كذبة لورانس – الجزء السابع


080716_1017_1

في هذا الجزء الجديد من سلسلة كذبة لورانس نتناول مزاعمه وافتراءاته على عشائر الطفيلة ومحاولاته سرقة الانتصار والتحرير من الاحتلال العثماني ونسبه لنفسه.

تقديم :

كنا قد أوردنا خلال الأجزاء الماضية ، الرابع ، الخامس ، السادس من كذبة لورانس ، أن الشريف ناصر قد أقام في العقبة بينما أقام عودة أبو تايه في القويرة بمنتصف الطريق بين العقبة ومعان ، كخط دفاعي متقدم عن المواقع التي تم تحريرها تحسباً لأية هجمات من القوات العثمانية ، ورغم أن الأتراك كانوا يواجهون مصاعب جمة ، إلا أنهم تمركزوا في الفويلة وأبو اللسن ، وحاولوا في عدة مناسبات التقدم غرباً في محاولة لاستعادة بعض المواقع التي خسروها ، إلاّ أن عودة أبو تايه كان يهاجمهم ويكبّدهم الخسائر مما يدفعهم للإنسحاب وإعادة التموضع في مواقعهم، وتزامنت تلك المحاولات مع غارات متبادلة نفذتها الطائرات التركية والألمانية من جهة مقابل طيران التحالف المساند للثورة من جهة أخرى ، وقد أخذ عدد القوات المنطوية تحت راية الثورة العربية الكبرى بالتزايد، ووصل عدد القوات لأكثر من 2000 مقاتل ما بين ضباط ومقاتلين وهجانة وفرسان ومدفعية ، وكان جعفر العسكري ينهمك في تدريب المتطوعين ويساعده في ذلك عدد من ضباط أركان الثورة الذين تزايد عددهم نتيجة انشقاقهم عن جيش الاحتلال العثماني وخلعهم للرتب والزي العسكري العثماني ورايته الحمراء الملوثة بدماء الأبرياء من الأردنيين والعرب، واستعانت قوات الثورة بالهجمات ضد سكة القطار العسكري، حيث تذكر التقارير أن العمليات المتفرقة أسفرت عن نزع ما مجموعه 7630 قضيباً، بينما تم نسف 30 جسراً خلال فترة ثلاثة أشهر من تموز إلى أيلول.

مكافأة لقطع خط سكة القطار العسكري بين معان والمدينة المنورة

وعلى النقيض من كل مزاعم لورانس لقيادته بأنه خطط لعدم قطع سكة القطار العسكري العثماني الواصلة بين معان والمدينة المنورة وذلك بمبررات سخيفة وأنه تمكن من إقناع العرب بذلك ، مبرراً للضباط الانجليز ذلك بأنه أفضل ومجدي أكثر من ناحية الجدوى مقارنة بتكلفة الأسرى العثمانيين ، فإننا نكتشف في النشرة العربية المؤرخة بتاريخ 21 تشرين الأول ، أن الشريف الحسين بن علي قد وعد بمكافأة للأفراد الذين يساهمون بقطع هذه السكة ، في دليل واضح على مساعي الثوار العرب لعزل المدينة بغية اسقاطها وأن مزاعم لورانس عن وجود سياسة مرسومة تقضي إبقاء الخط سليما هي مزاعم لا تنطبق على الواقع، وتوالت العمليات بعد ذلك ونتج عنها اقتحام عدة حاميات ومواقع للقوات العثمانية التي تحمي هذا الخط ، وتمكنت قوات العشائر التابعة و المساندة للثورة العربية الكبرى من أسر المزيد من قطعان العثمانيين، وفي ذات الوقت كان الثوار يعملون كخلية نحل منسجمة تماماً ما بين عمال مصريين وضباط عراقيين وقوات نظامية ومتطوعين من العشائر الأردنية ، جميعهم كانوا يتقاسمون المهمات القتالية واللوجستية، من عمليات عسكرية و امداد و تزويد ، إلى جانب تمهيد طريق وادي اليتم لتصبح صالحة لمسير السيارات، إلى جانب عمليات الدوريات والخفر ، وكان يتم ذلك في حماس منقطع النظير رغم أن البرد كان شديداً جداً لا سيما في ظل تواجد القوات في مناطق صحراوية في أشد فترات العام بروداً، وذلك وفقاً لما جاء في أحد تقارير الكولونيل البريطاني جويس ، الذي جاء فيه كذلك أن جنود الثورة  يحيون حياة بائسة في تلك الظروف، ولا يملك الواحد منهم سوى بطانية واحدة، وهذا كله لا يدل إلا على إيمان الثوار  بالهدف الذي يستبسلون ويتفانون في الدفاع عنه، وقد تلا ذلك معارك تحرير وادي موسى واستبسل في سبيل ذلك أهلها وفرسان اللياثنة.

