المقدمة

لعب شمال الأردن في مسرح التاريخ دورا هاما للغاية، فقد كان مركزا تجاريا ومحطا للنزاعات بين القوى العظمى في المشرق بسبب موقعه الاستراتيجي وغناه بالموارد الطبيعية. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردن سنستعرض مدينتين أردنيتين انضمتا لحلف الديكابولس (حلف المدن الحرة) وهما دايون (إيدون) وهيبوس (الحصن).

الموقع

تقع مدينة دايون (إيدون) على مرتفع صخري يحدها من الشمال مدينة إربد ومن الجنوب مدينة هيبوس (الحصن)  تبلغ مساحتها 14.5 كلم مربع. تشتهر إيدون بزراعة الزيتون. أما جيولوجيا فهي خليط من الحجر الأبيض سهل التفتيت (الروسان: 2011)

أما هيبوس (الحصن) فهي تقع 8 كلم جنوب مدينة إربد وهي الآن أكبر المناطق التابعة لبلدية إربد الكبرى. قامت المدينة القديمة على تل يسمى “تل الديون”. وهي الآن مقسمة إلى المدينة القديمة ذات الطابع الريفي في الجزء الغربي والمدينة الحديثة في الجزء الشرقي (الروسان: 2011)

مدينة الحصن ربيعا

التسمية

غالبا ما كان يشار إلى المدينتين باسم واحد “ديون- ديوم”  وقد التبس على العلماء والباحثين تسمية “هيبوس” حيث ذهب بعضهم إلى أن هيبوس هي مدينة شمال بحيرة طبريا تعود للقرن الأول الميلادي وهذا كان رأي المستكشف شوماخر الذي قال بإن مدينة “إيدون” هي مدينة ديكابولس أردنية ولكنها تقبع تحت تل الحصن الاصطناعي الأثري. بينما أكد الباحث لويس مخلوف أن إيدون هي ذاتها دايون وأنها مدينة ديكابولس مستقلة عن هيبوس (الحصن) (الروسان: 2011)

تعددت أسماء مدينة إيدون فسميت دايون ودينون ديون وديون. أما الحصن فيعتقد بأنها سميت نسبة لبناء حصن عسكري أموي فيها. (غوانمة: 2008)

التاريخ

يعود تاريخ المنطقة إلى العصر البرونزي 3000 سنة قبل الميلاد حيث  سكنت المغر والكهوف في المدينتين. وفي تل الحصن وجدت مقبرة بئرية (محفورة بشكل عامودي بالأرض كالبئر) وهي تعود للعصر البرونزي.

صورة جوية لتل الحصن الأثري

احتل الإسكندر المقدوني المشرق عام 333 ق.م. وتنازع خلفاؤه (السلوقيون والبطالمة) على حكم المدن التي فتحها وظل النزاع قائما بين السلوقيين والبطالمة ولكن غالبا ما كان الحكم السلوقي أكثر استقرارا في شمال الأردن. لم يقتصر الأمر على السلوقين والبطالمة إنما امتدت أطماع الحشمونيون اليهود إلى مدن الديكابولس الأردنية فمنذ عام 149 ق.م.  بدأ الحشمونيون بشن حملات غزو عديدة انتهت عام 84 ق.م. باحتلال جدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل) وأبيلا (حرثا) وهيبوس (الحصن) وديون (إيدون) (غوانمة: 2008)

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانيوس الذي احتل مدن الديكابولس الأردنية ودمر كثيرا منها

حتى جاء الإمبراطور الروماني بومبي  عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى. وكان (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وكابتولياس (بيت راس).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

في الحقبة الرومانية والبيزنطية زادت الكثافة السكانية كثيرا وقد وجدت العديد من الآثار منتشرة بين البيوت وبعض أرضيات الفسيفساء التي تدل على انتشار بناء الكنائس في تلك الحقبة. (غوانمة: 2008)

عمد الأردنيون الغساسنة   في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكانت مدينتي هيبوس ودايون إحدى هذه المدن لكونها واقعة على خطوط التجارة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة وعملوا على تقويتها.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

 وللأسف فقد ساهم التطور العمراني والسكاني منذ العصر الإسلامي حتى اليوم بطمر الكثير من آثار هيبوس ودايون.

تاريخ البحث الآثاري

حظيت مدينة هيبوس (الحصن) بنصيب جيد من البحث الآثاري على عكس توأمها مدينة دايون (إيدون). فقد ذكرت هيبوس في كتب المستكشفين والرحالة والمستشرقين الذين شغفوا بآثار الأردن. ذكرها المستكشف السويسري بيركهارت لأول مرة واصفا موقعها. وبعده ذكرها المستكشف بيكنغهام وليندسي وستزين ولكنهم اكتفوا بذكر الموقع والخصائص الاجتماعية.

أما من قام بأول مسح آثاري فيه المنطقة فكان الباحث نلسون جلوك تبعه ماكدونالد ولكن بحثهما كان منصبا على مرحلة العصر البرونزي بشكل خاص. حتى جاء الباحث لانكستر هاردنج الذي كتب كتابا كاملا أسماه “آثار الأردن” ودرس الموقع وأجرى عليه مسوحا مكثفة واستنتج أن المدينة كانت مأهولة بكثافة في العهد الروماني والبيزنطي وقد أكد ذلك باستناده لمجموعة من النقوش والمصادر الرومانية التي تؤكد وجود هاتين المدينتين، يقول في كتابه واصفا تل الحصن:

“هنالك دلائل عديدة عثر عليها  في الأضرحة الأخرى وفي نقوش وكتابات سواها على أن ذلك التل كان قائما في أيام الرومان والبيزنطيين. وهذا الموضع هو أحد المواقع التي يتأرجح بينها وبين موقع مدينة ديون، وهي المدينة الوحيدة من مدن الديكابولس  التي لم يحدد مكانها تحديدا قاطعا” (هاردنج:1967)

الآثار

 الكنيسة

مخطط عام للكنيسة المكتشفة. المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

عام 1992 قامت دائرة الآثار بحملة  تنقيبات أسفرت عن الكشف عن كنيسة بيزنطية بديعة الفسيفساء تعود للقرن السادس الميلادي الذي تجذرت فيه المسيحية. في خربة الجدة على بعد 1 كلم عن تل الحصن الأثري، تقع الخربة على مرتفع صخري بارتفاع 640 متر عن سطح البحر. وهي محاطة بالبساتين المزروعة من كل جانب.

فسيفساء حيوانية تصور طائرا من كنيسة الحصن البيزنطية المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

بعدما أخبر أحد المواطنين عن اكتشافه لرقعة من الفسيفساء أجرت دائرة الآثار العامة حملة إنقاذية. اكتشفت الحملة كنيسة بيزنطية على نظام البازليكا (الكنيسة المستطيلة) ولكنها متهدمة ومعالمها غير واضحة، أما الفسيفساء فقد تجرفت ولم يبق منها غير قطع متفرقة. يبلغ طول الكنيسة 20 مترا شرق غرب و10 أمتار شمال جنوب أما قطرها 4 متر تقريبا.

لوحة فسيفسائية من كنيسة الحصن تصور إنسانا يقطف العنب بالمنجل

بجانب الكنيسة حددت مرافق أخرى كالخزانات المائية المحفورة بالصخر والتي ينزل إليها بأدراج ومداخل. إضافة لقبر فردي مقطوع من الصخر أيضا. الفسيفساء المكتشفة غنية بالرسوم الحيوانية والآدمية والهندسية.

من الزخارف الهندسية في الكنيسة المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

البركة

انسجاما مع فكرة الأنظمة المائية التي بنيت في عهد الأردنيين الغساسنة في الحقبة الكلاسيكية كان ولا بد من بناء بركة لتجميع مياه الأمطار ولتخدم الحركة الزراعية في المنطقة. وللأسف فإن المعلومات عن البركة ضئيلة وهي الآن تعاني من إهمال شديد جعلها تتحول لمكرهة صحية.

البركة الرومانية عند اجتماع مياه المطر فيها.

 الخاتمة

في الختام، نجد أن شمال الأردن ومنذ مطلع القرن الثاني حتى السادس الميلادي قد لعب دورا جوهريا في حركة التجارة العالمية، فقد ازدهرت المدن والقرى الأردنية حتى تلك التي نعتبرها اليوم مدنا صغيرة كانت مراكز حيوية كالحصن وإيدون ورغم أن التوسع المدني قد حرمنا من استكشاف أعمق لتاريخية هذه المدن إلا أن ماضيها يظل محل تقدير.

المراجع

  • الروسان، عاطف و الرجوب، عبد الكريم (2011) إربد الكبرى، دراسة الواقع الأثري والتاريخي والتراثي، وزارة الثقافة، الأردن: عمان
  • غوانمة، يوسف (2008) مدينة إربد ماضيا وحاضرا- أعمال مؤتمر مدينة إربد، ج1، وزارة الثقافة،  الأردن: عمان
  • هاردنج، لانكستر (1967) آثار الأردن، تعريب سليمان الموسى، منشورات وزارة السياحة الأردنية، الأردن: عمان
  • ملحم، إسماعيل وخصاونة، ناصر، حفرية كنيسة الحصن/خربة الجدة لعام 1992، حوليات دائرة الآثار العامة 1993

مدن الديكابوليس الأردنية: هيبوس ودايون المدينتان التوأم

المقدمة

تعد أم قيس (جدارا) إحدى أهم الوجهات السياحية في الأردن، إنها مدينة متكاملة ومحتفظة بأغلب بمعالمها رغم العوامل الطبيعية التي أدت إلى تهدم بعض مبانيها الأثرية. حظيت أم قيس (جدارا) بالكثير من الاهتمام على صعيد البحث والتنقيب الآثاري وفي رحلة تتبعنا لمدن الديكابولس الأردنية كان لا بد أن نقف على أطلال جدارا المدينة السوداء الجميلة.

إطلالة من الأكروبولس الجبل الذي بنيت عليه مدينة جدارا، وفي الأفق نرى جبال الجولان المحتل وطبريا

الموقع والطبوغرافية

تقع مدينة أم قيس (جدارا) شمال الأردن على بعد 120 كلم من العاصمة. وتتبع إداريا للواء بني كنانة وتعد من أكبر مدنه.  تتخذ المدينة موقعها على مرتفع يبلغ 364 مترا فوق سطح البحر. يفصلها عن الجولان نهر اليرموك ومن الجنوب وادي العرب ومن الغرب بحيرة طبريا، حيث ينحدر سهل أم قيس (جدارا) حتى بداية نهر الأردن عند طبريا. (بيضون: 1997)

تقع المدينة الأثرية غربي مدينة أم قيس الحديثة. تبلغ مساحتها 1600 متر من الشرق إلى الغرب و450 متر من الشمال إلى الجنوب. أما طبيعة جدارا فهي تجمع ما بين طبيعة الهضبة العالية وبين التربة الخصبة ويقول عنها المستكشف غوتليب شوماخر “من الصعوبة أن تجد في هذه البقعة من جبال عجلون مكانا يجمع بين التربة الرائعة والمكان القيادي مثل أم قيس.” (بيضون: 1997)

التسمية

أطلقت عدة تسميات على أم قيس، ولكن الاسم الأكثر التصاقا بها هو “جدارا” وقد حاول الباحثون إيجاد تفسيرات لهذا الاسم. ربط الباحثون اسم جدارا بمنحدر وادي العرب الذي يطلق عليه “جدر” (العوض: 1993) أما البحث في أصل الكلمة فجدارا مأخوذة من الجذر “جَ دَ رَ” وهو جذر سامي الأصل يعني الحصن أو التحصين وعند تحويل الاسم ليناسب اللفظ الروماني أو اليوناني أصبح جدارا.  (بيضون: 1997)

ونقلا عن الباحثين شوماخر وهنري سكين فإن اسم جدارا محفوظ في تسمية كهوف مدينة أم قيس حيث يسمي الأردنيون المنطقة الشرقية من المدينة والمليئة بالكهوف “جدور أم قيس” (بيضون: 1997)

ومن الأسماء الأخرى “أم قيس ومكيس” بوضع السكون على الميم والسين فهو يعني “التخم” أي الحد الفاصل وهو يعكس الدور السياسي والتجاري والعسكري الذي لعبته المدينة فيما سبق. (بيضون: 1997) بينما يقترح آخرون بأن مكيس تعود للفظة المكوس والتي تعني الضرائب حيث كانت المدينة نقطة لجمع الضرائب. (العوض: 1993) إضافة لتلك الأسماء فقد أطلق عليها “بومبيا” تيمنا بالإمبراطور الروماني بومبي الذي دخل المنطقة عام 63 ق.م. وأسس تحالف المدن العشر “الديكابولس”.

ذكرت جدارا في المصادر التاريخية اللاحقة كمعجم البلدان للحموي “جدره هي قرية في الأردن” وقال الشاعر أبو ذؤيب “فما أن رحيق سبته التجار…. من أذرعات فوادي جدر” (العوض: 1993)

تاريخ البحث الأثري

جذبت جدارا أنظار الكثير من الرحالة والمستكشفين. زارها لأول مرة المستكشف الألماني ستزن  عام 1806 وكان أول من صنفها كواحدة من مدن الديكابولس العشر. ومن بعد زارها المستكشف فيتنستاين ووصف القناة المائية التي كانت تغذي المدينة  من عين التراب والتي لا يزال القطع الحجري ظاهرا منها على طول الشارع  الأسفلتي الحديث ويسميه الأهالي قناة فرعون (بيضون: 1997)

وزارها الرحالة بيركهارت عام 1912 وكتب عن المسرحين اللذان فيها. وزارها المستكشف بانك أيضا. أما من درسها دراسة معمقة فكان المستكشف غوتليب شوماخر عام 1886 الذي قام برحلة في شمال الأردن ووثق مدينتي أم قيس وملكا. وبالنسبة لجدارا عمد على صنع مخطط للمدينة ووثق مبانيها وآثارها كما أرفق كتابته بوصف للثقافة والحياة اليومية الأردنية آنذاك (بيضون: 1997)

أعمدة أم قيس البازلتية

أما في القرن العشرين فقد بدأت أعمال التنقيب والترميم منذ عام 1930. تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والعلماء لإجراء التنقيبات. فكشف الباحث ميتمان عام 1959 عن الحمام (سبيل الحوريات) وعن أرضية فسيفسائية ووصف الطريق المرصف بين جدارا ودرعا إضافة لتوثيقه عددا من النقوش. (بيضون: 1997)

عام 1961 كشفت دائرة الآثار العامة عن أرضية فسيفسائية غربي المدينة الأثرية في بيت حسين الفرج. وعام 1968 وجراء القصف الإسرائيلي للمنطقة اكتشف المدفن الأرضي. توالت مواسم التنقيب ولكن التنقيبات الأساسية أجرتها دائرة الآثار العمة بالتعاون مع المعهد البروتستانتي للآثار منذ سبعينات القون الماضي على عدة مواسم تم الكشف عن أغلب معالم المدينة، توثيق القطع الفسيفسائية والنقوش والتماثيل. (بيضون: 1997)

تاريخ المدينة

سُكنت أرض الأردن منذ فجر التاريخ، فقد وجدت عدة دلائل على الاستيطان البشري الأول كالمدافن والكهوف التي تنتشر في محافظة إربد وما حولها. إلا أننا في هذا البحث سنتبع تاريخ جدارا منذ الحقبة الهلنتسية. قام الإسكندر المقدوني بغزو المشرق في القرن الرابع قبل الميلاد 333 ق.م. وعقب وفاته انقسمت البلاد التي خضعت لحكمه بين السلوقيين والبطالمة (العوض: 1993)، ودارت معارك عدة بين الطرفين على حكم المدن الأردنية كفيلادلفيا (عمان ) وجراسا (جرش) وغيرها. وضع كل من البطالمة والسلوقيين بصمتهم الحضارية على حضارة وعمران المدن الأردنية.

