مقدمة

تعد اللغة الأداة والوسيط الذي تنقل به الحضارات معارفها وتاريخها. إن كل الحضارات على مر التاريخ كان لها لغة وشعر وكتابات ونقوش، يمكننا أن نفهم من خلالها كيف فكّر الإنسان في تلك الحضارات وما أهم الأحداث التي مرّت. من النقوش والكتابات الأردنية النبطية عرفنا ملوك أجدادنا، ونظام حياتهم، ودينهم وعاداتهم وحتى موسيقاهم. ومما تركه لنا الأردنيون الغساسنة من أشعارعربية فصيحة ونقوش على الكنائس والقصور سنعرف أكثر عن حضاراتهم.

نقش من المرحلة النبطية المتاخرة. كتب بأبجدية نبطية ويقرأ قراءة عربية حيث أن الخط العربي مشتق بالأصل عن الخط الأردني النبطي

في فصول هذا البحث سنتطرق لعدة جوانب ثقافية لغوية ميزت اللغة عند الأردنيين الغساسنة. فمن ثنائية اللغة وصولا إلى الثورة الأدبية في القصيدة العربية الجاهلية، خلق الأردنيون الغساسنة جوا ثقافيا إبداعيا يتوجب علينا أن نتلمس آثاره مما تركوه لنا من قصائد تفيض حكمة وقوة وإبداع.

التعدد اللغوي عند الغساسنة

إن عملية تعلم أي لغة تتسم بقدر عال من الصعوبة. ويعدُّ الانفتاح على لغات العالم المحيط أمرا يصبغ جوانب الحياة الاجتماعية بصبغة تتسم بالقبول والعلمية. كان الأردنيون الغساسنة بحكم تجارتهم الواسعة والطويلة المدى والتي امتدت على طول طريق الحرير والطرق الأردنية الثانوية المتفرعة منه على احتكاك مستمر مع التجار القادمين من الشرق الأقصى ومن الغرب (الإمبراطورية البيزنطية).

لقد أفرز هذا الاحتكاك معرفة في لغات أخرى بجانب اللغة العربية. فالأردنيون الأنباط  الذين  كتبوا بالأبجدية النبطية وتحدثوا عدة لغات انخرطوا في المجتمع الغساني ناقلين معارفهم باللغة اليونانية والرومانية والآرامية والسريانية.

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

لطالما اتصف المجتمع الأردني بتجانسه وتكاتف أبنائه وشغفهم بالعلم. فالأطباء الغساسنة كتبوا مصنفات كثيرة بالسريانية ولم يصلنا منها سوى كتابات تاريخية تذكرها. كُتب التاريخ الكنسية وقوائم التعميد وأسماء الرهبان والمطارنة كُتبت بالسريانية واليونانية كرسالة الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة والملقب بالبطريق الأمجد إلى القس يعقوب البرادعي يخبره فيها بآخر إنجازاته. وقد كانت الرسالة مترجمة عن السريانية إلى اللاتينية وترجمها الباحث تيسير خلف مؤخرا إلى العربية وجاء فيها:

رسالة البطريق الأمجد الحارث بن جبلة للقديس يعقوب البرادعي

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت أستعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة.
وفي هذه المناسبة، أبلغ غبطتكم عن موضوع آخر، وهو أن طيب الذكر ثيودور بابا الإسكندرية تفضل وتحدث معي حول موضوع مار بولس رئيس الدير الكبير (الأرشمندريت)، فكنت في غاية السرور، و حمدت الله فقد تحدثت معه وجهاً لوجه واستفدت منه كثيراً، وبتنفيذي للأمور التي أمرتموني بها، أرجو أن أكون أهلاً لصلواته
.
وفي ختام رسالتي أقبل قدمي قداستكم راجياً أن تذكروني في صلواتكم المقدسة والساعية لرضا لله”[1]

ومن الأدلة الأخرى القوية التي تثبت ثنائية اللغة عند الأردنيين الغساسنة الوثائق الدّينية المطولة التي وقع عليها شمامسة وأساقفة الأديرة الغسانية الذين يبلغ عددهم 137 قسا وأسقف وشماس. كتبت الرسائل والوثائق بالسريانية وترجمت حديثا إلى العربية.

وتتناول هذه الوثائق موضوعات عدة كالمجامع الدينية التي عقدت للتوفيق بين المذاهب وبين المطالبة بالكتابة اللاهوتية لتدعيم فكرة الثالوث المقدس، ومراسلات أخرى تتسم بطابع ديني تبشيري.

 

آثار نتل -وكالة بترا

وفي نِتِل، بلدة أردنية جنوب عمّان تزخر بالآثار الغسانية، يخلّد الأردنيون الغساسنة اسم أهم ملوكهم على الإطلاق الحارث بن جبلة عبر الفسيفساء، الفن الأردني بامتياز. وتقرأ الفسيفساء المكتوبة بالخط اليوناني “أوه يا حارث يا ابن الحارث”

نقش كنيسة نِتِل الغسانية وقد كتب باليونانية ويُقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” وتظهر في النقش الفسيفساء الأردنية المبهرة

ومن النقوش الأردنية الغسانية الأخرى التي كتبت باليونانية نقش وجد في تل العميري، قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة. وتل العميري منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري، يذكر النقش أنه تم رصف مقام القديس سرجيوس (سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة، بالفسيفساء وبأن هذا العمل مُهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

صورة جوية لكنيسة تل العميري الأردنية الغسانية

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب ، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري ، ابن ربوس ، الكاهن الأكثر تقوى ، وجورجيوس الشماس ، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].” (ترجمة الباحث تيسير خلف)

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

تدلنا هذه الجوانب على أن الأردنيين الغساسنة كانوا في أغلبهم ثنائيي اللغة في الحد الأدنى. فالتأثير السرياني جاء بفعل اللغة السريانية التي كانت الكنيسة تعتمدها. أما اللغة اليونانية فهذا لأنها كانت اللغة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وكانت المعاملات والوثائق تكتب فيها. لم تضعف اللغات المتعددة اللغة العربية عند الأردنيين الغساسنة وظهر منهم شعراء مجيدون أسسوا لثورة في القصيدة العربية القديمة، وسنتناول فيما يلي بتفصيل أهم الشعراء الغساسنة وجوانب فنية وتاريخية من شعرهم.

الثراء اللغوي

أدى التعدّد اللغوي الذي امتاز به الأردنيون الغساسنة إلى ثراء لغوي غير معهود. ويقصد بالثراء اللغوي أن تأخذ اللغة مفردات وألفاظ من اللغات الأخرى وأن تعطيها أيضا. وصحيح أن الأردنيين الغساسنة كتبوا باليونانية أغلب وثائقهم لكونها اللغة الرسمية للمعاملات آنذاك إلا أن الوثائق التي وصلتنا لا تخلوا من الكلمات العربية الفصيحة التي نستعملها حتى هذا اليوم والتي لم يجد الكَتَبة الغساسنة مرادفا لها باليونانية فكتبوها عربية ولكن بالرسم اليوناني.

صورة لإحدى البرديات التي اكتشفت في البترا وتؤرخ لعهد الملك الغساني أبو كرب. للاطلاع على باقي البرديات: http://papyri.info/search?SERIES=P.Petra

 وجدت في البترا، العاصمة الأردنية النبطية، مجموعة من البرديات المتفحمة استطاع العلماء إنقاذ بعضها وأُرّخت لعهد الملك الغساني أبو كرب (539 ميلادي) الحاكم الغساني على ولاية فلسطين. وتضمن البرديات مجموعة من عقود الملكية والمواريث وغيرها. وقد استخلص العلماء منها العديد من الكلمات العربية التي كتبت باليونانية مثل:

(βαιθ αλαχβαρ) بيت الأكبر: الغرفة الكبيرة
(βαιθ αλμεναμ): بيت المنام: غرفة النوم
(αλκασεβα): القصبة: قطعة أرض
(αλνασβα): النصبة: حقل العنب
(χαφφαθ): قفة: إناء لحفظ الطعام أو الشراب
(μαραβζ): مربض: حظيرة أبقار أو أغنام
(αβου χηρηβυσ): أبو كرب ملك الغساسنة

ولم يقتصر الثراء اللغوي عند الأردنيين الغساسنة على كتابة العربية باليونانية إنما استخدام خاصية تعريب الكلمات عن الآرامية والأليونية (إحدى لغات اليونان نسبة لمدينة ليون إحدى مدن الحضارة اليونانية) والفارسية واللاتينية.

فعن الآرامية أخذت كلمات مثل كلمة “أكار” بمعنى الحراث، وكلمة ” ناتور” عربت لتصبح “ناطور” وكلمة “فدان” وحدة قياس المساحة وكلمة “سراجا” التي أصبحت “سراج”وعن الأليونية كلمة “يونتيكا” التي أصبحت بندق. وعن اليونانية كلمة “كانديلا” التي عربت وأصبحت قنديل وكلمة “فرنس” التي أصبحت فرن. ومن الصّعب حصر عدد الكلمات التي أعطتها العربية للغات الأخرى ولكنها في بعض اللغات تتجاوز الآلاف كالإسبانية والآرامية.

إن خطوط التجارة الممتدة والشغف بالعلم أثرى بلا شك حياة المجتمع الأردني تحت ظل حكم الغساسنة وهذا ملمح من ملامح الرقي الحضاري الذي يمكن أن نتتبعه في مدة حكمهم.

الملوك الشعراء

كان الأردنيون الغساسنة قوم بلاغة وفصاحة وقد نقلوا لنا في شعرهم الحكمة. ومن الواضح أن السلالة الأردنية الغسانية الحاكمة كانوا شعراء أبا عن جد. وبهذا الصدد، نستشهد بأشهر ما قيل في الوصية، وصية الملك الأردني الغساني الحارث الأكبر لابنه عمرو بن الحارث على بحر البسيط:

يا عمرُو أصلِحْ لكَ النَّاسَ الَّذينَ لهُمْ … فِيهَا السَّوارِحُ …
احلل بوادي بِهَا عن قُربِ حاضِرِهَا … بحيثُ موجوءها شِيحٌ وقيصُومُ[3]

صورة تخيلية للملك الحارث بجانب الامبراطور البيزنطي

وفي هذا الشعر نجد الحكمة والقوة والإحسان والعدل، قيم لا زال المجتمع الأردني يحتفي بها. وبها يوصي الملك الأردني الحارث الأكبر ابنه عمرو بن الحارث بالعدل والإصلاح.

ويتابع الملك الغساني عمرو بن الحارث الذي اشتهر بفراسته وقدرته على التنبؤ بنظم وصيته لابنه الملك الحارث الملقب بالأعرج أو الخطّار فيقول على بحر البسيط:

يا حارِ  إنِّي أرى دُنيايَ صائِرةً … منِّي إليكَ وقد قامَتْ على ساقِ[4]

غداً ستجتازُها دُونِيْ وتَملِكُهَا … إنْ يأذنِ اللهُ لي فيها بتفراقِ

ما يقتِنيْ المُلكَ إلاَّ من تبوَّأهُ … عندَ النَّوائِبِ مِنْ ماضٍ ومن باقِ

والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ … ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ

ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى … من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ

ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ

تفِيضُ كالبحرِ ذي الأمواجِ راحتُهُ … بنائِلٍ مُستهِلِّ السَّيبِ دفَّاقِ

فإنْ ألمَّتْ عوانٌ للحُرُوبِ وقى … مِنها الَّذي لا يقيهِ دافِعٌ واقِ

بذابلٍ من قنا الخطِّيِّ يقدمُهُ … وصارمٍ كشُعاعِ الشَّمس برَّاقِ

هيَ الوصِيَّةُ فاحفظهَا كما حُفِظَتْ … لِلمُلكِ عن كُلِّ فَتَّاقٍ ورتَّاقِ

وفي هذه الوصية تظهر لنا فلسفة الحكم عند الأردنيين الغساسنة، فالملك هو ” راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ” يتولى رعاية شعبه ويكفل لهم أمنهم وأمانهم. ويتابع وصفه للملك فيقول أنه قوي العزيمة وحازم وفطن ويوفي بوعوده ومواثيقه ” ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ”

يستكمل الملك الحارث الأعرج نظمه للوصية الشعرية فيقول قصيدة يشابه مطلعها مطلع وصية جده الحارث الأكبر يوصي فيها ابنه بالصدق وبأن يكون ملكا عادلا يرعى الضعفاء والمساكين ومن لا راعي لهم:

لا تكذبنَّ فخيرُ القولِ أصدقُهُ … والمرءُ يكذِبُ في سرِّ وإعلانِ

ما مِثلُ مُلكِكَ مُلكٌ حازَهُ ملِكٌ … من نسلِ حميرَ أو من نسلِ كهلانِ

إلاَّ التَّبابِعةُ الغُرُّ الَّذين لهُمْ … كانتْ تدِينُ مُلوكُ الإنسِ والجَانِ

أبناءُ قيصرَ قدْ كانتْ تدينُ لهُمْ … وكانَ دانٍ لهُم كِسرى بنُ ساسانِ

إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ … ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ

كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ … إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ[5]

ويذكر الأصمعي في كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام” قصائد أخرى لملوك أردنيين غساسنة وكلها تصب في الوصية والأخلاق الحسنة فيقول الملك الغساني عمرو بن الحارث (المحرق) لابنه أيهم يوصيه فيها بالعدل والإحسان:

فإذا ملكت وصرت صاحب أمرها … بعدي فحطها بالتي هي أقوم
أحسن إلى من كان فيها محسنا … واعدل فمهما تستطع فتقدم
من نائل وسماحة تعلو بها … لبني أبيك سناؤها المتعظم
والجار والمولى فلا تخذلهما … فكلاهما لك صاحب لا يسلم
وعلى العشيرة كن عطوفا إنها … لبني أبيك صناعة لا تهزم
هاتا وصاتي إنني أوصيكها … فاعمل بها دون الورى يا أيهم[6]

ونرى في هذه الأبيات البلاغة والفصاحة التي كان اكتسبتها القصيدة العربية عند شعراء الأردنيين الغساسنة الملوك. وقد أوصى الأردنيون الغساسنة أبناءهم بالعدل والإصلاح والحزم والقوة وهذا ما مكن ملوك الغساسنة الأردنيين من الحكم لمدة تزيد على الأربعة قرون حكما يمتاز بالرقي والحضارة.

الشعراء الغساسنة

من الأردنيين الغساسنة شعراء آخرون، نستعرض في هذا الفصل أهم الشعراء الغساسنة الذين  تخلدت قصائدهم في كتب التاريخ.

الشيظم بن الحارث الغساني وهو من السلالة الغسانية الحاكمة، تذكر المصادر قصته بأنه قتل رجلا ورحل إلى العراق وهناك احتمى بخربة أو كهف وأنشد أثناء رحيله شعرا كثيرا وصلنا منه قصيدته التي مطلعها

لحى الله صعلوكا إذا نال مذقة      توسد إحدى ساعديه فهوما

وساقته الأقدار عبر التجارة إلى أن يعود لموطنه متخفيا ورأى الملك المنذر بن الحارث فأنشد فيه شعرا وشرح له قصته فافتداه الملك. (الهزاع: 1994)

عدي بن الرعلاء الغساني، وهو من الشعراء الذين نسبوا لأمهم وفقا لتقاليد النسب في المجتمع الغساني. صاحب بيت شعري من أشهر البيوت الشعرية الجاهلية:

“ليس من مات فاستراح بميت …. إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش ذليلا… كاسفا باله قليل الرجاء”

أنشد عدي بن الرعلاء الغساني شعرا في موقعة عين أباغ التي وقعت بين الغساسنة والمناذرة ويفتخر فيها بقوة وبأس الأردنيين الغساسنة. يقول في مطلع القصيدة:

“كم تركنا بالعين عين أباغ … من ملوك وسوقة القاء”

وتذكر المصادر التاريخية التي أرخت طبقات الشعراء قبل الإسلام عدة شعراء غساسنة آخرين بعضهم كان متأخرا (في القرن السابع وما بعده) كالمثلم الغساني وآخرون لم تصلنا سوى أسماؤهم وأبيات قليلة من قصائدهم كالفظ بن مالك الغساني وأوفى بن يعفر الغساني الملقب بابن عنق الحية وجذع بن سنان الغساني وحبة بن الأسود الغساني.

رعاية البلاط  الأردني الغساني للشعراء

احتفى البلاط الأردني الغساني بالشعراء من جميع أقطار الأردن وما حولها وعلى امتداد نفوذهم الواسع. إننا نجد ذكر أمجاد الأردنيين الغساسنة في قصائد شعراء من المدينة المنورة ونجران وكندة وغيرها من المدن والحواضر التي نالها نصيب من الحضارة الأردنية الغسانية على مدار أربعة قرون من الحكم.