إحدى عمليات تفجير سكك خطة سكة الحديد أثناء العمليات العسكرية لتعطيله وقطع الإمدادات عن الحاميات التركية المتحصنة في معان

أكاذيب لورانس في تحرير الطفيلة:

كانت الظروف التي يمر بها الثوار صعبة، وكان شتاء ذلك العام شديد القسوة كما أن الانجليز لم يزودوا الجيش العربي بالألبسة الشتوية والبطانيات رغم أن هذا جزء من الاتفاق معهم كحلفاء عسكريين ، ونتج عن ذلك أن توفي عدد من الجنود تحت وطأة البرد ، وكذلك وقعت خسائر جسيمة في الخيول والحيوانات وكل ذلك لم يثن الثوار عن مواصلة رحلة التحرر والطريق نحو الحرية والاستقلال فزحفت ثلاث حملات عسكرية للثورة على شكل كماشة باتجاه جرف الدراويش ثم إلى الطفيلة.

مجموعة من قوات الثورة بعد عملية تحرير جرف الدراويش

وفي إطار ذلك يروي رئيس أركان جيش الثورة الشمالي نوري السعيد أنه وفي يوم 12 كانون الثاني عام 1918م تم تهيئة حملة صغيرة مكونة من فوج مشاة (حوالي 300 جندي نظامي) ومدفعين جبليين وثماني رشاشات وقوة من العشائر تقدر بـ 1500 مقاتل ، ويصف استيلائهم على المحطة بعد عزلها ونصب الكمائن لقطع الطريق عن أية إمدادات قد تصلها من الجنوب والشمال ، وقام نوري السعيد بتوجيه مدفعيه نحو المدفع التركي وحتى تم إسكات المدفع واندفع فرسان الحويطات والصخور على جمالهم ، مما بث الفزع في قلوب الأتراك الرابضين فوق التل فانهزموا نحو داخل بناء المحطة ، وجرى تبادل لإطلاق النار وأرسل مفرزة من الخيالة للاستطلاع ، ثم مضى إلى التل فوجد مدفع الأتراك في حالة سليمة فلم يكن منه إلا أن أدار فوهته نحو بناء المحطة وأطلق منه قذيفة اخترقت جدار البناء، وبلغت حماسة الثوار أشدها فاندفعوا على جمالهم اندفاعا هد أعصاب الأتراك فأعلنوا استسلامهم، وحرص الثوار على إيقاع أكبر عدد من الخسائر المادية في المحطة وغادرها نوري السعيد مع النظاميين عائداً بالأسرى للقويرة ، بينما اتجه الشريف ناصر إلى الطفيلة مع مفرزة نظامية بقيادة رستم سردست ، وكذلك تقدم الشريف عبد المعين من وادي موسى للشوبك وغابتها (الهيشة) بعد انسحاب الأتراك منها، واتجه الشريف مستور نحو الطفيلة عن طريق وادي عربة ومعه بعض الضباط النظاميين وعدداً من فرسان الجازي.

الأمير زيد بن الحسين يتحقق من أحد مدافع canon 75mm فرنسية الصنع تابعة للقوات النمساوية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

وكان أهل الطفيلة قد انضموا للثورة، بعد أن اجتمعوا و كلفوا الشيخ ذياب العوران بإرسال كتاب للأمير فيصل يبلغه استعداد عشائر الطفيلة و جاهزيتهم للانضمام للثورة بمجرد وصول أول شريف لها، وهذا ما تم واستسلمت الحامية التركية الموجودة في الطفيلة ، ودخلها الشريف ناصر و الشيخ عودة أبو تايه ، ثم عاد الشيخ عودة لمضاربه في الجفر وسيق الأسرى الأتراك إلى العقبة ، فيما عدا العرب منهم الذين اختاروا الانضمام للمحاربة في صفوف الثورة.

عدد من فرسان عشائر الطفيلة أثناء عمليات الترقب و الاستطلاع للقوات التركية الغازية

حديثه عن الخلافات بين عشائر الطفيلة

ومن هنا نتبين أن أهل الطفيلة اختاروا الدخول في الثورة رغبة منهم في ذلك وخاصة شيخ مشايخها ذياب العوران ، ولو صمم أهل الطفيلة على المقاومة وتعاونوا مع الحامية التركية لغدت مهمة قادة الثورة عسيرة للغاية ، أما أكاذيب لورانس عن الخلافات بين عشيرتي العوران والمحيسن فهو حديث غير صحيح ولا يتفق مع واقع الحال ، لأن الخلافات التقليدية والفتن التي صب العثمانيين جهودهم على زرعها ونشرها بين العشائر لم تظهر في تلك الظروف ، وقد واجه أهل الطفيلة أحداث تلك الفترة وهم متحدون يداً واحدة.

افتراء جديد ضد عودة أبو تايه

كما أن افتراء لورانس على عودة أبو تايه واتهامه بأنه هدد أهل الطفيلة وشتمهم فهو عارٍ عن الصحة ، لأن عودة جاء كصديق لذياب العوران شيخ مشايخ الطفيلة ولم تكن الطفيلة منطقة نفوذ له ، كما انه ووفقاً لموازين القوى فان ما كان مع الشيخ عودة ومع الشريف ناصر من قوات غير كافية لدخول البلدة عنوة واقتدار بدون التوافق مع أهلها.

