الموسيقار إميل حداد : أول عازف قانون أردني

مقدمة

شهدت المملكة الأردنية الهاشمية في أواسط القرن العشرين نهوضًا نوعيًا في الفنون والموسيقى، كان من بين أبرز أسبابه أن وجد الأردنيون في افتتاح الإذاعة آنذاك، ثم التلفزيون، متنفّسًا لتطلّعاتهم الثقافيّة التي عادت تتصاعد عقب التحرر من نير الاحتلال العثماني، نحو شتّى المجالات الحضارية التي كانت قد أفلت في تلك الحقبة الظلاميّة، وظل الأردنيون طيلتها يحاولون استرجاع حضارتهم الإنسانية ذات الامتداد التاريخي العميق.

وعلى إثر تلك النهضة الموسيقيّة، برزت إلى الواجهة أسماءٌ أردنيّةً مميّزة، تركت بصمة لا تُنسى في الموسيقى الأردنية، وبذل أصحابها جهودًا تاريخيّة في صناعة ونشر الموسيقى الأردنية حتى وصلت إلى أبعد من الحدود الجغرافيّة وسافرت معهم إلى أهم المنابر في المنطقة والعالم، كان من بين هؤلاء الروّاد مغنّون وملحّنون وعازفون، صارت أسماؤهم تُذكر دومًا حين الرّجوعِ إلى الصفحات الهامّة في التاريخ الموسيقي الأردني المعاصر. ومن بينهم، أول عازف قانون أردني، الموسيقار إميل حدّاد.

نشأته ودراسته

وُلِد الموسيقار إميل حدّاد عام 1944 في مدينة إربد شمال الأردن، وكبر وترعرع في هذه المدينة التي ترك ريفها المميّز أثرًا في نفسه ووجدانه، كغيره من المبدعين الذين احتضنتهم الجغرافيا الأردنية بكل جماليّاتها وأثّرت في سلوكهم الإبداعي، فكبروا فيها معبّرين عن مكنوناتها الجماليّة بعد أن تركّزت فيهم تفاصيلها الساحرة.

في العاشرة من عمره، كان حدّاد يسكن مع عائلته بالقرب من مستشفى الأميرة بسمة، وكان أخوه الأكبر فريد يعمل ممرّضًا فيها، وصادفت أن أهدته إحدى زميلاته في التمريض آلة عود قديمة مستعملة، لم يكن إميل حدّاد الطفل يجرؤ على لمسها رغم أنها لفتت انتباهه منذ أول لحظة رآها فيها، ولكن احترامه لهذه الآلة وخوفه من أخيه كانا عائقًا أمام تجرّؤه على القرب من آلة العود. ولكن بطريقةٍ أو بأخرى، وبعد فترة من الزمن، استطاع إميل، وبموافقة أخيه فريد الذي اكتشف موهبة إميل، أن يُمسك بالعود للمرّة الأولى ويحاول أن يُخرج منه صوتًا.

نقرأ في قصّة إميل حدّاد الطفل، إصراره على أن يجعل الحلم حقيقة بدافع الموهبة الملحّة على حواسّه طيلة الوقت، فمنذ أن أمسك بالعود القديم (غير المدوزن)، وحاول أن يضبط دوزان أوتاره دون معرفةٍ مسبقةٍ له بالموسيقى وعلوم آلة العود، وجد نفسه يائسًا مرّات كثيرة في أن يُصدِر صوتًا مقبولاً من هذه الآلة، إلا أنه لم يفقد الرغبة في تحقيق ذلك، لأنه كان يندفع قهريًا تحت ضغط الشغف بالموهبة للمحاولة مرارًا وتكرارًا. خطر بباله أن يعزف أغنية “طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا” للفنان توفيق النمري، ضرب بريشته على الوتر السفلي، ثم الوتر الذي يعلوه مباشرة، وهما في حالة الوتر المطلق (1)، فنجح بأداء اللحن (طيّارة يمّا بتحوم) … بقي أن يُكمل (فوق حارتنا)، فلم يُجِد ذلك! كان هذا الطفل فرحًا بما استطاع أن يحققه من عزف نصف جملة موسيقية من مطلع أغنية توفيق النمري، ولم ترَ عينه النوم طيلة تلك الليلة، ولكنّه بقي يتساءل مع ذاته عن الطريقة التي سيتمكن فيها من إتمام عزف اللحن؟ وقبل أن يغلبه النعاس، راوده خاطر مفاجئ، فهرع مُسرعًا إلى العود وأمسك به ووضع يده اليسرى على أحد الأوتار وجعل يحاول حتى اكتمل اللحن (طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا…)، وبقي هذا الطفل يحاول، ويجتهد وحيدًا مع عوده وحلمه، شهورًا طويلة، حتى استطاع أن يؤدي ألحان توفيق النمري وجميل العاص وفريد الأطرش وعبدالوهاب وغيرهم.