صورة لمنزل أثري قديم يعتقد بأنه يعود لحاتم الطائي

ونذكر من أكثر الشعراء اتصالا ببلاط الأردنيين الغساسنة الشاعر حاتم الطائي الذي يُضرب فيه المثل في الكرم والجود. كان الشاعر حاتم الطائي  أحد أمراء  قبيلة طيء وهي قبيلة عربية لم تكن على علاقة جيدة مع الملوك الأردنيين الغساسنة فكانوا يحاولون الإغارة على القوافل التجارية التابعة للغساسنة وفي مرة نجحوا وقتلوا ولدا للملك الأردني النعمان بن الحارث فغضب الحارث فأغار عليهم وأخذ منهم أسرى كثر (الهزاع: 1994).

لم يكن من قبيلة طيء سوى أن تستنجد بالشاعر حسن الخلق ذي المكانة حاتم الطائي، فقصد بلاط النعمان وأنشده شعرا بديعا أعجبه وكان من عادات الأردنيين الغساسنة أن يجزلوا العطاء للشعراء المجيدين، فطلب حاتم الطائي من النعمان أن يطلق سراح قومه ففعل النعمان إكراما لهذا الشاعر.

وقد قال في مدح النعمان بعدها قصيدة مطلعها:

أَبلِغِ الحارِثَ بنِ عَمروٍ بِأَنّي     حافِظُ الوُدِّ مُرصِدٌ لِلصَوابِ

وَمُجيبٌ دُعائَهُ إِن دَعاني         عَجِلاً واحِداً وَذا أَصحابِ

أما حسّان بن ثابت فهو أكثر الشعراء الذين ذكروا الأردنيين الغساسنة في أشعارهم. نكاد لا نجد قصيدة للشاعر حسان بن ثابت إلا ويتغنى فيها بحضارة ورقي وانتصارات الأردنيين الغساسنة. وفي الواقع، يعد شعره أهم وثيقة اجتماعية تاريخية تطلعنا على تفاصيل الحياة الأردنية الغسانية. فمن شعره عرفنا كيف يلبسون وكيف هي احتفالاتهم الدينية ومجالس الطرب وانتصارات الحرب (شهيد: 2009) اعتمد الباحثون أحيانا اعتمادا شبه كامل على شعر حسان بن ثابت لصياغة صورة تاريخية أكثر وضوحا عن الحضارة الأردنية الغسانية. ومن أشهر ما قال في الغساسنة قصيدة مطلعها:

لله در عصابة نادمتهم           يوما بجلق[7] في الزمان الأول

وتذكر المصادر التاريخية عدة لقاءات بين الشاعر حسان بن ثابت وبين ملوك الغساسنة جبلة بن الحارث والحارث بن أبي شمر والنعمان وغيرهم وكانت تدور في هذه اللقاءات مساجلات شعرية يرعاها البلاط الغساني الأردني.

أما الشاعر الأخير المهم والذي استقر في بلاد الأردنيين الغساسنة بصفة قريبة لمفهوم اللجوء السياسي اليوم فهو الشاعر النابغة الذبياني من بني تميم.

صورة تخيلية للشاعر النابغة الذبياني

كان النابغة شاعرا سياسيا مجيدا، من عليّة القوم في قبيلة بني تميم. ويذكر أبو الفرج الأصفهاني أنه وجّه شعرا لملوك الغساسنة يدعوهم فيها لإطلاق سراح الأسرى من الذي أخذوا في موقعة يوم حليمة وعين أباغ. وقصّة النابغة الذبياني مع البلاط الغساني فيها تضارب واختلاف وجدل كبيرين. فقد كان الشاعر على علاقة جيدة مع مملكة المناذرة (أعداء الغساسنة) ولأسباب كثيرة اختلف مع النعمان بن المنذر ملك المناذرة وخاف أن يقتله ملك المناذرة فلجأ إلى الحارث الأصغر، الملك الأردني الغساني في ذلك الوقت، ودخل في حمايته (الهزاع: 1994)

وكعادة الأردنيين الغساسنة في حماية اللاجئ وإغاثة الملهوف، أعطوا النابغة الحماية وظلّ في بلاد الأردنيين الغساسنة آمنا حتى مات.

ويظل امتنان النابغة الذبياني للملك الأردني الغساني الحارث الأصغر (عمرو بن الحارث) خالدا في كتب التاريخ وفي ديوانه:

كليني لهم، يا أميمة ، ناصب        وليل أقاسيه، بطيء الكواكبِ

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة          لوالده ليست بذات العقاربِ[8]

ماذا يخبرنا الشعر الغساني؟

لقد أسلفنا الحديث عن شعر حسان بن ثابت وشعر النابغة وكلاهما شاعران جاهليان احتفى بهما البلاط الأردني الغساني. وبما أن الشعر هو وثيقة اجتماعية وسجل تاريخي مهم يعكس لنا أحوال الشعوب، يمكننا أن نستشف من أشعار حسان بن ثابت والنابغة أهم سمات المجتمع الأردني الغساني وفقا للدراسات التي تناولت ديوانهما.

أولا: مناطق النفوذ والمدن والحواضر الغسانية

من الأمور التي تمكنا من معرفتها بمساعدة الشعر هي المناطق التي امتد عليها الحكم الأردني الغساني. وتذكر العديد من الأشعار هذه المناطق، فيقول حسان بن ثابت  في مطلع قصيدة ألقاها في حضرة الملك عمرو بن الحارث، يذكر فيها المدن والحواضر الأردنية الغسانية، التي تدل كثرتها على اتساع الحضارة وامتداد سيطرة المملكة:

لمن الدار أوحشت بمعان….. بين أعلى اليرموك والخمان

       تلك دار العزيز بعد أنيس ….. وجلول عظيمة الأركان
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم……. يوم حلوا بحارث الجولان

ويقول في موضع آخر:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل…… بين الجوابي فالبضيع فحومل
فالمرج مرج الصفرين فجاسم……….. فديار سلمى درساً لم تحلل

ثانيا: الأحوال الدينية والاجتماعية

يمكننا أيضا أن نشكل صورة جيدة عن الأحوال الدينية والأعياد والمناسبات من تلك الأشعار. فقد جاء الشعراء على وصف احتفالات عيد الفصح وأحد الشعانين (يوم السباسب والسباسب هو سعف النخيل) إضافة للأحوال الاجتماعية كالملابس والأحذية. (النعيمات: 2006)

يقول النابغة في واحدة من أجمل وأشهر القصائد التي تصف بدقة الأردنيين الغساسنة في الجانبين الديني والاجتماعي:

مخافتهم ذات الإله ودينهم… قويم فلا يرجون غير العواقبِ

رقاق النعال، طيب حجزاتهم…. يحيون بالريحان يوم السباسبِ

تحييهم بيض الولائد بينهم….وأكسية الإضريح فوق المشاجبِ

يصنون أجسادا طال نعيمها ….. بخالصة الأردان خضر المناكبِ

فهم أناس متدينون، “رقاق النعال” واصفا ملوك الأردنيين الغساسنة وهم يمشون بين العامة دلالة على العفة والزهد والتواضع. أما الإضريح والأردان فهي أنواع من الملابس الغالية.

 

شعرهم من ناحية فنية

تقوم القصيدة العربية التقليدية على ثلاثة عناصر أساسية وهي: المقدمة والتخلص والخاتمة. (النعيمات: 2006) والمقدمة هي مفتتح تقليدي لا يخرج عن موضوعات محددة كالغزل والبكاء على الأطلال[9]. أما التخلص فهو الانتقال من موضوع المقدمة إلى موضوع القصيدة الرئيس بشكل جيد لا يفقد القصيدة وحدتها.

لقد حفّز الجو الثقافي الذي رعاه ملوك الأردنيين الغساسنة الشعراء على الإبداع وعلى إخراج أشعار رقيقة  تطرب السامعين. فمن المقدمات الطللية التي بدأ حسان بن ثابت فيها إحدى قصائده في مدح ملوك الأردنيين الغساسنة:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل ….. بين الجوابي فالبضيع فحومل

أما القصائد “الغسانية” المحتوى والتي تبدأ بمقدمة غزلية قصيدة بديعة للأعشى:

أترحل من ليلى، ولما تزود؟…. وكنت كمن قصى اللبانة من ددِ [10]

أما الخاتمة فهي بحسب النقاد “ما يبقى في الأسماع” ولهذا يضرب المثل في خاتمة قصيدة النابغة الذبياني الشهيرة في مدح آل غسان:

حبوتٌ بها غسان إذا كنت لاحقا… بقومي وإذا أعيت علي مذاهبي

وبحسب الدراسات التي أجريت على شعر الغساسنة وشعر من سكنوا ديار الأردنيين الغساسنة، فإن اللغة الشعرية خاصتهم تميل للسهولة والرقة إلا في الأشعار التي تتناول الحروب والرواحل (وصف القوافل والإبل). ولأن البيئة الغسانية كانت بيئة حضرية أقرب للمدنية منها للبدوية، فكان لا بد للألفاظ أن تكون أكثر رقة وسهولة.  وفي الشعر الغساني صور فنية بديعة وكثيرة، ومن أشعارهم ما يزال يستخدم كشواهد نحوية وبلاغية إلى الآن. ويفيض الشعر الغساني بالحكمة، فقول ابن الرعلاء الغساني :”ليس من مات فاستراح بميت …. إنما الميت ميت الأحياء” ما زال حاضرا في الشعر العربي اليوم.

ومن ناحية أدبية فنية، تتعدد الأغراض الشعرية التي كتب بها الأردنيون الغساسنة فقد كتبوا كثيرا في الفخر والمدح والرثاء والحكمة.

دور الشعر الغساني في حركة الشعر العربي القديم

 لا يمكن أن نغفل مقدار القصائد التي رفدت بها المملكة الغسانية نهر الشعر العربي القديم.  فقد وفر ملوك الغساسنة كل أجواء الإبداع والراحة لشعرائهم وأجزلوا لهم العطاء. ولم تقتصر الإضافة التي قدمها شعراء الأردنيين الغساسنة على (الكم) إنما (النوع) فتمتاز قصائدهم بأنها ذات قيمة فنية عالية، وبأنها متعددة الأغراض الشعرية ومتجددة الصور الفنية والجمالية إضافة للقيمة التاريخية لهذه القصائد.

عندما يرغب الدارس بدراسة الأدب الجاهلي القديم سواء دراسة تاريخية أو شعرية أسلوبية فلا بد له/ لها أن يتبحر في الشعر الذي أفرزته المملكة الأردنية الغسانية على مدار أربعة قرون من الحضارة والإبداع.

خاتمة

تناولنا في هذا البحث من سلسلة الأردنيين الغساسنة عدة جوانب ميّزت الواجهة الحضارية الأكثر غنى عند الأردنيين الغساسنة.  فكما يقال، إن أراد شعب أن يقول من هو فإنه يخرج للعالم شعراءه وفنانيه. وقدمت لنا الحضارة الأردنية الغسانية شعراء مجيدين ومتميزين لا زال تاريخ الأدب العربي يحتفي بشعرهم حتى يومنا هذا.

المراجع

  • النعيمات. ريهام. (2006) صورة الغساسنة والمناذرة في الشعر الجاهلي، رسالة ماجستير منشورة، جامعة آل البيت
  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • اليسوعي، لويس.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • الهزاع، قطنة. (1994) الشعر في بلاط الغساسنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • المرزباني، معجم الشعراء، تحقيق د.فاروق سليم.، ط1 (2005)، دار الصادر، بيروت: لينان
  • ديوان النابغة الذبياني، شرح وتحقيق د. حنا نصر الحتي،ط1 (1991) دار الكتاب العربي، بيروت: لبنان
  • خلف، تيسير. ( 2008) كنيسة العرب المنسية، ط1، دار التكوين. دمشق: سورية
  • العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق: سورية
  • الراوي، عثمان (2017) بلاد العرب السعيدة وما تبقى من شعرها غير المجموع في الجاهلية والإسلام، ط1، دار غيداء. عمان: الأردن

[1] المصدر:كنيسة العرب المنسية للباحث تيسير خلف. ص215

[2] حقوق الترجمة محفوظة للباحث تيسير خلف.

[3] المصدر: كتاب وصايا الملوك وأبناء الملوك من أبناء قحطان بن هود لدعبل الخزاعي، ج1، ص33

[4] المصدر السابق. حارِ: صيغة ترخيم لاسم ابنه الحارث

[5] المصدر: الشعر في بلاط الغساسنة، الهزاع (1994) ص 153

[6] المصدر السابق. ص154

[7] إحدى المدن الغسانية في سهول حوران الأردنية

[8] النابغة الذبياني، الديوان، تحقيق محمد أبو الفضل ص 40

[9] البكاء على الأطلال أو “الطللية”  هي افتتاح القصيدة بالتحسر على الديار وعلى أحوال الماضي وفيها استذكار للمشاعر القديمة والذكريات.

[10] اللبانة: الحاجة. الدد يعني اللهو واللعب

الشعر واللغة عند الأردنيين الغساسنة

مقدمة

مكّن الموقع الاستراتيجي للمملكة الأردنية الغسانية الطرق التجارية والصناعات أن تزدهر. فكونها تقع على أهم طرق التجارة في العالم القديم جعلها تستفيد أقصى استفادة من القوافل التجارية التي تقصد الشرق الأقصى والهند وتلك التي تريد أن تعبر لمصر أو للبحر الأبيض المتوسط.
رغم الحالة الحربية المتقلبة والمعارك التي تنشب باستمرار مع المناذرة أو الفرس الساسانيين، استطاعت المملكة الأردنية الغسانية أن تخلق جوا آمنا لتلك القوافل. في العالم القديم، لم تكن الحروب لتوقف سير الحياة التجارية والصناعية فكانت الحضارات القديمة تبرم عهودا خاصة لتضمن أمان قوافلها. وكان الأردنيون الغساسنة من اضطلع بالمهمة الصعبة: مهمة تأمين القوافل وضمان سلامة البضائع.
في هذا البحث سنستعرض أهم محاور الاقتصاد الغساني وكيف استغل الأردنيون الغساسنة بحكمة وذكاء موقعهم الاستراتيجي وأي الصناعات ازدهرت جراء هذا الموقع.

الطرق التجارية

يعدُّ طريق الحرير الواصل بين حضارات العالم القديم أشهر الطرق التجارية على مستوى العالم. وذلك كونه يصل الشرق الأقصى (الصين -مدينة تشانغ آن تحديدا- واليابان والهند ومناطق نفوذ الإمبراطورية الفارسية) بالمشرق (الأردن والعراق وسوريا ومصر والجزيرة العربية) وبالغرب (الإمبراطوريات اليونانية والرومانية -مدينة أنطاكية تحديدا).

خريطة توضح طريق الحرير والطرق الفرعية منه. طريق الحرير أشهر الطرق التجارية في العالم القديم وكان يمر بالأردن.

تتفرع عن هذا الطريق طرق تجارية ثانوية حيوية تربط المدن والحواضر في بعضها البعض. ولكن التقسيم الأكثر شهرة والذي كان سائدا زمن الأردنيين الغساسنة هو تقسيم طريق الحرير لطريقين: طريق البحر وطريق البر.( شهيد: 2009)
يمتد طريق البحر من الصين إلى سريلانكا (كانت تعرف بسيلان قديما) وصولا إلى البحر الأحمر. أما طريق البر فكان يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى ماراً ببلاد فارس وصولا إلى بلاد الرافدين ومن ثم الأردن.
كان للأردن في عهد المملكة الأردنية الغسانية نصيب وافر من التجارة. فالطريق البري يمر قطعا بالأراضي الأردنية عبر وادي السرحان (دومة الجندل) وصولا للمدن الغسانية المنتعشة تجاريا كالجابية في حوران الأردنية وبيت راس وجرش ومادبا وغيرها. أما طريق البحر فكان يصل للبحر الأحمر إلى ميناء أيلة (العقبة) وسنبحث فيما يلي، بتفصيل أكبر، الطرق التجارية الأردنية في عهد الأردنيين الغساسنة . (شهيد: 2009)

حُماة القوافل

شارك الأردنيون الغساسنة بشكل فاعل في حركة التجارة العالمية آنذاك، إذ سيّروا القوافل وروّجوا لبضاعتهم التي تباينت بين الخمر والمزروعات والثياب وغيرها. ولكن كُتب التاريخ تخص الأردنيين الغساسنة دوما بلقب حُماة القوافل.
كما أسلفنا بالحديث عن طريق الحرير الذي كان عامرا بالقوافل، يجب ألا ننسى أن الطريق كان صعبا من نواح عدة. من ناحية طبيعية جغرافية يمتد على عدد هائل من التضاريس. يجعل هذا الطقس أيضا غير مأمونا. أما الناحية الأخرى فكانت انتشار قُطّاع الطرق الذين ينهبون ويسلبون القوافل التجارية. وشكّل مرور القوافل التجارية بإمبراطوريات العالم القديم هاجسا آخر أمنيا وعسكريا، فرغم المعاهدات التي تضمن مرور القوافل؛ تظل الثغور والحدود متحفزة دوما ولهذا كان الأردنيون الغساسنة حُماة القوافل التجارية على طريق الحرير المار بالأراضي الأردنية. (شهيد: 2009)
وفي الأحلاف السياسية بين الفرس والمناذرة مقابل الغساسنة والبيزنطيين، كان الأردنيون الغساسنة ينفردون بحماية القوافل لما عرف عنهم من قوة وحكمة. فبعد النصر الكبير الذي أحرزه الغساسنة على المناذرة عام 554 ميلادي وبعد نقاشات كثير محتدمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ومملكتي الغساسنة والمناذرة، صيغت معاهدة سلم عام 561 ميلادي نصت على أن للغساسنة الحق في عقاب كل من يتعدى على القوافل التجارية وأن عليهم حماية القوافل التجارية وإيصالها آمنة مقابل ضريبة يقتطعونها من التجار وكانت تلك مهمة يسيرة على الأردنيين الغساسنة لمعرفتهم بطبوغرافية المنطقة جيدا ولتفوقهم العسكري كذلك. (شهيد:2009)

الطريق العربي الغربي

نتيجة للصراعات المستمرة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وانخراط الأردنيين الغساسنة بالحروب مع المناذرة خصيصا في القرن الخامس الميلادي، ظهر طريق تجاري جديد يتفرع عن طريق الحرير، ويبدأ هذا الطريق الفرعي من اليمن شمالا ليمر بمدينة تبوك (التي كانت وقتها ضمن النفوذ الغساني) وصولا للمدن الأردنية المزدهرة كالبترا والربّة ومعان ومادبا وعمّان وإن كانت القوافل ستقصد البحر الأبيض المتوسط فعليها أيضا أن تمر من الميناء الغساني في غزة. (شهيد: 2009)

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

وهنا نرى أن كل طريق تجاري يتفرع يجب أن يمر بالمملكة الأردنية الغسانية آنذاك وهذا بلا شك من الأمور التي أثرَت الحواضر والمدن الأردنية على مر التاريخ.