عندما حكم البطالمة مدينة جدارا أعادوا بناءها وجعلوها حصنا قويا في وجه أعدائهم السلوقيين. لقد عرف عن البطالمة اتخاذهم المدن كحاميات عسكرية وثغور تحصينية ضد العدو وقد كانت جدارا بموقعها الاستراتيجي حصنا ممتازا (العوض: 1993).

دارت حروب عديدة بين البطالمة والسلوقيين بهدف مد النفوذ وقد أحصاها المؤرخون أربعة حروب. ويأتي ذكر جدارا في الحرب الرابعة عام 217-218 ق.م. حيث قاد الحاكم السلوقي أنطيوخوس الثالث جيشا فيه 162 ألفا من المشاة و102 فيلا من الهند واحتل جدارا (أم قيس)  وأبيلا (حرثا) وقد أعاد أنطيوخوس احتلال المدينة مرة أخرى عام 198 ق.م. بعد انتصاره على البطالمة في حرب بانياس (قرب منابع نهر الأردن) وقد أحكم قبضته على جدارا وسميت حينها “سلوقيا وأنطاكية” وهما لقبان شاع استخدامها في عهد السلوقيين للمدن المهمة (العوض: 1993).

لم تهنأ مدينة جدارا بالسلام فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جانوس باحتلالها إذ حاصرها مدة عشرة أشهر بغية إخضاعها، هي ومدينة أبيا (حرثا) التي دمرها لأنها لم تتحول لليهودية أو تخضع للزي اليهودي.  دمر جانوس الكثير من معالم جدارا أيضا أثناء الحصار ولكنه استطاع دخولها وضمها مع مدن شمال الأردن تحت منطقة سمها بيرابا (العوض: 1993).

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانوس الذي دمر أرابيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له.

يذكر المؤرخون توطد العلاقات بين ثلاثة مدن أردنية في تلك الفترة فيلادلفيا (عمان) وجدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل،) أسست المدن الثلاث أحلافا تجارية وعسكرية جعلتها تنهض وتزدهر. ولكن قبل عام 34 ق.م شن الحارث الرابع، الملك الأردني النبطي، حملة للسيطرة على مدن شمال الأردن ومن بينها جدارا. (العوض: 1993)

ضعف الحكم السلوقي شمال الأردن، واستغل الرومان الصراعات التي شبت بين السلوقيين والبطالمة والحشمونيين وعمدوا إلى شن حروب عدة انتهت بسيطرة الإمبراطور الروماني بومبي على المشرق بأكمله عام 63-64 ق.م. خلص بومبي مدينة جدارا من احتلال الحشمونيين وأعاد بناءها تكريما لصديقه ديميتريوس الجداري الأصل وقد لقبت جدارا في تلك الفترة “بومبيا” نسبة لبومبي وبدأت باستخدام التقويم البومبي أيضا (العوض: 1993).

أسس بومبي حلف المدن العشر الحرة (الديكابولس) ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة أو المستقلة. وقد ضم الحلف عشرة مدن في البداية وما لبث أن توسع حتى امتد ليشمل 14 مدينة أغلبها أردنية. شكلت هذه المدن حلفا تجاريا وعسكريا قويا. واتصلت جدارا بطرق تجارية قوية مع بوسطرا (بصرى) وكابتولياس (بيت راس) وبيلا (طبقة فحل) وفيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

كانت المدن العشر ملزمة بدفع ضريبة للإمبراطورية الرومانية وكانت جدارا مركز جمع الضريبة وقد ذكر المؤرخ جوزفيوس “إن فيها مواطنين أغنياء يسكنون الفلل والقصور التي تحيط بالمدينة “(العوض: 1993)

انتصر الرومان بقيادة اكتافيوس على انطيونيوس وكليوبترا عام 30 ق.م. في معركة اكتيوم التي شارك فيها الأردنيون الأنباط. أعطى أكتافيوس هيرود الملك اليهودي الحشموني السلطة على المناطق التي أخذتها كليوبترا منه وكان من ضمنها جدارا وهيبوس (الحصن). صار هيرود تابعا للإمبراطور اكتافيوس في روما. عانى أهالي جدارا من تدخلات هيرود وظلمه وقد اشتكوا كثيرا للإمبراطور الروماني ولكنه لم يعر انتباها، ولكن بعد وفاة هيرود وذهاب جدارا لابنه اركلوس الذي كان أشد ظلما من أبيه أقام الأردنيون في جدارا ثورات عديدة وبعدها أخذت السلطة من أركلوس وأعيد الحكم الذاتي والاستقلال لمدينة جدارا (العوض: 1993).

في القرن الأول الميلادي، ازدهرت مدن الديكابولس كثيرا ونعمت بالاستقرار التجاري والعسكري، وكانت جدارا المدينة التي تجمع الضرائب من المدن الأخرى. استرجعت جدارا مكانتها التجارية، فصارت طريقا رئيسا للتجارة مع الحواضر المحيطة، كما أعيد بناؤها واستأنف سك العملات الخاصة فيها. (العوض: 1993)

في القرن الثاني لمع نجم الأردنيين الغساسنة وقد استطاعوا تشكيل حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس واستحدثوا طرقا تجارية وحافظوا على أمن القوافل لمدة أربعة قرون 2-6 ميلادي. ولكن جدارا كانت مطمعا على الدوام، في القرن الأول (68م) أعاد الحشمونيون احتلالها ولكن الإمبراطور فسبسيانوس حررها مرة أخرى. وفي القرن الثاني، عمل الأردنيون الغساسنة والجيوش الرومانية على تخليصها من الحملة الفارسية 162 م. التي دمرت كثيرا من معالمها وقتلت كثيرا من أهلها. (العوض: 1993)

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

استقرت الأمور حتى عاودت الهبوط بسبب الحروب الأهلية وضعف التنظيم وقام حينها الإمبراطور دكلتيانوس  بإعادة التنظيم الداخلي للمشرق بأكمله. كانت المسيحية في الأردن قد انتشرت سرا منذ مطلع القرن الأول الميلادي، ولكنها كانت تنتشر ببطء في جدارا على عكس مدن الديكابولس الأردنية الأخرى التي كانت مسيحية بشكل شبه كامل في نهاية القرن الثاني. مورست شتى أنواع العذاب على معتنقي الديانة المسيحية في البداية، وقد قدم الأردن شهداء كثر في سبيل حرية المعتقد. في القرن الثالث بدأت الأمور تتحسن مرة أخرى، حيث بدأت الحقبة الكلاسيكية البيزنطية، حيث أعلن  الإمبراطور قسطنطين أن الديانة المسيحية هي ديانة الإمبراطورية ونقل العاصمة إلى مدينة بيزنطة (القسطنطينية) على البسفور عام 312 م. (العوض: 1993)

بذل الأردنيون الغساسنة وقتهم وجهدهم لتحسين أوضاع الأردنيين المسيحيين وقد رفضوا الخضوع لأي نوع من أنواع الاضطهاد الذي تحول من أن يكون (وثني-مسيحي) إلى اضطهاد بين المذاهب المسيحية. في القرن الرابع كانت المسيحية قد تجذرت في المدينة، وأصبح لها أسقف خاص بها ومثلها في مجمع نيقية[1] وفيما بعد أصبحت جدارا مقرا لأبرشيه مقاطعة فلسطين الثانية. ولكن لم يدم الأمر كثيرا فعام 612 م. شن الفرس أعنف حملة عسكرية على جدارا أدت لتدمير أغلب معالمها وقتل الكثير من أهلها. (العوض: 1993)

الثقافة والعلم

كانت جدارا مركزا للثقافة والفن والحضارة على مر التاريخ. ومنها لمع نجم العديد من الفلاسفة والأدباء وتخلد اسمهم كمساهمين في إرث الحقبة الكلاسيكية. ونذكر منهم الشاعر ميلياغروس الجداري الذي كان من أهم شعراء عصره. ولد في القرن الأول الميلادي، كان شاعرا وجامعا للقصائد وقد جمع 134 قصيدة كانت هي نواة الأنثولوجيا اليونانية وسماها الإكليل [2]، كتب القصيدة الساخرة والقصيدة الأيروسية وقد اختار هذه القصيدة كي تنقش على قبره وتظل حتى يومنا هذا:

أيها العابر من هنا

لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى

فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة

إنه ميلياغروس ابن أوقراطس

الذي تغنى بالحب

وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي

لأنه وقف واسطة

بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر

لقد كان رجلا من مدينة صور

التي باركتها الآلهة

ولكن مدينة جدارا المقدسة

كانت هي مسقط رأسه

ويونوماوس المولود في القرن الثاني والذي اشتهر بمهاجمته للأوراكل (التنبؤ والوساطة الروحية في الحضارة اليونانية) له كتب عديدة في السخرية والسياسية والفلسفة.

والشاعر أريبوس الذي له نقش شهير محفوظ في متحف أم قيس:

أيها المارّ من هنا.. كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتّع بالحياة لأنك فانٍ“.

نقش أريبوس المحفوظ في أم قيس

وأبسينس الجداري المولود في القرن الثالث الميلادي فقد درس علم البلاغة اليونانية وصار معلما في أثينا  وكان عسكريا رقاه الإمبراطور ماكسيمينوس إلى رتبة القنصلية.

 أما مينييوس الجداري الذي لقبه المؤرخون بالمهرج الجاد فقد ناقش في كتبه أمورا جدية ومهمة ولكن بقالب من السخرية والتهكم وكان يسخر ويرد على الأبيقوريين[3] والرواقيين[4]. وللأسف ضاعت أشعاره وأعماله إلا أننا نعلم أنه كتب عدة كتب منها: كتاب استحضار الأرواح، كتاب رسائل الآلهة، كتاب الردود على الفلاسفة والطبيعيين والرياضيين والنحويين، ولادة أبيقور.

رسم للأديب مينبيوس

والأديب تيودوروس الجداري الذي كان معلما للإمبراطور الروماني تيبيريوس الذي ترك الكثير من الكتب منها:  أسئلة في النطق (في 3 كتب)، كتاب عن التاريخ، الأطروحة، عن التشابه بين اللهجات وعرضها (كتابان)، عن الدستور (كتابان)، عن قدرة الخطيب.

مصادر وأنظمة المياه

تعد جدارا من المدن الأردنية كثيرة المصادر المائية. حيث تسقط الأمطار عليها بمعدلات عالية مقارنة بباقي المدن 400-500 ملم، إضافة للأمطار تشتهر المنطقة بالينابيع والعيون ومن أشهرها عين العسل جنوبي منطقة القبو وهي عين غزيرة تحوطها عدة مصاطب. وعين أم قيس التي ترتفع عن سطح البحر 220 متر. وفي المنحدر السحيق جنوبي عين أم قيس تقع عين الفخت التي تصب مياهها متحدة مع مياه عين أم قيس في وادي العرب. وهناك ينبوع خنيزير وهو صغير جدا وعين ماقوق في المنحدر الشمالي الغربي وترتفع العين عن سطح البحر بمقدار 100 متر. وهنالك عيون أخرى في أماكن منخفضة في المدينة متل عين شيحان وعين الطبق وعين حية وعيون قرط وأغلبها قد جف في وقتنا الحالي (العوض: 1993)

كما تطل المدينة على عدة أودية خصبة تغذيها مياه الأمطار والينابيع مثل وادي الفخت ووادي العين (عين أم قيس) ووادي خنيزير. غذت هذه الينابيع حركة الزراعة في المدينة إلا أنها لا يمكن أن تكون قد غذت المدينة نفسها بماء الشرب نظرا لانخفاضها عن مستوى بناء المدينة. ولكن عينا غزيرة تدعى عين التراب تقع على ارتفاع 470 متر عن سطح البحر كانت تغذي المدينة عبر القنوات بماء الشرب، هنالك عيون أخرى مرشحة لهذا الغرض كعين الخراج وعين الشيخ 450 متر فوق سطح البحر وعين الحراثين 350 متر فوق سطح البحر.(العوض: 1993)

نفق جدارا المائي

بدأ نظام القنوات والأنفاق المائية منذ العصر البرونزي ولكنه ازدهر وبلغ أوجه في العصور الكلاسيكية، حيث كانت الأنفاق المائية التي تزود المدن بالماء أمرا ضروريا، كانت تلك الأنفاق سرية تحت الأرض ويدخل إليها المهندسون للصيانة عبر مداخل منحدرة وبعيدة عن أعين العدو في حالات الغزو والحصار. بنيت الأنفاق المائية في الصخر عبر نحتها وفي التراب عبر إنشاء قناطر. (العوض: 1993)

تعد شبكة المياه والحصاد المائي التي توجد في جدارا واحدة من أعقد وأبرع الشبكات التي أنشئت في الحقبة الكلاسيكية. فهي تعتمد على نظام الجسور، حيث صنع جسر يحمل قناة مائية، عثر على 60 متر متبقي من هذا الجسر وقوس بطول مترين تقريبا. وعبر هذا الجسر نقلت المياه من تلة إلى تلة، بأمان حيث كان الجسر مدعما بالحجارة الضخمة وبالأقواس. (العوض: 1993)

نفق جدارا المائي من الداخل

وفي هذه القناة تم التحكم بتدفق الماء عبر محابس حجرية ضخمة. تتصل هذه القناة بقنوات أصغر سميت محليا بقنوات فرعون لأنها وحسب قصة متداولة بنى أحد الفراعنة هذه القنوات وصادر قمح سهول حوران الأردنية بأكمله وأمر بأن يكوم على شكل جبلين وعندما أرسل عماله ليجلبوا القمح إلى جدارا تحول جبلا القمح إلى جبلين من الصخور البازلتية السوداء. (العوض: 1993)

واليوم بجهود علماء آثار أردنيين افتتح جزء من نفق جدارا العظيم عام 2019 والذي يصل مدن الديكابولس ببعضها ويمتد عبر المدن بشبكة قنوات دقيقة.

