الطقوس النبطية : الحياة والموت

تمهيد

كان الموت ولا زال لغزَ البشر المحير. فمن اللحظة التي أعلن فيها الأردنيون الأوائل في “عين غزال” ارتباطهم في الأرض ودفنهم لموتاهم ومتعلقاتهم انطلقت شرارة كل الميثولوجيا الدينية وكل الطقوس. وصحيح أن البترا تسمى المدينة الوردية إلا أنها سميت أيضا بمدينة القبور فيوجد فيها وحدها 500 قبر.

تخبرنا القبور المهيبة التي نحتها الأردنيون الأنباط في الصخر لموتاهم أنهم قدسوا هذا السر وآمنوا بحياة أخرى يبعث فيها الميت من جديد. وعلى واجهات القبور والمعابد يظهر رمز نبطي مشهور وهو رمز “خطوة الغراب” ويكون على شكل ثلاث درجات للأعلى وثلاث درجات للأسفل دلالة على وجود عالمين سفلي وعلوي، عالم الحياة وعالم الموت.

عشرة قلائد ذهبية وتسع خرزات من المقتنيات المدفونة مع الأنباط ديفيد جونسون
عشرة قلائد وتسع خرزات من المقتنيات التي وجدت في إحدى القبور النبطية. حقوق الصورة للباحث ديفيد جونسون

لقد دفع إيمان الأردنيين الأنباط بحياة أخرى لدفن الميت مع أغراضه الشخصية ليستعملها في حياته القادمة. تباينت المتعلقات بين مجوهرات وسيراميك وأحذية وجلود وعملات وصدف وغيرها، على أن قرابة 77% من القبور النبطية البارزة كانت خالية تماما من المتعلقات ويرجح ذلك لحملات السلب والنهب التي كان يقوم بها اللصوص وقاطعو الطرق.

تنقش على واجهات القبور أدعية اللعن التي تلحق اللعنة بأي من تسول له نفسه نبش القبر وسرقة متعلقات الميت. وفي نقش وجد في البترا ويؤرخ إلى 17 م.  يذكر أولاد الميت بناءهم قبرا لوالدهم (أبناء “وهب اللاهي” أقاموا لأبيهم “بيت صلما” والتي تعني حرفيا “بيت للآخرة” بمعنى قبر أو ضريح).

هيكل نبطي (3-12 سنة) برفقة تمثال صغير. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء- حقوق الصورة لإبراهيم وجوردون
هيكل نبطي يعود لطفل من عمر ثلاث إلى اثني عشر سنة، برفقة تمثال صغير. الدفن على شكل فردي. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

عادات وطقوس الدفن: قداسة الموتى

كانت طقوس الدفن والجنائزيات إحدى أهم أعمدة الطقوس الدينية لدى الأردنيين الأنباط، ولا يعود هذا لقداسة الموت ورهبته فحسب، إنما لكون هذه الطقوس مَعبرا إلى الحياة الأخرى التي اعتقد الأردنيون الأنباط بوجودها. وجد الباحثون أن أجدادنا الأنباط قد استخدموا أكثر من طريقة للتعامل مع الموتى، فمنهم من دفن في مقابر حجرية ومنهم من دفن في توابيت خشبية وآخرون حرقت أجسادهم بطرق متباينة. كما شاعت عادات الدفن الفردي والدفن الجماعي إضافة للتحنيط.

يرجح العلماء أن الأردنيين الأنباط تأثروا في الحضارة الرومانية فيما يتعلق بدفن الموتى في التوابيت الخشبية. إن معظم التوابيت التي تم الكشف عنها كانت متحللة وتعود للعصرين الأوسط والمتأخر من الحضارة النبطية . وقد استخدم الأردنيون الأنباط طريقتين في تثبيت التوابيت الخشبية؛ المسامير وتعشيق الخشب وبطريقة ممتازة الصنع. وتتوزع طريقة الدفن هذه في الحميمة والبترا وفي الطرق المؤدية لميناء غزة الذي كان معبر التجارة النبطية الأردنية نحو العالم. وقد وجدت هذه الطريقة حصرا في القبور الرأسية واستدل العلماء عليها بوجود بقايا خشب إضافة لأجراس وأسرجه ومسامير.  وفي منطقة النقب التي كانت امتدادا للمملكة النبطية الأردنية فقد وجد العلماء مدافن حجرية ذات أرضية مربعة مثبتة بالطين ومغطاة بالحجارة وغالبا ما كانت الهياكل العظمية في هذه المدافن محفوظة وكانت التوابيت الخشبية مزركشة وقد توجد بعض آثار الأكاليل (المحيسن: 2009)

Renaissance Tomb- Courteny Ewert 2016
“قبور نبطية محفورة في الصخر من ضريح النهضة في البتراء. حقوق الصورة محفوظة للباحثة كورتني إيورت”