امتداد الطريق العربي الغربي ومروره بالمدن الأردنية المزدهرة. المصدر Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن تأمين هذا الطريق بأكمله، ولهذا امتد نفوذهم ووجودهم كحضارة وثقافة مسيحية إلى جنوب الجزيرة العربية فكانوا يستريحون في نجران التي اعتنق أهلها المسيحية وكانت على تواصل قوي مع الأردنيين الغساسنة. ورغم أهمية طريق الحرير الرئيسي إلا أن الطريق العربي الغربي كان ذي أهمية أكبر بالنسبة للأردنيين الغساسنة فقد جعلهم ينخرطون أكثر في التجارة بعيدة المدى سواء عبر البر في الجزيرة العربية أو عبر البحر عن طريق المرور بفلسطين التي كانت تحت ولاية الأمير الغساني أبو كرب، أخ الملك الغساني الحارث. وقد أدت هذه الخبرة الطويلة المتراكمة إلى خلق أساليب دفاعية متميزة.(شهيد: 2009)

طريق وادي السرحان الأردني

وادي السرحان الأردني – أو كما يعرف أيضا بوادي الأزرق – هو منخفض تضاريسي يمتد من حوض الأزرق شمال شرق الأردن إلى بادية الصفاوي جنوبا، وكانت تلك المنطقة ولا زالت من مضارب القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشمالية عبر العصور.

خريطة توضح طريق وادي السرحان الأردني وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

اشتهر هذا الطريق بعدة مدن أردنية غسانية كدَومة الجندل والنبك والأزرق ودوما. وقد شهد هذا الوادي الأردني عدة مواجهات حربية كمعركة الملك الغساني الحارث مع قبائل تميم. اكتسب هذا الطريق أهميته من طبيعته الجغرافية فهو منخفض تتجمع فيه مياه الأمطار الآتية من الأزرق وفيه حوض مائي جوفي ضخم كما أن طبيعته الجيولوجية متميزة للغاية، فصخور وادي السرحان إحدى أهم مصادر الملح في المشرق بأكمله.(شهيد: 2009)
ساعدت تلك الخصائص على ازدهار التجارة في طريق وادي السرحان وكان الأردنيون الغساسنة يولون اهتماما بالغا لهذا الطريق.

الطريق البحري

خريطة توضح الطريق البحري الغساني وميناءان رئيسيان هما ميناء غزة وميناء صوغر. المصدر
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

 

امتلك الأردنيون الغساسنة طرقا تجارية برية كما أسلفنا ولم يغفلوا عن ضرورة إيجاد طريق بحري لتصل القوافل للعالم الغربي عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كانت المملكة الأردنية الغسانية بشقها الثاني الذي تولاه الأمير الغساني أبو كرب (أخ الملك الحارث) تمتلك ميناءين أولهما على مدينة صوغر Zoara إحدى المدن الأردنية المسيحية الخمس (بنتابوليس) 1 والميناء الثاني هو ميناء أيلة أو إيلات (الاسم القديم للعقبة). وبهذين الميناءين إضافة لميناء غزة وصل الأردنيون الغساسنة للأسواق المصرية والبيزنطية.

 

 

الخريطة الفسيفسائية في مادبا وتظهر إلى اليسار صور القوارب في البحر الميت.

 

برع الأردنيون الغساسنة في إدارة الموانئ وتأمينها وقد قاد ذلك لازدهار التجارة في الجزء الجنوبي من المملكة الأردنية الغسانية. وكان البحر الأحمر ذي أهمية خاصة خصوصا بوجود جزيرة أيوتاب (جزيرة تيران حاليا) التي كانت محطة تجارية مهمة للسفن المحملة بالبضائع، ويذكر أن هذه الجزيرة خضعت لحكم الملك الأردني الغساني جبلة بن الحارث وأعيدت لها مكانتها التجارية بعد أن فقدتها عقب انتهاء حكم السلالة البطلمية 2 . (شهيد: 2009)

إذن، اكتسب ميناء أيله الأردني مكانة تجارية لا مثيل لها في عهد الأردنيين الغساسنة وصارة بوابة المشرق على حضارات العالم القديم وراء المحيط الهندي وأمسى نقطة التقاء حيوية تتجمع فيها القوافل والسفن كما هو حال ميناء العقبة الأردني اليوم.

المعارض التجارية والأسواق

إحدى أهم مميزات الحضارة الأردنية الغسانية انتشار الأسواق والمعارض التجارية. هيأت الطرق التجارية البديلة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة لانتشار هذه الأسواق والمعارض على طول هذه الطرق. الرومان والبيزنطيون والفرس والعرب من الجزيرة ومن العراق كانوا يحيون هذه الأسواق التي تحوي مختلف الأصناف والمنتجات الآتية من إفريقيا ومن أوروبا ومن الشرق الأقصى.

شهدت الأردن في الحقبة الهلنستية قيام فكرة المدن ذات الحكم المستقل وقد عرفت بمدن الديكابوليس. نبعت فكرة الديكابوليس من طبيعة الأردنيين الذين لم يكونوا ليقبلوا لأي أحد بأن يسلبهم حريتهم واستقلالهم ويفرض عليهم ولاية ليست منهم.
فيلادلفيا وبيلا وأرابيلا وجدارا وكانثا ودايون وهيبوس وجراسا، مدن الديكابوليس الأردنية التي تتابع كمدن أردنية رائدة بأسماء حديثة: عمان، طبقة فحل، أم قيس، أم الجمال، إيدون، الحصن وجرش، مستكملة دورها التجاري والحضاري الذي بدء منذ قرون طويلة.

خريطة توضح مدن الديكابوليس الأردنية والتي كانت مراكزا تجارية على طول الخطوط التجارية الأردنية الغسانية

يمكننا إذن تصور الأمر كالتالي. ثمان مدن أردنية تعمل كمراكز تجارية تربط العالم القديم، الشرق والغرب، تتلاقى فيها الحضارات ويتبادل الناس معارفهم وتجارتهم ويحفظ أمن هذه المدن جنود المملكة الأردنية الغسانية البواسل.

أشهر الأسواق الغسانية في سهل حوران الأردني. المصدر: Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

 

وبعيدا عن مدن الديكابوليس، اشتهرت ثلاث أسواق محلية في سهول حوران الأردنية، الأول سوق دير أيوب (شيخ سعد) والثاني سوق أدريعات (درعا) والثالث سوق بوسطرا (بصرى). تتوقف القوافل التجارية الآتية من الجنوب والشمال والشرق في هذه الأسواق وكان الأردنيون الغساسنة يمارسون عدة أدوار فهم حُماة القوافل وجامعو الضرائب والتُّجار.

تحصيل الضرائب

مارس الأردنيون الغساسنة تحصيل الضرائب، وكانت الضريبة التي تقدر بعُشر البضائع أو ثُمنها تؤخذ بدل أجرة الحماية وتأمين الطريق. وتذكر المصادر التاريخية أنهم حصّلوا الضريبة من قوافل قبيلة جذام الأردنية، أما مؤرخو بيزنطة فيذكرون لفظة Commericiaruis والتي تعني جامع الضرائب. (شهيد: 2009)

الزراعة

رغم فقر المصادر المتعلقة بالزراعة إلا أننا نملك بعض الدلائل على ازدهارها كذلك. فيقال في التراث العربي القديم “جنان آل غسان”، والأغلب أن الواحات الزراعية والكروم انتشرت وكانت قنوات الري تنقل الماء من مصادر جوفية (كحوض الأزرق ووادي السرحان) ومصادر أخرى سطحية كنهر الأردن، بحيرة طبريا وسيل الزرقاء. كما تدلنا المحاصيل والحبوب التي ورد ذكرها في الأسواق على ازدهار الزراعة هذا عدا عن كون قسم جيد من أرض الأردن أرضا خصبة ومناسبة للزراعة.

الحرف والمهن الأخرى

انتشرت عدة مهن وحرف أخرى في بلاد الأردنيين الغساسنة وذلك دليل على الإنتاجية العالية والتنوع الذي تميز به المجتمع الأردني الغساني. من الصناعات التي ازدهرت “دباغة الجلود” والتي تتضمن صناعة الأحذية الجلدية والمصنوعات الجلدية المتعلقة بالأحصنة والحروب. كما انتشرت صنعة حياكة الثياب والغزل، وفي الواقع عرف الأردنيون الغساسنة الكثير من الأثواب التي كانت تُعدُّ فاخرة بالنسبة لعصرها. يعود ذلك لازدهار تجارة الحرير على الطرق التجارية الذي كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حمايتها وتأمينها.
ويمكننا أن نستنتج من وجود الموانئ البحرية الغسانية المنتعشة بالتجارة كميناء أيلة وميناء صوغر وميناء غزة بأنهم أتقنوا الملاحة. وكانت حرفة النجارة مشتهرة أيضا وذات طابع ديني فالسيد المسيح كان نجارا. (شيخو: 2011)
ولم يكن لآل غسان أن يتخلفوا عن التفوق في الصناعات الحربية، فقد ذاع سيط قرية في البلقاء تدعى المشارف وكان ينسب لها “السيف المشرفي” وهو من أجود وأفخر أنواع السيوف. وعُرف أيضا صانع سيوف غساني اسمه “سرجس” وسميت سيوفه بالسُرجيات وقال الشاعر العجاج فيها “وبالسُرجيات يخطفن القصر” وبحسب المرويات التاريخية والدينية أهدت بلقيس ملكة سبأ الملك سليمان سبعة سيوف وصل اثنان منها إلى الملك الغساني الحارث بن جبلة وكان لقب السيفين “المخدم والرَّسوب” ويعنيان السيف الحاد الضربة حتى اشتهرت السيوف الغسانية بسيوف “الرَّسوب”.
ذكر العالم الكندي في رسالته الشهيرة عن السيوف سيوف الغساسنة بأنها ذات شفرات حسنة متعددة القدود من عراض ودقاق وقصار. ويذكر سيوف “الشراة” نسبة لجبال الشراة جنوب الأردن وهي سيوف مصنوعة من حديد يسمى الزماهن بشكل رقيق وطويل. وأتى الكندي على ذكر السيوف “الديافية” نسبة إلى منطقة دياف جنوب البترا.

الخاتمة

طرق تجارية مزدهرة وموانئ تصل إلى أقاصي العالم، ومدن أردنية تصل حضارات العالم القديم ببعضها البعض؛ إلى هذا الرقي والتقدّم وصلت حضارة الأردنيون الغساسنة. فالسيف المشرفي البلقاوي والسيف الديافي كانوا خطوات على درب الاستقلال والحرية التي رسمتها سواعد الثوار والأبطال الأردنيين عبر التاريخ.

المصادر والمراجع

  •  Social History Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
    • شيخو اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت

[1] البنتابوليس (بنتا تعني خمس وبوليس هو تجمع لخمس مدن في العهد الإنجيلي. واحد من أهم هذه التجمعات كان في الأردن في خمس مدن ذكرت بالكتاب المقدس في سفر التكوين (سدوم/ عمورة/ أدمة/ صبوييم/ صوغر أو بالعا). انظر https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?chapter=14&book=1 وانظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3_(%D8%AA%D9%88%D8%B6%D9%8A%D8%AD)

[2البطالمة هم عائله من أصل مقدوني نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق.م. للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

حماة القوافل وحملة السيوف المَشرَفية: ملامح الاقتصاد الأردني الغساني

تمهيد

حيثما ذُكر الأردنيون الغساسنة تُذكر مملكة أردنية حكمت من مقرها في البلقاء الأردنية ستة قرون من الرفاهية الحضارية والحرية والثقافة. يرتبط وجود المملكة الأردنية الغسانية ارتباطا وثيقا بتدينهم فقد تغلغلت المسيحية فيهم وكانوا مؤمنين بها إيمانا قويا دفعهم لمجابهة البيزنطيين والمناذرة والفرس مرارا. وبحسب الباحثين، فقد كانت المسيحية حجر أساس في السياسة الغسانية وفي الازدهار الحضاري الذي شهده الأردن وسائر المناطق التي كانت تحت النفوذ الغساني  آنذاك.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس أحد أهم الرموز الدينية عند الغساسنة

في هذا البحث من سلسلة الأردنيون عبر التاريخ سنحيط بجوانب المسيحية الغسانية وكيف أثرت الكنيسة الغسانية على كنائس المشرق. عبر العرض التاريخي لأهم الأحداث الدينية والسياسية والعلاقات المتبادلة مع كنيستي القسطنطينية وأنطاكية.

المشهد العام للمذاهب المسيحية

امتاز القرن الأول الميلادي الذي يسمى تاريخيا “قرن الرسل – تلاميذ المسيح” بأنه القرن الذي انطلقت فيه المسيحية إلى العالم. انتشرت عن طريق الرسل والمبشرين في أنحاء كثيرة في الأردن وسوريا والعراق والحجاز ولكن سرعان ما تعرض أتباعها للاضطهاد على يد الأباطرة الرومان الذين كانوا يدينون بالوثنية.

بعد مرور قرنين ونصف تقريبا، اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية وتحولت الإمبراطورية بأكملها للدين المسيحي ونقلت العاصمة إلى مدينة بيزنطة الواقعة على البسفور وبدأ عهد جديد.

العاصمة الجديدة للإمبراطورية البيزنطية

في ذات الوقت كانت المسيحية تتعدد مذاهبها. في المشرق وجدت  العديد من المذاهب (الأريوسية [1]والنسطورية والمونوفيزية -اليعقوبية والأرثوذكسية الميافيزية) وما يعنينا منها هم المذاهب الثلاثة النسطورية والمونوفيزية والميافيزية  فقد كان الأردنيون الغساسنة يدينون بالمونوفيزية، وكان أعداؤهم المناذرة يدينون بالنسطورية وكانت الإمبراطورية البيزنطية تدين بالأرثوذكسية الميافيزية.

 لعبت هذه المذاهب دورا حاسما في العلاقات السياسية بين الدول والممالك آنذاك (المملكة الغسانية، مملكة الحيرة، الفرس الساسانيون، الإمبراطورية البيزنطية)، إذ لم يقتصر دور المسيحية ومذاهبها على  تشكيل أنماط العلاقات السياسية بين تلك الدول إنما كانت محركا ثقافيا وحضاريا مهما يجب أن نتلمس آثاره التاريخية في الأردن.

المذهب الأول: النسطورية

أيقونة لمجمع أفسس عام 431 المعقود لمحاربة النسطورية، ويظهر في المنتصف الإمبراطور قسطنطين وحوله القساوسة

كان البطريرك نسطور الذي عين عام 421 ميلادي في كنيسة أنطاكية يحمل أفكارا مختلفة. تتلخص أفكاره بالفصل التام بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص السيد المسيح ووفقا لآرائه فإن المسيح قد منح الصبغة الإلهية عندما تم تعميده وقد نزعت منه عندما تم صلبه ولهذا لا يقول عن السيدة مريم بأنها أم الرب بل يقول أم المسيح. عقد مجمع أفسس عام 431 وتم عزل نسطور عن منصبه الديني وتمت الدعوة لمحاربة النسطورية. (قاشا: 2005) هرب أتباع النسطورية من الأردن وسوريا خوفا من الاضطهاد إلى العراق وكانت تحت حكم الإمبراطورية الفارسية. لم يطل الأمر، حتى ازداد أتباع النسطورية واعتنقها المناذرة في مملكة الحيرة ليضاف سبب آخر للعداء بين المناذرة والأردنيين الغساسنة.

