تارك الرغد في سبيل البطولة: الشريف ناصر بن علي

الشريف ناصر على راحلته أثناء قدومه لوادي السرحان مع الشيخ عودة أبو تايه حسب التخطيط العسكري لتطهير الأردن من الاحتلال العثماني
الشريف ناصر على راحلته أثناء قدومه لوادي السرحان مع الشيخ عودة أبو تايه حسب التخطيط العسكري لتطهير الأردن من الاحتلال العثماني

الشريف ناصر بن علي

دانت قوات الثورة والعشائر الأردنية للواء الهاشميين منذ أن انطلقت الثورة العربية الكبرى، فقد تولى الشريف حسين القيادة العليا وأقام دار الحكم يدير الحركات العسكرية وتتساقط القنابل حواليه في مكتبه وهو صامد لا يبالى، وعـين الشريف أبناءه الأربعة لقيادة قوات الثورة الرئيسية في الميـدان، يتحملون المسؤوليات الخطيرة بكاملها أمامه. ولما كانت الثورة قد قامت في البيت الهاشمي بعد وفود العشائر الأردنية التي قدمت إلى الشريف الحسين بن علي تستنجده وتدعم اطلاق رصاصة الثورة الأولى فقد انتدب الشريف حسين كثيرين من الأشراف لمعاونة أنجاله في قيادة السرايا والبعوث والتعاون مع العشائر في العمليات العسكرية، للأسباب التالية :
1. لأن الراية الهاشمية كانت ولا زالت الأقدر على توحيد الصفوف و شحذ الهمم في مواجهة الظلم و الاستبداد.
2. قدرة الأشراف على تنفيذ الخطط العسكرية وايصال الرسائل لقادة الثورة بأعلى درجات السرية والكتمان وبأفضل درجات التنفيذ .
3. اصرار الشريف الحسين بن علي على أن يكون أبناؤه والأشراف في مقدمة السرايا ليكونوا أنموذجا للتضحية والاخلاص .

وهكذا كان مع كل قبيلة وفي كل موقع حربي عدد من الأشراف، وفي طليعة كل هجوم عدد من الاشراف، وكانوا بمثابة رأس الرمح في جميع معارك الثورة وإندفاعاتها من الجنوب إلى الشمال، و من الأشراف الذين برزوا في جيش الأمير فيصل وقاموا بالعبء الأكبر الى جانبه كانوا ثلاثة: شرف بن راجح، ناصر بن علي، علي بن الحسين الحارثي.

نشأته و ولادته

أطلق رجال الثورة على الشريف ناصر بن علي آل راضي لقب “المحظوظ “، فقد كان موفقاً فى الحملات التي يتولى قيادتها، ولا يمكن أن تجد باحثا أو مؤرخاً يتناول عمليات الثورة العربية الكبرى دون أن يعرض الدور الذى لعبه الشريف ناصر في تقدم هــذا الجيش من الجيش في الجنوب حتى محطة المسلمية في الشمال .

ولد الشريف ناصر بن علي بن حسين بن فهد بن راضي في المدينة المنورة عام 1890 ونشأ فيها وتلقى علومه في مدارسها، وهو شقيق الشريف شحاد بن علي الذي عينه الشريف حسين أمير للمدينة المنورة عندما تولى  إمارة الحجاز عام 1908، وتنحدر هذه العائلة من الأشراف الحسينيين الذين يطلق عليهم لقب (السادة).

 يوم أعلنت الثورة، كان في السابعة والعشرين من عمره،  وقد بدأ اتصاله بالفكرة الداعية لإنهاء الاحتلال التركي العثماني عندما زار دمشق في أوائل سنة 1916 مع الأمير فيصل بن الحسين،  وهناك اتصل الأمير فيصل بأعضاء جمعية (العربية الفتاة) السرية وأشرك ناصر معه في اتصالاته بسبب الصداقة الحميمة التي كانت تربط بينهما، ومنذ ذلك الحين أصبح ناصر من المتحمسين لفكرة الثورة، وكان ملازماً للأمير فيصل خلال الأشهر العصيبة التي سبقت إعلان الثورة، ويوم قرر الأمير فيصل أن يبدأ بالعمليات العسكرية، كان الشريف ناصر بن علي في طليعه أعوانه.

