ووصفي أثناء تأبين العجلوني (المصدر: موقع زمانكم)

تبدو انسانية العجلوني واضحة في صفحات مذكراته، فهو يتحدث بحنان وتعاطف عن زملائه في معارك الثورة. ويمس صميم مشاعره عندما يتحدث عن اسرته. ففي خدمته القسرية في الجيش العثماني يقول أن أفكاره كانت دائما مع أسرته البعيدة : “فقد تركت والدي العجوزين واخوة صغاراً بغير عائل لأن أخوي الكبيرين كانا في الخدمة العسكرية القسرية أيضاً. والأسرة لا تملك زرعاً ولا ضرعاً، وبلغني نبأ وفاة امي وأنا أعد العدة للالتحاق بجيوش الثورة فاشتد حزني عليها وزدت ايمانا بتطبيق خطتي “. وقد اضطر ان يبيع جواده مرتين : الاولى بعد اعلان الهدنة عندما جاء أبوه يزوره في عمان فيقول : “ولما لم يكن لدي نقود، بعت فرسي العزيزة علي والتي حملتني في مواقع لا تمحو ذكرياتها الأيام، وقدمت ثمنها الى والدي خمسة وثلاثين جنيهاً”، والمرة الثانية في عمان أيضا عندما جاء اليها مع الشريف الحارثي مبعوثا من الأمير عبدالله بن الحسين، فقد باع حصانه لتغطيه نفقاته الضرورية.

العجلوني من الضباط العرب القلائل الذين سجلوا انطباعاتهم عن الثورة العربية الكبرى في كتاب، وهذا ما يجعلنا ننظر اليه بتقدير خاص، ويعطينا فكرة عن نوازعة الطموحة. وفي احدى صفحات كتابه نبذة يمكن ان تعتبر مثالا لوجهة نظر الرجال الذين اشتركوا في الثورة، فهو يذكر بأسلوب عنيف أولئك الساخرين المنتقصين من جهود رجال الرعيل الأول. ولكن ترى لو أن العرب سكتوا على مظالم الأتراك وجرائمهم فهل تكون حالهم أفضل مما  صارت اليه؟

وحدث إبان الثورة انـــه وبعض رفاقه تساءلوا على مسمع من جعفر العسكري عن قلة معاضدة الانجليز للثورة وضعف دعمهم لها. وكان جواب جعفر باللهجة العراقية: ويش نسوي آغاتي ! أمجدي وعينه حمرا؟ الانكليز في العراق والأردن وفلسطين . . وانهم يتربصون للانقضاض على سوريا، فهل من مصلحتنا الوقوف متفرجين؟ أم أن الواجب يقضي علينا القيام بعمل ما يدعم حجتنا بطلب الاستقلال ؟ . .

المراجع

  1. صور من البطولة ، سليمان الموسى ، المطبعة الهاشمية ، عمّان ، 1968 ، ص 177-192.
  2. ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .

البطل محمد علي العجلوني

مقدّمة

حاولت الدعاية الاعلامية البريطانية المتفوقة سرقة بطولة العمري وتسويقها على أنها للورانس. لكن معركة تحرير الطفيلة الخالدة بشهدائها وشهيداتها كانت أعظم من التشويه وظل اسم العمري محفوظاً لدى الأجيال بالطفيلة ومرتبطاً بالمعركة رقم 19 حجماً من معارك الحرب العالمية الأولى. حيث أدار العمري بشكل ميداني تغلب أهالي وفرسان الطفيلة والعشائر الأردنية المجاورة بالشجاعة على تسليح العثمانيين وخبرات حلفائهم الألمان والنمساويين. الجندي المستنير الذي تاب عن جيش الاحتلال العثماني وساهم بتحرير الأردن منه قبل أن يقوم بالمساهمة بتحرير البلدان المجاورة. شكل مع باقي الأبطال نواة القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي. وكان من النادرين الذين خدموا جندياً محنكاً في الحجاز والأردن والعراق وسوريا واكتسب عداوة الانجليز والفرنسيين.

البطل صبحي العمري

ولادته و نشأته

ولد صبحي العمري سنة 1898 ابناً باراً لأبيه الشيخ أحمد العمري الذي عيِن قاضيا للشرع بدمشق في العهد العثماني والفيصلي.