المذهب الثاني: المونوفيزية

المذهب المونوفيزي هو مذهب الأردنيين الغساسنة. وبحسب عقيدة هذا المذهب فإن للمسيح طبيعة واحدة هي طبيعة إلهية اختلطت بها الطبيعة البشرية. ووفقا للمصادر التاريخية فإن من ثبت هذا المذهب بين الغساسنة وسكان المشرق الآخرين هي الملكة الأردنية ماوية، التي خاضت حروبا ضد الإمبراطورية البيزنطية وأرّقت القادة الحربيين. وصفت الملكة ماوية بالملكة الخطيرة والشرسة التي قادت جيشها بنفسها ودمرت الثغور البيزنطية في الأردن وسوريا ومصر وفلسطين ولبنان.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

 اضطر البيزنطيون لعقد صلح مع الملكة ماوية وتلبية كافة شروطها. كان شرطها الأهم هو تولية القس يعقوب البرادعي على مسيحي القبائل الأردنية في بالبادية الشرقية.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

ظل ذكر القس البرادعي والملكة ماوية حاضرا في الأدبيات الغسانية، وظلت شخصياتهما ملهمة للغساسنة كدافع للتمسك بمذهبهم الديني.

المذهب الثالث: الأرثوذكسية الميافيزية

أما المذهب الثالث فهو مذهب الميافيزية الذي دانت به الإمبراطورية البيزنطية. والميافيزية تعني أن للسيد المسيح طبيعتين إلهية وبشرية وهاتان الطبيعتان موجودتان معا في شخص المسيح.

لقد رسمت المذاهب الثلاث السابقة طبيعة العلاقات بين الغساسنة وكل من المناذرة والبيزنطيين. فأحيانا كانت تغلب الصراعات المذهبية وأحيانا أخرى تغلب المصالح الاقتصادية والسياسية. وما يمكن قوله بثقة بهذا الصدد، أن الأردنيين الغساسنة كانوا متمسكين بشدة بمذهبهم الديني وقد دعاهم هذا لتحدي الإمبراطورية البيزنطية عام 500 ميلادي وشن حملة عسكرية على الحامية البيزنطية في فلسطين. فيما بعد، اتخذ الأمر شكلا أكثر سلمية بين الأردنيين الغساسنة والبيزنطيين، فقد جنح البيزنطيون للسلم وأجبروا على احترام المذهب المسيحي الغساني. أما بالنسبة للمناذرة الذين اعتنقوا مذهب المسيحية النسطورية  في أواخر القرن الرابع ميلادي تقريبا فقد كانوا طوال الستة قرون على عداء كبير مع الغساسنة.

مسيحية الغساسنة وفق الخط الزمني للأباطرة البيزنطيين

كما ناقشنا سالفا، اعتنق الأردنيون الغساسنة المذهب المونوفيزي المسيحي على يد القديس يعقوب البرادعي ولهذا تمت تسميتهم باليعقوبيين أو اليعاقبة. ولندرة المصادر والتوثيق حول المسألة، لا تاريخ محدد يمكن الوثوق به لانتشار المذهب بينهم وتمسكهم فيه. ولكن يمكننا البدء من القرن الثالث – الرابع الذي شهد حملات الملكة البدوية الأردنية ماوية على الإمبراطورية البيزنطية وتعيينها للقديس البرادعي في بداية القرن الثالث ميلادي وبهذا سنضع أنفسنا على خط  زمني تقريبي يتتبع التطورات التاريخية الدينية لدى الغساسنة.

سنناقش في هذا الفصل من بحثنا الأزمات والأحداث التي مرت بها المسيحية عند الغساسنة، وسنعتمد التقسيم الذي أرساه الباحث عرفان شهيد في كتابه “Byzantium and the Arabs in the sixth century”  والذي يعتمد على الحقب التي حكمها الأباطرة البيزنطيين وعلاقتهم الكنسية مع الأمراء والملوك الغساسنة.

أناستاسيوس الأول Anastasius I  (491- 518)

عملة ذهبية من حقبة الإمبراطور أناستاسيوس

تصنف حقبة الإمبراطور أناستاسيوس بأنها حقبة ذهبية فرغم أنه كان على المذهب الميافيزي إلا أنه كان منفتحا للغاية على المونوفيزية الغسانية. انعكس هذا على العلاقات السياسية بين الغساسنة والإمبراطورية.

تأثرت سياسته الدينية الكنسية بشخصيتين هما القديس فيلوكسينوس المنبجي[2] وساويرس الأنطاكي[3] وكلاهما كانا مدافعين غيورين عن المونوفيزية.

صورة للقديس المنبجي

ولد القديس المنبجي في مدينة منبج وهي مدينة سورية خضعت لإمارة الغساسنة. وكان قد شهد الاضطهاد الذي عاناه المسيحيون في بلاد فارس والاضطهاد الذي عاناه المونوفيزيون في الإمبراطورية الرومانية. اشتهر كثيرا بروحانياته ورسائله إلى المؤمنين بالصبر كما بعث بالعديد من الرسائل لملوك المناذرة الذين كانوا يدينون بالنسطورية دعاهم فيها لاعتناق مذهبه ولإيقاف الحرب الدينية التي كانت تثور من حين لآخر.

رغم أن محاولات القديس المنبجي بدعوة المناذرة للمذهب المونوفيزي قد فشلت إلا أنها نجحت مع حِمير وحضرموت ونجران وبعض مناطق فلسطين واعتنق أهالي هذه المناطق المونوفيزية بتأثير القديسين أمثال المنبجي وغيره.

وله العديد من المؤلفات والترجمات أهمها ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية إلى السريانية. كان المنبجي شخصية يقدرها الغساسنة ويحبونها ويكنون لها الاحترام ويدينون لها في الدفاع عن مذهبهم في بلاط الإمبراطور البيزنطي.

أيقونة للأنبا ساويرس الأنطاكي

أما بطريريك كنيسة أنطاكية فهو من البطاركة القلة الذين كانوا مونوفيزيين أيضا وقد تولى بطريركية أنطاكية عام 512 ميلادي. سويا، المنبجي والأنطاكي، استمالا الإمبراطور البيزنطي أناستاسيوس إلى المونوفيزية في العقد الثاني من القرن السادس الميلادي. ولهذا تسمى هذه الفترة بالفترة الذهبية على الصعيدين الديني والسياسي.

الجو العام

في تلك الفترة عقدت بعض المجامع للدفاع عن العقيدة المونوفيزية وتبيين الفروق بينها وبين النسطورية وتكاثفت المؤلفات وكان الجو محفزا لكثير من الإنتاج في مجال الكتابة الدينية. وبسبب هذا الجو، امتدت المونوفيزية  إلى فلسطين بيد الغساسنة المبشرين. كان أول احتكاك بين الغساسنة والأهالي في فلسطين وقتما قاد الملك الحارث حملة عسكرية ضد فتنة أحدها اليهود السامرة والبيزنطيين. ورغم أن كنيسة المقدس تدين بالميافيزية إلا أن الجو العام لم يكن ليؤدي لحرب دينية.

 لا يمكننا أن نغفل عن دور مدينة “بيت راس” الأردنية في صياغة كل هذا المشهد، فقد كانت إحدى العواصم الدينية المهمة تحت اسم “كابوتلياس” واحتوت عدة أديرة، وشارك القساوسة المسؤولون عن أديرتها في كتابة مؤلفات تدافع عن عقيدتهم إضافة لحضور المجامع الدينية آنذاك. وقد أقيم في كاتدرائية بوسطرا – بُصرى – حفل عيد تكريس[4] الكاتدرائية الذي تذكره المصادر في أيلول 512 – آذار 513 وكان يحضره الملك الغساني الفيلارخ الحارث آنذاك. وتذكر المصادر والتواريخ الكنسية حضور الملوك والغساسنة لجميع الأعياد والتكريسات في مختلف الكنائس.

مصير القديسين الأنطاكي والمنبجي

تسلم الإمبراطور جوستين الأول الحكم بعد أناستاسيوس ولم يكن يمارس نفس السياسة الكنسية. فعقب توليه للحكم أمر بطرد 12 قس منهم الأنطاكي والمنبجي إن لم يؤمنوا بالميافيزية. مارس الإمبراطور شتى أنواع التعذيب على القساوسة والقديسين فنفى المنبجي وحبسه في بيت أوقدت النار فيه فمات مخنوقا.

أما القديس الأنطاكي فاضطر للجوء إلى مصر وبقى فيها حتى مات. بهذا انقضى عهد أناستاسيوس الذهبي، العصر الذي ازدهرت فيه العلاقات بين البيزنطيين والغساسنة، بنت أديرة كثيرة وانتشر السلام بين الطوائف، أقيمت التكريسات والأعياد وتم إنتاج مصنفات ومؤلفات دينية مهمة، وفي نهاية هذا العهد قدم الغساسنة شهداء كُثُر في سبيل الحفاظ على عقيدتهم.

 جوستين الأول Justin I (518- 527)

انتهى عهد أناستاسيوس ودشن جوستين الأول عهدا عنوانه الاضطهاد الديني لكل ما هو مخالف لما يؤمن به. طرد 12 قسا وعذب الكثيرين. انسحب الكثير من الأردنيين الغساسنة من المشهد البيزنطي الحربي اعتراضا واحتجاجا على انتهاكات الإمبراطور. وأمام هذا السيل العنيف من المواجهات صمد الأردنيون الغساسنة وتمسكوا بمذهبهم ولم يكترثوا لمحاولات جوستين الأول بتحويلهم عن عقيدتهم.

عام 519 نفى الإمبراطور أسقف مدينة إفاريا (حوارين) – تقع في سهول حوران الأردنية – وكان غسانيا، وحارب الإمبراطور هذه الأسقفية وحاول تدميرها. وتذكر المصادر الكنسية بأن اسم الأسقف الغساني كان جون أو يوحنا – يقابله يحيى بالعربية.

صار الغساسنة الحُماة الوحيدون لمذهب المونوفيزية في المشرق بأكمله في عهد جوستين الأول إلا أنهم حظوا بدعم الإمبراطورة ثيودورا زوجة جستنيان، الإمبراطور البيزنطي الذي تلا جوستين الأول في الحكم.

 جستنيان Justinian  (527-569)

عملة ذهبية يظهر فيها الإمبراطور جستنيان الأول

متسلما مقاليد الحكم من عمه الإمبراطور جوستين الأول، أدار جستنيان الإمبراطورية كما كان عمه يفعل. لم تحصل تغيّرات في السياسة الدينية في البدء وظل الجو العام متوترا لكنه انشغل بالحرب التي كان الفرس قد شنوها على الإمبراطورية وكان الوضع الداخلي في القسطنطينية متوترا كذلك. لم يشأ جستنيان أن يزيد الوضع سوءا وأن يعود لممارسة الانتهاكات الدينية التي مارسها عمه جوستين الأول فانصرف لإصلاح الوضع الاقتصادي والسياسي وعقد الصلح مع الفرس وأخمد الثورات الداخلية.

في ذلك الوقت كانت مملكة الأردنيين الغساسنة تنعم بحالة من السلم النسبي وأنتجت رخاءً ورفاهية حضارية. إضافة لذلك، عمّق الغساسنة علاقتهم مع زوجة جستنيان الأول، الإمبراطورة ثيودورا.

الغساسنة وثيودورا

أيقونة فسيفسائية للإمبراطورة ثيودورا

رغم كونها إمبراطورة بيزنطية إلا أنها ذكرت كثيرا في كتب التاريخ الكنسية كملهمة ومساعدة للغساسنة ومدافعة عن مذهبهم الديني. انشغلت ثيودورا بدراسة الدين المسيحي ولم تكن مقتنعة بالميافزية بل اعتنقت المونوفيزية. خففت الإمبراطورة كثيرا من حدة السياسات الدينية البيزنطية. عرفت بالإمبراطورة مُحبّة الخير والعطف، وكانت تعطي اللجوء والأمان لمن يتعرض للاضطهاد الديني. أعادت بناء الكنائس التي هدمت وأرجعت بعض القساوسة الذين نفوا.

تعاون معها الملك الحارث بن جبلة وكانا صديقين يجمعهما حبهما لمذهبهما. وكانت هي من ساعدت القديس ساويريس الأنطاكي على النفاذ من قبضة التعذيب على يد الإمبراطور جستين الأول.

جوستين الثاني Justin II (565-578)

تميزت حقبة جوستين الثاني بابتداعه لقوانين تنظيمية جديدة على الصعيد الديني والسياسي. ولكن ما يميز هذه الحقبة هو الظهور المتميز للملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة وتصاعد الأحداث السياسية وتأزم المواقف الدينية عقب وفاته.

لم يكن الملك الغساني الحارث محض زعيم سياسي إنما كان أسقفا للكنيسة الغسانية. تولى أعمال الكنيسة المونوفيزية في المشرق وأرسى علاقات جيدة وسلمية مع كنيستي أنطاكية والقسطنطينية رغم اختلاف المذاهب في تلك الحقبة اشتعل فتيل الحرب بين المناذرة والغساسنة لأسباب دينية وسياسية وأثبت الملك الأردني الغساني الحارث كفاءته العسكرية وبسالته في الدفاع عن مملكته.

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

من ناحية أخرى، وطّد الحارث علاقته مع جوستين الثاني الذي كان مونوفيزيا كالغساسنة قبل أن يغيّر مذهبه، إضافة لعلاقته مع الإمبراطورة صوفيا زوجة جوستين التي كانت مونوفيزية أيضا. ونتيجة لجهود الحارث في إرساء السلام بين الكنائس أطلق عليه لقب “الفيلارخ” أو البطريق” وكان يذكر دوما في المصادر التاريخية “البطريق الأمجد الملك الحارث” أو “قائد مسيحي الحواضر البطريق الحارث”.

في عهد الملك الحارث وعهد جوستين الثاني، قويت المسيحية المونوفيزية كثيرا وأعيد تعيين أساقفة غساسنة. لم يدم هذا كثيرا، فعقب هذه الفترة الذهبية، قُتل الحارث في حربه مع المناذرة وتولى بعده ابنه المنذر بن الحارث الغساني عام 569م. سرعان ما تفاقم الموقف وشُخص جوستين بالجنون عام 574م وحكم معه تيبريوس بالتوازي.

تيبريوس Tiberius  (578- 582)

عملة ذهبية للإمبراطور تيبريوس

بعد تسلم تيبريوس مقاليد الحكم تماما عام 578، بدأ عهدا جديدا للقضاء على المشكلات الدينية التي تفاقمت في عهد جوستين الثاني. لقد تواءمت ميول المنذر الغساني والإمبراطور تيبريوس للسلام بين الطوائف المسيحية. لذلك عقب انتصار جديد حققه المنذر الغساني على الفرس دُعي إلى القسطنطينية لزيارة الإمبراطور وتم استقباله بحفاوة بالغة وصفت وصفا دقيقا عند المؤرخين باللاتينية والسريانية.

رغم العلاقات الحسنة التي أنشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدّمت القوات الأردنية الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فعقدوا معاهدة صلح عند قبر القديس جرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا،  فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات بشنّ حرب أخرى على المناذرة، ما جعل البيزنطيون يتهمونه بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.

وفي أثناء حضور المنذر الغساني لقدّاس في إحدى الكنائس، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نُفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته.

انقسم المذهب المونوفيزي الغساني على إثر هذه الأحداث. فانضم بعضهم لكنيسة الإسكندرية وبعضهم ظلوا يعاقبة أرثوذكس وآخرون صاروا أتباعا للقديس بطرس وسموا “البطرسيون”. أثّر هذا الانقسام على وحدة صفوف الجيش الأردني الغساني. فقد كانت قوة الجيش تعتمد على وحدته الدينية وشعور أفراده بالانتماء القبلي وقد تزعزع واحد من هذه الثوابت.

أيقونة مجمع القسطنطينية المقدس عام 581 ميلادي

وكمحاولة لضبط الفوضى الدينية الحاصلة آنذاك، عقد مجمع القسطنطينية عام 581 م. وهدف لمحاربة البدع الدينية وإعادة توطيد العلاقات بين المذاهب وقد حضره المنذر الغساني إلا أن المجمع لم يفضِ للكثير.

 أباطرة آخرون

عملة ذهبية للإمبراطور فوكاس

بقيت الحالة الدينية في مد وجز، فتارة يستعيد الغساسنة قوتهم الدينية ويعيدون تشكيل نظامهم الكنسي موحدا وتارة ينقلب الحال. جاء بعد تيبريوس أباطرة آخرون كالإمبراطور موريس والإمبراطور فوكاس وغيرهم. وتتضارب المصادر التاريخية عن الغساسنة وعن الأحوال الدينية في الفترة ما بعد عهد تيبريوس ولكنها تذكر عدة محاولات من الكنائس الأخرى والمذاهب لتحويل الغساسنة عن مذهبهم ولكنهم لم يفعلوا.