مقاتلو الثورة و فرسان الطفيلة من كافة العشائر يحتفلون بإنتصارهم سوية في معارك الطفيلة

قائد الحامية العثمانية يسلم المدينة وينضم لقوات الثورة :

ويروي أمير اللواء محمد علي العجلوني أحد الضباط النظاميين العاملين مع الشريف مستور، أن الرئيس زكي الحلبي قائد الحامية التركية كان على اتصال مع الأمير فيصل وقوات الثورة وأنه ساهم في دخول قوات الثورة إليها سلماً ، وبعد تحرير الطفيلة باشر الشريف زيد بتعيينه حاكماً إدارياً لها.

الفرق بين خيال لورانس وواقعية قائده جويس في معارك تل الشحم :

من خلال مطالعة تقرير الكولونيل البريطاني جويس الذي كان مسؤولاً عن لورانس في مهمة نسف محطة المدورة لتقدمه في الرتبة عليه، نستطيع تكوين فكرة واضحة عن الروح العسكرية المحضة التي يتسم بها صاحب التقرير، فهو يتحدث عن السيارات وعن الجنود بأسلوب واقعي، متواضع ، وهو كذلك لا يذكر نفسه أو يختصها بالثناء كما أنه لا يذكر اسم لورانس ، أما وصف لورانس لهذه المعركة فقد جاء كالعادة بتفاصيل جديدة ومختلقة بالإضافة لعقدة الحديث عن نفسه ومدح الذات ، وإبداء آرائه الشخصية وخيالاته.

أكاذيب لورانس عن حراسه !

يقول لورانس أنه وبعد عودته للعقبة ، قضى معظم وقته وبذل جهده الأكبر في تنظيم الحرس الخاص به ، والذي عمل على تشكيله لحمايته شخصياً، وهو هنا يدعي أن الأتراك كانوا يعلنون المكافآت لمن يأتي بضابط بريطاني حياً أو ميتاً، وأنهم رفعوا قيمة المكافأة إلى عشرين ألف دينار لمن يأتي به (لورانس) أو بالشريف علي الحارثي حياً ، وعشرة آلاف لمن يأتي بأي منهما ميتاً ، ويذكر أن عدد حراسه كان حوالي 90 شخصاً وكان يدفع لهم راتب يبلغ ضعف الرواتب العادية في الجيش ، مما جعل منهم موضع حسد الآخرين ، ويسهب لورانس في وصفهم ويحاول أن يضفي عليهم صفات البطولة ، حتى ليخيل لمن يقرأ وصفه لهم أنهم أشبه ما يكونوا برجال الحرس الفرنسي الذين وصفهم دوماس في رواياته.

ومن الأدلة على عدم دقة لورانس في هذا الموضوع، الصورة المنشورة في كتاب روبرت جريفز والتي كتب تحتها (لورانس وحرسه في العقبة – صيف 1918 ) ولا تضم سوى 14 شخصاً يختلف زي كل واحد منهم عن الآخر، ولا يبدو عليهم أنهم منظمون أو يتبعون لتشكيل واحد ولا نعلم مدى صحة عنوان الصورة أصلا فهل هؤلاء حرس شخصي له أم أنهم محاربين من فرسان الثورة أقنعهم لورانس أن يتصور معهم، كما حدث وتطرقنا له في الأجزاء السابقة عندما كان يصر على التصور بجانب المدافع و الأسلحة و الغنائم بعد كل معركة !

وفي نفس سياق المزاعم والمبالغات والتناقضات ، نرى أن لورانس يتحدث في مذكرة للنشرة العربية في 24 أيار 1919 قوله أن “عشرين من خدمي قطعوا ذات يوم مسافة ستين ميلاً في خمس ساعات” ،أما قوله أن 60 من هؤلاء ماتوا في خدمته فينطوي على مبالغة كبيرة ، يناقضها هو نفسه في رسالة كتبها بتاريخ (15 تموز 1918) جاء فيها أن عدد حراسه بلغ 50 رجلاً ، ولكن أغلب من عرفوه يتحدثون عن أن إجمالي من عمل مع لورانس من مرتزقة كمخبرين وخدم وأتباع لم يتجاوز 15 شخصاً معظمهم تتكون اسماؤهم كما يوردها من مقطع واحد وعادة ليست اسماء متداولة أو مشهورة بين أبناء المنطقة، ويتضح من كتابات لورانس أنه لم يفعل شيئاً خلال العشرين يوماً التي انقضت بين عودته إلى العقبة ثم بلوغه الطفيلة يوم 20 كانون الثاني أي بعد تحريرها بخمسة أيام.


المراجع :

  • كتاب نوري السعيد – محاضرات عن الحرمات العسكرية في الحجاز وسوريا ، صفحة 38
  • مذكرات قائد عربي ، عبد الفتاح أبو النصر أليافي (د.ت ولكن ربما 1932) صفحة 182 (نشرت في جريدة لسان الحال / بيروت)
  • النشرة العربية 77 / بتاريخ 27/1/1918
  • لورانس والعرب وجهة نظر عربية ، سليمان الموسى الطبعة الثالثة 2010م
Scroll to top