لم يكن والد الموسيقار إميل حداد راضيًا عن فكرة أن يكون ابنه موسيقيًا، رغم أنه، أي الوالد، كان مولعًا بالطرب والموسيقى، لكنّ خوفه على مستقبل ابنه دفعه في إحدى المرّات إلى كسر العود أمام عيني إميل، فما كان من الأخير إلا أن ذهب بالعود إلى أحد النجّارين لإصلاحه ومواصلة تمارينه الموسيقيّة. وفي أحد الأيام، كان قائد المنطقة العسكرية في إربد، المرحوم عصر المجالي، قد سمع بموهبة إميل بالعزف على العود، فأرسل دورية شرطة إلى بيته لتحضره من أجل إحياء حفلٍ وطنيٍّ كبيرٍ سيُقام في المدينة، ولكن إميل لم يكن موجودًا وبعد ذهاب الشرطة وعودة إميل إلى البيت، استقبله والده بالأسئلة القاسية عن سبب مجيء الشرطة، وفي هذه الأثناء عاد ضابط من الشرطة مجددًا إلى البيت وأصر أن يأخذ إميل معه موضّحًا السبب، وهو الحفل الوطني، فلحق إميل ووالده بالضابط إلى الحفل، وكانت تلك المرّة الأولى التي يعزف بها أمام العامة، وبحضور والده، الذي تغيّرت نظرته إلى ولده وشعر باحترام كبير له ولفنّه.

وعلى إثر ذلك، استطاع إميل أن يحقق المزيد من المكاسب التي تمثّلت بموافقة والده على الذهاب لدراسة الثانوية العامة في القاهرة، ثم الالتحاق بالمعهد العالي للفنون هناك ودراسة الموسيقى، وهذا ما حصل بالفعل، وكان إميل حداد أول طالب أردني يدرس الموسيقى وآلة العود في القاهرة، وحصل أن كان خلال سنة الدراسة الأولى جالسًا في ردهة داخل المعهد، يعزف على آلة العود، وصدف أن مرّ الموسيقار المصري الكبير محمّد القصبجي، الذي كان يعزف في فرقة السيّدة أم كلثوم ولحّن مجموعة من أغانيها، فتوقّف مصغيًا إلى عزف إميل، واقترب منه وقال له “إنت منين يا ابني؟” فأجابه “من الأردن”، فقال له “سيكون لك مستقبل جيّد، ولكن عليك أن تخفف من الضغط على ريشتك أثناء العزف”، فقال له إميل “ولكن أنا يا أستاذ عازف قانون”، فقال له القصبجي “ستكون عازف قانون ممتازًا”. وكانت تلك الكلمات مصدر وحيٍّ وإلهام للطالب الأردني الوحيد في ذلك المعهد الذي وقف أمامه واحد من بين قلّة من ألمع نجوم الموسيقى في مصر.

المشوار الفنّي والمهني

لم يتأخّر إميل حدّاد عن موعده مع التلحين، فقد لحّن أول عملٍ له وهو طالب في القاهرة عام 1965، وانغمس بعدها في الألحان حتى نسي أن له صوتٌ جميلٌ ويمكنه الغناء، فصار يحاول البحث دائمًا عن أصواتٍ جديدةٍ ليكتشفها، ومن بين أولى الأصوات التي تعامل معها حدّاد، الفنانة الشهيرة سهام الصفدي، التي لحّن لها حدّاد أولى أغانيها التي اشتهرت عام 1968 وكانت بعنوان “سهم الهوى”. قام بعدها إميل حدّاد بتلحين أغنية، تُعتَبرُ واحدة من أقرب الأغاني الوطنية إلى الوجدان الأردني، وهي “وضّاءٌ وجهكَ يا بلدي” التي غنّاها الفنان الراحل اسماعيل خضر. وكان لقاؤه بالشاعر الكبير حسني فريز نقطة فارقة في مسيرته الفنية، حيث لحّن من كلماته أغنية “يا حلو طمّني عنّك” التي غنّتها سهام الصفدي.