 كان الشريف ناصر قد غادر أهله ومنزله تلبية لنداء الشرف والبطولة واشترك في جميع الحركات الحربية، وكان العضد القوي للأمير فيصل بسبب الصلات الوطيدة التي كانت تجمعه مع زعماء القبائل الأردنية، وقد انتقم فخري باشا والي المدينة التركي من الشريف ناصر وأخيه شحاد ( الذي انضم للثورة أيضاً وظل طول قيامها مع  الأمير علي) فأمر بقطع أشجار النخيل التي يملكانها في مـوقع ” سواله ” و أحرق البيت الذي يملكانه.

  

الشريف ناصر و الشيخ عودة أبو تايه في مضارب الحويطات أثناء التخطيط لعمليات الثورة و حشد العشائر الاردنية
الشريف ناصر و الشيخ عودة أبو تايه في مضارب الحويطات أثناء التخطيط لعمليات الثورة و حشد العشائر الاردنية

تحرير العقبة

كانت خطة الأمير فيصل أن يهاجم محطات سكة حديد القطار العسكري ويعمل على نزع قضبان خطه، على أمل أن يقطع المواصلات بين الجيش التركي الذي احتشد في المدينة المنورة وبين مركز الامدادات التركي وقادتهم الألمان في معان ودمشق، ولتحقيق هذا الهدف تولى الشريف ناصر أمر الهجوم في قطاع قلعة المعظم، كما تولى عدد من القادة الآخرين أمر مناجزة جيش الاحتلال التركي في قطاعات أخرى.

 ولم يطل الأمر على ذلك المنوال، إذ أن فيصل أخذ منذ وصوله الى الوجه يرسل الرسائل الى القبائل الأردنية يدعو شيوخها للإنضمام إلى معسكره للتشاور وتحضير الخطط الخاصة بتحرير الأردن من الاحتلال التركي العثماني، و كان الشيخ عودة أبو تايه أحـد أولئك الشيوخ الذين وصلهم رسل الشريف فيصل وأول من لبى النداء. فبادر يغذ المسير من مضاربه في البادية النبطية ومعه عدد من زعماء عشيرته حتى بلغ الوجه في أوائل شهر نيسان، وعرض عودة على الأمير فيصل أن يمتد نشاط الثورة إلى كافة المنطقة الجنوبية للأردن دفعة واحدة ودون تأخير وبإسناد كامل من العشائر الأردنية وعلى رأسها قبيلة الحويطات، حينها وافق ذلك خطط الأمير فيصل الذى كان يتطلع لتطهير العقبة أولا، ولم يكن معقـــولا أن يزحف الأمير فيصل بجيشه كله لأن المصاعب المادية كانت تجعل أمراً كذلك في حكم المستحيل لذا فان تحرير ميناء العقبة لنقل الجيوش بحراً سيوفر الوقت والجهد ويكون أبرز عوامل النجاح الاستراتيجي للحرب.

 وقع اختيار الأمير فيصل على الشريف ناصر بن علي آل راضي ليقوم بالمهمة الجـــديدة بالتعاون والاسناد مع الشيخ عودة أبو تايه: المهمة الخطيرة والشاقة التي يحتاج أداؤها الى رجولة وزعامة وشجاعة وإقدام والتي  كانت تتجسد في الشريف ناصر. كانت الثورة بهذه الخطوة تمد جناحها خارج الحدود الممكنة ماديا و لوجستيا وتبحث عن آفاق جديدة.

أما الشريف ناصر بن علي فقد كان تواقاً للعمل الكبير والمهام الخطيرة، لم يكن قد هجر منزله وأهله وحدائق المدينة الخضيرة وحياة الدعة، للقيام بأعباء عادية. كان حقا رجل الملمات، وبدأ الاستعداد للرحيل على قدم وساق، وتوسل لورنس ضابط الارتباط السياسي الأمير فيصل بأن يسمح له بمرافقة حملة الشريف ناصر كخبير في زرع المتفجرات وكهاوي طائش للمغامرات حتى قبل له الأمير فيصل مرافقة الكبار.