تلقى علومه الابتدائية في مدارس الحكومة بدمشق حيث عمل والده والتي كانت مخصصة لكبار الموظفين بينما يعيش غالب الشعب بلا تعليم، أما دراسته المتوسطة فقد كانت في المدارس العسكرية، وعند اعلان الحرب العالمية الاولى فرضت الخدمة الاجبارية وتم الحاقه بمدرسة صف الضباط في بيروت وتخرج منها في العام التالي 1915. وفي عام 1916 نقل الى عين كارم قريبا من مدينة القدس والتحق بمركز التدريب على استعمال الرشاش، وكان هذا المركز تديره القوات الألمانية والنمساوية حليفة الاحتلال التركي.

بعد انتهاء الدورة التدريبية نقل الى احدى مفارز الفرقة 27 واشترك مرغماً في معارك غزة وبئر السبع والحفير، ورفِع الى رتبة ضابط ومنح الميدالية الحربية الثانية والمدالية الحربية النمساوية، وأهم هـــذه الأوسمة الصليب الحديدي الألماني الذي لا يمنح إلا لمن يقومون بأعمال حربية تدل على بسالة غير عادية في ميدان القتال، بترشيح من قائد اللواء العثماني الذي كان يخدم فيه وهـــو ألماني يدعى كولونيل تيلر.

وكان العمري مقتنعاً بضرورة الاستقلال وارجاع حكم البلاد الى أهاليها، وقد انتقل ذلك إليه من أبيه الذي كان كما كل الأحرار يتوق للحظة الاستقلال عن الاحتلال العثماني الذي ما نتج عنه الا التخلف والاضطهاد والظلم وقمع كل الثورات الصغرى وسرقة خيرات لكي تصرف على بذخ حرملك السلاطين في استنبول.

جاء في مذكراته المخطوطة عن الدوافع التي كانت وراء التحاقه بقوات الثورة قوله : ” لقد تركت  الجيش التركي، لا عن فكرة او حماس طارئين، بل نتيجة لأفكار وحوادث وأمور ظلت تتجمع وتتفاعل في نفسي طيلة سنين. لقد رأيت بعيني حالة البؤس والشقاء الذي كان يعانيه أبناء قومي، وشاهدت الاعدامات بالعشرات، وقرأت في عيــون القوم كراهية لنا وبغضاء، جئت ناقما متحمسا للإشتراك في انقاذ أبناء أمتي من الظلم والذل واستعمار الاتراك “

لذا وفي لحظة اعلان الثورة العربية عام ١٩١٦ ترك العمري جبهة غزة وقرر التطوع والالتحاق بجيوش الثورة العربية الكبرى لكن قراراً كهذا له تبعاته. وهكذا ترى العمري يحصل على إجازة ويعود لأخذ رأي أبيه فيما عقد  العزم عليه كما تقتضي العادات الأصيلة بمشاورة الأكبر بكل عائلة وعشيرة. فما كان من أبيه الرجل العادل والحر الا أن يشجعه ويبارك خطوتـــه رغم علمه بامكانية استشهاد ابنه وما سيتحمله هو وباقي أفراد عائلته نتيجة لذلك حيث عرف عند العثمانيين الانتقام الجماعي من عشائر وعائلات فرسان الثورات الصغرى وهذا ما سيكون حتمي على جنود الثورة الكبرى. والواقع أن الأتراك عندما اكتشفوا ما حدث، سارعوا واعتقلوا الأب الشيخ وألقوا به في السجن كرهينة ثم أرسلوه الى المنفى في أوكار التعذيب بالأناضول، ولكنه فر من أيدي الحرس في الطريق بمعاونة من فرسان الدروز وظل يقيم متخفيا مع قبائل أردنية بدوية (يظن أنها من السرحان أو الرولة بحسب الوصف الجغرافي) حتى الاستقلال عن الاحتلال العثماني.

أما العمري الابن فقد سعى حتى تم نقله الى مفرزة الشوبك قريباً من سجن معان سيئ الذكر، حيث كانت للترك مفرزة قـوية في الشوبك يشرف بها مهندسين ألمان على قطع الأشجار الحرجية في الأردن من غابة الهيشة – من أجل تشغيل واستكمال بناء سكة حديد القطار العسكري- وشحنها بالقطارات على خط فرعي تم انشاؤه لهذه الغاية.