تخطيط المدينة

كباقي مدن الديكابولس الأردنية هناك مخطط رئيسي تشترك فيه المدن. عادة ما يكون للمدينة شارعان متعامدان (كاردو وديكامانوس) ويشكلان قلبا للمدينة ومحورا للحركة فيها، حيث تقع على جانبيهما المباني الأثرية كسبيل الحوريات 21 والساحة المعمدة والبوابة التذكارية وغيرها (بيضون: 1997) ولا توجد في المدينة سوى كنيسة واحدة صغيرة كانت قبرا بيزنطيا.

الأدراج النازلة من الساحة المعمدة ومقابلها يأتي سبيل الحوريات

بنيت المدينة على مرتفع جبلي سمي بالأكروبولس وقد تم تحصينه بسور حجري دفاعي بني في الحقبة الهلنستية وأعيد ترميمه في الحقب اللاحقة. إضافة إلى البوابات التي لم يبق منها الكثير.

الأبواب البازلتية محفوظة في متحف أم قيس

الآثار

المنحوتات

أثناء عمليات التنقيب والترميم وجدت الكثير من المنحوتات في المدينة وقد قسم هذه المنحوتات حسب موضوعاتها فالمنحوتات التي تصور الميثيولوجيا الإغريقية بلغ عددها 19 منحوتة 12 منها للآلهة، 1 منها لشخصية أسطورية، و6 تتعلق بشخصيات شهيرة. صنعت هذه المنحوتات من الحجر الرخامي الأبيض المبلور عالي الجودة ومن المرجح أن هذه الخامة قد تم استيرادها من الخارج لقلة توفرها محليا، عرضت هذه التماثيل في الأماكن العامة والساحات وقد وجدت مبعثرة بجانب أماكن عرضها  (بيضون: 1997)

تمثال الآلهة تايكي ربة الحظ والعناية وهي تحمل قرن الوفرة، وجد هذا التمثال في تنقيبات المسرح الغربي وهو محفوظ في متحف أم قيس

ووجدت منحوتات آدمية يقدر عددها 40 منحوتة نصفية و22 منحوتة أنثوية نصفية وتخدم أغراضا جنائزية وقد وجدت في المقابر الفردية والجماعية. وتشكل هذه المنحوتات الآدمية تشكيلا رمزيا للفرد حيث تصور المنحوتة الرأس والرقبة والكتفين دون الاهتمام بالتفاصيل والملامح، استخدمت هذه المنحوتات لإبراز مكانة الميت فإن كان التمثال النصفي يحمل كتبا أو لفائف فمن المحتمل أن يكون الميت فيلسوفا أو أديبا، وإن كان التركيز على إبراز الحلي التي يرتديها فهي إشارة على ثرائه ومكانته الاجتماعية. صنعت هذه المنحوتات من الحجر المحلي البازلتي، وتحمل كثير منها ملامح شرقية فهي تصور أبناء جدارا أنفسهم (بيضون: 1997)

وجد أيضا تمثالان حيوانيان يصوران ثورا وأفعى وتعود قلة هذه التماثيل لاهتمام الثقافة آنذاك بالآلهة على شكل الإنسان وبالأساطير التي تمتلك الآلهة حياة تشبه حياة البشر. (بيضون: 1997)

المسارح

في جدارا مسرحان، المسرح الشمالي الذي بني في الجزء العلوي من المدينة، استخدمت حجارة هذا المسح في بناء المدينة التي بنيت على انقاض مدينة جدارا، كما استخدمت أقبيته كثكنات عسكرية مما زاد في تهدمه مع الوقت. كان الباحث والمستكشف غوتليب شوماخر أول من درس هذا المسرح فقد قدم وصفا شاملا له ولأبعاده وللمواد المستخدمة في بنائه (حجر البازلت والحجر الجيري) وقد ذكر بأن جدار المسرح كان متصلا بجدار المدينة. ورجح شوماخر أن جدارا كانت “منتجعا” حيث عرف عنها الثراء والغنى وبعدما ينتهي الناس من الاستمتاع بالمياه الكبريتية حول المدينة يصعدون لها ويمارسون نشاطات ترفيهية كالمسرح.(الدهش: 1993) المسرح الشمالي مسرح كبير يبلغ قطره الخارجي 85 متر والداخلي 49 متر وقد اقتطع جزء منه من الصخر. يرجح أن المسرح بني في نهاية القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي واكتشاف تمثال الآلهة تايكي

أما المسرح الثاني فهو المسرح الغربي ويزوره آلاف السياح حتى يومنا هذا، ولا يزال المسرح محتفظا بشكله على عكس المسرح الشمالي، وربما يعود السبب إلى بعده عن الطريق العام وإلى صعوبة الوصول إليه فكان من الصعب أخذ حجارته لبناء البيوت. يبلغ قطر المسرح الخارجي 58 متر. وجد في المسرح تمثال رخامي بديع يصور الآلهة تايكي ربة الحظ والرعاية وهي تمسك قرن الوفرة والخير دلالة على ثراء المدينة وجرت عملية نقل التمثال وعرضه في متحف أم قيس. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي بعد الترميم

مجمع الحمامات

شرق الشوارع المبلطة وفي طريق ترابية تقبع هنالك عدة حمامات على الطراز الروماني، تحوي الحمامات غرفا للماء الساخن وأخرى للبارد وغرفا لتغيير الملابس. بنيت هذه الحمامات في القرن الرابع الميلادي وظلت تستخدم حتى القرن السابع الميلادي. على بعد 500 متر نجد نصبا تذكاريا متصلا من الخلف بصهريج ماء كبير.

المقابر

تعد المقابر الفردية والجماعية إحدى أهم الدلائل على رخاء المدينة، وتنتشر المقابر العائلية في جدارا فنجد مقبرة عائلة جيرماني ومقبرة موديستوس ومقبرة تشيرياس ومقبرة كرياس وفي هذه المقابر، وجدت المنحوتات النصفية والمتعلقات الشخصية وأغراض أخرى للاحتفالات الجنائزية.

بوابة طبريا

 على بعد 800 متر من تقاطع شارعي الكاردو والديكمانوس، توجد آثار أساسات لبوابة المدينة الغربية وتحيط بها أبراج عديدة. وعلى بعد 400 متر من أساسات البوابة الأولى تقابلنا آثار البوابة الثانية على شكل قوس ثلاثي، ويدلنا هذا على التوسع والازدهار الذي عاشته المدينة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي.

الخاتمة

 استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية تاريخ وحضارة مدينة جدارا، المدينة التي عاشت أحداثا مفصلية كثيرة وعظيمة وضعتها بجدارة واستحقاق على خارطة السياق الحضاري العالمي والتي ما زلنا نرى آثار صمودها وعظمتها حتى يومنا هذا.

المراجع:

  • بيضون، غادة (1997) المنحوتات الحجرية في أم قيس، دراسة أثرية فنية  مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • العوض، عمر (1993) الأنظمة المائية في أم قيس، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • الدهش، منذر (1993) طرق بناء المسارح الرومانية في عمان وفي أم قيس، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك
  • زريقات، ميساء ( 2011) أم قيس مدينة تروي قصة حضارات مختلفة، مقال منشور على صحيفة الرأي

[1] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفق للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية وتقع في الشمال الغربي لآسيا الصغرى. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%85%D8%B9_%D9%86%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84

[2] الأنثولوجيا، أو المختارات الأدبية، أو المقتطفات أو المقتطفات الأدبية المختارة هي مجموعة منتقاة من الأعمال الأدبية للكاتب، يتم تجميعها من قبل المؤلف الذي يقوم باختيار اعماله وتنسيقها

[3] الأبيقورية أو المذهب الأبيقوري (بالإنجليزية: Epicureanism) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق. م ـ 270 ق. م)، الذي أنشأه وقد ساد لستة قرون، وهو مذهب فلسفي مؤداه أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى، والألم هو وحده الشر الأقصى، والمراد باللذة في هذا المذهب ـ بخلاف ما هو شائع ـ هو التحرر من الألم والاهتياج العاطفي.

[4] الرواقية بضم الراء وتشديدها مذهب فلسفي، وإحدى الفلسفات المستجدة في الحضارة الهلنستية، أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي.

مدن الديكابولس الأردنية: جدارا حصن الشمال

مقدمة

أرخت عمان جدائلها، ولربما إن أمعنا النظر لكان لنا أن نرى في كل جديلة تاريخا تليدا. وقع اختيار الأردنيين عبر التاريخ على عمان مرارا لتكون واحدة من أبرز حاضراتهم إذ كانت ولا زالت مركزا حيويا مهما ومدينة تعيد رسم التاريخ الأردني البهي. في هذا البحث، سنتعرف على العاصمة الأردنية من جديد، وسنسلط الضوء على حقبة ذهبية عاشتها، حينما كان اسمها “مدينة الحب الأخوي فيلادلفيا”

ما قبل فيلادلفيا: موجز تاريخي

يعود تاريخ الوجود البشري في عمان للعصور القديمة ولأكثر من عشرة آلاف عام حيث خطا الإنسان الأردني الأول أولى خطواته نحو تأسيس أول مجتمع زراعي في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري في موقع عين غزال. ولم تقتصر المكتشفات الأثرية على موقع عين غزال إنما امتدت لاكتشاف مواقع أثرية للثقافة النطوفية[1] (10-8 آلاف ق.م) ومواقع أثرية أخرى للثقافة الغسولية[2] أو الغسولينية وموقع تليلات الغسول جنوب البحر الميت. وتظهر هذه المواقع ثراء وتطورا كبيرا في الأدوات التي ابتكرها الأردنيون الأوائل إضافة لتطور أولى الممارسات الدينية كدفن الموتى وتقديس الجماجم والحيوانات وغيرها.

المواقد الحجرية الدائرية في موقع الشبيقة حيث وجدت بقايا الخبز. المصدر: موقع مشروع الشبيقة الآثاري وهو أحد مواقع الثقافة النطوفية في الأردن

منذ بداية العصر الحديدي الثاني (1200-330 ق.م.)  ظهر اسم عمون والذي اشتق منه اسم المدينة الحالي عمان. استقر الأردنيون العمونيون (1250 ق.م) في المدينة واتخذوها عاصمة لهم تحت اسم “ربة عمون” أي “عاصمة العمونيين”. تنتشر آثار العمونيين في ربة عمون، فنرى آثار جبل القلعة المطلة على وسط المدينة ماثلة أمامنا لتشهد على عظمة ما بنوه، إضافة لجبل القلعة، تنتشر الأبراج التي استخدمت لغايات دفاعية كبرج رجم الملفوف وبرج خلدا. وأكدت المسوحات الأثرية أن المدينة في ذلك العصر شُيّدت على 245 دونما قسمت مناصفةً بين القسم السفلي والعلوي من المدينة. (غوانمة: 1979)

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

 

اتسمت المملكة الأردنية العمونية باقتصاد جيد معتمد على الزراعة والتجارة، وذلك لوفرة مصادر المياه ووقوعها على طريق التجارة الواصل بين الحضارة المصرية وحضارة بلاد الرافدين. وبسبب ذلك، كانت المملكة العمونية مطمعا لكل الحضارات المجاورة بما فيها الحضارة اليونانية والمصرية لذلك كانت محاطة بالأسوار والأبراج الدفاعية (غوانمة: 1979).

فيلادلفيا: التسمية والمكانة

مع اجتياح الإسكندر الكبير للمنطقة عام 333 ق.م بدأت المملكة الأردنية العمونية بالاضمحلال ككيان سياسي، و خضعت المنطقة للحكم الإغريقي وعند موت الإسكندر الكبير، اختلف ورثته بطليموس وسلوقيوس على الأردن، واستطاع السلوقيون السيطرة على المنطقة لمدة من الزمن، إلا أن البطالمة سرعان ما استطاعوا السيطرة على الأردن من جديد وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المدينة. (غوانمة: 1979)

 دخلت المدينة حقبة جديدة، كما أسلفنا، في عهد الحاكم بطليموس فيلادلفيوس الثاني ابن الملكة كليوبترا السابعة والإمبراطور بطليموس الأول. حيث اعتلى عرش مصر عام 285 ق.م. وكانت حقبته تمثل أبهى عصور التلاقح الحضاري بين حضارتي المشرق والغرب، في جو ثقافي حيوي قل مثيله.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

تولع بطليموس فيلادلفيوس بربة عمون فأمر بإعادة بنائها وسماها تيمنا باسمه حيث انه اشتق من اسمه اسم المدينة –فيلادلفيا- وتعني الحب الأخوي في اللغة اللاتينية وهي مكونة من شقين فيلا (Phila) وتعني المحبة وديلفيوس (delphios) وتعني الأخوة.