أتم الشريف ناصر استعداداته، وتزود بعشرين ألف ليرة ذهبية كي ينفق على العمليات المقبلة من علف للخيل ومدافع وبنادق وذخيرة..الخ.، كما أخذ معه عدداً من البنادق، وكمية من العتاد والمؤن وأصابع الديناميت. وفي صبيحة يوم ٩ أيارغادر الوجه ومعه الشيخ عودة أبو تايه عودة ومحمد بن دحيلان أبو تايه و ٣٥ متطوعاً من العقيلات بقيادة ناصر بن دغيثر. وانطلقت الحملة باتجاه الشرق الشمالي وعبرت الحملة خط سكة الحديد العسكري وهناك فجّر رجالها عددا من قضبان سكة الحديد وقطعوا أسلاك الهاتف الخاصة بمراكز قيادة قوات الاحتلال التركي لقطع اتصالهم مع قيادتهم الألمانية بمعان. ومضى الجيش في سيرهم فعبروا سهل الحول ووادي فجر وسهل البسيطة، وأخيراً بلغوا عرفجه على رأس وادي السرحان، ومنها انتقلوا الى العيساوية فحلو ضيوفاً على الشيخ علي أبو افتنة أحد شيوخ الحويطات. إستغرقت الرحلة ثمانية عشر يوماً في صحراء موحشة قاحلة لا ماء فيها ولا أثر للحياة. أما الشريف ناصر ورفاقه فقد ارتحلوا في اليوم الأخير من أيار الى موقع عقلية قـرب النبك ( قريات الملح ) حيث كانت مضارب الحويطات من أنصار الشيخ عودة أبو تايه، وقد قر الرأي على إتخاذها مركزاً للاستعدادات.

أقام الشريف ناصر في عقلية والنبك أكثر من أسبوعين يحشد المتطوعين من أبناء العشائر الأردنية، وقد كان لعودة أبو تايه فضل كبير في كل ذلك بسبب زعامته وشهرته كقائد ناجح للغزوات على مراكز العسكر العثماني في حرب الاستنزاف الذي أعلنها عقب محاولة غدره الى سجن معان سيئ الذكر. وفي يوم 19 حزيران زحف الشريف ناصر ومن اجتمع معه من فرسان العشائر الأردنية، وقد زاد عددهم على الخمسمائة، ( لمزيد من التفاصيل يرجى مراجعة المسار الأول لمعارك التحرير ) فبلغ القوم آبار باير وهناك اكتشفوا أن الأتراك وبهندسة ألمانية نمساوية عمـــلوا على ردم فوهات الآبار لتعطيشهم لكن الأردني وبخبرته بأرضه كان له موهبة فطرية بمعالجة الآبار من عبث الألمان وهندستهم لكن اعادة استصلاح الآبار أخر الجيش أسبوعاً حتى تمكن إزاله الردم والاستقاء من الماء.

وخلال ذلك الاسبوع اتصل الشريف ناصر بالعشائر المجاورة، وجاء للقائه بعض شيوخ بني صخر، واستيقن أن طريقه مأمونة من عيون جيش الاحتلال نظراً لأن أبناء العشائر الأردنية سيقدمون العون والمعاضدة و مسح الطريق من العيون والجواسيس. ورحلت الحملة من باير يوم ٢٨ حزيران وكان الشريف ناصر يسير في الطليعة على ظهر ناقته (غزاله) وإلى جانبه الشيخ عودة أبو تايه وبقية شيوخ العشائر الأردنية، يرتفع أمامهم جميعاً علم الثورة إيذانا بإنبثاق فجر جديد للأردنيين.

كانت أنباء هذه التحركات الغريبة قد بلغت قيادة جيش الاحتلال التركي  وقيادته الألمانية والنمساوية بالقرب من سجن معان سيء الذكر، فغادرتها كتيبة بقيادة أمير الالاي التركي نيازي بك، وعسكرت مساء ذلك اليوم عند ماء أبو اللسن، وعلم قادة جيوش الثورة بالأمر فهبوا يغدون السير طوال الليل حتى بلغوا التلال المحيطة بالموقع، وانضمت إليهم  مجموعات جديدة من عشائر الحويطات فأحاطوا بالمعسكر التركي من جميع الجهات، ومع الفجر بدأوا يطلقون النار على المعسكر بعد أن قطعوا خطوط الهاتف مع قادة الاحتلال الألمانية بمعان. وظل القتال ناشباً بين الطرفين حتى المساء عندما شن الشيخ عودة أبو تايه و فرسان الحويطات بالتخطيط مع الشريف ناصر قائد جيش الثورة هجوماً مباشراً أدى الى انهزام جيش الاحتلال العثماني ووقوع أكثرهم بين قتيل وأسير.