وفي شهر أيلول 1917 عندما وصلت أنباء تحرير العقبة واستسلام قوات الاحتلال العثماني وحلفائهم من الألمان والنمساويين، استغل العمري حالة الذعر في صفوف العثمانيين والمهندسين الألمان فغادر حامية تقطيع الأشجار للقطار العسكري متخفيًا واتجه الى العقبة المركز العام لجيش الثورة، وتم استقباله في العقبة وعين برتبة ملازم ثاني آمر لسرية رشاش اللواء الهاشمي و كان أول ضابط نظامي يلتحق بجيش الثورة في الأردن و أصغر الضباط سنا.

شجاعته و حنكته العسكرية

لعب صبحي العمري دوراً رئيسياً في معركة الطفيلة التي أبيدت نتيجة لها قوة الاحتلال التي يرأسها حامد فخري ومستشاريه الألمان. وكانت قوات الثورة بقيادة الشريف ناصر بن علي قد زحفت في منتصف شهر كانون الثاني 1918 فاستولت على محطة جرف الدراويش و طهرتها، ثم اتجهت غرباً الى الطفيلة وقامت بتحريرها. وحاول الأتراك وحلفائهم الألمان والنماسويون اعادة احتلال الطفيلة، فأعدوا في عمان حملة قوية قوامها ألف مقاتل بقيادة الاميرالاي حامد فخري تساندها المدافع والرشاشات والطائرات الألمانية، وزحفت القوة من عمان الى الكرك ثم اجتازت وادي الحسا وبلغت السهل الذي يشرف على الطفيلة من ناحية الشمال صباح يوم 25 كانون الثاني 1918. أما قوات الثورة التي كانت في الطفية بقيادة الأمير زيد بن  الحسين فلم تكن تزيد على ستين رجلا من النظاميين هم جنود مفرزة الرشاشات الأربع بقيادة صبحي العمري، وجنود المدفعيين الجبليين الذين لم يكن مع كل منهما سوى ثماني طلقات واثني عشر خيالا من فرسان عشائر الطفيلة وتسليحهم بنادق ملح البارود الأقل قوة، و كان يقود النظاميين الرئيس عبدالله الدليمي ومعه الرئيس راسم سردست.

صورة لمدينة الطفيلة و تظهر قلعة الطفيلة من بعيد و التي تمركز فيها الأمير زيد بن الحسين بعد تطهير الطفيلة من الاحتلال العثماني

أتى المدد من متطوعي العشائر الأردنية بحوالي مئتين من الهجانة وفرسان عشيرة الجازي من قبلية الحويطات بالاضافة لفرسان عشائر الطفيلة، بادر أهالي الطفيلة بشكل فطري للاصطدام بقوة الحتلال التركي ومشاغلتها بالسلاح الأبيض والحجارة، ثم أرسل الأمير زيــد مفرزة الخيالة بقيادة عبدالله الدليمي مع مدفع ورشاشين فأخذ هؤلاء يناوشون قوات الاحتلال العثماني من الأتراك والألمان والنمساويين.

ورويدا رويدا تكاثر أهالي الطفيلة واجتمعوا للالتحام بالمعركة وعلى رأسهم الشيخ ذياب العوران وجاء الأمير زيد ببقيه قوته الى ميدان المعركة وأبدى العثمانيين تردداً في زحفهم نتيجة الروح القتالية الملموسة لدى أبناء الطفيلة. في هذه الأثناء وصل حوالي 150 رجلاً من قرية عيمة الأبعد عن أهالي مركز الطفيلة ومعهم أبناء القرى المجاورة لها وتمركزوا في مواجهة ميمنة العدو،  وظلت المعركة غير محسومة حتى العصر عندما حدث تطور مفاجيء وحاسم.

ذلك أن صبحي العمرى شاهد أهـل عيمة فتعاون مع جنوده على حمل الرشاشين الى حيث كانوا يقفون، مخترقاً منطقة خطرة تحت نيران العدو، ثم فاجـأ العدو بطلقات الرشاشين فاضطربت ميسرة قوات الاحتلال العثماني، وقامت عشائر الطفيلة أثناء ذالك بهجمة قوية مفاجئة وهم يهللون و يكبرون، فانفرط عقد الكتائب التركية ورؤساهم من الضباط الألمان والنمساويين بصورة غريبة غير متوقعة وأركن معظمهم الى الفرار، بينما أطبقت قوات العشائر الأردنية عليهم من المقدمة ومن الميسرة.