 عام 218 ق. م. استعاد السلوقيون السيطرة على المنطقة واستطاعوا احتلال فيلادلفيا، بعد مدة طويلة من الحصار كادوا أن ييأسوا من دخولها خلاله، إلا أن أحد سكان المدينة وقع في أسرهم واستطاعوا أن يحصلوا منه على المدخل السري الذي تتزود منه المدينة بالماء، واستطاعوا قطع المياه عن المدينة التي استسلمت لاحقاً. (غوانمة: 1979)

واستمر حكم السلوقيين لفيلادلفيا، إلى أن سيطر أجدادنا الأردنيين الأنباط على المنطقة من البتراء جنوباً حتى دمشق شمالاً، وقد وجدت العديد  من الآثار الأردنية النبطية في فيلادلفيا واشتملت على الفخار الأردني النبطي عالي الجودة وتماثيل الآلهة والقبور النبطية كالقبر المكتشف عام 1943 في سفح منطقة جبل عمان (العابدي: 2009)

نماذج متنوعة من الفخّار النبطي الملوّن عالي الجودة

  ظل اسم فيلادلفيا ملازما للمدينة حتى انتهاء الحقبة الهلنستية ودخولها الحقبة النبطية التي انتهت باضمحلال المملكة الأردنية النبطية على يد الإمبراطور الروماني تاراجان، الذي غيّر طريق التجارة مما أضعف الاقتصاد الأردني النبطي. وبكل الأحوال، كان طريق تراجان الجديد يمر بفيلادلفيا فلم يتأثر اقتصادها إنما ازدهر. (غوانمة: 1979)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصون دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة وثباتا ثمان منها أردنية

ظلت فيلادلفيا تتمتع باستقلال ذاتي نسبي في الحقبة الرومانية هي ومدن الديكابولس الأردنية الأخرى. حتى جاء  القرن الثاني الميلادي وما تلاه، عمد الأردنيون الغساسنة  إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان ذلك لفيلادلفيا الواقعة على سيف البادية الأردنية الشرقية. لهذا اعتبرت فيلادلفيا المرفأ البري الأهم لكل القوافل التجارية القادمة من اليمن والصين والهند وروما ومصر (غوانمة: 1979)

فيلادلفيا مدينة المياه ومعدن الحبوب

إطلالة أخرى على نهر عمان- المصدر: مكتبة الكونغرس

تميزت فيلادلفيا بموقعها الاستراتيجي، فهي تقع في قلب الخطوط التجارية في العالم القديم؛ وهذا ما جعلها من أكثر مدن الديكابولس ثراء وازدهارا، حيث شكلت مجلسا خاصا للمدينة وصكت فيها نقودها الخاصة (أبو حمدان: 2016) إلا أن ما جعلها أكثر تميزا هو وفرة المياه فيها، خصوصا في وادي عمان، الوادي الذي بنيت على التلال السبعة المحيطة به المدينة القديمة والحديثة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

وصفت فيلادلفيا في المصادر التاريخية بكونها مدينة المياه، حيث احتوت على مصادر مياه متجددة وطبيعية. كان أهمها نهر عمان الذي سمي في بدايات العصر الحديث بسيل عمان العمومي وهو يمر في منتصف المدينة وفي سفح جبل القلعة ليصب في نهر يبوق (نهر الزرقاء)، وينبع من أحد جبال عمان وسمي منبعه برأس العين. يذكر أن هذا الرافد كان مصدرا مهما لمياه الشرب إضافة للري، حيث زرعت الأراضي حوله، والتي كانت مزروعة بالقمح بالكامل، وانتشرت مطاحن القمح في المدينة منذ القدم لتضيف لها لقبا آخرا وهو “معدن الحبوب” دلالة على إنتاجها الوفير من الحبوب (غوانمة: 1979)

الزرقاء 1900 إطلالة على وادي الزرقاء ونهر الزرقاء – مجموعة إرث الأردن الصورية

أما في جبل القلعة، مركز فيلادلفيا وربة عمون سابقا فقد وجدت العديد من البرك لجمع مياه الأمطار إضافة لوجود ممر مائي ضخم يصل جبلة القلعة في الوادي. (غوانمة: 1979)

بناء وتخطيط المدينة

بنيت المدينة على غرار تخطيط مدن الديكابولس والتي يشابه تخطيطها معكسر الجيش. حيث يأخذ التخطيط أقرب نقطة إلى الهيكل (هيكل هرقل في جبل القلعة) ويصير مركز المدينة ومن ثم يرصف شارعان كبيران متقاطعان في زاوية قائمة وعلى جوانبهما صفين من الأعمدة، وخلف الأعمدة يقام شارع مسقوف للمارة وعند تقاطع الشارعين وعند كل بوابة هنالك قوس نصر. يسمى الشارع الرئيس (ديكيومانوس) ورصف بموازاة نهر عمان والشارع الثاني يسمى (كاردو) ويسير من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وكان مركز تقاطعهما قرب سبيل الحوريات ويسمى هذا التخطيط “هيبودامي” (أبو حمدان: 2016)

المدرج الروماني 1927

 وحتى عام 1860 كان هنالك شارع يمتد من منطقة راس العين حتى منطقة جسر رغدان ويقاطعه شارع آخر يأتي من طريق السلط (بعرض 37 قدم)  ليلتقي الشارعان في ساحة الجامع وسط المدينة. وكان هذا الشارع مزدانا بصفين من الأعمدة وعلى جانبه طريق آخر مسقوف (بعرض 16 قدم). وعلى غرار باقي مدن الديكابولس، فالشوارع مرصوفة ببلاط صخري أملس. وهنا نرى أن تخطيط فيلادلفيا الأول استمر حتى العصر الحديث. (العابدي: 2009)

أما بالنسبة للخطوط التي تصل فيلادلفيا بغيرها من المدن فهي ثلاث طرق رئيسة الأول قادم من جراسا (جرش) عابرا سيل الزرقا والرصيفة ومن ثم يدور حول الجبل حتى يصل ماركا ومن ثم فيلادلفيا. الثاني طريق فيلادلفيا-القدس وقد أقيم في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس في القرن الثاني ميلادي. والثالث هو طريق فيلادلفيا إلى الجنوب والذي سارت عليه سكة القطار العسكري العثماني ( سكة الحديد ) في عهد الاحتلال العثماني. (أبو حمدان: 2016)

وكانت فيلادلفيا محاطة بسور دفاعي قوي اندثرت معالمه بفعل الزمن. (غوانمة: 1979) ومن المتوقع أن المدينة توسعت عدة مرات لتغطي المساحة الواقعة ما بين نهر الزرقاء ونهر الأردن ويقطعهما نهر عمان. ويصعب الوصول لمعلومات أكثر دقة عن المدينة وتخطيطها وطبوغرافيتها بسبب وقوعها في الوادي بجانب نهر، الذي بلا شك، ساهم فيضانه بمحو وطمس آثار المدينة (غوانمة: 1979)

نقود الفيلادلفيين

لتمتع فيلادلفيا باستقلال ذاتي، كان لابد لها من صك نقودها الخاصة. في نقود ومسكوكات وجدت في عدة مواقع أثرية في المدينة، كانت عبارة “نقود للفيلادلفيين” منقوشة عليها باللغة اليونانية. وقد وجدت عدة نقود أخرى تحمل صورة أباطرة الرومان مثل طيطوس وأدريانوس وأوريليوس وفيروس وكوموذس وكركلا واليوغابل وأنسنازيوس. (العابدي: 2009)

عملة صكت في فيلادلفيا حصرا، “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم”

 قد وجدت عملة “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم في قصر العبد في عراق الأمير. ولهذه العملة أهمية كبيرة إذ أنها ضربت من الفضة وقد وضع عليها صورة بطليموس  فيلادلفيوس الشخصية مما يدل أنها العملة الرسمية في تلك الحقبة، أما جمالياً فقد تميزت هذه العملة من جهة بصورة بطليموس التي احتوت طابع البعد الثلاثي إذ يمكن ملاحظة تقاسيم الوجه النابزة على العملة، ومن الجهة الأخرى فقد ضُربَ النسر البطلمي التقليدي –نسر زيوس-  كبير آلهة الإغريق.

تتنوع النقوش على عمل فيلادلفيا، وغالبا ما كانت صورا للأباطرة أو رسوما للآلهة كالإله هرمس والإله مركور إله الفنون والتجارة. ونجد في بعضها صورة الآلهة مينرفا آلهة الحكمة والفنون، ونلحظ أيضا كثرة تواجد عنقود العنب على المسكوكات أو على الآثار بشكل عام، حيث كان عنقود العنب رمزا محببا في فيلادلفيا دلالة على الخير والخصب. (العابدي: 2009)

الدين في فيلادلفيا

رأس تايكي المعروض في متحف الأردن

مرت فيلادلفيا بمرحلتين أساسيتين يمكن تصنيف الدين فيهما: الأولى وثنية والثانية مسيحية. في الحقبة الهلنستية والرومانية شاعت عبادة الآلهة الرومانية واليونانية كالآلهة أثينا المنحوتة من الرخام وهي آلهة الحرب، كما حضرت آلهة الأولمب بشكل عام في التماثيل والنقوش والمسكوكات. أما في الحقبة الرومانية فكان إله فيلادلفيا الأهم هو هرقل أو (هيركليس) الذي أقيم له هيكل ضخم للغاية على جبل القلعة، كما عبدت الآلهة تايكي وهي آلهة الحظ والرعاية والسعادة وقد عثرت دائرة الآثار العامة في حفريات 1957 على تمثالها المنحوت في القرن الثاني ميلادي.[3] (غوانمة: 1979)

منظر عام لمعبد هرقل في جبل القلعة عام 1950
قبضة يد هرقل الرخامية الضخمة كما تظهر في أعالي جبل القلعة قرب هيكله

أما الحقبة الثانية فهي حقبة المسيحية وكانت شديدة الازدهار في فيلادلفيا، نظرا لكونها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الأردنيون الغساسنة. اعتنق الأردنيون الغساسنة المسيحية على المذهب المونوفيزي وكانوا مؤمنين مخلصين، وقد جاهد حكامهم أمثال الحارث الأردني الغساني لإيقاف اضطهاد البيزنطيين للمسيحين في المشرق.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

وبوصفها مدينة ذات حكم ذاتي كان لها أبرشيتها الخاصة وقد حضر مجمع نيقية[4] وخلقدونية[5] عدد من أساقفة فيلادلفيا. (MacAdam: 1992) وازدادت أهمية أسقفية فيلادلفيا مع الزمن حتى تحولت إلى بطركية، فبعد موت بطريرك بيت المقدس انتقل مركز البطريركية إلى يافا ومن ثم إلى مدينة دورا إلا أن بطريركية فيلادلفيا كانت هي المسؤولة عن شؤون مسيحي بيت المقدس.  (غوانمة: 1979) كما كانت فيلادلفيا مركزا لأبرشية البترا، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن مطران حسبان قد تسلم رسالة من بابا بطريركية أنطاكيا يعلمه فيها أنه عين أسقف فيلادلفيا نائبا عنه (العابدي: 2009)

قدمت فيلادلفيا العديد من شهداء الاضطهاد الديني الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية على المسيحيين في القرون الميلادية الأولى ومنهم من خلد اسمه إلى الآن. وتذكر المصادر التاريخية قصة ستة شباب اجتمعوا للصلاة وقد وشى بهم أحد ما فأخذوا وعذبوا ونقلوا إلى سجن فيلادلفيا وتم إعدامهم هناك (MacAdam: 1992) إضافة لهؤلاء الشباب الستة كان هنالك شهداء وقديسون من فيلادلفيا وأهمهم إليان (إيليانور أو إيليانوس) العماني والقديسان زينوس وزينان.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. (MacAdam: 1992)

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب فيلادلفيا، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. (MacAdam: 1992)

الكنائس

نظرا للأهمية الدينية التي تمتعت بها فيلادلفيا كان لا بد أن تنتشر الكنائس فيها، رافق انتشار الكنائس انتشار فن الفسيفساء الذي استخدم لإضفاء لمسة جمالية على أرضية الكنيسة. اشتهرت كنيسة البازليكا وهي نمط معماري مستطيل الشكل.

نقش كنيسة نتل الغسانية وقد كتب باليونانية ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” والمقصود الملك الأردني الغساني الحارث ابن مارية

وجدت العديد من الكنائس الأثرية، ككنيسة مارجاورجيوس في اللويبدة، التي اكتشفت في ساحة بيت السيد عبد الله الحمود. كما اكتشفت ثلاثة كنائس من القرن الخامس على أطلال نهر عمان. كما اكتشف كنسية كرسي الأسقف التي لا تزال بقايا جدرانها وأعمدتها الرخامية موجودة ومبعثرة. (العابدي: 2009)

الآثار في فيلادلفيا

أدخل لفيلادلفيا عبر العصور أنماط معمارية جديدة هلنستية ورومانية، فبنيت فيها الحمامات والملاعب والمسارح والساحات العامة والهياكل الوثنية وكما ناقشنا في فصل تخطيط المدينة فقد أعيد تخطيطها وتوسعتها بشكل كبير.  تعد أغلب آثار فيلادلفيا مرافق اجتماعية وترفيهية تعنى بالاجتماعات الثقافية الكبيرة كالمسارح ودور الموسيقى والملاهي والحمامات إضافة إلى المدافن العائلية التي تدل جميعها على مقدار الرخاء الذي عاشه الأردنيون في المدينة. وفيما يلي استعراض لأهم وأبرز الآثار المكتشفة في فيلادلفيا.

جبل القلعة

عمان كما نراها من جبل القلعة 1944

تقع آثار جبل القلعة على واحد من جبال المدينة الشوامخ، يسمى الجبل جبل الطهطور والطهطور هو رجم الحجارة الذي عبده العمونيون. كان الجبل محاطا بسور دفاعي أسس في زمن بطليموس فيلادلفيوس (285-257 ق.م.) تظهر آثاره إلى اليوم،  تعاقبت الحضارات على جبل القلعة منذ العصور الحجرية، واتخذه العمونيون مركزا لعاصمتهم، كما كان مركز مدينة فيلادلفيا. فلذلك يحوي الجبل عدة آثار تتبع لعدة عصور، فوجدت تماثيل عمونية وأدوات تعود للعصر الحجري، كما وجدت المساكن البيزنطية وهيكل هرقل إله فيلادلفيا مكان إله العمونيين السابق ذكره، ونرى يد هرقل الرخامية الضخمة على قمة الجبل إضافة لبقايا الأعمدة الكورنثية والبوابة التي ظلت حتى عام 1911. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على هيكل هرقل
نموذج ثلاثي الأبعاد لهيكل هرقل كما يعتقد أن يكون

وفي جبل القلعة العديد من الكهوف التي تعود للعصور الحجرية ولكن أعيد استخدامها كمدافن في العصر الروماني. كما تنتصب بعض الجدران التي تحوي محاريبا كانت توضع فيها تماثيل الآلهة. وفي جبل القلعة هيكل آخر لعبادة فينوس (الزهرة) آلهة الخصب والجنس والذي أمر ببنائه الإمبراطوران بيوس وأوريليوس ومن ثم تحول إلى كنيسة العذراء مريم وقد تهدم الهيكل بفعل زلزال عام 747 م.