 أما حرق الموتى فيعد من أغرب تقاليد وطقوس الدفن عند الأردنيين الأنباط ورغم ذلك فقد تعددت صور هذه العادة فمن الحرق الجزئي إلى الكلي أو الحرق بالجير غير المطفأ.  وجد العلماء في مقبرة المعيصرة (قرية في محافظة حماة السورية حاليا- شمال المملكة النبطية الأردنية) على رماد لعظام بشرية وحيوانية إضافة لجماجم محروقة بشكل جزئي (الروابدة: 2008) أما الحرق الكلي والذي يسمى ” كولمباريوم” فلم يوجد إلا في مدينة البترا. حيث يكون المدفن كبيرا ومحتويا على فتحات وكوى في الجدار توضع فيها أوانٍ تحوي على رماد الجثث.

صورة أضرحة الرماد
أضرحة الرماد (أعشاش الحمام)  والحفر التي كان يوضع فيها رماد الميت. (الماجدي: 2012)

 أما استخدام الجير المطفأ فهو العادة التي انفرد بها الأردنيون الأنباط عن غيرهم. فقد وجد في مدفن ذو الشرى في البترا جماجم لثلاثة أطفال بجانب رماد لجثث أخرى وطبقة من الرمل الأسود الذي اكتشف لاحقا أنه الجير.  ويبقى سبب استخدام هذه الطريقة غامض حتى الآن على الرغم من أن بعض علماء الآثار يرجحون أنها طريقة ذكية استخدمها الأردنيون الأنباط للقضاء على الأوبئة حيث يقضي الجير على كل المواد العضوية.

لقد تأثر أجدادنا الأنباط بلا شك بالحضارة المصرية، فقد كانت علاقات التجارة بين الحضارتين قوية. يستخرج الأنباط القير(القار) من البحر الميت ويبيعونه للمصرين لأغراض التحنيط. وعلى الرغم من وجود العديد من الدلائل الملموسة على ممارسة التحنيط إلا أن الآثاريين لم يجدوا جثثا محنطة تحاكي الطريقة المصرية في تحنيط المومياوات.

وكان العلماء قد وجدوا في مقبرة خربة الذريح خصلات شعر وأجزاء جافة من الدماغ إضافة لأكفان جلدية مزركشة كما وجدت لفافات جلدية في محاجر العيون دلالة على أن إزالة العيون قبل هذه السلوكيات. وكل هذا يدل على خصوصية تعامل الأردنيين الأنباط مع الميت.

الدفن الفردي والجماعي

سادت عادة الدفن الفردي عند الأردنيين الأنباط، ففي المقبرة النبطية التي وجدت في منطقة مطار الملكة علياء كانت كل القبور فردية. استقبلت كل الجثث جهة الشرق وهي دلالة على وجود طقس جنائزي يحتفي بالشمس التي كانت تمثل الإلهين الرئيسين ذو الشرى واللات.

وعلى الرغم من شيوع الدفن الفردي إلا أن القبور الجماعية قد حضرت أيضا، ولكن بصورة تجعلها أشبه بتقليد خاص ينفذ بناء على رغبة الشخص نفسه. فقد وجدت الكثير من القبور التي خصصت لدفن فرد واحد على هيكلين يقابلان بعضهما أو موضوعان فوق بعضهما، والأرجح أن يكون هذا مقتصرا على الأزواج والعائلة. وفي البترا وجدت مدافن عديدة يحوي أحدها على رماد 30 جثة وآخر يحوي على سبع جماجم.

الجنازة النبطية: طقوس الانتقال إلى الحياة الأخرى  

يخطف الموت فردا من عائلة أردنية نبطية تسكن بيتا محفورا في الصخر. في تلك الأثناء تمسح عائلة الميت دموعها وتستعد لمنح روح الفقيد الراحة الأبدية. في المدفن، يجهز قبر محفور في الصخر بعمق 150 سم، يتلو الكاهن أدعية اللعنة على نابشي القبور، وإن كان الميت مميزا قد تلف جثته بأكفان جلدية مزخرفة وقد ترسم صورته على جدران القبر. تجمع العائلة أغراضه وجواهره ولا ينسون وضع قطع ذهبية في فمه إرضاء لصاحب العربة المسمى “شارون” والذي ينقل روح الميت من الحياة الدنيا إلى العالم الآخر، وتجر هذه العربة خيل وجمال أو حتى دلافين منقوشة على المقابر!

wadi Mataha, Petra Courteny Ewert
قبور نبطية، البتراء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

يتوجه الجميع بعد الدفن إلى المكان المتفق عليه، “المضافة الجنائزية” شتاء داخل المقبرة وصيفا خارجها، يجلسون على المقاعد التي حفرت في الصخر أيضا وربما في مشهد شبيه في بيوت العزاء الحالية، يستقبل أهل الميت المواساة في خسارتهم. داخل المضافة تجلس تماثيل الآلهة في كل زاوية، ويحرق البخور.