وقد تبّدت إنسانية الشريف ناصر في هذه المعركة إذ بادر لإنقاذ  القائد التركي الجريح من يد الفارس محمد بن دحيلان أبو تايه، ثم أخــذ يجمع الأغطية في الليل لتدفئة الجرحى الذين لم تكن هناك وسائل طبية لإسعافهم. وخلال الأيام الثلاثة التالية حرر الأردنيون مراكز الاحتلال العثماني في القويرة وكثارة وخضرا والتي كانت تفصلهم عـن الساحل. وفي صبيحة يوم 6 تموز بلغوا العقبة وحطوا رحالهم فيها، وكانت حصيلة المعارك التي خاضوها حوالي 700 أسير وأكثر من ستمئة قتيل من جيش الاحتلال العثماني من أتراك وألمان ونمساويين، أما خسائر العرب فلم تزد عن شهيدين من فرسان العشائر الأردنية.

كذبة لورنس وسرقته لمجهود الشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه

لقد كان تحرير العقبة حدثا مهما من أحداث الثورة في الأردن، وقد فتحت هذه الخطوة عيون القادة البريطانيين على ما يمكن أن تنجزه جيوش الثورة مـن انتصارات، فأخذوا يراقبون المشهد بحذر شديد، وانتقل جيش الشريف فيصل الى العقبة وأخذ يباشر العمليات العسكرية في قلب الجبهة الأردنية ولكن الأمر الذي يهمنا تسجيله هنا هو أن لورنس أوهم القادة البريطانيين بأن العقبة سقطت بأيدي قوات الثورة نتيجة لتوجيهاته وإدارته وقيادته ومنذ ذلك الحين أخذت شهرة لورنس تنتشر وتذيع حتى ان المرء لا يجد كتابا غربيا يعالج موضوع الثورة إلا وينسب الفضل في فتح العقبة وفي انتصارات قوات الثورة الأخرى الى لورنس. والواقع الذي لا يأتيه الباطل أن العقبة تحررت بيد العشائر الأردنية نتيجة لعملية عسكرية قاموا هم بها، ولم يكن دور لورنس في الحملة أكثر من دور المرافق المرهق. أما القيادة في شن الهجمات فقد كانت بيد عودة أبو تايه، بينما كانت قيادة جيوش الثورة عامة بيد الشريف ناصر بن علي الذي كان يمثل زعيم الثورة الملك حسين ويمثل قائد جيش الثورة الشمالي الأمير فيصل، واننا نرى في في كتابات لورنس نفسه ما يحمل الدليل القاطع على أن الشريف  ناصر كان هـو القائد المسؤول، ففي التقرير السري الذي قدمه للجنرال كلايتون قال أن الشريف ناصر كان قائد الحملة، وفي ذلك التقرير قال ” طلب الشريف ناصر مني أن أبحث احتياجاته مع الحلفاء من قادة الجيش البريطاني و إمكانات التعاون بينه و بين البريطانيين ضد قوات الاحتلال التركي والألماني و النمساوي “, وفي أعمدة الحكمه السبعة قال لورنس ” كان الشريف ناصر يقودنا، وقد جعلته سجاياه الحميدة القائد الوحيد من أجـل تحقيق المطامح العسيرة” و في تقرير لورنس السّري قال أيضا “لقد برهن الشريف ناصر على كفاءة فائقة وعلى أنه جاد ومستقيم اثناء الحملة، وأعتقد انه، بعد فيصل وشاكر، من أفضل الاشراف الذين اتيح لي العمل معهم”. لكن ذلك كله ذهب بعد بروز جاذبية كاميرات الصحافة والمخرجين الهولوديين الذين وجدوا قصة رجل أبيض في الصحارى النبطية أمراً يمكن تسويقه لمحبي المغامرة من المراهقين في دور السينما الأمريكية.