الحمام (سبيل الحوريات)

سبيل الحوريات – عمان – 1879

يشكل بناء الحمام في فيلادلفيا مزيجا من الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن وأحواض السباحة والنوافير ذات الشكل الجمالي. وسبيل حوريات فيلادلفيا يتبع هذا النمط مما يجعله شديد التميز والجمال. وكما أسلفنا، فقد كانت فيلادلفيا مدينة المياه وتميزت بهذا الحمام الذي ارتاده الأردنيون في فيلادلفيا لغايات الترفيه والاستجمام. (العابدي: 2009)

المدرج والساحة

 يعد المدرج الروماني الذي يتوسط قلب عمان أحد أهم آثار المدينة، بني على شرف الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138-161 م) وتشير إلى ذلك اللوحة المثبتة على المدخل المنقوشة باليونانية. يقع المدرج على السفح المقابل لجبل القلعة، وبني عن طريق اقتطاع الصخر على شكل نصف دائرة. المدرج مقسم لثلاثة أقسام، القسم الأول يحوي 15 صفا لعلية القوم ويحوي هذا الصف أيضا ثلاثة مداخل ومخارج للمشاهدين، والقسم الثاني يحوي 14 صف أما الثالث فيحوي 17 صفا وهو لعامة الشعب. وفي المدرج ممرات للمشاهدين وثلاثة بوابات تنفذ إلى ساحة الفورم وشارع الأعمدة. يتسع المدرج لعشرة آلاف متفرج ومهو مصمم بطريقة توزع الصوت. أطلق على المدرج عدة أسماء في العصور اللاحقة فبعض المؤرخين العرب أسموه مدرج سليمان والبعض الآخر أسموه مدرج فرعون. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على المدرج الروماني عام 1880

أقيم في المدرج الاحتفالات الوثنية في البدء ومن ثم بدأ يأخذ المسرح غايات تثقيفية وترفيهية أخرى، كعرض المسرحيات والمبارزات والمصارعة وغيرها. أما أمام المدرج فكانت الفورم أو الساحة، بطول 180 قدما، تستخدم لغرض استقبال القوافل التجارية والاجتماعات العامة  (العابدي: 2009)

الملهى أو قاعة الموسيقى

شرق المدرج الكبير يوجد مدرج صغير (بقطر 38 متر ويتسع لستمائة شخص) مختلف قليلا في الشكل والحجم عن المدرج الكبير. يرجح أن هذا المبنى هو الملهى أو قاعة الموسيقى. كان المبنى مسقوفا ويتجه تجويفه نحو الغرب على عكس المدرجات الأخرى التي تتجه نحو الشمال.

الأوديون كما يظهر من جبل القلعة

قسم المدرج الصغير إلى درجتين، تحوي العلوية على سبعة صفوف والسفلية على اثني عشر صفا، إضافة لثلاثة ممرات طويلة. وله خمسة بوابات. بني هذا الملهى في القرن الثاني الميلادي وكان يستخدم للقراءات الشعرية والمسرحيات الدرامية الخاصة بالطبقة المثقفة في فيلادلفيا. (الغوانمة: 1979)

قبو السيل

شاهد العديد من المؤرخين أمثال كوندوز بقايا نهر عمان والقناطر الرومانية التي كانت تعتليه. عام 1881، تم توثيق آخر 100 متر من هذه القناطر، ويوصف هذا العمل بأنه إبداع هندسي لا مثيل له في فيلادلفيا، حيث كانت القناطر تغطي النهر من منبعه في راس العين إلى منطقة رغدان. (العابدي: 2009)

سيل عمان 1890 وما تبقى من القناطر الرومانية فوقها

المقابر والأضرحة العائلية

منظر عام لوسط مدينة عمان ويظهر في الصورة بقايا ضريح روماني قديم والمدرج الروماني وخلف المدرج الروماني جبل الجوفة وجبل التاج عام 1930

انتشرت المقابر والأضرحة العائلية كدلالة على الثراء والرفاه الذي عاشه الفيلادلفيون. وقد اكتشفت أربعة مدافن رئيسة في المدينة:

ضريح نويجيس: في الطريق إلى خربة طبربور وعين غزال، تقع خربة نويجيس أو “قصر النواقيس” الذي يعود إلى القرن الثاني أو الثالث ميلادي. وترتفع قبته المزينة منطلقة من الجدران الأربعة المزينة بشتى أنواع الزخارف النباتية والحيوانية. (العابدي: 2009)

ضريح النويجيس

القويسمة: تقع قرية القويسمة التي تعود إلى العصر البيزنطي جنوب العاصمة عمان. اكتشفت في هذه القرية لوحات فسيفسائية رائعة الجمال، كما يوجد فيها بناء يسمى “قصر السبع” وهو بناء مستطيل يرتفع جداره عشرين قدما بمساحة 33 متر يعود للقرن الثاني ميلادي. في القصر تابوت مزخرف لطفل. وقد كشفت تنقيبات دائرة الآثار عامل 1967 عن وجود درجات حجرية على جانبها مذبحان، ينتهي الدرج بفتحة باب قليلة الارتفاع لإدخال الميت. (العابدي: 2009)

مدفن الدوار السادس: عام 1982 بدأ العمل على تنقيبات مدفن الدوار السادس في عمان قرب المركز الأمريكي للدراسات، اكتشف في المدفن 11 تابوت حجري والبناء مربع بأبعاد 190 سم × 190 سم.[6]

مدفن الجوفة: اكتشف هذا المدفن أثناء عمليات حفر الصرف الصحي في الجوفة، ويتميز بجدارياته الملونة التي تصور معجزة المسيح في إحياء الموتى. المدفن عبارة عن حجرة صغيرة بأبعاد لا تتجاوز الثلاثة متر وجدرانه مغطاه بالجص. [7]

مدفن خربة عثمان: اكتشف هذا المدفن في منطقة خلدا أثناء عملية تجهيز لبناء منشأة سكنية عام 2002، الحجرة بأبعاد 60× 180 سم. كما اكتشفت حجرات أخرى لاحقا تحوي عدة توابيت وأسرجة للإنارة وفخار ونقوش متنوعة. [8]

خاتمة 

فيلادلفيا معدن الحبوب ومدينة المياه ومدينة الحب الأخوي، لا زالت إلى اليوم تحمل ألقابها ببهاء. تقيم عمان العاصمة الحديثة على ذات الأرض التي سخرها الأردنيون عبر التاريخ منذ العصور الحجرية إلى الحقب الكلاسيكية وحتى يومنا هذا.

المراجع العربية

  • الغوانمة، يوسف (1979) عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء: عمان
  • أبو حمدان، تيسير (2016) فيلادلفيا المدينة والفندق، دار أزمنة: عمان
  • العابدي، محمود (2009) عمان ماضيها وحاضرها، منشورات وزارة الثقافة الأردنية
  • بطليموس المخلص، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/ptolemy-the-saviour/
  • أبو شميس، أديب (2003 ) اكتشاف قبر بيزنطي مبكر في خلدا خربة عثمان، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • زيادين، فوزي (1982) حفريات جبل الجوفة- مدفن روماني مزين بالرسوم الملونة، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • الرشدان، وائل (1984) قبر روماني في منطقة الدوار السادس، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • تدرا دراخما- عمان مدينة الحب الأخوي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammanphelphdlios/
  • العاصمة الأردنية العمونية-ربة عمون، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammonit-capital/
  • الفخار الأردني النبطي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/nab-pottery/
  • الأردنيون الغساسنة: الترف الحضاري والحرية والعقلية العلمية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/social-life-of-the-ghassinids/
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanid-an-introduction/
  • الدين عند الأردنين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/christianity-and-the-ghassanids/
  • الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanids-religion-introduction/

المراجع الأجنبية:

-MacAdam, H., Bowsher, J. and Hubner, U (1992) Studies on Roman and Islamic Amman, VI, The British institute in Amman for Archeology and History

[1] اسم لثقافة سادت في العصر الحجري امتازت بقرى ومساكن حجرية على شكل تكتلات تحوي 200 فرد تقريبا، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9_%D9%86%D8%B7%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%A9

[2] الحقبة الغسولينية أو الغسولية أو الغازولية هي مرحلة ثقافية وتاريخية تعود إلى أواسط  العصر النحاسي وأبرز مواقعها هو موقع تليلات الغسل الأثري في وادي الأردن جنوب البحر الميت، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%BA%D8%B3%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9

[3] انظر: حولية دائرة الآثار العامة، مجلد 4/5 لسنة 1960، ص23

[4] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفقا للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها

[5] انعقد سنة 451م يُعتبر من أهمّ المجامع، إذ نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس المشرقيّة عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة الذين يرون أن مجمع خلقيدونية هو المجمع المسكوني الرابع

[6] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1984

[7] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1982

[8] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 2003

مدن الديكابوليس الأردنية: فيلادلفيا مدينة الحب الأخوي

مقدمة

إن حضارة الأردن اليوم ما هي إلا ملخص مسيرة الإنسان الأردني عبر التاريخ في حضاراته وثقافاته المتعددة. لقد أدى هذا التراكم الحضاري لثراء غير مسبوق على الصعيد اللغوي والاجتماعي. في هذا البحث سنسلط الضوء على واحد من أهم المشاريع التي تبحث في اللهجات الأردنية، ولهجة عمان العاصمة بشكل خاص. قامت البروفيسورة الأردنية إنعام الور من جامعة اسكس البريطانية بتتبع لهجة عمان وكيفية تشكلها.

تمهيد علمي

تهتم اللغويات الاجتماعية بدراسة نتاج تلاقح وتمازج اللهجات وقد وثقت حالات عديدة على هذا التمازج والتلاقح في مجتمعات مختلفة تعرضت لظروف اجتماعية وسياسية كالهجرة.  تدرس الورقة العلمية التي قامت بإعدادها الدكتورة الور، لهجة عمان من هذا المنطلق. فهي تركز على نتاج تمازج وتلاقح اللهجتين الفلسطينية والأردنية.

الدكتورة إنعام الور المحاضرة في جامعة إسكس

في مثل هذه الدراسات يتوقع الباحثون عددا من الأنماط في  المتغيرات اللغوية Linguistic variants فقد  يطغى متغير في لهجة على متغير آخر في اللهجة الأخرى. وقد تندمج بعض الصفات مشكلة صفات جديدة لا توجد في كلتا اللهجتين. وقد وجدت هذه الحالات في مشروع لهجة عمان الذي أجرته البروفيسورة الور.

في الأبحاث المهتمة بالتغيرات الحاصلة على لهجة ما نتيجة تفاعلها مع لهجة أخرى، نجد أن الباحثين يتعاملون مع لهجة أصلية في المنطقة التي يدرسونها. نتيجة لعدد سكان مستقر ولهجة أصلية يمكنهم قياس التغيرات عليها. ولكن هذا لم يكن ممكنا في مشروع لهجة عمان نتيجة لكون عمان لم تمتلك لهجة أصلية وسكانا ثابتين لمدة جيدة من الزمن فسكان عمان وحتى أولئك الذين ولدوا فيها ينسبون أنفسهم لمدن غيرها فيقولون “أصلي ربداوي” أ يمن إربد، أو “سلطي” من السلط أو “نابلسي” من نابلس. ولكن لا يوجد أي مكون سكاني ينسب نفسه لعمان فيقول “أصلي عمَاني” يعود هذا لفترات الهجران الطويلة التي تعرضت لها عمان عبر التاريخ فبعد أن كانت عاصمة للحضارة الأردنية العمونية ومدينة حظيت بالعناية البطلمية ومدينة ديكابولس شهيرة تم هجرانها بالتدريج عقب دخول المسلمين إلى الأردن وحتى الاحتلال العثماني.

في  الفصل التالي من قراءتنا في بحث البروفيسورة الور سنطالع جغرافية اللهجات في الأردن إضافة لتوزيع السكان.

جغرافية اللهجات في الأردن

مر على الأردن عدة كيانات سياسية كالمملكة العمونية والمؤابية والنبطية والغسانية ولكن الأردن ككيان جغرافي وثقافي كان يتعدى الحدود السياسية التي تم رسمها عام 1921. عرفت الأردن بتسميات كثيرة “جند الأردن” “شرق الأردن/ نهر الأردن” ولكن خلال الاحتلال العثماني وبممارسة سياسيات الإهمال عرفت الأردن ب”مشارف الشام” وألحقت بولاية دمشق. ومن الجدير بالذكر أن الحركة التجارية آنذاك كانت أكثر بين الغرب والشرق لا بين الشمال والجنوب بدلالة العلاقة القوية بين مدينتي السلط ونابلس ومدينتي الخليل والكرك.

في حدود الأردن اليوم، تقسم اللهجات المستخدمة لمجموعتين رئيستين: لهجات شرق وجنوب المملكة وهي لهجة عربية بمتحدثين أقل عددا. والمجموعة الثاني هي اللهجة الشمالية والوسطية وتسمى لهجة مشرقية.

يمكننا تقسيم اللهجة المشرقية في الأردن لقسمين اللهجة الحورانية في شمال المملكة وتمثلها أفضل تمثيل لهجة أهل عجلون. واللهجة البلقاوية في وسط وغرب المملكة وتمثلها لهجة أهل السلط. ويتبقى لدينا لهجة الكرك وهي مشتقة من اللهجة العربية ويعتبرها العالم بالفا Palva لهجة انتقالية بين الشمال والجنوب.

بيوت الشركس في عمان في ختام القرن التاسع عشر

مع العوامل السياسية والاجتماعية ازداد عدد سكان الأردن بشكل عام وعمان بشكل خاص بشكل كبير. عام 1906 كانت عمان مستقرا لخمسة آلاف شركسي فحسب وعام 1930 انتقل الكثير من الأردنيين -خاصة من السلط- إلى عمان وقدر عدد المنتقلين ب5000 فرد. وبسبب الحروب العربية الإسرائيلية تنامى عدد السكان بسبب اللجوء. قرابة 1.5 مليون فلسطيني لجأوا إلى الأردن بين حربي 1948 و 1967. وعام 1990 عقب حرب الخليج، عاد 350 ألف فلسطيني من الكويت إلى الأردن. عام 2003، صار عدد سكان عمان 1.6 مليون متضاعفا 15 مرة عما كان عليه ومشكلا ثلث سكان المملكة.