تتقدم جموع المعزين من الطقس الجنائزي التالي: الوجبة الجنائزية التي كانت تقدم على موائد صخرية ملحقة في المقبرة. يجلس الحاضرون على الأرضية الرملية ويبدأ تقديم الطعام فتخرج الأطباق والكؤوس الخزفية وربما يصل الأمر إلى كؤوس ذهبية إن كانت الوليمة على شرف الإله أو شرف الحاكم.  ويكمن الأمر المثير للاهتمام بأن عادة تقديم الطعام لا تزال حاضرة كجزء من بيوت العزاء في المجتمع الأردني.

نقش على قبر
نقش نبطي يؤرخ للعام 31/23 م. في مملكة الحجر إحدى الممالك النبطية جنوب العاصمة البتراء. ترجمة النقش: هذا القبر الذي بناه حسايكو ابن حُميدو لنفسه ولذريته ولغزيعات وسلامو أختيه، ابنتا حميدو ولذريتهما. ولا يملك أي أحد حق الكتابة على هذا القبر أو شرائه أو الدفن فيه غير أصحاب الحق من الورثة. ومن يفعل ذلك فلن يكون له حق شرعي فيه. في شهر أيار، السنة الأربعون من حكم الملك الحارث، ملك الأنباط المحبوب من شعبه. روما وعبد عبادة، البناؤون.

في النهاية، تتفرق جموع المعزين وترجع الحياة إلى المضي كسالف عهدها؛ ربما يقوم أهل الميت بإحياء ذكرى سنوية بإعادة طقوس الدعاء والموائد الجنائزية ليتذكروا فقيدهم وليمنحوه الراحة في العالم الآخر.لم يغفل الأردنيون الأنباط عن كتابة اسم المتوفى ومكان وفاته ولكن كان النصب التذكاري المسمى “النفش” أمرا منفصلا عن المقبرة وقد يوجد في مكان بعيد ومنفصل عن مكان الدفن.  ويعد النقش الذي وجد في أحد اودية البترا من أهم هذه النصب التذكارية (هذا نفش بتريوس ابن تربتوس  وهو مكرم لأنه مات في جرش وهو من سكان الرقيم) والرقيم هو الاسم القديم للبترا. إن هذا النقش يوضح أن الأردنيين الأنباط كانوا يعاملون القبر وشاهد القبر (النفش) معاملة منفصلة حيث يعنى الأول بدفن الجثة والثاني بتخليد ذكرى الميت.

الطقوس النبطية: صورة دينية كاملة

بهذا رسِمت الصورة الكاملة للتوليفة الدينية النبطية الساحرة. لم يكن الأردنيون الأنباط أصحاب حضارة عادية على الإطلاق، بل كانوا شعبا ثريا روحيا ومعنويا. تمنحنا الإطلالة على طقوس الأردنيين الأنباط الدينية معرفة أعمق بمدى استقرار المجتمع الأردني النبطي ومدى تعلقه بالأرض التي عاش عليها.

احتفل الأردنيون الأنباط بآلهتهم وانتصاراتهم وكان لهم كاهن وصلوات وأدعية كما كان لهم تعبيرهم الخاص عن رؤيتهم للحياة الأخرى وعبور الأرواح إليها. لم يؤد الأنباط أي طقس من طقوسهم سوى بكثير من الحب والرغبة في الخلود، ولقد كان لهم ذلك فمدنهم التي حفرت في الصخر لا زالت تحفر في قلوب كل من يزورها الدهشة.

المراجع:

  • الحموي، خالد. (2002) مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • غرايبة، هاشم. (2007)، العيد عند الأنباط، صحيفة الراي.
  • عطيوي، ف. و رشيد، ح. (2010)، الحياة الدينية عند الانباط قبل الإسلام، مجلة ديالي 45 (130-154)
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عباس، إحسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط (ط1)، عمان، دار الشروق.
  • عجلوني، أحمد(2003)، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط

 

 

References:

  • Allpas, Peter& Jhon (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University.
  • Alzoubi, M., Almasri, E. & Alajloiny, F. (2012), Woman in the Nabatean Society, Mediterranean Archeology and Archaeometry, 13, No. 1, p. 153-160
  • Perry, M. (2002), Life and death In Nabatea: the North ridge tombs and the burial practices, Near East Archeology 265-270
  • Ewert, C. (2017), Nabatean Subadult Mortuary Practices. MA thesis, Brigham Young University
Scroll to top