قوات الثورة العربية الكبرى على إحدى مرتفعات الطفيلة أثناء عمليات تطهيرها من الاحتلال العثماني ويظهر الدخان المتصاعد من البيوت جراء قصف المدفعية الألماني و النمساوي

وحاول حامد فخري أن يلم شعث جنوده الفارين فركب جواده وأخذ يحضهم على الالتفاف حواليه، الا أن أحد فرسان الطفيلة قام بقنصه من بندقيته فسقط عن الجواد، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى تحطمت قوات الاحتلال العثماني وذهب معظم أفرادها بين قتيل وأسير وحررت قوات الثورة من قوات الاحتلال مدفعين ثقيلين ورشاشات وجميع ما كان معها من سلاح وعتاد.

من هذا نرى أن الفضل الذي اختص الكولونيل لورنس نفسه به أنه قاد معركة الطفيلة وفقا للقواعد الكلاسيكية وأنه دفع قوات الثورة الى القتال وألحق الهزيمه بجيش الاحتلال العثماني انما هو في الواقع فضل قوات العشائر الأردنية وبحنكة وتدبير صبحي العمري الذي كافأه الأمير فيصل بترقيته الى رتبة ملازم أول ( ترفيع ميداني). أما الأمير زيد الذي أشرف على سير المعركة فقد كافأه بألفي جنيه نقداً (كانت ستدفع للحصول على ما يعادله من المدافع والرشاشات والذخيرة التي حررت بمعركة الطفيل من الأتراك) ليقوم هو بتوزيعها على الجنود النظاميين رفاقه في السلاح.

واستبسل بعدها صبحي العمري على رأس سرية الرشاشات، في الحملة التي شنها جيش الثورة في شهر أيلول 1918 وحطم خلالها مواصلات الأتراك الخلفية حول درعا، كانت العمليات التي أنجزها العرب خـلال تلك الحملة تتويجاً لكفاحهم الدامي ضد الاحتلال التركي، وقد حققوا فيها انتصارات باهرة. وفي هذه العمليات، أبدى صبحي العمري من الجرأة والاقدام ما أكسبه تقدير الأمير فيصل فأمر بترقيته الى رتبة رئيس.

استطاع العمري ان يكسب ثقة الأمير فيصل وكبار القادة العرب بمـا أبدى خلال الحرب من بسالة ونشاط، فعين مرافقاً للشريف ناصر بن علي ضمن المرافقين في الديوان الهاشمي، وعندما تبددت أطماع الفرنسيين، كلفه الأمير فيصل ان يترك الخدمة العسكرية في الجيش النظامي ويشارك في تشكيل قوات العمليات الخاصة ضمن استراتيجية “حرب العصابات” التي أخذت تنازل القوات الفرنسية.

وبقي العمري مع الشريف ناصر حتى استدعاهما الملك حسين بن علي لموافاته في مكة المكرمة، وهناك أقام بعض الوقت ومنحه الملك وساماً ورفّع رتبته العسكرية،  ثم طلبه الأمير على بن الحسين أمير المدينة المنورة حينذاك كي يعمل على تشكيل لواء هجانة نظامي، ولكن أنباء قيام الأمير عبدالله بإنشاء امارة شرق الاردن فتحت له باب الأمل من جديد، فغادر الحجاز الى عمّان.

ولكن العرب لم يكونوا قد فرغوا من ثوراتهم في في سبيل الاستقلال، ففي عام ١٩٢٥ اندلعت الثورة السورية ضد الفرنسيين، فانتدبه الملك فيصل للسفر الى دمشق للوقوف على حقيقة الوضع، وفطن الفرنسيون له فاعتقلوه أسبوعين ثم أعادوه الى العراق، وقدم طلبا بالاستقالة فرفض طلبه، وبعـد الحاح منه حصل على إجازة لمدة ثلاثة أشهر منحها له رئيس الاركان نوري السعيد يومذاك، فجاء الى الإمارة الأردنية وجهز نفسه ثم انتقل الى وادي الشلالة حيث ألف قوة من الثوار الأردنيين تضم حوالي اربعين ثائراً (عرف بعضهم من قبيلة بني حسن الأردنية) وسار على رأسهم الى جبال الدروز والغوطة.

صورة تجمع البطل صبحي العمري مع البطل محمود الهندي- من مجموعة صورة الراحل صبحي العمري

تفرد صبحي العمري في جيش الثورة بالأردن بأنه ضابط رشاش ممتاز، ولكنه في الجيش العراقي تحول للخدمة في سلاح الفرسان فنال قصب السبق بين زملائه وأصبح لاعب بولو ممتاز. وهو يفاخر بأن جميع الأوسمة التي منحت له انما كانت تقديراً لخدماته في ميادين القتال.