الحالة الدينية في آخر القرن السادس وبداية القرن السابع

يؤرخ العديد من الباحثين نهاية المملكة الغسانية بموت الملك الحارث، فبعده جاء ابنه المنذر الذي انشغل بالحروب. خاض حروبا كثيرة جر فيها شعبه إلى التفرقة والضعف. ووفقا للبناء الاجتماعي للمجتمع الأردني عند تأسيس الإمارة الغسانية والذي ناقشناه في بحث سابق، لم يكن الأردنيون من سكان البادية والحواضر ليرضوا بحاكم لا يأخذ وحدة شعبه كأولوية.

وتوازيا مع هذه الأحداث نهاية القرن السادس، كانت الجيوش الإسلامية تشق طريقها إلى الأردن عبر عقد اتفاقيات صلح وأمان مع القبائل الأردنية التي تعتنق المسيحية حتى حدثت معركة اليرموك عام 636 ميلادي.

خاتمة

استعرضنا في فصول هذا البحث المشهد العام للمذاهب المسيحية في المنطقة آنذاك إضافة للخط الزمني للملوك الغساسنة والأباطرة البيزنطيين. وعبر هذا الخط الزمني، رأينا كيف كانت الحالة الدينية للغساسنة تؤثر وتتأثر بالأحداث والمجريات السياسية والدينية المحيطة. ومما لا شك فيه أن الأردنيين الغساسنة قد ضُرب فيهم المثل في الثبات على المبدأ والصمود.

اليوم يشكل الأردنيون المسيحيون على اختلاف طوائفهم ما يقارب 2% من سكان الأردن. شاركوا في بناء هذا الوطن منذ القدم، عاشوا لحظات الثورة ضد المحتل وقدّموا الغالي والنفيس لتظل الحرية عنوانا لحياة الأردني.

المراجع

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.1, Part 2, the ecclesiastical history, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  •  Shahid (1996) Byzantium and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks Washington D.C
  • اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية

[1] نسبة إلى أريوس وهو كاهن مصري بدأ ينشر تعاليمه مطلع القرن الرابع الميلادي. تتلخص عقيدة مذهبه بأن “الله واحد أحد وهو الواحد السرمدي، ليست له بداية وهو وحده الحق، وهو وحده الذي لا يموت، وهو وحده الحكيم اللطيف. أما ابن الله فليس في وسعه أن يحوز على الصفات المنفردة للأب” وكان يقول بأن المسيح عيسى مخلوق غير معصوم إنما مستقيم الخلق. أدينت الأريوسية وحكم على الكاهن أريوس بالنفي والإبعاد. المصدر: صفحات من تاريخ المسيحية قبل الإسلام، الأب قاشا (2005) ص 21-22

[2]  للمزيد انظر: https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/patrology/phiukcinoc.html

[3] للمزيد انظر: https://st-takla.org/Saints/Coptic-Orthodox-Saints-Biography/Coptic-Saints-Story_1065.html

[4] التكريس مفهوم مسيحي متشعب يعني الحياة الرهبانية والخدمة الكهنوتية، للمزيد أنظر http://www.chaldeaneurope.org/2013/09/23/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%80%D9%80%D9%88%D9%85-%D9%83%D9%84%D9%85%D9%80%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D9%80%D8%B1%D9%8A%D8%B3/

الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام

مقدمة

يزخر تاريخ الأردن بنماذج نسائية مشرفة. ولا عجب أن تكون عليا الضمور وبندر ومشخص المجالي وغيرهن من نساء الثورة ضد المحتل العثماني سليلات تاريخ أردني طويل من الكفاح ضد الاحتلال والظلم.

إننا بصدد واحدة من هذه النماذج الفريدة التي تجعلنا ندرك بشكل أعمق كيف أن المرأة الأردنية لم ترض ولا بأي مرحلة تاريخية بغير الاستقلال والحرية. الملكة ماوية ملكة أردنية بدوية حكمت القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية. سنستعرض في هذا البحث حياة هذه الملكة المحاربة.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

توليها الحكم والمشهد العام

تولت الملكة ماوية الحكم بعد وفاة زوجها عام 375 ميلادي ( والذي تذكر بعض المصادر أنه كان أميرا غسانيا) وشكلت تحالفا قويا كونته من جميع القبائل الأردنية البدوية في البادية الشرقية.  كانت علاقة الإمبراطورية الرومانية مع القبائل الأردنية في البادية الشرقية الأردنية علاقة متوترة دوما. لم يعرف عن الأردنيين يوما أنهم خضعوا لولاية بالقوة، فهم دوما يُجمعون إجماعا على من يرأسهم بالعدل ولهذا لم يرضَوا بالولاية التي كانت تحاول الإمبراطورية الرومانية فرضها.

 زادت حساسية المنطقة التي سكنتها القبائل الأردنية وعقدة الجغرافيا الأردنية من توتر الموقف بينها وبين الرومان. فالبادية الشرقية الأردنية منطقة استراتيجية تمر بها كل القوافل التي تقصد الشرق الأقصى واليمن ومصر. وكانت الإمبراطورية الرومانية متخوفة دوما على تجارتها التي لا بد لها أن تمر من مضارب القبائل الأردنية هناك.

بحسب المصادر اليونانية والسريانية  لم تحكم الملكة ماوية Mavia, Mauia  القبائل البدوية الأردنية في البادية الشرقية فحسب إنّما حكمت ما أطلق عليه اليونان “عرب السارسين” والسارسين كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (ساراكينوس)[1] وهم سكان إقليم البترا وما حوله قاصدين بهذا اللفظ الأردنيين الأنباط الذين كانوا بدوا رحلا لفترة طويلة من الزمن قبل تأسيس المملكة الأردنية النبطية وبعد انهيار النظام الملكي النبطي والعودة للنظام القبلي من جديد. انتقلت التسمية إلى القبائل الأردنية وربما عُممت على جميع السكان لكونهم شهدوا اختلاطا وتجانسا سكانيا كبيرا بعدما ضعفت مكانة البترا كعاصمة تجارية عقب الحصار الاقتصادي الذي فرضه الإمبراطور الروماني تراجان لعقود طويلة.

الحرب من أجل الحرية

قادت الملكة ماوية جيوشها الجبارة في الثورة الأولى عام 378 أي بعد ثلاثة سنوات من توليها الحكم. يقارن التاريخيون هذه الثورة بقوة ثورة الملكة زنوبيا ضد الرومان قبلها بقرن من الزمن.

وقد تقدمت نحو الحاميات الرومانية غرب الأردن وفي فلسطين ولبنان وصولا إلى مصر واستمالت سكان وأهالي تلك المناطق بعدالة قضيتها.

يذكر الباحث جواد علي في كتابه  “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” أن الملكة الأردنية ماوية ألحقت دمارا شديدا بالرومان فيقول ”  وقد حاربت الروم مرارا وانتصرت غير مرة، ثم تصالحت معهم. وكان من جملة ما اشترطت عليهم أن يُسقّف على عربها راهب يدعى موسى كان يتعبد في -البادية- وكان معارضا لمذهب أريوس (علي: 2001، ص356)

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

ولأن ثورتها تعد إحدى أهم نقاط التحول في مسيحية المشرق، اهتم مؤرخو الكنيسة بتسجيل تفاصيلها فكتبوا أن ثورة الملكة ماوية كانت كاسحة مدمرة. كتب المؤرخ  الكنسي روفينوس أنها قادت “حربا شعواء أنهكت جيوش الروم في معارك عدة فسحقتهم في العديد منها وهرب منهم ما تبقى“، ويذكر مؤرخ آخر يدعى سوزومين أنها كانت “ملكة خطيرة ” قادت قواتها بنفسها وحاربت بشراسة حتى أن القائد الحربي الروماني تم إنقاذه بصعوبة.

واتفق المؤرخون على حقيقة أن هذه الملكة الأردنية البدوية قد أرضخت الرومان وجعلتهم يوقّعون معها صلحا بشروطها الخاصة في سبيل نضالها وشعبها نحو الاستقلال والحكم الذاتي، حتى أنهم بعثوا لها لاحقا يرجون المساعدة ضد هجمات القوط (قبائل جرمانية) وقبلت مساعدتهم.

يُحسب للملكة ماوية أنها أذلّت الرومان وجعلتهم يبعثون لها بأقوى قائد حربي لديهم. كانت لديها مقدرة رهيبة على التخطيط الحربي كما كانت فَطِنة لجميع حِيَل الرومان العسكرية مما جعل جيشها يتفوق على الجيش الروماني بشكل سريع ومذهل.

تصوير قديم للملكة البدوية ماوية التي قادت جيوشا وأجبرت الرومان على الصلح معها وفقا لشروطها الخاصة

الملكة المحاربة والأردنيون الغساسنة

ترددت أصداء الحروب الشجاعة التي قادتها الملكة الأردنية ماوية في الأردن وأبعد، وكان الأردنيون الغساسنة معجبين بهذه الملكة المخلصة لوطنها وشعبها وعقيدتها. اعتنق الغساسنة ذات المذهب (المونوفيزي- مذهب ديني مسيحي يؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة تشكلت عن اتحاد الطبيعة البشرية والإلهية معا) المذهب الذي كانت لتقضي عليه الإمبراطورية الرومانية لولا شجاعة الملكة ماوية. ظلت الملكة ماوية ملهمة للغسانيات خصوصا الأميرات منهن لا في مجال السلم والحرب فحسب إنما في الاعتقاد الديني كذلك.

 كما بقيت الملكة ماوية  حية في وجدان الأردنيين الغساسنة واعتبروها نموذجا للمرأة المخلصة للدين والشعب والوطن كما ستظل حاضرة في نفوس أبناء وبنات الأردن اليوم.

المراجع:

  • علي. ج. (2001) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط4)، لبنان: بيروت، دار الساقي
  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • أبحاث إرث الأردن، المرأة الغسانية.
  • أبحاث إرث الأردن، الغساسنة مدخل عام.
  • الملكة ماوية، ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9_%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9

[1] للمزيد انظر : https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86%D9%88%D8%B3

الملكة الأردنية ماوية، الملكة التي قادت جيوشها بنفسها

مقدمة

يُعدُّ وضع المرأة في أي مجتمع دلالة على رقي أو انحطاط هذا المجتمع. فالأمم التي تحترم المرأة وتشركها في مناحي الحياة تتقدم حضاريا على غيرها في سباق التطور. عند تتبع الحضارة التي خلفها الأردنيون الغساسنة عبر الكتب والمصادر نخلص لنتيجة مهمة وهي أن المرأة كانت تتمتع بقوة وحرية كبيرة في المجتمع الغساني، لقد كانت المرأة الأردنية الغسانية نموذجا يريد العالم لنسائه أن يحتذين به وقد جعل هذا النموذج  المشرف الإمبراطور جستنيان يسمي  ابنة أخيه “أرابيا” أي العربية قاصدا بها النموذج الذي رآه في المرأة الأردنية الغسانية.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي أعجب بقوة المرأة الغسانية فسمى ابنة أخيه أرابيا

سنستعرض في هذا البحث أهم محاور مشاركة المرأة الغسانية وكيف أسست هذه المشاركة ومهدت الطريق أمام الأردنيات فيما لحق لأن يكنّ خير سلف للمرأة الأردنية الغسانية في المشاركة الفعالة في السياق الحضاري للأردن.

لكي نفهم أكثر طبيعة اختلاف المجتمع الغساني عن شكل المجتمع الحديث اليوم لا بد لنا أن نتطرق إلى شكلين أو نمطين من أنماط المجتمع وهم الذكوري والأمومي. في الذكوري يتم نسب العائلة وامتدادها للرجل، أما المجتمع الأمومي فهو مجتمع تنسب فيه العائلة لجهة الأم لا لجهة الأب. وقد كان المجتمع الغساني مجتمعا أموميا كما يظهر من أسماء الملوك كعمرو بن هند، أو ابن مارية أو ابن سلمى.

شخصيات نسائية ألهمت المرأة الغسانية

ألهمت العديد من الشخصيات النسائية البدوية المرأة الغسانية فتغنوا بذكر الملكة البدوية ماوية Mavia التي قادت جيوشا من القبائل البدوية في البادية الأردنية الشرقية وهاجمت المصالح الرومانية في المنطقة ودمرتها تدميرا شديدا حتى اضطر الرومان لعقد صفقة صلح معها.

تصوير قديم للملكة البدوية ماوية التي قادت جيوشا وأجبرت الرومان على الصلح معها وفقا لشروطها الخاصة

كانت الملكة ماوية ملهمة للغسانيات خصوصا الأميرات منهن لا في مجال السلم والحرب فحسب إنما في الاعتقاد الديني كذلك. إذ كانت تدين بالمسيحية المونوفيزية (مذهب ديني مسيحي يؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة تشكلت عن اتحاد الطبيعة البشرية والإلهية معا)، وقد فرضت الملكة ماوية شروطها على الرومان وجعلتهم يعترفون بهذا المذهب ويعترفون بالقس المسؤول عن مسيحي الشرق من البدو والحضر وكان اسمه آنذاك يعقوب البرادعي. دان الأردنيون الغساسنة بهذا المذهب وتمسكوا فيه وظلت الملكة ماوية حاضرة في أذهانهم جميعا كصورة للملكة الشجاعة والراعية.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

لم يقتصر تأثُّر المرأة الأردنية الغسانية بالملكة ماوية ولكنه تغذى بصورة المرأة المحاربة والقوية المستلهمة من شخصيات القرون السابقة كزنوبيا (الزباء) ملكة تدمر التي حاربت الرومان طويلا ودافعت عن مملكتها (شهيد: 2009) وهناك مارتيا أوتا سيلا سيفيرا وهي ملكة رومانية، زوجة الإمبراطور الروماني فيليب العربي، إذ ساهمت مارتيا برفقة زوجها بتأسيس حالة سلم ديني وقد عاش مسيحيو الشرق في عهدهما حالة سلم مبتعدين عن الاضطهاد الديني.

المرأة الغسّانية الملكة

تذكر المصادر أسماء 13 ملكة وأميرة من الغساسنة (مارية، حليمة، واثنتان باسم هند، سلمى، أمامة، فاختة[1]، ميسون، الرعلاء، النادرة، ليلى، الدلفى، الرملة) وكما ذكرنا آنفا بأن المجتمع الغساني هو مجتمع أمومي الطابع، النسب فيه للأم لذلك نسب الملوك لأسماء أمهاتهم الملكات كما ذكرنا.

رسم تخيلي لنساء غسانيات

انشغل الملوك الغساسنة بالحروب وأخذت المرأة الغسانية بقيادة الملكات الأردنيات الغسانيات على عاتقها الاهتمام بنواحي الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية. فمثلا كن يُنشئن الأديرة ويُقمن موائد الاحتفالات الدينية والأعياد. ولا يمكن أن نغفل عن “المروءة والكرم” التي ألزمت المرأة الغسانية نفسها بها كما كانت تُلزم الرجال. إذ كانت الغسانية تستقبل الضيف وتكرمه أشد الإكرام وتُجير الملهوف وتمنح حق الأمان لمن يلجأ إليها كما حدث مع الهند بنت النعمان التي سنأتي على ذكر قصتها بشيء من التفصيل، ما يجعلنا في هذا السياق نستذكر قصة حفيدتهن الشيخة عليا يونس العقول الضمور الغساسنة وإجاراتها لقاسم الأحمد الثائر على جيش ابراهيم بن محمد علي باشا .

1. الملكة مارية

ملكة غسانية ينسب لها أعظم ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة والذي كان يعرف بـ “الحارث بن مارية”  (529-569 م). يقول الشاعر حسان بن ثابت في رثاء الملك الحارث بن مارية:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم، المفضلِ

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

كانت الملكة مارية إحدى أميرات مملكة كندة شمال الجزيرة العربية تزوجها الأمير الغساني جبلة وقادا سويًّا حملة ضارية ضد الرومان في فلسطين عام 500 ميلادي قبل أن يدرك الرومان الخطر المحدق بهم إن استمر الغساسنة بحشد القبائل الأردنية ضدهم.

2. الأميرة حليمة

أشهر الأميرات الغسانيات على الإطلاق وباسمها تسمت موقعة حربية كاملة هي (يوم حليمة). عام 544 ميلادي، تجدد الصراع بين المناذرة والغساسنة، الصراع الذي كان يخمد قليلا ويعود للثوران كبركان غاضب. كان النزاع هذه المرة على منطقة مهمة تدعى ستراتا تقع إلى الجنوب من تدمر، وهي منطقة استراتيجية مهمة للطرفين حيث تمر بها القوافل التجارية وترعى بها القبائل البدوية مواشيها. بدأ المنذر، ملك المناذرة، الهجوم فتوغل في المناطق الغسانية وتصدى له الحارث بن جبلة. انتصر الحارث في النهاية وصرع عدوه المنذر بالقرب من قنسرين وتنامى بعدها الخلاف بين الفرس والروم وتراشقت الإمبراطوريتان بالتهم.