في العام 1971 انتقل الموسيقار إميل حدّاد إلى المملكة العربية السعوديّة ليعمل في إذاعة الرياض ثم إذاعة جدّة لمدّة 14 عامًا، قدّم خلالها الكثير من الجهود في هاتين الإذاعتين الناشئتين آنذاك اللتين استفادتا من خبراته وقدراته الموسيقيّة، واستفاد منها عددٌ من العازفين السعوديين آنذاك بطبيعة الحال. وكان الفنان الكبير محمد عبده من جملة أصدقاء الموسيقار إميل حداد خلال إقامته هناك، رافقه في كل رحلاته الفنيّة.

عاد حدّاد عام 1985 إلى الأردن إثر وفاة أخيه، وبقي لمدة عامين في حالة أشبه بالعزلة، حتى أقنعه صديقه وزميله في الدراسة الملحّن الكبير روحي شاهين الذي كان يعمل رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، بالعودة إلى نشاطه، فعاد مجددًا للتلحين، ولحّن لفارس عوض مجموعة أغاني هامة ظلّت في الذاكرة الأردنية حتى اليوم، أبرزها “عمّان يا دار المعزّة” من كلمات الشاعر الأردني الكبير علي عبيد السّاعي. ومنذ العام 1985 وحتى 1998 عمل الموسيقار إميل حدّاد محاضرًا غير متفرّغ في قسم الموسيقى/ جامعة اليرموك.

عام 1991 عُيِّن رئيسًا لقسم الموسيقى في الإذاعة الأردنية، والتقى لاحقًا بالشاعر الكبير حبيب الزيودي في أول تعاون جمعهما بأغنية “عمّان أرض النّدى” التي غنّتها الفنانة سميرة العسلي، وبناءً على هذا التعاون نشأت صداقة مميّزة بين الملحّن والشّاعر الذين تركا بصمة في مسيرة الأغنية الأردنية، تمثّلت بسلسلة من الأعمال منها (هلا يا عين أبونا) التي يستذكرها الأردنيون بصفتها الأغنية الأكثر شهرةً في أول أيام تسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين سلطاته الدستوريّة عام 1999، إلى جانب غيرها من الأغاني (هذي بلدنا، والطيب طيبك…).

لم ينقطع نشاط الموسيقار إميل حداد الموسيقي حتى بعد مغادرته الإذاعة الأردنية، فلقد انضم إلى فرقة جيل الروّاد التي تؤدي أسبوعيًا حفلاتٍ فنيّة يغنّي ويعزف فيها كبار هذا الجيل الذي أعاد صنع أغنية أردنيّة تحترمها كل المنابر العربيّة والعالميّة، وتسافر مع الأجيال عبر الزمان، لتحكي قصّة أردنّ النهضة والبناء، والشمس والحريّة.

الموسيقاران إميل حدّاد وعامر ماضي

تأثيره على الأغنية الأردنية

كان للموسيقار إميل حدّاد، بصمةً موسيقيّة مميّزة في الأغنية الأردنية، صنع من خلالها زاويةً هامّة في الوجدان السّمعي للأردنيين بألحانه التي توسّطت بين مزاج الرّيف والبادية، فعبّرت بعفويةٍ وانسيابٍ تلقائيٍّ عن الرّوح الحقيقيّة للمكان والإنسان الأردنييَّن، وعن جوهر الشخصيّة الأردنية. ولم يكن الموسيقار حدّاد لينجح بهذه التجربة لولا أنه كان متعلّقًا بجماليّات الإرث الموسيقي، دون قيود أو تبعيّة عمياء، ومتطلّعٌ بشغف إلى آفاق سمعيّة جديدة، يخلق في فضاءاتها الجملة الموسيقيّة التي يجد فيها الأردنيّ نفسه أصيلاً ومعاصِرًا في آنٍ معًا.

لم يقتصر دور الموسيقار حدّاد في النهوض بالموسيقى الأردنية على ألحانه التي أعطاها طيلة مشواره الفنّي وحسب، بل وعلى الصعيد الأكاديمي، وهو الذي نال درجة الدكتوراة في الموسيقى من إحدى الجامعات العالميّة في النمسا (وطن المؤلف الموسيقيّ الشهير موزارت)، فقد قدّم أطروحة جامعيّة حول الأغنية الأردنية المعاصرة، استعرض خلالها تطوّر الغناء في الأردن وقيمتها الثقافية.

المراجع :

  • حدّاد، إميل، الصدفة وحدها كانت السبب في تعلّمي آلة العود، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الزيّودي، حبيب، إميل حدّاد صانع الوجدان، 2005، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • ومضات ثقافيّة،وثائقي قصير، 2016، إنتاج وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.

Scroll to top