في وصف صبحي العمري

اذا أردنا أن نصف  العمري، قلنا أنه رجل ضخم المنكبين حسن الطلعة قوي البنية معتدل القامة، يبدو أصغر من سنه الحقيقي بعشر سنوات. والذي يلتقي به دون معرفة سابقة لا يمكن أن يلاحظ في ملامح وجهه الهادئة أثر من آثار المعارك العديدة التي خاضها في ميادين القتال أو الاشهر والسنين التى قضاها بين معتقل وسجن ومنفى.

أما الصفقة الغالبة في حياة العمري فهي عدم الاستقرار ومجابهة الاحداث الشاقة والمهام العسيرة. بل هي أكثر من هـذا اذا توخينا الدقة والانصاف . . . لقد توزعت حياته بين الخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال العثماني إبان الحرب ثم التوبة عنه والاشتراك في معارك الثورة العربية الكبرى من الشوبك حتى شمالي حلب، ثم الخدمة في الجيش الأردني والاشتراك في اخماد عدد من حوادث العصيان والفوز بكراهية الانجليز حتى أمكن لهم اخراجه من الجيش ومن الأردن كلها، ثم الخدمة في الجيش العراقي ثم المعتقل والسجن والمنفى، فكانت حياة حافلة بالألم والقسوة والدماء والدموع .

وتبقى سيرة هذا البطل عاطرة بأمثولات التضحية والفداء، حياة عريضة فيها الألم والشقاء والمتاعب وهي مع ذلك تتضح بروائح الوطن وأنفاس الشهداء. لقد أدى العمري واجبه كاملاً لوطنه حتى وفاته في عام 1973، و في هذه الأيام نجد عزاء في سيرة أحد أبطال الثورة، كرس حياته لمقاتلة المستعمرين برصاص البنادق دون شقشقة اللسان.


المراجع

  1. صور من البطولة ، سليمان الموسى ، المطبعة الهاشمية ، عمّان ، 1968 ، ص 195-210.
  2. المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق, صبحي العمري, أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص , 1991 , ط. 1.

البطل صبحي العمري

الشيخ سالم أبوالغنم
الشيخ سالم أبوالغنم

ولد الشيخ سالم أبو الغنم رحمه الله عام 1885 في مضارب عشيرته، في الفيصلية غرب مدينة مادبا وقد نشأ الراحل سالم أبو الغنم في ظل أجواء التوتر الناتج عن الرفض لوجود المحتل التركي، وكانت عشيرته أسوة بغيرها من العشائر الاردنية تكيفت مع حالة الاحتلال التركي بالتحول من حالة الحضر والاستقرار الى البداوة والترحال نظراً لهدم البيوت والتجمعات الأهلية بشكل مباشر كما حصل في هية الكرك 1910 وغيرها من الثورات الصغرى، ونتيجة للضرائب الجائرة التي تبدأ من 25% على الدخل. فلجأت العشائر الى الحركة الموسمية في المنطقة، من خلال بيوت الشعر، التي تنصب في منأى عن يد قوات الاحتلال التركي وحيث الكلأ والماء، وبنى الاردنيون ضمن ذلك ثقافة بدوية متكاملة اعتمدت على الترحال الزماني بحسب تعاقب الصيف والشتاء، متنقلين بين أرض الشفا والغور، وكان أبناء العشائر يربون على أعمال الرجال في سن مبكرة. وهكذا كان الراحل سالم ابو الغنم  فتعلم الفروسية، والمبارزة بالسيف، وأتقن استخدام البندقية، وتدرب على الكر والفر، الذي يتقنه الاردنيون في ثوراتهم الصغرى على المحتل العثماني.

 كانت  الأردن تعاني من صلف الاحتلال التركي العثماني والتهميش والتدمير الممنهج والذي تجلى، بعدم وجود اي منشأة تنموية او حضرية تذكر فلم يتم بناء المؤسسات التعليمية الا ما ندر بآخر خمسين عام وبتبرعات الأهالي، وهذا السلوك الممنهج عبر القرون يأتي بقصد تجهيل الأردنيين  ليسهل لسلطات الاحتلال التركي العثماني السيطرة عليهم، فلم يحظى أجدادنا في تلك المرحلة بفرصة مناسبة لتلقي العلم، لذلك لم تتح للشيخ سالم ابو الغنم رحمه الله  فرصة الدخول إلى المدرسة، لكنه تمكن من إتقان المبادئ الأساسية في القراءة والكتابة والحساب وحفظ سور من القرآن الكريم، من خلال الكتّاب الذي يشرف عليه رجل الدين في المنطقة الذي يتعاون الأهالي على دفع أجره وتكاليف مسكنه.