وقد تناولت الأدبيات الجاهلية هذه الموقعة، فحسان بن ثابت تغنى “بزمن حليمة” كثيرا في أشعاره فقال:

 وَتَحسُبُهُم ماتوا زُمَينَ حَليمَةٍ

وَإِن تَأتِهِم تَحمَد نِدامَهُمُ غَدا

وقد قالوا في يوم حليمة أيضا:

يوم وادي حليمة وازدلفنا      بالعناجيج والرماح الظماء

كما نجد أن الموروث الشعبي للأمثال احتفى بهذا اليوم فيقال “ما يوم حليمة بسِر” أي أنه مشهور جدا للدرجة التي لا يجهله فيها أحد.

قادت الأميرة حليمة الجيوش للنصر، وكانت مسؤولة عن المؤونة والعتاد والملابس وتمريض الجرحى وذكرت كثيرا في المصادر الحربية هي وأميرة غسانية أخرى تدعى هند شاركت أيضا في ذلك النصر.

لا عجب أن تقود الأميرة حليمة جيش وطنها للنصر فقد كانت جدتها لأبيها الملكة مارية التي قادت وجدها جبلة الحرب على الحامية الرومانية في فلسطين من قبل.

سمي باسم الأميرة حليمة واد ومرج (وادي حليمة ومرج حليمة)، وخُلّدت في الذاكرة والأدب ضاربة المثل في حب الوطن.

3. الملكة الرعلاء

كانت ملكة غسانية نسب إليها ابنها عَدي بن الرعلاء. شاركت في معركة عين أباغ الشهيرة وهي معكرة دارت بين المناذرة والغساسنة أنشد فيها عدي بن الرعلاء شعرا قال فيه مطلعه:

كم تركنا بالعين عين أباغ           من ملوك وسوقة أكفاء

أمطرتهم سحائب الموت تترى        إن في الموت راحة الأشقياء

ليس من مات فاستراح بميت          إنما الميت ميت الأحياء

4. ملكات أخريات

بالاعتماد على المصادر الشعرية كديوان النابغة وديوان حسان بن ثابت يمكننا استخلاص أسماء ملكات كثيرات كالملكة سلمى والملكة فاختة والدلفى وليلى وهند (ملكتان تحملان اسم هند ينسب لواحدة منهما الملك الغساني النعمان بن هند) ولكننا نواجه شُحا في المصادر الأخرى، فلا معلومات عن الحروب التي شاركن بها أو الإنجازات التي قمن بها، ولكن يمكننا أن نشير بثقة إلى أن السياق العام للمرأة الغسانية كان سياقا يشجعها على الإنجاز والعطاء ويلزم الملكة بممارسة واجباتها تجاه شعبها.

المرأة الغسانيّة الفنانة

لا شك بأن المرأة التي شاركت في الحرب والسلم وكانت حجر أساس في المجتمع الأردني الغساني، أن تكون أيضا ذات بصمة في الفنون. ورغم نقص المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها بشكل كبير، إلا أن شعر حسان بن ثابت يعتبر مصدرا مهما وهو الذي يعده الباحثون الوثيقة الاجتماعية الأهم لحياة الغساسنة . ومنها أن حسان بن ثابت يذكر في شعره وصفا دقيقا لمجلس الغناء.

صورة للآلات الموسيقية التي كانت الفنانات الغسانيات يستعملنها

إذ يورد ذكر “المُسمِعة” أي المغنية، ويصف لباس المغنيات وهو لا يختلف كثيرا عن لباس النسوة في المجتمع عدا عن أنهن يرتدين الحلي الغالية جدا مما يحصلن عليه جراء غنائهن. ويذكر أسماء المغنيات اللواتي كن يرتَدن ديوانه أيضا فهنالك ليلى وزينب وشذى والنادرة وأم عمر والعامرة ولميس. وللمغنيات تحديدا العديد من الألقاب الوظيفية عدا عن المُسمعة، فقد سماهم الغساسنة “مدجِنة، داجنة، صادحة، رومية ” (شهيد: 2009) وبإمكاننا أن نعتبر أن تعدد مسميات الأمر عندهم هو دلالة على أهميته ولا نغفل بالطبع عن الثورة الشعرية التي أحدثتها القيان في أوزان البحور الشعرية فقد كان وجودهن محفزا للشعراء على الإبداع والتجديد (الأسد: 1969)

المرأة الغسّانية الشاعرة

برعت الأردنيات الغسانيات بالشعر كثيرا وكان صيتهن يجوب المنطقة بأكملها. ارتبطت ممارسة الشعر عندهن بمناسبات اجتماعية ومواقف معينة. فمثلا استخدمن الشعر في طلب الإجارة أو إعطائها وفي الرثاء والغزل وفي الرجز (بحر شعر مرتبط بالحرب وتشجيع الجنود والمحاربين). لم يصلنا الكثير من أشعار الغسانيات للأسف إنما استدللنا عليها من ذكرها في المصادر التاريخية ومن شعر حسان بن ثابت.

المرأة الغسّانية والدين

آمن الغساسنة بالمسيحية وكانوا مخلصين لمذهبهم، فكما ناقشنا في بداية البحث، اعتنقوا المذهب المونوفيزي بتأثير من الملكة البدوية ماوية التي فعلت الكثير لتثبيت هذا المذهب في المشرق. كانت صورة السيدة مريم العذراء تَمثل دوما أمام كل امرأة غسانية. فالسيدة مريم مثلت بالنسبة إليهن الصورة الكاملة للمرأة الأم التي تكافح وترعى الجميع.

امتد تأثير السيدة مريم ومن بعدها الملكة ماوية إلى الملكات الغسانيات تحديدا فبنين العديد من الأديرة. كما تسمين باسمها ونسبن أولادهن لهن فنرى أن اسم والدة أحد ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة تسمى “مارية” وهو أحد أسماء السيدة مريم. (شهيد: 2009)

الشهيدات الغسانيات

عظمت الملكات الغسانيات سيرة الشهيدات اللواتي قضين نحبهن وهن متمسكات بدينهن أمام الاضطهاد الديني. عام  520 ميلادي قتلت حوال 100 امرأة من نجران التي كانت تابعة آنذاك لحكم مملكة كندة ومن ثم لحكم الغساسنة، فآوت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وكانت من أهمهن امرأة تدعى “رُحُم” ذكرت كثيرا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة (شهيد: 2009)

تصوير كنسي لثاؤذتي وعائلتها، الذين خلدوا في الذاكرة لتمسكهم وإخلاصهم لدينهم في مواجهة الاضطهاد الديني الروماني

تعد قصة الشهيدة ثاؤذتي وبناتها انسيموس وابرابيوس ولانديوس إضافة لابنيها الطبيبين قزمان ودميان من القصص المؤثرة للغاية. كانت ثاؤذتي امرأة طيبة القلب ربت أبناءها على أن يكونوا مخلصين للمسيحية. دفعت بابنيها قزمان ودميان لتعلم الطب وعلاج المرضى المحتاجين والمساكين بالمجان أما بناتها الثلاث فسلكن طريقة الرهبنة ووهبن حياتهن للكنيسة. عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية بدأ بتعذيب الأهالي المسيحيين بطريقة وحشية وكانت ثاؤذتي وعائلتها من الذين خضعوا طويلا للاضطهاد الديني.

تصوير كنسي لثاؤذتي وعائلتها

وقفت ثاؤذتي بشجاعة أمام الإمبراطور نفسه ونهرته عن أفعاله فقطع الإمبراطور رأس ثاؤذتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب حتى صرخ ابنها القديس قزمان وقال:”  يا أهل المدينة أليس فيكم أحد ذو رحمة ليستر جسد هذه العجوز الأرملة؟” فقاموا ودفنوها. وغضب الإمبراطور من ذلك فأعدم باقي عائلتها. وبحسب الروايات المسيحية نالت هي وأبناؤها إكليل الحياة وصورت وهي ترتديه في الكنائس والأيقونات كما بنيت أكبر وأقدم كنيسة تمجد ذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان في مدينة جرش.

المرأة والحج

كان المجتمع الأردني الغساني بأكمله يمتلئ حماسا عند موسم الحج المسيحي خصوصا. شاركت المرأة بطقوس الحج الدينية بشكل أكبر حتى من الذكور. يذكر الأصفهاني اسم أميرة غسانية تُدعى ليلى كانت ترعى الحجاج وتساعدهم وتؤمن لهم المأوى والطعام. ويمكننا القول بثقة أن المرأة الغسانية بناء على رحلات الحج تمتعت بحرية تنقُّل كبيرة وذمة مالية مستقلة ساعدتها على الإنفاق على رحلتها أو على مساعدة الحجيج الآخرين.

اكتسبت المرأة الأردنية الغسانية صفة “الحاجّة” وكانت من تمتلك هذا اللقب تحظى باحترام كبير. اقترن هذا اللقب بداية بصفية بنت ثعلبة وهي امرأة غسانية أعطت “حق الجوار” أي الأمان  للأميرة هند بنت النعمان آخر أميرة من سلالة المناذرة وكانت تدين هي الأخرى بالمسيحية. وصفت صفية بنت ثعلبة بالحاجّة أو الحجيجة (صيغة تحبب وتصغير) وكانت شاعرة مُجيدة، حتى أن الأبيات الشعرية التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند لا زالت موجودة تشهد لها على حسن الخلق:

أحيوا الجوار فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبان

ما العذر قد لفت ثيابي حرة

مغروسة في الدر والمرجان

بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى

ذات الحجال وصفوة النعمان

كان الغساسنة مؤمنين مخلصين يهتمون للغاية بتقويم الأعياد المسيحية. ارتبطت المرأة الأردنية الغسانية روحيا بأعياد السيدة مريم العذراء[2]. في سجلات الكنيسة  يكاد يغيب ذكر الذكور في أغلب ما يتعلق بهذه الأيام وتنفرد النساء الغسانيات بالتجهيز لتلك الأيام المقدسة.

لم تقتصر حياة الرهبنة على الرهبان، إنما كانت النساء الغسانيات أكثر ميلا لهذه الحياة. “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتخذه الراهبات فينقطعن عن الملذات ويهبن حياتهن لأعمال الخير والعبادة.

وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس الذي يُنسب إلى الغساسنة عن طريق والدته[3] “بالرواهب – الراهبات”، كما ذُكرن أيضا في شعر حسان بن ثابت. وكان التنظيم الذي تتبعه رهبنة النساء الغسانيات يقسم للراهبات العاديات وللراهبة الأم التي تسمى “حَيجمانة أو هَيجمانة”.

المرأة الغسانية في السلم وفي الحرب 

خاض الأردنيون الغساسنة الكثير من الحروب وكانت النساء ترافق المحاربين لأغراض علاج الجرحى وتطبيبهم. ولمرافقة الغسانيات لأزواجهن في الحرب أبعاد اجتماعية أخرى كالتشجيع والحماسة فأغلب الأردنيات الغسانيات شاعرات يتقن بحر “الرجز” وهو بحر شعري كان مقتصرا على إنشاد الشعر في الحرب، والجدير بالذكر أن الرجز في المنطقة كان محصورا في الرجال ولكن النساء الغسانيات دخلن هذا المجال الفني وأبدعن فيه.

انصرفت المرأة الأردنية الغسانية في أوقات السلم للأعمال الخيرية الاجتماعية والدينية. فكما قلنا كانت النساء مخلصات للمسيحية فاهتممن بالحجاج وأقمن الموائد الخيرية.

المرأة الغسّانية والحياة الأسرية

تقدس المرأة الغسانية الزواج باعتباره رابطا مقدسا يربط روحين معا للأبد. فبعد احتفال “المِلاك” يصبح الزوجان كيانا واحدا. ولما كانت كل الجيوش تسير لحماية حدود الإمارة وخوض الغزوات، كانت المرأة الغسانية تعتني بالمنزل عند عدم مرافقتها للجيش، إضافة إلى ممارسة التجارة والزراعة وبذلك تبقى عجلة الحياة الاجتماعية مدارة دون توقف أو تعطل.

ويمكن القول بثقة أنّ المرأة الغسانية كانت شديدة التمسك بزواجها ويظهر ذلك من الأشعار الكثيرة التي خطتها الغسانيات حزنا على أزواجهن الشهداء في الحروب والغارات. احتذت الشاعرات في شبه الجزيرة العربية فيما بعد بالنموذج الشعري الملهم الذي رسمته الأردنية الغسانية الشاعرة الرقيقة فبرزت أسماء كالخنساء التي كتبت الكثير من القصائد الرثائية (يموت: 1934)

الخاتمة

تمتعت المرأة الأردنية الغسانية بكثير من الحرية والاستقلال الذاتي وشاركت بقوة في شتى محالات الحياة. خاضت حروبا ومارست الفنون والغناء وكانت مخلصة لدينها متمسكة فيه. لم يثنها عن ممارسة واجبها الوطني أي شيء. وساهمت بحضور مؤثر في السياق الحضاري للمجتمع الأردني الغساني ونهضة المملكة الأردنية الغسانية وهو ما انتقل بالفطرة لحفيداتها الرائدات الأردنيات عبر العصور.

المراجع:

  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • الأسد، ناصر الدين . (1969)، القيان والغناء في العصر الجاهلي (ط2)، دار المعارف: مصر
  • أبحاث إرث الأردن، الحياة الاجتماعية عند الغساسنة الأردنيون
  • أبحاث إرث الأردن المنشورة، كنيسة القديسين قزمان ودميان في جرش
  • أبحاث إرث الأردن، المجتمع الغساني، الترف الحضاري والحرية
  • أبحاث إرث الأردن، الغساسنة: العلاقات السياسية الخارجية
  • تمجيد وقصة القديسين قزمان ودميان، موقع نبض الكنيسة
  • يموت، ب. (1934)، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام (ط1)، الدار الأهلية: بيروت
  • المرزباني، ع. (2005) معجم الشعراء (ط1)، دار صادر، بيروت

[1] الفاختة: الحمامة ذات اللون الأبيض

[2] للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AF_%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1

[3] كان النسب قديما إلى الأم في نظام اجتماعي يسمى بالنظام الأمومي.

المرأة الأردنية الغسانية، ملكة ومحاربة وأكثر

 

لم يغب عن الإنسان الأردني في العصر الحجري أن يخلّد حياته وطبيعته عبر الفن. يظل الفن الوسيلة الإنسانية الأكثر رقيا وتعبيرا عن روح الإنسان. في النقوش الكثيرة التي وجدت في الصحراء السوداء (صحراء البادية الشرقية الاردنية) سنرى  الإنسان الأردني وهو يعكس لنا شغفه بالطبيعة، وطقوسه السحرية في الصيد وفخاخ صيد الغزلان. حيوانات بقرون عظيمة وصيادون يرمون السهام: فن حجري مدهش من رحم الصحراء الأردنية السوداء.

تقدم لكم إرث الأردن ترجمة عن آخر مكتشفات “مشروع البادية الأردنية الأركيولوجي” الذي وثّق أكثر من 400 نقش وتصوير على حجارة الصحراء السوداء الأردنية.

صورة جوية لوادي قطافي في الصحراء الأردنية السوداء

” يظل السؤال ملغزا: لِمَ لا توجد أي  غزلان في الرسوم والتصاوير المنقوشة على الصخور (البيتروغليفيات)” يقول باحث أمريكي  قضى سنوات وهو يدرس الصحراء السوداء في البادية الشرقية الاردنية.  ” هل يمكن أن تكون حيوانات – بقرون مثيرة كقرون حيوانات المها والوعل والكودو؟ هل كانت تلك الحيوانات مثار اهتمام القدماء الذين زاروا تلك الواحات؟” يتابع الباحث تساؤلاته.

يورك روان، عالم آثار وأنثروبولوجيا يعمل في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاجو، يتابع قوله: ” ربما يكون الوعل والكودو والمها حيوانات نادرة او معروفة في مناطق أخرى وقد صورها الصيادون لحنينهم ورغبتهم فيها.. أو ربما يحتاج الأمر قوى سحرية عظيمة ليصطاد المرء هذه الحيوانات، ويتابع مشيرا إلى أن الأمر يحتاج قدرا كبيرا من البحث في أعماق الصحراء السوداء، إذ لم يتم البحث سوى قليلا جدا في هذه الصحراء”.

الفن على الأحجار في الصحراء الأردنية، تصوير لشخصين غير واضحين

وفي وادي وساد، وثّق مشروع البادية الشرقية الأركيولوجي أكثر من 400 نقش صخري (بيتروغليفي) وتصميمات هندسية وحيوانات وأفخاخ للحيوانات. ووفقا لما يقول العالم روان فإن الباحثين يسجلون منطقة اكتشاف كل نقش وتصوير بالتفصيل. وحالما تكتمل هذه الخطوة سيقارنون النتائج مع النقوش الأخرى المكتشفة في الأردن إضافة لتلك التي اكتشفت في السعودية.