العوامل الاجتماعية والسياسية وتأثيرها

عرف تاريخيا أن اللهجات السائدة في المنطقة هي لهجة أهل “المدينة” والمدينة هي بقعة جغرافية بمجتمع ثابت ذي أساس تجاري وصناعي. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت السلط تمثل هذه المدينة. حيث كانت السلط أكبر المدن الأردنية حتى ثلاثينات القرن المنصرم وكانت لهجتها تعتبر “مدنية” بالرغم من العناصر “البدوية” الأصيلة فيها. مع قيام الدولة الحديثة، واعتبار عمان عاصمة الدولة الأردنية، تراجعت مكانة السلط ولكن لهجتها ظلت تؤكد على أنها “أردنية أصيلة” خصوصا مع غياب وجود مكون سكاني ثابت في عمان.

عمان 1922 سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

مع تنامي روح الهوية الأردنية، بدأت اللهجة السلطية باعتبارها اللهجة التي تمثل “الأصالة الأردنية” بالظهور أكثر وأكثر. وقد ساعد موقع السلط القريب من عمان (25 كلم) على ترسيخ هذه الفكرة. على صعيد آخر، كانت النخبة في عمان آتية من مدن كبيروت ودمشق وحيفا ونابلس والقدس وكلها مدن عرف عنها التقدم الحضاري، وكان لها بالطبع لهجتها الخاصة المتمايزة عن اللهجة الأردنية. ومن الجانب الأردني، كان هنالك عائلات عريقة قدمت السلط وسكنت عمان. إذن، في عمان العاصمة، وجد مكونان سكانيان ولهجتان رئيستان. الفلسطينيون والسوريون من مدن مختلفة، والأردنيون من السلط. وكان لعمان أن تخلق لهجة تمزج بين هذين العنصرين.

سلط 1900 اطلالة خلابة على عراقة مدينة السلط الأردنية وتفوق سكانها على الظروف الجائرة

في المرحلة الأولى تأثر الأردنيون (القادمون من السلط) بلهجة أهل المدن الفلسطينية والسورية ويعود السبب إلى أمرين الأول هو تقلد السوريين والفلسطينيين للوظائف العامة والأعمال بشكل كبير والثاني هو ارتباط هذه الفئة بمدن ذات بعد حضاري. وقد درس العالم بالفا Palva  لهجة تلك المرحلة وأكد على تأثر اللهجة الأردنية بعناصر من اللهجة السورية والفلسطينية المدنية. عقب الحروب العربية الإسرائيلية لجأ إلى الأردن كما أسلفنا أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الذي كانوا ينتمون لقرى فلسطين ويمتلكون لهجة تختلف عن سكان المدن. على عكس الفلسطينيين الذين عاشوا في عمان مبكرا، لم يكن لهذه الفئة الكبيرة من اللاجئين أي تأثير على تشكيل لهجة عمان الحديثة.

هنا، يكون من الجيد توضيح الفرق بين المجتمعين الأردني والفلسطيني. يسود في المجمع الفلسطيني التفريق بين سكان المدن “المدنيين” وسكان القرى “الفلاحيين”  وهنالك فرق كبير وواضح بين اللهجتين الفلسطينية المدنية والفلسطينية والفلاحية. أما المجتمع الأردني قبلي. انتقل نظام التقسيم المتبع في المجتمع الفلسطيني إلى عمان بالرغم من أن سكان المدن وسكان القرى صاروا مواطنين في نفس المدينة إلا أن الانقسام لا زال موجودا بين مجتمع المدينة الفلسطيني ومجتمع القرية.

تشكلت الحكومات الأردنية الأولى من السوريين والفلسطينيين و أثار هذا الرأي الأردني العام. وقد طالب الأردنيون وقتها “بأردنة الجهاز الإداري” واعتبر المحللون السياسيون هذه المطالب أول تعبير سياسي حديث للهوية الأردنية. في ستينات وسبعينات القرن الماضي، دخلت الدولة الأردنية في حقبة التطور والتمدن، وشملت الإصلاحات القطاعات الاجتماعية والسياسية وقد أثرت بذلك على الأدوار التي ضلع الفلسطينيون والأردنيون على القيام بها في مجتمع عمان الحديث.

عقب حرب أيلول عام1970، عاودت مطالبات الأردنيين بالأردنة إلى الظهور تحت شعار “إن كانت منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الفلسطينيين فإن الأردن يجب أن يمثل الأردنيين” وهكذا بدأ الأردنيون بتقلد مناصب الدولة ووظائف الخدمات الحكومية ومع الوقت صار شكل الهوية الأردنية أكثر تحديدا من أي وقت مضى. لم يكن هذا الأمر ينطبق على العائلات الفلسطينية التي سكنت الأردن ما قبل التأسيس، وعلى العكس فقد كانت العلاقة بين هذه العائلات وبين العائلة الحاكمة قوية وتقلد أبناؤها مناصب عليا في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

ولكن ما علاقة كل هذه العوامل بلهجة عمان؟  ساعد تنامي روح الهوية الأردنية على تمثل اللهجة الأردنية (التي تمثلها هنا اللهجة السلطية) باعتبارها اللهجة الأصيلة التي تمثل الأردنيين. فحتى الرجال الفلسطينيين الذين تقلدوا المناصب كانوا يستخدمون هذه اللهجة.

أما المرأة الأردنية فقد كانت مقصاة تماما من المشهد الإصلاحي والتجديدي في الستينات والسبعينات. فلم تكن تتقلد المناصب التي قد تستدعي استخدام اللهجة الأردنية ولهذا فقد بقيت بعيدة عنها. اقتصر عمل المرأة على التعليم والطب والخدمات العامة وهي ذات القطاعات التي كان الفلسطينيون والسوريون يعملون بها بكثرة. جذبت المرأة أكثر إلى اللهجة المدنية للسوريين والفلسطينيين.

في اللغويات الاجتماعية، لابد من استعراض العوامل الاجتماعية والسياسية التي تخلق اللهجة وتعيد تشكيلها كما أسلفنا. تاليا سنناقش مشروع لهجة عمان الذي قامت به البروفيسورة إنعام الور.

مشروع لهجة عمان

يدرس المشروع لهجة “العمانيين” عبر استخدام طرق البحث المعتمدة في اللغويات الاجتماعية كالمقابلات. يتم بعدها تفريغ المقابلات وتحليلها باستخدام أحدث التقنيات. قابلت البروفيسورة إنعام الور  المشتركين في الدراسة من أربع عائلات اثنتان منهما سلطية والأخيرتان نابلسية وجميعهم يعيشون في عمان.

سجلت البروفيسورة 25 ساعة مع المشتركين في الدراسة كعينة، كان أكبر المشتركين عمرا يبلغ 78 سنة وأصغرهم 12 سنة. مثلت العينة ثلاثة أجيال (الأجداد، والآباء، والأحفاد) وتقسم العينة إلى 8 أجداد مشتركين،و8 أبناء، و14 من الأحفاد (6 ذكور و8 إناث) لم تكتفي البروفيسورة بهذه العينات فحسب إنما أخذت المزيد من خارج عمان، من السلط ومن نابلس لتحصل على كمية بيانات جيدة تكفي لعقد المقارنات.

من الجدير بالذكر بأن العائلات السلطية والنابلسية الأصل يسكنون عمان الغربية. وتعزو الباحثة اختيار هذه العينة، كون عمان الشرقية تتميز بعلاقات أسرية أقوى ويسود فيها نمط العائلات الممتدة، أما العائلات في غرب عمان فالأبناء والأحفاد فيها لا يقضون في الكثير من الوقت مع ذويهم ولهذا سيكون الجيل الثالث (الأحفاد) أكثر اختلاطا بأقرانهم.

عقب تحليل البيانات خلصت الدراسة لوجود عملية أطلق عليها العالم ترودغيل Trudgill  الrudimentary levelling  وهي عملية تقليل الفوارق بين لهجتين عبر تمازجهما، فإما تسود صفة على أخرى أو تنتج صفات أخرى.

في الجيل الأول (الأجداد) من العائلة السلطية الأصل وجدت ظاهرة rudimentary levelling   على صفات صوتية محددة ولكن كان من السهل معرفة مسقط رأس المتحدث من لهجته. في هذا الجيل بدأ اختفاء الصوت /تش/ وهو صوت /ك/ بعد أصوات العلة مثل /كيف= تشيف/. أما بالنسبة للعائلة النابلسية الأصل فقد بدأ الإمالة في بعض أحرف العلة بالاختفاء /سيعة=ساعة/، /امبيرح=امبارح/ وقد ظل هذا التغير ثابتا حتى الجيل الثالث.

من التغيرات الأخرى التي رصدتها الباحثة على الجيل الأول (الأجداد) كانت على النساء السلطيات واللاتي بدأن باستبدال صوت /ث/ بصوت /ت/، وصوت /ذ/ بصوت /د/ واستبدال صوت /ج/ بالهمزة. أما الرجال ذوي الأصل النابلسي فقد استخدموا صوت /ج[1]/ بدلا من الهمزة. وكما أسلفنا، فإن تغير في لهجة السيدات السلطيات نابع من العزلة عن المناصب ومن التأثر بلهجة الفلسطينيات والسوريات القادمات من مراكز الحضارة العربية آنذاك. أما الرجال النابلسيين فقد كان التغير نابعا من تمثلهم للهجة التي تمثل الهوية الأردنية التي تتقلد المناصب والوظائف العامة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

توصف لهجة الجيل الثاني (جيل الأبناء) ببعض العشوائية والخلط غير المنتظم بين اللهجتين الفلسطينية النابلسية والأردنية السلطية. حيث استخدم أفراد هذا الجيل الضمائر بشكل مختلط مثل الضمير (احنا) في اللهجة الأردنية و (نحنا) في الفلسطينية  والمقاطع المضافة إلى نهاية الكلمات مثل (كلامكو) و(كلامكن)

في الجيل الثالث والذي أسمته البروفيسورة (جيل العمانيين) تقلصت العشوائية والفروقات التي لوحظت في الجيل السابق بشكل كبير. وبدأت لهجة أكثر نظيما وتحديدا بالتشكل. وهنا نستطيع القول بأن لهجة عمان قد تشكلت وصار بإمكاننا الحكم على لهجة الفرد إن كانت عمانية أم لا.

إن المثير في حالة الجيل الثالث بأن صوتان رئيسان يميزان اللهجتين الفلسطينية والأردنية بقيا على حالها ولكن أعيد تشكيل لقواعد التي تحكم استخدامهما وهما الجيم غير المعطشة /ج/ والهمزة. تسمى هذه العملية social reallocation  وقد لوحظت بكثرة عند الأحفاد العمانيين. إن أهم القواعد التي بات يحتكم إليها استخدام هذين الصوتين هو جنس المتحدث وجنس المتلقي. وقد لخصت البروفيسورة إنعام الور حالات استخدام هذين الصوتين كما يلي:

المتحدثات الإناث: تستخدم الإناث الهمزة دائما، بغض النظر عن اللهجة الأصلية سواء كانت أردنية أو فلسطينية.

المتحدثون الذكور: عند المتحدثين الذكور طيف أوسع من الاستخدامات المرتبطة بهذي الصوتين.

  • يستخدم الذكور الفلسطينيون الهمزة عند الحديث مع بعضهم.
  • يستخدم الذكور الأردنيون صوت /ج غير المعطشة/ عند الحديث مع بعضهم.
  • يستخدم الذكور الأردنيون والفلسطينيون الهمزة عند الحديث مع الإناث.
  • في مجموعة مختلطة (فلسطينيون وأردنيون) يستخدم الجميع صوت /ج غير المعطشة/

من السهل ربط هذه الحالات بالسياق الاجتماعي، فكما أسلفنا ارتبطت الجيم غير المعطشة بالبداوة والقسوة، إضافة لارتباطها بالهوية الأردنية التي تتقلد المناصب -سياسيا-.

تغيرات أخرى رصدتها الدراسة تتعلق بلفظ أحرف العلة نهايات الكلمات المؤنثة خصوصا. في اللهجة الأردنية ينطق حرف العلة الأخير مفتوحا مثل (حلوَة) أو (مقلوبَة) أما في اللهجة الفلسطينية فيمال للكسر ليصبح (حلوِة) و (مقلوبِة) وقد استخدم الجيل الثالث مزيجا من طريقتي اللفظ هاتين.

أما التغير الأخير فقد كان على المخاطب فالعمانيون اليوم يقولون (بيوتكم -سألناكم) سواء للذكور أو للإناث ولم يكن الحال هكذا، في اللهجة الأردنية تخاطب النساء بإضافة (كِن) فيقال (بيوتكِن) ويخاطب الرجال بإضافة (كو) فيقال (بيوتكو). أما في اللهجة الفلسطينية تضاف (كَن أو كَن) للإناث والذكور على حد سواء. إن استخدام (كم) لمخاطبة كلا الجنسين علامة فارقة نتجت عن طريق تلاقح اللهجتين.

خاتمة

 مشروع لهجة عمان الذي قادته البروفيسورة الأردنية إنعام الور لدراسة التغير الحاصل في لهجة عمان. وتلخيصا لهذا المشروع يمكننا أن نقول بأن لهجة عمان نضجت على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى: الجيل الأول/ الأجداد الذين وصلوا لعمان بالغين وتحدثوا باللهجة التي اكتسبوها أطفالا.  الجيل الثاني/ الأبناء وقد ولدوا في عمان ولم يتعرضوا فقط للهجة ذويهم إنما كان أمامهم طيف أوسع من اللهجات الأخرى التي تأثروا بها وقد وصفت لهجتهم بأنها غير ثابتة أو مستقرة الصفات. والجيل الثالث/ الأحفاد وقد ولدوا في عمان وهنا كانت لهجة عمان قد نضجت وتطورت وخلقت لنفسها صفات جديدة ومستقرة.

____________

 إنعام الور.. أستاذ مشارك في قسم اللغات واللغويات في جامعة اسكس، المملكة المتحدة وعملت سابقا في جامعة كمبردج وكلية بيركبك، جامعة لندن، وجامعة فيلادلفيا الأردنية. الور باحثة متخصصة في علم اللغة الاجتماعي. تركز أبحاثها على التباين والتغير اللغوي في اللهجات الأردنية، التقليدية منها والحديثة ترأس حاليا ، بالتعاون مع بروفيسور عباس بن مأمون، تحرير سلسلة كتب متخصصة في مجال اللغويات العربية، تُنشر كتب هذه السلسلة تباعاً من قبل دار بنجامِن للنشر كما ولها العديد من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة. دكتورة إنعام الور هي أيضاً مؤسِسة “رواق العربية” في المملكة المتحدة، وتقوم على إدارة برنامجي دراسات عليا في مجال علم اللغة الاجتماعي في جامعة اسكس.