ينتمي سالم أبو الغنم إلى بيت زعامة عشائرية متوارثة، وكان (الشق) أو مضافة الشيخ العامرة منذ الصباح وحتى منتصف الليل بالحركة والزوار والأحداث المتلاحقة، هي الجامعة الحقيقية التي وفرت له مجالاً خصباً للتعلم، فهي توفر كماً كبيراً ونوعياً من التجارب الحياتية، والخبرات اليومية في مواجهة المشاكل وكيفية التعامل معها، والقدرة على فهم الناس ومساعدتهم. لذا لازم والده الشيخ سليمان أبو الغنم، الذي كان شيخاً له شأن ومكانة داخل البلقاء وخارجها، وكان قاضياً عشائرياً ذائع الصيت، وقد أفنى حياته في خدمة الناس. فكان الشيخ سليمان خير معلم لابنه الشيخ سالم الذي ظهرت عليه علامات النبوغ والذكاء وسرعة البديهة، والقدرة على معاضدة والده في السراء والضراء، وبفضل هذا الواقع تفتح وعيه على البعد الوطني الاردني التحرري الذي بدأ يسود المنطقة كلها بعد ضجر الأردنيين من أكبر مسرحية تجارة بالدين على مدى اربع قرون بعد استشراء الظلم والتعسف التركي والهدم والتدمير والتجهيل تحت ستار الدين. وهنا برزت الميول الوطنية لديه ولدى أبناء الاردن الأحرار عموماً، وقد تعمق هذا الجانب لديه مع مرور الأيام وتراكم الأحداث، فكان حاضراً وفاعلاً في المجالس والمشاورات التي اشترك فيها رجالات الأردن قاطبة، مؤكداً مقدرته على بلورة وعي أردني وطني فطري يكرر ذاته عبر القرون فيحفظ للأردنيين والعرب معهم كرامتهم وحضارتهم.

وجد الشيخ سالم أبو الغنم نفسه في مواجهة المسؤولية الكبيرة، عندما حمل أمانة الزعامة العشائرية بعد وفاة والده الشيخ سليمان، وقد تسلم هذه المسؤولية في ظرف دقيق تمر به الأردن بشكل خاص بعد تسارع الثورات الصغرى بها والبلاد العربية شرق المتوسط بشكل عام، حيث علَق جمال باشا الملقب بالسفاح والي دمشق، أحرار العرب ومفكريهم على أعواد المشانق في دمشق وعاليه وبيروت. لذا بادر الشيخ الى المشاركة في مؤتمر بلودان في سوريا عام 1915، وهو مؤتمر سري عقد لتأييد قيام ثورة عربية بقيادة الشريف الحسين بن علي ضد الحكم العثماني الجائر، وكتابة ميثاق يتضمن تحرير الأوطان العربية من الاحتلال العثماني التركي. تسرب خبر المؤتمر إلى والي دمشق فلاحق المؤتمرين، وبطش بمعظمهم، فقد أصدر حكم الإعدام بحقهم، وقد نفذ الحكم بعدد منهم ونفي عدد آخر إلى أوكار التعذيب بالأناضول. تمكن الشيخ سالم أبو الغنم من تجنب الوقوع بقبضة جمال باشا، كونه زعيماً عشائرياً كبيراً، وتوجد مضارب عشيرته بعيداً عن متناول عسكر الوالي بشكل مباشر نتيجة تكيف الاردنيين مع حالة التدمير الممنهج لأرضهم ووطنهم ، فباتوا بمنأى عن يد جيش الاحتلال التركي وعن مراكز الحكم التابعة له.

وعندما اندلعت الثورة العربية الكبرى ووصولها إلى المناطق الشرقية في الأردن، ساند الشيخ سالم هذه الثورة مع عدد كبير من رجالات الأردن، وعندما وصل الأمير عبد الله بن الحسين إلى معان توجهت وفود عشائرية أردنية لاستقباله وإعلان الولاء للهاشميين لقيادة الأردنيين لمتابعة طريق الاستقلال. كان الراحل الشيخ سالم أبو الغنم من بين هؤلاء الرجال، فلقد آمن أن القيادة الشرعية والحكيمة المتمثلة بالهاشميين وحدها القادرة على ملء الفراغ، وتحقيق الحرية والتنمية اللتين غابتا عن الأردن لأربعة قرون من الزمن.