صورة جوية لوادي وساد

“بشكل غريب، من النادر تصوير البشر في النقوش المكتشفة في وادي وساد” بالطبع، بعض النقوش غير واضحة ومن المستحيل فهم ما كان يجول بخاطر الفنانين القدماء ولا يمكننا بطيعة الحال أن نكون متأكدين أي نوع من الحيوانات يتم تصويره” يوضح روان: “غياب الغزلان من الرسوم المنقوشة مثير للفضول فأثناء التنقيبات في وادي وساد ووادي قطافي اكتشفنا عظام غزلان في المساكن التي تعود للعصر الحجري الحديث وهذا ما جعلنا نتأكد أن الغزلان كانت مكونا مهما في النظام الغذائي لسكان المنطقة من ذلك العصر”.

مشكلة أخرى تختص بعدم مقدرة الباحثين على تأريخ الفن المصور على الأحجار ولهذا فهم لا يستطيعون معرفة ما إذا كانت الرسوم قد نقشت أثناء العصر الحجري الحديث أم بعد انقضاءه.” إننا نعلم، على سبيل المثال، أن الجمل لم يكن حيوانا معروفا في تلك المنطقة إلا في مرحلة متأخرة جدا، ربما في أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد. ومن غير المعتاد رؤية فخاخ الحيوانات التي عادة ما تسمى “كايتس” سوى في تصاوير هذه المنطقة”.

“فخاخ الكايتس هي ميزة ميزات البادية الشرقية الاردنية وما حولها. تستعمل هذه الفخاخ خطوطا طويلة من الصخور لدفن قطعان الغزلان عبر إحاطته ورمي السهام عليه. غالبا ما تكون هذه الفخاخ قد تطورت في أوائل العصر الحجري الحديث واستمرت لآلاف السنين وامتدت السلاسل الحجرية من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء ” ويضيف روان:” إن الصيادين يعبرون عن أهمية هذه السلاسل عبر الفن الحجري في وادي وساد”.

المصدر

http://www.jordantimes.com/news/local/black-desert-petroglyphs-uncover-neolithic-animal-life

فن النقوش الحجرية: الصحراء السوداء الأردنية تكشف الحياة الحيوانية في العصر الحجري الحديث

 

تتوالى الاكتشافات العلمية في إذهالنا والتأكيد على حقيقة قِدَم وعُمْق السياق الحضاري والإنساني للأردن والأردنيين . وبالطبع توجد العديد من المواقع الأثرية التي تؤرخ للعصر الحجري الحديث في الأردن والتي بالتالي تؤرخ لبداية تأسيس المجتمعات الإنسانية في العالم. من صيد الحيوانات والترحال إلى الزراعة والاستقرار ومن عدم دفن الموتى إلى دفنهم في المساكن ومن ثم في مقابر منفصلة.

تقدم لكم إرث الأردن ترجمة لأحدث ما اكتشفه الباحثون في ممارسات الدفن في وادي فينان حيث انطلقت أولى المجتمعات الإنسانية في رحلتها نحو الاستقرار والتطور.

في وادي فينان وعلى مسافة 140 كلم جنوب العاصمة عمان تم اكتشاف مقبرة في الموقع الأثري WF16 – العصر الحجري الحديث وعمرها ما يقارب الأحد عشرة ألف ومئتين سنة، وأضاف الباحث أن هذا الاكتشاف يدل على معدل وفيات عال عند تلك المجتمعات المحلية.

يقول الباحث ميثن : “إن هذه المدافن التي تتضمن حديثي ولادة وأطفالا تؤشر إلى ارتفاع معدل الوفيات في هذه المجتمعات الماقبل تاريخية.”

مدافن وادي فينان

لقد دفنت الجثث في قبور محفورة داخل أرضيات المنازل ومن ثم سقفت بالطين والجص، يوضح ميثن مضيفا:” لقد وضعت الجثث في وضعيات النوم، على الجنب ضامة الركبتين إلى الجسد واليدين تحت الرأس”

صورة لجثة من إحدى المقابر وهي تتخذ وضعية النوم

وتم ملاحظة أن بعض القبور كانت تستخدم لدفن أكثر من جثة، وفي بعض الأحيان كانت تزال عظام الجثة الأولى.”فتحت بعض القبور لإجراء عملية دفن ثانية، وفي بعض الحالات كانت عظام الجثة الأولى تُزال”

وتشير الأدلة إلى أن الجماجم كانت تعرض في المنازل، فوفقا للباحث، في بعض الحالات جلبت الجثث إلى الموقع حيث اكتشف العلماء مجموعات من العظام كانت قد لفت بالجص والنسيج المصنوع من الألياف النباتية.

دفنت كل الجثث في موقع السكن نفسه، فمكان السكن كان مقبرة ومكانا للعيش في آن واحد ويتابع الباحث قوله:”أما في مرحلة متأخرة فقد اتخذت المدافن في وادي فنيان مكانا مختلفا”.

وخلال العصري البرونزي والحديدي،  ظهرت المقابر منفصلة عن المساكن، باختلاف أعداد القبور، أحيانا تحت ركام من الحجارة (رجوم)، وأكد الباحث على أن أكبر عدد للمقابر في وادي فينان يعود للعهد الأردني النبطي والروماني والبيزنطي.

ويوضح:” وجدت تلك المقابر بمئات القبور متمركزة حول خربة فينان التي كانت مركزا لتعدين النحاس في فينان، كما حوت القبور جثث الذين عملوا بالتعدين بشكل رئيسي إضافة لعدد من المهن المساعدة  كالحدادة والزراعة والتجارة.  “وبعد القرن الرابع قبل الميلاد توافرت بعض القبور التي تنتمي لمسيحيين حيث غطت قبورهم بألواح وصليب”؛ ويضيف ميثن أنه تبعا لكونهم من العمال فقد كانت حياتهم صعبة، إذ عانوا كثيرا من الجروح والإصابات والإعاقات”.

ويؤكد الباحث على الجثث كانت قد دفنت دون مرفقات جنائزية ورغم ذلك تعرضت القبور لعمليات السلب والنهب والتخريب مما محا الكثير من المعلومات التي كانت من الممكن أن تكتشف بالتنقيب.

بقايا الجماجم

يؤرخ الموقع Wf16 في العصر الحجري إلى 11,500 -10,200 ألف سنة. وقد بني بشكل رئيس لجامعي الطرائد (البشر الصيادون) “غالبا خيّم الصيادون في الموقع عدة أسابيع كل سنة” يقول الباحث ميثن مضيفا أنهم دفنوا موتاهم في الموقع إشارة إلى ملكيته.

وبشكل تدريجي، عبر السنين، بدأ الصيادون بقضاء وقت أطول في الموقع ويعكس هذا مقدرتهم على صيد الوعل البري وجمع العديد من الثمار والنباتات كالتين والفستق والشعير.

 “لقد بدأوا ببناء مباني أخرى من الطيب والجص وبأرضيات تنخفض عن مستوى الأرض، وعندما يموت المواليد والأطفال يتم دفنهم في أرضية المسكن بعدما تترك جثثهم لتجف من سوائلها، وفي بعض الحالات تنقل عظام أكثر من فرد إلى قبر واحد، فعلى سبيل المثال وجدت أجزاء من جماجم سبعة أفراد مختلفين مدفونة أعلى جمجمة فرد آخر”.

“وبالمحصلة، إننا نعتقد بأن تفريقهم بين الحياة والموت كان أقل مما نقبله اليوم، فالمدفن والمسكن واحد يشيران لذلك، إذ اكتشف الباحثون 30 مدفنا تحوي رفات أكثر من 40 فردا”.

من موقع وادي فينان الأثري

ويقول الباحث بأن وضع المرفقات الثمينة مع القبر لم يكن أمرا شائعا في العصر الحجري الحديث :” في بعض الحالات، وضعت حجارة صوانية مفلطحة على صدر الجثة وفي حالات أخرى وضعت بعض الخرزات تبين أنها بقايا عقد أو إسوارة كانت الجثة ترتديها”.

المصدر:

http://www.jordantimes.com/news/local/british-scholar-unveils-burial-practices-faynan-communities-neolithic-age

ممارسات الدفن عند مجتمعات وادي فينان في العصر الحجري الحديث

تمهيد

ناقشنا في البحث الأول من سلسلة الأردنيون الغساسنة المشهد العام للمنطقة إضافة للتركيبة المجتمعية العرفية التي ساهمت في تأسيس الإمارة الغسانية الأردنية ومن ثم المملكة الأردنية الغسانية التي قادها الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، أول حاكم غساني يحمل لقب ملك عام 530 ميلادي. وبحثنا في طبيعة السلطة التي منحت للغساسنة من قبل العشائر الأردنية في البادية والريف والمدن وحواضر الأردنيين الأدوميين والأنباط وغيرهم. وقد أجمع الباحثون على أن الأردنيين الغساسنة قد لعبوا دور حلقة الوصل بين مدن الديكابوليس وبين القوى الرومانية بشكل يحفظ للمدن الأردنية خصيصا استقلالها وحكمها الذاتي وازدهارها التجاري.

نستكمل في سلسلة الأردنيين الغساسنة توضيح ملامح العلاقات السياسية بين الغساسنة والدول المجاورة مع التركيز على العلاقات الغسانية البيزنطية بوصفها أهم العوامل التي مهدت لحكم غساني امتد لأكثر من أربعة قرون من سهول حوران الأردنية إلى أذرح جنوب الأردن ومن الساحل الفلسطيني غربا إلى تخوم البادية الأردنية الشرقية.

وخلال فترة توليهم الحكم، استطاع الأردنيون الغساسنة الإبقاء على علاقة جيدة ومستقرة مع حلفائهم البيزنطيين وذلك لما عرف عنهم من الحنكة السياسية.

مناطق نفوذ الأردنيين الغساسنة

يعد فقر المصادر واختلاط المعلومات الواردة عن الغساسنة في المراجع أحد أهم الصعوبات التي تواجه الباحث في تاريخ الغساسنة. لقد طال هذا الاختلاط عدد ملوكهم وسنوات حكمهم وحتى المناطق التي كانت تحت ولايتهم العامة. (الجميلي: 2016) وربما يكون السبب في ذلك اختلاف وتبدّل المناطق التابعة لنفوذهم وسيطرتهم باختلاف الظروف الاقتصادية والعسكرية، ولا يجب أن نتناسى حقيقة أن الغساسنة كانوا في صراع مستمر مع من حولهم من المناذرة والفرس.

خريطة توضح الممالك القديمة وموقع المملكة الغسانية منها

وبحسب المصادر التاريخية الكنسية القديمة[1] فقد امتدت حدود الأراضي الغسانية منطلقة من البلقاء الأردنية كمركز وصولا للجنوب في نجران وغربا للنقب وسيناء وفلسطين وشرقا في البادية الأردنية بأكملها وصولا لحدود بادية الفرات وشمالا حتى مدينتي صور وصيدا. وقد اشتملت هذه الحدود على مدن الديكابوليس (الثماني والتي زادت مع الوقت إلى عشرة) إضافة للعديد من المدن الأردنية المزدهرة كمدينة الربة في الكرك على طريق  البترا.

سكن الأردنيون الغساسنة في البداية سهول حوران  الأردنية ومن ثم انتقلوا إلى البلقاء وبلغت مملكتهم أوج اتساعها في عهد الملك الحارث بن جبلة المذكور في المصادر اليونانية باسم “جبلس”.

كان شعراء الجاهلية وصدر الإسلام يفتخرون بالغساسنة للغاية. وبسبب ذلك، يعد الشعر العربي مصدرا مهما للاستدلال على الرقعة التي امتدت عليها ولاية الأردنيين الغساسنة، فيقول حسان بن ثابت:

لمن الدار أوحشت بمعانِ             بين أعلى اليرموك فالجمّان

فقفا جاسم فأودية الصفر             مغنى قبائل وهجان

تلك دار العزيز بعد أنيس            وحول عظيمة الأركان[2]

ويقول أيضا:

أسألت دسم الدار أم لم تسأل         بين الجوابي فالبضيع فحومل

فالمرج مرج الصفرين وجاسم     فديار سلمى در لم تحلل

دمن تعاقبها الرياح دوراس       والمدجنات من السماك الأعزل

لله در عصابة نادمتهم            يوما يحلق في الزمان الأول

وقد تناول الشاعر النابغة الذبياني، وهو شاعر جاهلي، الغساسنة فمدحهم كثيرا وأثنى عليهم ومن قصائده التي يمكن لنا أن نستشف فيها حدود الإمارة الغسانية:

بكى حارث الجولان من فقد ربه     وحوران منه موحش متضائل

قعودا له غسان يوحون آوبه        وترك وهط الأعجمين وكابل[3]

ونستطيع تميز العديد من الأماكن من هذه الأشعار فهناك معان وحوران والجولان واليرموك وغيرها. وقد يساعدنا هذا على تصور اتساع الدولة الغسانية بشكل أو بآخر. إن تخيل دولة ناشئة ذات نفوذ قوي بهذه الصورة سيوضح السبب الذي دفع بالإمبراطورية البيزنطية لاختراع الحجة تلو الحجة لأمراء الغساسنة وملوكهم لينتهي الأمر أخيرا بنفيهم.

وما يهمنا من معرفة حدود الإمارة والمملكة لاحقا كذلك هو معرفة أهم العواصم التي شكلت المشهد السياسي العسكري. فبصرى، بحسب المؤرخين كان العاصمة الدينية. أما الجابية وجلق والبلقاء فقد كانت العواصم السياسية التي تجهز منها الجيوش وتنطلق الحملات العسكرية ويصدر منها القرارات السياسية والإدارية (الجميلي: 2016) كما تساعدنا معرفة الحدود على إرساء فهم كامل لطبيعة العلاقات الدولية السياسية بين الأردنيين الغساسنة والبيزنطيين والفرس والمناذرة.

الأردنيين الغساسنة والإمبراطورية البيزنطية

أولا: الدين والعلاقة السياسية الغسانية البيزنطية 

كان الدين عاملا رئيسا في العلاقات الغسانية البيزنطية، فقد استغلت الإمبراطورية اعتناق الغساسنة وسائر القبائل الأردنية للمسيحية لكسبهم حلفاء إلى صفها. ولفهم طبيعة العلاقة المعقدة التي جعلت الدين سلاحا مهما في العلاقات الدولية ينبغي لنا أن نطلع باختصار على تاريخ المسيحية .

كانت الإمبراطورية الرومانية إمبراطورية وثنية حتى جاء قسطنطين العظيم الذي حكم روما 306–337 ميلادي  وحوّل ديانة الإمبراطورية إلى المسيحية وأرسى قواعد الأرثوذكسية وكان قد نقل العاصمة من نيقوميديا إلى بيزنطة الواقعة على البسفور عام 329 ميلادي وسميت بعدها “الإمبراطورية البيزنطية الشرقية”.

ومن هنا توقف الاضطهاد الوثني للمسيحيين بشكل عام. أما مسيحيو الشرق فهم القبائل الأردنية البدوية التي اعتنقت المسيحية بفعل تأثير الملكة الأردنية ماوية التي سنأتي على ذكرها لاحقا، وبفعل تأثير المضطهدين المسيحيين الذين لجؤوا للمشرق هربا من التعذيب في الإمبراطورية الرومانية آنذاك.

رمز الأرثوذكس البلغار للإمبراطور قسطنطين وأمه القديسة هيلانة – المصدر وكيبيديا

في ذلك الوقت، كان هنالك مذهبان مسيحيان رئيسان يسيطران على المشهد. المذهب الأول هو المذهب الميافيزي والذي يؤمن بأن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية وقد اتحدتا لتصبحا طبيعة واحدة. وهنالك المذهب المونوفيزي والذي يؤمن بأن للمسيح طبيعة وحيدة وهي الطبيعة الإلهية وقد تلاشت الطبيعة البشرية فيه. تنامى النزاع بين المذهبين وبدآ يكيلان التهم لبعضهما.

كان الأردنيون الغساسنة يدينون بالمونوفيزية (مذهب الطبيعة الإلهية الوحيدة) وكانوا والقبائل البدوية الأردنية وسائر السكان متعصبين لهذا المذهب ومتمسكين فيه، لم تستطع الإمبراطورية البيزنطية تحويلهم عن مذهبهم فعقدت معهم أحلافا سياسية تضمن حرية العقيدة وفضلت أن ترجح لصالحها كفة القوى على أن تدخل في حرب دينية أخرى مع أناس سبق لهم أن هُزموا أمامهم وأمام ملكة محاربة من ملكاتهم وهي الملكة ماوية.

ورغم اعتبار الإمبراطورية البيزنطية لمذهب الغساسنة الديني بأنه مذهب منشق ومعارض إلا أن الإمبراطورة ثيودورا وافقت على طلب الملك الغساني الحارث في تعيين المطران يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودورس أسقفين لمسيحي المشرق عام 542 -543 ميلادي. (علي: 2001) وقد أثبت هذا الحدث نقش سرياني عثر عليه في منطقة النبك كتب فيه ( في عهد الأسقفين المحترمين القديسين يعقوب وثيودور، عندما كان أبو كرب ملكا) وأبو كرب هو حاكم ولاية فلسطين البيزنطية وأخو الملك الأردني الغساني الحارث (خربوطلي ومحمد: 2017)

حتى أن الإمبراطورية البيزنطية منحت ألقابا كنسية دينية للأمراء الغساسنة، فمثلا منح الإمبراطور جستنيان للحارث الغساني لقب ملك واعترف به ملكا على أراضي الإمارة الغسانية، ومن وقتها انتقلت من إمارة إلى مملكة كما منحت الإمبراطورية لقب “بطريق” و” فيلارخ” – بمعنى عامل أو شيخ قبيلة – لعدد من الملوك والأمراء الآخرين. (الجميلي: 2016) مما زاد من الثقة بين الدولتين وأسبغ على علاقتهما السياسية شيئا من الاستقرار.