الشريف ناصر مع مجموعة من رجاله في إحدى معسكرات الثورة
الشريف ناصر مع مجموعة من رجاله في إحدى معسكرات الثورة

  تحرير الطفيلة

نرى الشريف ناصر في المرحلة التالية يقود الحملة التي طهرت الطفيلة، ففي أواخر شهر كانون الاول زحفت ثلاث جيوش من وهيدة : الأولى بقيادة الشريف مستور ومعه الشيخ حمد بن جازي والثانية بقيادة الشريف ناصر ومعه نوري السعيد والشيخ عودة أبو تايه والثالثة بقيادة الشريف عبد المعين.

 وقد تقدم الشريف ناصر الى الجفر مع المفرزة النظامية ومن هناك اتجها غرباً لمهاجمة محطة جرف الدراويش وهـي محطة من محطات القطار العسكري ذات تحصينات قوية وخنادق، وكان الأتراك قــد نصبوا مدفعاً ورشاشيين على ظهـر تلة وراء المحطة يحيط بها خندق، وكانت هناك رابية وراء التلة تطل عليها. و أقبل العرب وكانت قوتهم تتألف من كتيبة مشاة قوامها 300 جندي ومدفعين جبليين وثماني رشاشات وفرسان الحويطات وبني صخر يقدر عددهم بــ 1500 رجل. ظل الشريف ناصر ينتظر بقوته ليلتين في العراء، وقبيل الفجر من اليوم الثالث باغت المحطة بالهجوم فحرر الرابية أولاً، ثم بادر إلى قطع خط السكة على جانبي المحطة. وعند طلوع ضوء الصباح جاء نوري السعيد بمدفع جبلي ونصبه على الرابية وأطلق قذيفتين منه على المدفع التركي فوق التلة، أما الطلقة الثالثة فقد أخرست ذلك المدفع فظنوا أنه أعطب، وعندئذ أغـار فرسان العشائر الأردنية وعلى رأسهم الشيخ عودة أبو تايه في هجمة مفاجئة فأركن الاتراك إلى اخلاء التلة وانهزموا للاحتماء بأبنية المحطة.

 ومضى نورى السعيد الى التلة فوجد المدفع التركي صالحاً للعمل وأن العثمانيين الأتراك قد فلوا خوفاً لا من جراء نفاذ الوسائل للقتال، فما كان من السعيد إلا أن أدار فوهته نحو المحطة وأطلق منه قذيفة أصابت محطة القطار العسكري إصابـــة مباشرة. وعندئذ هجم فرسان بني صخرعلى المحطة فرفعت قطعان العثمانيين شارة الإستسلام دون أن يقاوموا، فأخذهم فرسان بني صخر أسرى وكانوا حوالى مائتين بينهم سبعة ضباط عثمانيين أتراك ( بالإضافة الى ٨٠ قتيل عثماني تركي) ولم تخسر قوات الثورة سوى شهيدين. وعمد فرسان العشائر الأردنية الى تدمير المحطة ودمروا جسراً كبيراً عندها وحرروا حمولة قطارين من المؤن للجيش العثماني كانا يقفان فيها وبهم بعض المؤن من حليفهم الألماني. لقد أدار الشريف ناصر هذه المعركة بمهارة وروية كعادته، وكان الهدف اجراء أكبر تدمير ممكن في الخط ومهاجمة محطات  أخرى لشّل المواصلات التركية عن قياداتهم الألمانية.

جعفر باشا " العسكري" و الشريف ناصر في منطقة الشوبك
جعفر باشا ” العسكري” و الشريف ناصر في منطقة الشوبك

وادي الحسا

في نيسان 1918 قام الجيش العربي بأكبر عملية عسكرية في تاريخ الثورة، ألا وهي الهجوم على تحصينات مدينة معان في محاولة لتحريرها، وقد اشتركت في تلك العملية جميع الوحدات النظامية وحققت انتصارات موضعية مهمة، ولكن معان المدينة نفسها لم يتم تحريرها بيد قوات الثورة وذلك بسبب أخذ قيادة العثمانيين الألمانية المواطنين من أهل معان كدروع بشرية عالمين أن الهاشميين وشيوخ العشائر الأردنية لن يقدموا على قصف أقاربهم بالمدينة، بالاضافة لوجود بعض المغرر بهم المخدوعين بالبروبوجاندا العثمانية التي هندسها المستشارين والقادة الألمان لخداع بعض أهل المدينة باستخدام الغلاف الديني.