واجهت الأردن مخاطر متلاحقة عند تأسيسها، فلقد تعرضت الأرض الأردنية لغزو الوهابيين، الذين اجتاحوا مضارب العشائر، وقتلوا عدداً من أبنائها، حتى وصلوا إلى (الطنيب) و(حسبان) فقاد الشيخ سالم أبناء العشائر في مادبا ووقفوا الى جانب العشائر الأردنية وفرسانها، وهاجموا المعتدين وتمكنوا من صدهم خائبين.

تابع الراحل سالم ابو الغنم رحلته ورحلة الاردنيين مع الهاشميين في رسم طريق الاستقلال الطويل الذي بدأ بهروب آخر جندي عثماني عام 1918 ليبدأ بعدها النضال السياسي ضد  الانتداب البريطاني في الأردن. فكان الشيخ على تواصل مع المتنورين من أبناء الأردن، وقد شارك في المؤتمر الوطني الاردني العام الذي عقد في الخامس والعشرين من شهر أب عام 1928، من أجل تدارس وضع البلاد والخروج برؤية سياسية واجتماعية واضحة، وكان مشاركاً فاعلاً حيث أنتخب في عضوية اللجنة التنفيذية للمؤتمر ممثلاً لعشائر البلقاء، ودعا المؤتمر إلى وضع ميثاق وطني، ورفض وعد بلفور، ومقاطعة الانتخابات إلا أذا قامت على أساس ديمقراطي تكون فيه الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب المنتخب.

وقد تم اختيار الشيخ سالم أبو الغنم رحمه الله ضمن الوفد الذي قابل الأمير عبد الله الملك المؤسس رحمه الله وسلمه الميثاق الذي خرج به المؤتمر، الذي تحول إلى حزب سياسي لاحقاً في الثورة المؤسسية النهضوية التي شهدها الأردن حال خروج الاحتلال العثماني منها.

وعندما جرت الانتخابات النيابية الاردنية لأول مرة، انتخب سالم أبو الغنم عضواً في المجلس عن مدينة مادبا التي كانت جزء من البلقاء وقتها، وقد استمر بالقيام بواجبه الوطني الاردني بوتيرة متصاعدة، وشارك الراحل في المهرجانات والمناسبات الوطنية، ذات الصفة الاستقلالية، وعندما تم تأسيس حزب الشعب الأردني كان أحد مؤسسيه، الذي دعا إلى النهوض بالأردن في كافة المجالات، ومنح أبناء الأردن الأولوية في الوظائف العليا التي كانت في أغلبها من نصيب الموظفين المعارين.

عرف الشيخ سالم أبو الغنم بلقب «عليم البلقاء» لسعة معرفته في شؤون العشائر والقضاء العشائري فكان يقوم مقام محكمة التمييز في القضاء المدني، وكان وطنياً مثقفاً وأردنياً نبيلاً، وشاعراً امتلأ شعره بالحكمة والعاطفة الصادقة، وقد أحبه الناس بشكل لافت، وقد انتخب عام 1955 رئيساً لبلدية مادبا، لكن المنية عاجلته حيث توفي في السادس من آذار عام 1956.

كانت لحظة فراقه لحظة مشهودة حيث بكته مأدبا وضواحيها والبلقاء وعشائرها والأردن من أقصاه إلى أقصاه، حيث امتزج صوت الآذان بأجراس الكنائس التي ودعته الى مثواه الأخير في مادبا التي عمل وناضل وخاطر بحياته لأجلها فبقي حاضراً في الذاكرة بذكره الطيب وعمله الصالح الذي لاينسى.


المراجع:

  • سالم سليمان ابو الغنم ،كان حسه القومي طريقا لوطنيته الاصيلة ،هزاع البراري
  • «ديوان شعر عشائر البلقاء/ ما قالوه وما قيل فيهم»،الشيخ الشاعر عبد الله سالم صالح الشاهين
  • معلمة التراث الأردني ، روكس بن زايد العزيزي

“عليم البلقاء” الشيخ سالــم سليمــان أبــو الغنــم

Scroll to top