المطران يعقوب البرادعي

ثانيا: لماذا اهتم البيزنطيون بعلاقتهم مع الغساسنة؟

مهّد إسقاط الرومان للدولة التدمرية عام 237 ميلادي لعودة السيادة الرومانية الكاملة، ولكنهم فوجئوا برفض القبائل الأردنية البدوية ورفض السكان لأي مظهر من مظاهر فرض القوة ولذلك طوّروا حلف الديكابوليس يوناني الأصل كحل وسط يضمن استقلالا ذاتيا وازدهارا تجاريا.

وبسبب طبيعة التوسع الإمبراطوري والتنافس بين أكبر قوتين آنذاك: الروم والفرس؛ لم يشأ البيزنطيون أن يستميل الفرس الغساسنة إلى جانبهم فقد كانت الإمبراطورية الفارسية قد استمالت المناذرة بالفعل.

أجمع أهالي المدن والقبائل الأردنية على الغساسنة كي يكونوا حلقة وصل كما أسلفنا بين المدن والحواضر الأردنية وبين البيزنطيين. وقد أدرك البيزنطيون ذلك وأسسوا علاقات سياسية جيدة وقوية مع الغساسنة انعكست على أمن المنطقة وازدهارها تجاريا.

يمكن القول بأن أول تأسيس فعلي للإمارة الأردنية الغسانية كان في القرن السادس رغم أنهم كانوا مكونا سكانيا مؤثرا في الأردن منذ القرن الأول الميلادي. وقبل ذلك بمدة جيدة كانت الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية في حالة هدنة وسلم نسبي.

صورة كنسية للملكة البدوية ماوية التي شنت غارات عنيفة على الإمبراطورية البيزنطية

 في ذلك الوقت كانت القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية تشن غزوات وحملات عسكرية ضد البيزنطيين دفاعا عن عقيدتهم.  أشار المؤرخون اليونان لملكة بدوية تدعى ماوية Mavia حكمت القبائل في البادية الأردنية الشرقية وشنّت غارات مدمرة وعنيفة ألحقت الدمار بالقرى والمدن على مناطق النفوذ الروماني وانتصرت الملكة ماوية في عدة معارك وقد انتهى الأمر بالبيزنطيين أن يعقدوا هدنة معها وفق الشروط التي وضعتها وقد كانت شروطها أن يولّى قس يدعى موسى على مسيحي المنطقة حتى وإن خالف مذهبه مذهب الإمبراطورية (علي: 2001) ولكنهم ظلوا متوجسين خائفين من غزوات البدو الشرسة على مصالحهم ومناطق نفوذهم.

أدرك البيزنطيون أن السير مع شروط القبائل البدوية وأهالي المنطقة هو الخيار الأسلم لهم، فعندما أجمعوا على الغساسنة كولاة وجدوا الأمر فرصة ذهبية وجب عليهم إحسان استغلالها.

ثالثا: العلاقات البيزنطية الغسانية في القرن السادس الميلادي

كان الأمراء الغسانيون على قدر عال من الذكاء والحنكة، استطاعوا تثبيت وجودهم عبر استغلال الظروف السياسية المضطربة التي سادت المنطقة. وعرفوا مدى تخوف البيزنطيين من غزوات القبائل البدوية ومن هجوم فارسي أو مناذري محتمل وأدركوا بأن القرن السادس الميلادي سيكون مفتاحا لقوة وسلطة أكبر إن هم أحسنوا استغلال سقوط مملكة كندة شمال الجزيرة العربية. وكان لهم ما طمحوا به.

في الربع الأول من القرن السادس الميلادي قُتل الفيلارخ الحارث الكندي أمير كندة والذي كان عاملا للروم في المنطقة وسادت بعدها الاضطرابات وخشي البيزنطيون أكثر على مصالحهم. وبالطبع استغل الغساسنة بذكاء الفجوة التي أحدثها موت الكندي فشنوا حراكا عسكريا قويا عام 500 كما يذكر المؤرخ ثيوفانس. ولما أدرك البيزنطيون أنهم بمواجهة عدو جديد محتمل علموا بأن الجنوح إلى السلم هو الخيارالأفضل.

كانت فكرة البيزنطيين تقوم على توحيد القبائل الأردنية والأهالي والحواضر فيما يشبه الحكومة المركزية (حلف الديكابوليس) ولهذا أطلق الإمبراطور جوستنيان لقب ملك على الحارث الغساني حوالي العام 529-530 ميلادي وعينه على عدد من الولاة ( الأصغر منه ترتيبا) مع احتفاظ كل وال بسلطته المحلية وسيادته الذاتية (الجميلي: 2016) وفي الفترة نفسها عيّن الإمبراطور أخ الحارث الأمير الملقّب بأبو كرب على ولاية فلسطين وبذلك أصبح الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حماية الحدود البيزنطية من تدمر شمالا إلى وادي الحسا جنوبا. (خربوطلي ومحمد: 2017)

ومع الوقت ازدادت أهمية الحارث وأخيه أبو كرب فقد صار الأخير مسؤولا عن حماية الثغور الرومانية في أيلة والنقب والحجاز. وقد لخّص الباحث عرفان شهيد أهمية ولاية أبو كرب بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية في حماية الأماكن المقدسة في المنطقة وحماية القوافل التجارية المارة بالأردن وفلسطين وحماية المجتمعات الحضرية من أي غارات مناوئة محتملة (Shahid: 1995)

رابعا: توتر العلاقات الغسانية البيزنطية

 بدأت العلاقات الغسانية البيزنطية تتوتر بسبب الظروف السياسية السائدة فقد قَتل الحارث بن جبلة الغساني، أحد أعظم ملوك الغساسنة، ملك الحيرة (مملكة المناذرة) المنذر بن ماء السماء وقد أشعل هذا فتيل الحرب بين المملكتين؛ إذ أرسل المناذرة غارات انتقامية من الغساسنة في العامين المتتاليين. وبعد مدة مات الحارث بن جبلة واستغل المناذرة ذلك فشنوا هجوما قويا على أراضي المملكة الغسانية وتابع المنذر بن الحارث الرد على هجمات المناذرة بهجمات أخرى ولم تتوقف المملكتين عن تبادل الهجمات والغارات لمدة طويلة من الزمن. (خربوطلي ومحمد: 2017)

 لم تكن علاقة المنذر بن الحارث الغساني مع الإمبراطور البيزنطي جوستين الثاني علاقة طيبة ، فقد طالب المنذر البيزنطيين بالمال لإدارة بعض شؤون الدولة أو لتسليح جنده ضد الفرس وقد رفضوا ذلك. بعدها اتهم المنذر جوستين الثاني بمحاولة اغتياله. وعلى أية حال، اضطر البيزنطيون لاسترضاء المنذر بن الحارث الغساني  بعدما توغل المناذرة في المنطقة وأشاعوا فيها الرعب والدمار.

أما الحادثة الثانية التي دفعت بالعلاقة الغسانية البيزنطية إلى الهاوية فهي اتهامهم للملك المنذر بالخيانة. فقد كانوا يستعدون للقيام بحملة عسكرية على الفرس ووجدوا الجسر الممتد على جسر الفرات مهدّما فاتهموا المنذر الغساني بالخيانة وقتها.

وبحسب بعض المؤرخين فإن الإمبراطور البيزنطي  قد عهد إلى المنذر الغساني بالتوفيق والتوحيد بين المذهبين الدينيين المتعصبين فقد كان جميع أجداد المنذر الغساني حكاما شديدي الولاء لمذهبهم. حاول المنذر الغساني أن يستعيد حظوته عند البيزنطيين فأغار على الحيرة عاصمة المناذرة ولكن الجيش الروماني اعتبر هذا تحدّيا لخططه فأمر بالقبض عليه ونفيه مع ابنين وبنت له إلى جزيرة صقلية وأخذت بعد ذلك الإمارة الغسانية تضعف مع الوقت (سالم: 2006)

في عام 582- 584 ميلادي حاول النعمان بن المنذر الغساني استعادة حكم أبيه وسلطته فهجم على الإمبراطورية البيزنطية دون تحقيق مكاسب واستطاعت القوات البيزنطية في النهاية أسره ونفيه مع والده المنذر.

ويظهر لنا أن الإمبراطورية البيزنطية كانت تخلق الحجة تلو الحجة لتقطع علاقتها بالمملكة الأردنية الغسانية ولتضعف نفوذها وسيادتها، فقد أمست الأخيرة خطرا يهدد مصالحها السياسية في المنطقة بلا شك.

الأردنيون الغساسنة والدول المجاورة

أولا: الغساسنة والمناذرة

خريطة توضح امتداد الغساسنة والمناذرة والحدود المشتركة

يتصل ذكر الغساسنة دوما بألد أعدائهم المناذرة الذين والوا الفرس وقد جمعتهم معهم المصالح السياسية والدينية. فالمناذرة كانوا وثنيي الديانة كما كان الفرس ورغم أنهم اعتنقوا المسيحية في فترة من الفترات إلا أنهم لم يتوقفوا عن عدائهم للغساسنة أبدا. أسس المناذرة أو كما سموا “اللخميون” مملكة الحيرة[4] في العراق وكانت مملكة مهمة لوقوعها على طريق الحرير التجاري.

بالمقابل دافع الغساسنة بشراسة عن وجودهم في المنطقة وحموا مصالحهم السياسية ومصالح حليفتهم الإمبراطورية الرومانية. سنلقي الضوء في هذا البند على أهم الصراعات التي دارت بين أكبر مملكتين في المنطقة آنذاك.

1. يوم حليمة

عام 544 ميلادي، تجدد الصراع بين المناذرة والغساسنة، الصراع الذي كان يخمد قليلا ولكن يعود للثوران كبركان غاضب. كان النزاع هذه المرة على منطقة مهمة تدعى ستراتا تقع إلى الجنوب من تدمر، وهي منطقة استراتيجية مهمة للطرفين حيث تمر بها القوافل التجارية ورعى بها القبائل البدوية مواشيها. بدأ المنذر، ملك المناذرة، الهجوم فتوغل في المناطق الغسانية وتصدى له الحارث بن جبلة. انتصر الحارث في النهاية وصرع عدوه المنذر بالقرب من قنسرين وتنامى بعدها الخلاف بين الفرس والروم وتراشقت الإمبراطوريتان التهم. (علي: 2001)

وقد تناولت الأدبيات الجاهلية هذه الموقعة، فحسان بن ثابت تغنى “بزمن حليمة” كثيرا في أشعاره، وقد قالوا فيه أيضا:

يوم وادي حليمة وازدلفنا      بالعناجيج والرماح الظماء[5]

كما نجد أن الموروث الشعبي للأمثال احتفى بهذا اليوم فيقال “ما يوم حليمة بسر” أي أنه مشهور جدا للدرجة التي لا يجهله فيها أحد. والجدير بالذكر أن اليوم قد سمي نسبة لابنة الملك الحارث الغساني التي كانت تطبب الجرحى وتخيط الأكفان.

2. معركة عين أباغ

تناولنا في فصل توتر العلاقات البيزنطية الغسانية السابق ملامح الصراع بين المناذرة والغساسنة والتي أدت إلى انشقاق عصا العلاقات السياسية بين الغساسنة والبيزنطيين. كان الحارث بن جبلة قد رفض أن يدفع الاتاوة التي طالب بها ملك المناذرة وكان هذا السبب الرئيس لبداية سلسلة المعارك التي انتهت بيوم يُعرف بيوم عين أباغ. (الجميلي: 2016)

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

بعد قتل الملك الغساني الحارث بن جبلة لملك المناذرة المنذر بن ماء السماء لم يهدأ الوضع السياسي في المنطقة وبلغ العداء بين المملكتين أوجه. يختلف المؤرخون على تحديد تاريخ موقعة عين أباغ، فبعضهم يقول بأن سلسلة الغارات تنقسم لمعركتين رئيستين بدأ بهما بالمناذرة ولكن الغساسنة هم من انتصروا في النهاية يوم 20 أيار عام 570. يرجح المستشرق الألماني نولدكه بأن المعركة الثانية هي موقعة عين اباغ التي دارت رحاها شمال شرق أراضي المملكة الغسانية.

أنشد الشعراء العرب شعرا كثيرا بخصوص هذه الواقعة فيقول ابن الرعلاء ابن الملكة الغسانية الرعلاء التي شاركت في المعركة:

كم تركنا بالعين عين أباغ           من ملوك وسوقة أكفاء

أمطرتهم سحائب الموت تترى        إن في الموت راحة الأشقياء

ليس من مات فاستراح بميت          إنما الميت ميت الأحياء[6]

وأنشد الشاعر الرياشي:

بعين أباغ قاسمنا المنايا     فكان قسيمها خير القسيم[7]

إنه من الصعب حصر عدد الغارات المتبادلة بين المملكتين  آنذاك. لقد كانت المنطقة برمتها تعاني من توتر سياسي شديد ومستمر. ويهمنا من هذا معرفة كيف أن الغساسنة استغلوا هذا العداء بين بلاد فارس وبيزنطة لتثبيت وضعهم السياسي وبسط سيادتهم على المنطقة وضمان استقلالية المدن التي منحتهم تلك السلطة.

ثانيا: الغساسنة وكندة والقبائل العربية

كانت كندة مملكة عربية أسستها القبائل شمال الجزيرة العربية وكان حاكمها “فيلارخ” أي عاملا للروم. اقتصرت العلاقات السياسية بين الغساسنة وكندة على استغلال الغساسنة للفوضى التي أحدثها موت الملك الكندي وعدم مقدرة خلفائه على سد هذه الثغرة. ولغايات تثبيت حكمهم وضمان أمان المنطقة انتقم الغساسنة لموت الملك الكندي وأثبتوا جدارتهم العسكرية وكفاءتهم في إدارة الجيوش وحماية مصالح حلفائهم والمناطق المؤثرة على أمنهم القومي.

لم تكن العلاقات الغسانية مع القبائل العربية مستقرة على الدوام فتذكر بعض المصادر والروايات أن الملك الغساني الحارث بن أبي شمر قد توعد بني تغلب بغزوهم لأنهم لم يحسنوا استقباله. ولم تمنع هذه المشاحنات الغساسنة من أن يكونوا الحكومة المركزية الكفء التي تمثل الحواضر والمدن الأردنية.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث من سلسلة الأردنيون الغساسنة مجمل العلاقات الدولية بين الغساسنة وحلفائهم من البيزنطيين وأعدائهم من المناذرة والفرس. لا يستطيع الباحث في تاريخ المملكة الأردنية الغسانية أن يفصل بين شقي الدولة السياسي والمجتمعي، فقد لعبت السياسة العامة التي اتخذها الرومان إضافة لذكاء الحكام الغساسنة وطبيعة المجتمع الأردني دورا حاسما في إرساء قواعد هذه الدولة التي حكمت مناطق واسعة من عاصمتها البلقاء.

المراجع

  • سالم. س. (2006)، تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط1) مصر: الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة.
  • علي. ج. (2001) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط4)، لبنان: بيروت، دار الساقي
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
  • الجميلي. أ. (2016) العلاقات الخارجية لدولة الغساسنة، (ط1) الأردن: عمان، دار أمجد
  • العيسى. س. (2007) الغساسنة: نسبهم، حروبهم، تنقلاتهم، ديانتهم، ثقافتهم، (ط1) سوريا: دمشق، دار النمير.
  • خربوطلي، ش. و محمد. ي. العلاقات السياسية البيزنطية الغسانية في القرن السادس الميلادي. مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (مجلد 39)، العدد 2، 2017
  • Shahid, I. (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] جلعاد، أو (جلعد) قرية أردنية من قرى مدينة السلط في محافظة البلقاء

[2] المصدر: العلاقات الخارجية لدولة الغساسنة ص59

[3] المصدر السابق/ ص 60-61

[4] الحيرة منطقة في العراق

[5] المصدر العلاقات الدولية الخارجية لدولة الغساسنة. للدكتور أحمد الجميلي ص112

[6] المصدر: العلاقات الدولية الخارجية لدولة الغساسنة للدكتور احمد الجميلي، ص 110

[7] المصدر السابق

[1] المصادر الكنسية هي ما كتبه القسيسون وآباء الكنائس الشرقية والغربية في التاريخ وأحوال المنطقة وتعد كتبهم من المراجع المهمة التي تناولت أحاول الممالك المسيحية في الأردن.

الأردنيون الغساسنة: العلاقات السياسية الخارجية

Scroll to top