وكان من نتائج العملية تدمير جزء واسع من خط سكة حديد القطار العسكري الى الجنوب من مدينة معان كان من المتعذر على جيش الاحتلال التركي إعادة تعميره، مما أدى الى عزل المدينة وسجنها سيئ الذكر وحاميتها العثمانية عزلاً نهائياً. استقر الرأي على تدمير ثمانين ميلاً من الخط الى الشمال من مدينة معان نظير الأميال الثمانين التى دمرت الى الجنوب، كي يتحقق عزل مدينة معان نفسها عن عمان و درعا. و لهذه الغاية تولى الأمير زيد قيادة القوات النظامية وفرسان العشائر الأردنية في هذا القطاع وأخذ يشن الهجمات على معاقل العثمانيين الأتراك وقياداتهم الألمانية والنمساوية، وكان أشدها الهجمات المتكررة على محطة الجردونة، أما قيادة المتطوعين فقـد أسندت بصورة رئيسية للشريف ناصر بن علي.

 وقد قام الشريف ناصر يوم 8 أيار بالهجوم على على محطة القطرانة فأسر عدداً من جنود حاميتها، ثم أعاد الكرة عليها في اليوم التالي، وفي 12 أيار شّن هجوماً ثالثاً ولكنه لم يتمكن من تحريرها فعمد الى تدمير مسافات مــن خط سكة حديد القطار العسكري، و في 18 أيار قام الشريف ناصر بالتحرك الى قاعدة الفجيج، بعد أن انضمت إليه مفرزة نظاميية و مفرزة الهجانه وخبير بريطاني في زرع المقفجرات.

 وقامت هذه القوة المختلطة، فجر يوم 23 أيار بهجوم مباغت على محطة الحسا، فاستسلمت حاميتها بعد مقاومة خفيفة وأخذ فرسان العشائر الأردنية فيها 60 أسيرا وحرروا رشاشيين، واستغلوا هذا الانتصار فعمدوا إلى تدمير منشآت المحطة، كما أخذوا ينسفون قضبان سكة حديد القطار العسكري الى الشمال والجنوب من المحطة، وفي اليوم التالي هاجم الشريف ناصر محطة فريفرة  فحررها وأخذ فيها 60 أسيرا ثم عمد الى تدمير منشآتها وعربات السكة الموجودة فيها.

قائد العثمانيين الألماني أوتو ليمان فون ساندرز (Otto Liman von Sanders)
قائد العثمانيين الألماني أوتو ليمان فون ساندرز (Otto Liman von Sanders)

ثم أغار على محطتي السلطاني وجرف الدراويش وكذلك على محطة القطرانة في الشمال حتى بلغت المسافة التي شملها التطهير 14ميلاً، ويذكر أحد القادة العثمانيين  الجنرال الألماني ليمان فون ساندرس[1] أن قوات العشائر الأردنية قد دمرت 25 جسرا عثمانياً خلال أسبوعين وهو ما خربط كل مخططاتهم التي لم تظن أن فرسان العشائر الأردنية تمتلك الانضباط فوق المسببات للقيام بكل هذا.

كان الشريف ناصر يرتد إلى وادي الحسا بين كل هجوم وآخر ليحتمي في جوانبه الوعرة ويتفادى قنابل الطائرات الألمانية المساندة للاحتلال التركي، وقد اشترك الشيخ عودة أبو تايه في بعض هذه الهجمات وكذلك فرسان بني صخر، ولكن الطائرات الألمانية شددت غاراتها على مواقع قوات الثورة والحقت بهم خسائر لا يستهان بها، كما جلب الأتراك ثلاثة آلاف جندي من الترك والألمان والنمساويين من مسرح فلسطين لتعزيز حاميات المحطات بعدما عاثوا فيها بطشاً ورعباً. فاضطر الشريف ناصر بن علي التراجع المؤقت، ومما يجدر ذكره أن قوة الشريف ناصر في هذه المعارك كانت تقارب 600 مقاتل أكثرهم من مقاتلي العشائر الأردنية، وقد كانت هذه الهجمات مفيدة جداً لأنها حالت بين جيش الاحتلال العثماني وبين القيام بهجوم معاكس على مواقع قوات الثورة في تلول السمنات و وهيدة. وعندما زحف جيش الاحتلال العثماني لإعادة احتلال الطفيلة، اعترض الشريف ناصر بن علي طريق زحفهم وقـاومهم بشدة، ولكن الطائرات الألمانية ظلت توالي الغارات عليه حتى أجبرته على الانسحاب.