المراجع:

للاطلاع على الدراسة كاملة: https://www.academia.edu/6670274/The_formation_of_the_dialect_of_Amman_from_chaos_to_order

The formation of the dialect of Amman. In C. Miller, E. Al-Wer, D. Caubet, J. Watson (eds) Arabic in the City. 2007, 55-76. RoutledgeCurzon., 2007

للمزيد من أبحاث ومقابلات الدكتورة إنعام الور:

مقابلة الدكتورة إنعام الور على قناة رؤيا: إرث اللهجات الأردنية http://jordanheritage.jo/1506-2/

رابط محاضرة الدكتورة إنعام الور بالتعاون مع إرث الأردن: إرث اللهجات الأردني http://jordanheritage.jo/1554-2/

مقال قضايا لغوية: الضاد والظاد للبروفيسورة إنعام الور  http://jordanheritage.jo/linguisticheritage1/

 

[1] الجيم غير المعطشة، تقابل صوت ال g  بالإنجليزية كما  في كلمة لعبة game ويختلف رسمها بين ج وغ ك ولكننا اعتمدنا كتابتها  ج.

مشروع لهجة عمان: بأي لهجة يتحدث سكان العاصمة اليوم؟

المقدمة

في حقبة ذهبية من تاريخ الأردن، تطل علينا مدن الديكابولس الأردنية الحرة وتقدم لنا نموذجا حضاريا قل مثيله. فهي مدن حرة ذات سيادة واستقلال يتناسب مع طبيعة الأردنيين الماضية منذ القدم نحو تأسيس كيانهم السياسي المستقل إضافة لكونها مراكز اقتصادية لامعة في العالم القديم. في هذا البحث سنستعرض مدينة كانثا (أم الجمال) التي زينت آثارها وفسيفساؤها البادية الأردنية الشمالية.

الموقع  والطبوغرافية

 تقع كانثا (أم الجمال) في شمال شرقي الأردن وتتبع إداريا لمحافظة المفرق حيث تبعد عنها 20 كيلو باتجاه الشرق وعلى الطريق الواصل إلى بغداد والمدينة الأثرية كانثا التي كانت كبيرة المساحة وتصل إلى جبل الدروز. ولكن المدينة تعرضت لكثير من الدمار ونقلت حجارتها واستعملت في أماكن أخرى (حداد: 1997)

تقع كانثا (أم الجمال) في البادية الشمالية الشرقية وبشكل أكثر تحديدا فهي تقع في المنطقة البازلتية الكبرى وهي منطقة تكونت في مراحل تطور القشرة الأرضية في العصور الجيولوجية القديمة وخاصة العصر الثالث والرابع 1-25 مليون سنة من عمر الأرض؛ وكانت نتيجة هذه العصور تدفق كميات هائلة من الحجر الناري الأسود من الشقوق الأرضية والبراكين المخروطية التي تنتشر في البادية وفي سهول حوران الأردنية المتاخمة (الحصان: 1999) ينعكس هذا التكوين الجيولوجي على المعمار في المدينة.

الحجارة البازلتية السوداء التي تتوافر بشكل طببعي في كانثا

التسمية

سميت المدينة (أم الجمال) نسبة إلى الحركة التجارية القوية التي شهدتها خصوصا في عهد الأردنيين الأنباط وعهد الأردنيين الغساسنة حيث استخدموا الجمال في القوافل التجارية لنقل البضائع.  وكما أسلفنا تقع المدينة في منطقة غنية بالحجر البازلتي ذي اللون الأسود ولهذا لقبت بالواحة السوداء.

أما كانثا فهو بحسب المعاجم العربية القديمة كمعجم لسان العرب لابن منظور الأنصاري فلها معان متعددة  الليث الكُنْثة نَوَرْدَجَة تُتَّخذ من آسٍ وأَغصانِ خِلافٍ، تُبْسَطُ وتُنَضَّدُ عليها الرياحينُ ثم تُطْوَى وإِعرابه كُنْثَجةٌ وبالنَّبَطيَّة كُنْثا” فاللفظة تعني الليث وتعني البساط الذي يصنع من الأعواد الجافة لتبسط عليه الرياحين.

ويقول الباحث الأردني الدكتور عبد القادر الحصان في آخر أبحاثه عن اسم أم الجمال القديم هو “بيت جامول” أي بيت الجمال. وقد اعتمد الدكتور على اكتشافه لخارطة قديمة من القرن التاسع عشر منقولة عن خارطة أقدم تعود للعصر الروماني. وكتب الاسم بأحرف لاتينية ولكنه يقرأ بالسريانية Bath Gamal  أي بيت الجمال. وهو رأي اقترحه عديد من الباحثين السابقين مثل جراهام Grahum وميرل Merril ودوتي Doughty بربطها مع مدينة Beth Gamul المذكورة في الكتاب المقدس (حداد: 1991)

إطلالة على جزء من مباني أم الجمال ونلحظ جمال الفن المعماري وتفرده

أما الباحث والمستكشف بتلر Butler فقد قال بأن اسمها “ثانتيا  thantia” وذلك بالاعتماد على الخرائط الرومانية القديمة التي تضع مدينة ثانتيا جنوب مدينة بصرى بحوالي عشرين كيلومترا وقد ظهر اسم ثيانثيا المشتق من ثانتيا في الخرائط الرومانية العسكرية أيضا. (حداد: 1991) فرضية أخرى بأن كانثا تسمية أطلقت نسبة لمدينة يونانية مشابهة ولكن حجارتها بيضاء.

تاريخ البحث الأثري في المدينة

بدأ الاهتمام في  مدينة كانثا في القرن التاسع عشر حيث زارها المستكشف جراهم Grahum عام 1857 ونشر وصفا مختصرا لها. وعام 1960-1861 قام المستكشف وادينغتون Waddington  بزيارتها ونسخ النقوش التي وجدت فيها. (حداد: 1991)

توالت زيارات الباحثين والرحالة إليها، عام 1876 زارها دوتي Doughty وفي السنة نفسها زارها ميرل Merril  القنصل الأمريكي في القدس. وفي السنة التالية زارها ثومبسون Thompson. بعد 13 سنة زارها باحثون آخرون مثل فراوبيرغر Frauberger وليز Lees. أما أولى المخططات المكتملة للمدينة فكانت من صنع شوماخر Schumacher . (حداد: 1991)

من نقوس أم الجمال التي وثقتها حملات البحث والتنقيب

وأول من قام بعملية بحث أثري مكثف كانت بعثة جامعة برنستون 1904-1905. أما أهم من درس أم الجمال فكان العالم والباحث بتلر Butler  ابتداء من عام 1909 حيث رسم مخططات مفصلة للمدينة إضافة لتوثيق نقوشها وخصص لها مجلدا من مجلداته للحديث عن تاريخها وآثارها وتعد دراساته من أهم الدراسات الشاملة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014)

ازدادت أهمية المدينة الأثرية فجذبت أنظار الباحثين أكثر، قام هورسفيلد Horsfield  بنشر بعض الصور الجوية للمنطقة والتي ساعدت في دراستها. وزارها المستكشف نلسون جلوك Glueck وبين أهميتها التجارية والتاريخية. درست الكنائس والبيوت الأثرية وبدأت البحوث العلمية التي تناولتها تنشر في مجلات عالمية مرموقة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014) ومنذ 1970- 2000 م.، تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والآثاريين للكشف عن المزيد من الآثار إضافة لتوثيق النقوش وترميم المباني.

التاريخ

مرت كانثا بثلاث مراحل تاريخية مهمة يمكن تقسيمها وفقا للحقب الكلاسيكية، فقد تأسست المدينة في عهد الأردنيين الأنباط ومن ثم دخلت في العهد الروماني ومن ثم البيزنطي وهنا خضعت للنفوذ الأردني الغساني.

الفترة النبطية (312ق.م. – 106م.) :

يرجع تأسيس المدينة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدا إلى الفترة النبطية حيث لا توجد أي دلائل على كون المدينة أقدم من ذلك (حداد: 1991) (الحصان: 1999) على الرغم من أن الأردنيين الأنباط قد انتشروا في  سهول حوران من القرن الثالث قبل الميلاد حيث ورد ذكرهم في بردية زينون [1]zeno عام 259 ق.م. (حداد: 1991)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أقام الأردنيون الأنباط مملكتهم على أرض الأردن وامتد نفوذهم إلى دمشق والبحر المتوسط ووصلت تجارتهم إلى كل بقاع العالم القديم. تتسم المملكة الأردنية النبطية بحضارة ثرية وقوية على جميع الأصعدة.  كان الأردنيون الأنباط تجارا محترفين، فبعدما قام الملك الأردني النبطي الحارث الثالث  بفرض نفوذه على دمشق عام 85 ق.م. فتحت أمام الأردنيين الأنباط أبواب تجارية أبعد، استحدثوا طريقا جديدا يمتد من وادي السرحان الأردني إلى سهول حوران وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض. فيصل بين الهند والصين وأوروبا مارا بالأردن. وعلى طول طريق وادي السرحان أنشئت المدن النبطية كمراكز تجارية وحاميات عسكرية في آن واحد خوفا من تكرر حملات غزو السلوقيين واليهود. (حداد: 1991) وكشفت المسوح الأثرية التي قام بها الباحثون على مدار سنوات عديدة أن الاستيطان البشري في الفترة النبطية كان ذو كثافة عالية جدا (مصطفى:2014)

العملة التي سكها الملك الحارث الرابع و تحمل صورته و صورة الملكة شقيلات مما يدل على مدى التطور الحضاري التي وصل إليه الأنباط

كانت كانثا من ضمن عدة مدن أنشأها الأردنيون الأنباط (بصرى وأم الجمال وخربة السمرا وغيرها) (حداد: 1991) ترك الأردنيون الأنباط بصمتهم في مدينة كانثا سواء في العمران المتطور الذي أقاموه أو في المعابد والمعتقدات أو في حركة التجارة المزدهرة التي ضمنت لكانثا موقعا متميزا في خارطة العالم القديم.

 الفترة الرومانية (312-106م.):

عام 63-64 ق.م. قام الإمبراطور بومبي بفرض الولاية الرومانية ولكن من ناحية عسكرية وتجارية تضمن للإمبراطورية أمان قوافلها. وفي تلك الفترة، ظلت كانثا مدينة نبطية بامتياز ولكن التفاعل التجاري  بين الأردنيين الأنباط والإمبراطورية الرومانية ازداد. وقد اعتمد بومبي نظام مدن الديكابولس الحرة وهو نظام يجعل المدن أشبه بالدول المستقلة ذات السيادة ولكن مع الإبقاء على الطرق التجارية والصلات وثيقة فيما بينها وبين الإمبراطورية وهو ما يعني إقامة مناطق عازلة بين النفوذ الروماني والأردني النبطي عبر إقامة دويلات موالية سياسيا للإمبراطورية الرومانية.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

 بعد مدة جاء الإمبراطور تراجان  في منتصف القرن الثاني الميلادي وغير طرق التجارة من البترا إلى تدمر ولم تتأثر الحركة التجارية في كانثا حيث أنها ظلت مدينة ديكابولس حرة وذات طابع نبطي. ازدادت أهمية سهول حوران الأردنية في حركة التجارة في العالم القديم منذ تأسيس طريق تراجان الجديد عام 111 م. (حداد:1991)

 انهارت معالم نفوذ وسيطرة المملكة الأردنية النبطية عام 106 بعد الحصار الاقتصادي الذي مورس عليها لسنوات من قبل الرومان. وهنا صعد نجم الأردنيين الغساسنة الذي استغلوا فكرة حلف الديكابولس ووحدوا صفوف الأردنيين وشكلوا حكومة مركزية تجمع  مدن الديكابولس الأردنية الثمانية إضافة لتلك غير الأردنية.

عمل الأردنيون الغساسنة على تمكين مدن الديكابولس الأردنية وتقوية اقتصادها عبر استحداث شبكة تجارة قوية وعن طريق حماية القوافل من قطاع الطرق. ازدهرت المملكة الغسانية لمدة الخمسة قرون تقريبا  (2-7 ميلادي) تقريبا وقد نالت كانثا اهتماما كأخواتها من مدن الديكابولس الأردنية.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

في حقبة الأردنيين الغساسنة تم تحصين المدينة بأسوار منيعة لكي لا تتعرض لحملات الغزو التي كان المناذرة والفرس يشنونها. بنيت في هذه الحقبة عدة مبان رئيسة في كانثا كبوابة كومودوس التي بنيت في الفترة (176-180م).

واجهة بوابة كومودوس التي بنيت في القرن الثاني الميلادي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

الفترة البيزنطية (324- 636م):

بدأت الحقبة البيزنطية عندما قام الإمبراطور قسطنطين باعتبار الدين المسيحي دينا للدولة ونقل عاصمة الإمبراطورية إلى بيزنطة (القسطنطينية) الواقعة على مضيق البسفور. وحينها قسمت الإمبراطورية الرومانية إلى رومانية (غربية) ورومانية(شرقية) سميت الشرقية بالبيزنطية ابتداء من العام 324م.

من فسيفساء كنائس أم الجمال

استمر حكم الأردنيين الغساسنة حتى بدايات القرن السابع. وقد شهدت كاثنا نهضة عمرانية كبيرة خصوصا في العمارة الدينية.

كما أسلفنا، أسس الأردنيون الأنباط مدينة كانثا في قلب الصحراء الأردنية الشرقية، وسكنوها لقرون امتدت حتى بعد انهيار الدولة النبطية ككيان سياسي. شارك الأردنيون الأنباط كمكون سكاني فاعل في التغيرات السياسية والثقافية التي حصلت في أرض الأردن عقب تولي الأردنيين الغساسنة زمام الأمور السياسية وبنائهم للمملكة الأردنية الغسانية عن طريق تشكيل حكومة مركزية تجمع بين مدن الديكابولس الأردنية، وهكذا ظلت كانثا محتفظة بجوهرها النبطي الأصيل رغم تفاعلها مع الثقافات المحيطة لمدن الديكابولس الأخرى.