 وتذكر ( النشرة العربية ) أن كتيبتين عثمانيتين تدعمهما مدفعية ميدان وسريتا رشاش – شّنتا هجوماً يوم ٢٢ حزيران على قوات الشريف ناصر بن علي  في وادي الحسا، وأن الفريقين اشتبكا في معركة عنيفة ارتد الجيش العثماني على أثرها بعد أن فقدوا عشرين قتيلا وخمسة عشر أسيراً. وفي 4 تموز تصدت قوة الشريف ناصر بن علي لمفرزة استطلاع عثمانية وردتها على أعقابها بعد أن قتلت ستة من أفرادها واصابة قائد نمساوي.

أثنى لورنس كثيرا في كتابه ( أعمدة الحكمة السبعة ) على الشريف ناصر ووصفه بقوله “كان فاتح الطرق، والطليعة السابقة في تحركات فيصل، هو الرجل الذي أطلق الرصاصـة الأولى في المدينة المنورة والذي أطلق الرصاصة الأخيرة في المسلمية وراء حلب في نفس اليوم الذي طلب فيه جيش الاحتلال العثماني الهدنة. ومن البداية حتى النهاية كان كل ما يمكن أن يقال عنه جميل وطيبا”.

 ووصفه في موضع آخر بقوله ” كان لناصر، وهو أمير كبير في موطنه، خيمة كبيرة يستقبل فيها الزائرين، لقد هجر الراحة والدعة والزعامة الطبيعية في مدينته وبين أهله، والقصور ذات الحدائق الغنا التي نشأ وعاش فيها، وها هـو يقضي الأعوام في البراري مقاتلا، دائما في الطليعة، ينتدب لكل مهمه عسيرة شاقة، والرائد في كل زحف. بينما يقيم الأتراك في منزله يقطعون أشجار النخيل، ويقطفون ثمار الحدائق” وقال عنه أيضا أنه كان “رأس الرمح للجيش العربي منذ أيام القتال الاولى” ووصفه بانه شاب جسور ذو جبهة عريضة واطئة و له عينان حادتا النظر.

أما خيرالدين الزركلي فيقول عن الشريف ناصر في كتاب (الأعلام) “قامت الثورة فكان أول من نادى بها، ثم لحق بفيصل وخاض المعرك الدامية،  ثم طارد  جيوش الاحتلال العثماني حتى حلب، فكان يقال له (فاتح حلب)، ثم بقي في دمشق إلى أن احتلها الفرنسيون فتوجه الى مكة، ثم قصد بغداد وبقي فيها إلى وفاته. كان هادىء الطبع، رضي الخلق، عرفته بدمشق ولقيته بها وبمكة مرات”.

الشريف البطل ناصر بن علي
الشريف البطل ناصر بن علي

توفي رحمه الله في بغداد في شهر تموز 1934 بالسكتة القلبية، منحته الحكومة الفيصلية في سوريا رتبة (أمير لواء)، وكان دائماً الى جانب الأمير فيصل وأخيه زيد، وقد أبَنته جريدة ( فتى العرب) الدمشقية لصاحبها معروف الأرناؤط تحت عنوان ( فاتح دمشق وبطل حريتها – رجل مات والرجال قليل(.

المراجع :

  1. صور من البطولة ، سليمان الموسى ، المطبعة الهاشمية ، عمّان ، 1968 ، ص 9-34.
  2. الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  3. التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
  4. المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.
  5. جيل الفداء : قصة الثورة الكبرى و نهضة العرب/ قدري قلعجي.

[1] أوتو ليمان فون ساندرز : Otto Liman von Sanders كان جنرالًا ألمانيًّا، خدم كمستشار وقائد عسكري للدولة العثمانية، كان من المقربين وصانعي السياسة العسكرية بدولة الاحتلال العثماني. كان مطلوباً لعدة جرائم حرب بدول البلقان واليونان وأرمينيا وفلسطين وغيرها. ولد 17 فبراير 1855 في مملكة بروسيا و توفي في 22 أغسطس 1929

Scroll to top