الزراعة ومصادر المياه

تعاني مدينة كانثا من نقص في مصادر المياه وذلك لطبيعتها حيث يطول فصل الجفاف. الاعتماد الرئيسي على مياه الأمطار المتساقطة على جبل الدروز جعل من الأردنيين على مدار التاريخ يهتمون أكثر بكيفية استدامة هذا المصدر وبكيفية الحد من هدره بكل الوسائل الممكنة. ولهذا أنشأ الأردنيون عددا كبيرا من السدود على الأودية ونظام شبكات مائي معقد وقد أتاحت هذه الوسائل للقطاع الزراعي بأن يزدهر. (خوير: 1990)

أم الجمال كما تبدو من الأفق

شمال المدينة وعلى مجرى وادي اللص اكتشف سدان كبيران مصنوعان من الحجارة البازلتية ولم يكن المستكشفون والرحالة قبل القرن العشرين قد ذكروهما. إن التقنية العالية التي تم بناء السدين بها مثيرة للانتباه حيث أن السد الأول يجمع المياه بينما تندفع نحو السد الثاني الذي يحول ويغير مجراها كي لا تهدر (خوير: 1990)  وفي نهاية وادي اللص أقيم سد ثالث يحجز المياه القادمة من واد آخر يسمى العاقب، عند تقاطع السدين الثاني والثالث اكتشفت منطقة دائرية مكونة من حجارة بازلتية متراكمة تستخدم كمحبس حجري ضخم يتحكم بتصريف المياه المجمعة إلى الأراضي الزراعية داخل المدينة. وعند توسع المدينة لغي السد الثاني واستعيض عنه بالثالث  (خوير: 1990)

بجانب السدود كان هناك قنوات الماء الضخمة فمن السد الثاني تنطلق قناة رئيسة بطول 4 كلم تفرع منها عدة قنوات أخرى. وما يميز هذه القنوات أنها تدخل إلى داخل المباني الأثرية (خوير: 1990) لقد نقل الأردنيون الأنباط خبرتهم في نظام شبكات الري والحصاد المائي في عاصمتهم البترا إلى كانثا. ففي عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع (9-40 ق.م) بلغت المملكة النبطية أشد حالات ازدهارها التجاري والزراعي وأسفر هذا الازدهار عن بناء البركة النبطية (حداد: 1991)

 انتشرت الأحواض المائية والصهاريج (حداد: 1991) إضافة لشبكة قنوات مائية وجدران استنادية علاوة على المجاريش والمطاحن التي استخدمت لطحن الحبوب وإسطبلات الحيوانات التي تدل على كثافة التدجين (الحصان: 1999) والجدير بالذكر بأن الأردنيين الأنباط قد نقلوا التربة الحمراء الخصبة من سهول حوران إلى المدينة (الحصان: 1999) بمعنى آخر لقد استزرعوا الأراضي الأقرب للطبيعة الصحراوية.

صناعة الزجاج

تشتهر مدينة كانثا بالزجاج الذي وجد فيها. لقد بدأت صناعة الزجاج في الشرق الأدنى (الأردن وسوريا وفلسطين) منذ 7 آلاف سنة قبل الميلاد. (مصطفى: 2014) في القرن الأول قبل الميلاد أي في الحقبة الرومانية، تطورت تقنية صناعة الزجاج عبر النفخ وعبر قالب الصب والجدير بالذكر أن صناعة الزجاج بالقالب قد تطورت من سهول حوران الأردنية منذ 1500 عام قبل الميلاد. (مصطفى: 2014)

تتطلب هذه الصناعة حرفية عالية فقد استطاع الأردنيون أن يولدوا حرارة تفوق 1000 درجة تستطيع صهر الرمال والسيليكا لصنع الزجاج كما استطاعوا استخراج مركبات كيميائية معقدة كأكاسيد الحديد والنحاس لصبغ الزجاج وقد وصلوا أيضا لكيفية جعل الزجاج معتما عن طريق خلطه بعدة مواد كيميائية (مصطفى: 2014).

عينات زجاج من مواقع أثرية في أم الجمال. حقوق الصورة محفوظة للباحثة شذى مصطفى

ازدادت أهمية صناعة الزجاج بعدما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية وبعدها البيزنطية. لقد كان الزجاج المصنع في مدن الديكابولس على نمط صناعة الفخار فهو مجوف مزين بزخارف نباتية وحيوانية. بعدما انتشرت الكنائس تعززت هذه الصناعة وانتشرت عن طريق طرق التجارة التي مهد لها ورعاها الأردنيون الغساسنة. لدرجة أن الأباطرة الرومان قد دعوا صناعا محليين من مدن الديكابولس كي يصنعوا الزجاج الملون والمزخرف في الكنائس والقصور الرومانية. (مصطفى: 2014)

ولارتباط هذه الصناعة بشكل أساسي بالكنائس انتشرت زخارف معينة كالحمامة والسفينة (رمز الكنيسة) والصليب والأسماك والأيقونات. (مصطفى: 2014) وتتنوع العينات التي وجدها الباحثون في مواقع مختلفة من كانثا بين الأوعية الزجاجية وزجاجات العطر والكؤوس والنوافذ. والمثير للانتباه مدى التباين اللوني في العينات المكتشفة حيث وجدت بألوان أساسية كالأحمر والأزرق والأصفر وألوان ممزوجة كالأخضر المزرق والفيروزي والبنفسجي محمر وأصفر مخضر وغيرها. (مصطفى: 2014)

الدين

 مرت كانثا حالها حال كل مدن الديكابولس الأردنية بتجربتين دينيتين: الأولى هي الوثنية والثانية هي المسيحية. بكونها واحدة من المدن الأردنية النبطية شاعت عبادة الآلهة النبطية فيها كذو الشرى، أهم إله نبطي. وقد ترك الأردنيون الأنباط لنا من هذه الحقبة معبدا نبطيا جنوب غرب المدينة، وإلى شماله بقايا منازل وجدت فيها نقوش تمجد الإله ذو الشرى “دوشرا” باللغتين اليونانية والنبطية (حداد: 1991) كما وجدت أساسات  وأعمدة لمعبد نبطي آخر شمال شرق المدينة. (حداد: 1991)

واجهة المعبد النبطي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

أما المسيحية فقد بدأت كديانة سرية منذ القرن الأول الميلادي وقد تعرض معتنقوها للكثير من حملات التعذيب والاضطهاد. (حداد: 1991)  قدم الأردن الكثير من الشهداء والقديسين الذين رفضوا الخضوع لجبروت الإمبراطورية الرومانية كالقديسين زينوس وزينان وجراسيموس الأردني وإليان العماني وغيرهم. حتى عام 324م وإعلان الإمبراطور قسطنطين التحول إلى المسيحية، ظلت ديانة مضطهدة ولكنها سرعان ما أمست دافعا نحو تشكيل حضارة وثقافة لا مثيل لها.

جزء من الكاتدرائية وهي أكبر الكنائس في أم الجمال ويلاحظ الصليب المنقوش على العمود

كانت مدن الديكابولس الأردنية حاضنة للمسيحية الأولى، ورغم الخلافات المذهبية التي صعدت إلى السطح في مناطق النفوذ البيزنطي بحلول القرنين الثالث والرابع الميلادي، كان الأردنيون الغساسنة مدافعين شرسين عن معتقداتهم الدينية ومذهبهم المونوفيزي المسيحي الذي تعرض أيضا لاضطهاد الإمبراطورية البيزنطية.

دخلت كانثا النبطية في المسيحية، وقد أسفر هذا عن إنشاء عدد كبير من الكنائس بلغ عدد المكتشف منها 15 كنيسة حتى الآن. وقد جعل هذا بعض الباحثين يرجحون كونها مدينة دينية متكاملة أكثر من كونها مدينة عادية.

الآثار

تتكون المدينة الأثرية كانثا من عدد من المباني التي تعود إلى الحقب الثلاث (النبطية، الرومانية والبيزنطية) والتي تتوزع على مساحة لا تزيد عن 800 دونم. (حداد: 1991) ولا تتبع المدينة التخطيط التقليدي لمدن الديكابولس الأردنية (الشارعان المتقاطعان الكاردو والديكمانوس) وربما يعود هذا للطابع النبطي الأردني المتأصل في المدينة.

قناطر وأقواس أم الجمال

تتميز المباني والمرافق جميعها بعدد من الصفات التي لم يجدها الباحثون في مدن أثرية أخرى، فمثلا تمتاز المنازل والكنائس على احتوائها على مغاسل متصلة بالجدران عند المداخل ( الحصان: 1999) ومن المؤكد أن هذه المغاسل قد اتصلت بشبكات صغيرة متفرعة عن الشبكة الرئيسة في المدينة.

وتدلنا طريقة بناء الجدران والقصارة على ذكاء الإنسان الأردني وعلى تفاعله القوي مع الطبيعة المحيطة به إضافة إلى التطور العالي في تقنيات المعمار. في كانثا، استخدم الحجر البازلتي المحلي والمتوافر بكثرة في المنطقة. أما بناء الجدران فكان عن طريق وضع صفين من الحجارة حيث يكون للجدار وجهان خارجي وداخلي وبينهما فراغ بسيط يتم حشوه بالطين والقطع البازلتية الصغيرة. ينعم الوجه الخارجي من الجدار أي يسنفر. تساعد هذه الطريقة على إبقاء المنزل دافئا شتاء وباردا صيفا (الحصان: 1999)

ومن الأمور التي تثير الانتباه أيضا والتي كشفت عنها التنقيبات الأخيرة هو أن كل الجدارن كان مقصورة من الداخل والخارج. وكان الأردنيون في كانثا قد طوروا طرقا لصبغ القصارة وجعلها كالدهان وكان من الألوان التي اكتشفتها التنقيبات اللونين الأحمر والخمري ويعتقد بأنه اختيار هذين اللونين كان لتمييز المدينة عن بعد. (الحصان: 1999)

 المنازل الأثرية:

في كانثا عدد لا بأس به من البيوت الأثرية التي وجدت في مواقعها الكثير من الجرار الفخارية واللقى الأثرية الأخرى. ومن هذه البيوت استدل الباحثون على كيفية البناء وطريقة القصارة وغيرها.

الكنائس:

بلغ عدد الكنائس في كانثا 15 كنيسة وهو عدد كبير مقارنة بغيرها من المدن. لقد تحولت المدينة النبطية الوثنية إلى المسيحية بشكل كامل وقد اقترح الباحثون أن هذا العدد لا بد أن ينم عن مكانة دينية مرموقة كانت المدينة تمثلها في وقت سابق.

  • كنيسة جوليانوس
  • كنيسة ماسيخوس
  • الكنيسة الشمالية الغربية
  • كنيسة القديسة مريم
  • الكنيسة الشمالية
  • الكنيسة الشمالية الشرقية
  • الكنيسة المزدوجة
  • الكنيسة الجنوبية الشرقية
  • الكنيسة الجنوبية الغربية
  • الكنيسة الغربية
  • كنيسة كلاوديانوس
  • كنيسة نورماريانوس
  • الكتدرائية
  • الدير البيزنطي المتصل بالثكنة العسكرية.
  • الكنيسة خارج الجدار الشرقي
من حملة ترميم سابقة للكاتدرائية

من المميز في كنائس كانثا أنها قد بنيت على نظام الطابقين وقد استدل الباحثون بالحجارة التي تحمل علامات شبائح حجرية تثبت بعضها على بعض. (الحصان: 1999)

يمكن تقسيم كنائس كانثا بحسب موقعها إلى كنائس مستقلة وكنائس ملحقة. ولكن التقسيم الأكثر شيوعا هو التقسيم حسب الطراز المعماري: البازليكا (الكنيسة المستطيلة) وذات القاعة الواحدة. (حداد: 1991)

واجهة الكنيسة الغربية، حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

رغم البحث المكثف الذي خضعت له المدينة الأثرية في كانثا إلا أن 3 فقط من أصل 15 من الكنائس تم تحديد عمرها بدقة: كنيسة جوليانوس م345 والكاتدرائية 557م والكنيسة الشمالية الشرقية 460م. ويرجح أن أغلب الكنائس قد بنيت في الحقبة البيزنطية المتأخرة. و سميت الكنائس وفقا للمعماري  أو القديس الذي وردت اسمه في نقوش الكنيسة وهناك كنائس أخرى لم يتم الكشف عن اسمها فسميت وفقا لموقعها (حداد: 1991)

الاستراحة النبطية:

الاستراحة النبطية أو ما يعرف بالخان وهو مبنى معد لاستقبال التجار المرتحلين مع مرافق كالإسطبلات للخيول والإبل. أثناء التنقيب عثر على عدد من المكتشفات القيمة كالمغسلة البازلتية المغروسة في الجدار والتي تتصل بقناة ماء فخارية داخل الجدار نفسه. وقد عثر فيه على مذبح بازلتي توضع فيه تماثيل الآلهة والتي من المرجح أن يكون ذوالشرى المذكور في نقوش المدينة.(الحصان: 1999)

مقر الحاكم الإداري (البورتوريوم):

بني هذا المبنى في القرن الرابع ليكون مقرا لحاكم المدينة وهو مبنى متكامل وبحالة جيدة حتى اليوم. يتكون من عدة غرف وقاعات يتوسطها قاعة سماوية مسقوفة بالشبائح الحجرية. وللمبنى سور يحيط بع من ثلاث جهات شرقا وجنوبا وغربا. كما عثر على خزان مياه متصل بقناة المياه الرئيسة. وللمبنى ساحة كبيرة استخدمت كإسطبل. ومن المرافق المهمة في هذا المبنى “قاعة العرش” أو “القاعة الأميرية” وهي غرفة واسعة مزينة بالأقواس وبوابتان مميزتان وكانت مخصصة لجلوس الحاكم.  وهناك “الساحة السماوية ذات الأعمدة” هي غرفة لها بوابة جنوبية رئيسية تعلوها طاقة كاشفة للمراقبة في حالة الحرب. أعيد استخدام هذا المبنى في العهد الأموي واستعمل كقصربعد إضافة الحمامات وإعادة رصف الأرض وقصر الجدران وإضفاء بعض الزخارف على المعمار الداخلي (الحصان: 1999)

الخاتمة

 لا تزال كانثا ماثلة أمامنا كواحة سوداء جميلة، رغم تهدم معالم المدينة بفعل العوامل الطبيعية وبفعل الإهمال الذي عانته عقب نقل مركز الدولة العباسية إلى بغداد، فهي لا تزال من أروع المدن الأردنية التي بناها أجدادنا الأنباط وتابع رعايتها الأردنيون الغساسنة.

المراجع

[1]

زينون كان مسئولا عن التجارة في زمن “أبولونيوس”؛ وزير الاقتصاد في عهد بطلميوس الثاني (284-246 ق.م.)

مدن الديكابولس الأردنية: كانثا الواحة السوداء

 

مقدمة

تزخر جراسا جوهرة مدن الديكابولس الأردنية بالكثير من الآثار والتي تدلنا على أهم المظاهر الحضارية. وربما تكون أكثر مدن الديكابولس دراسة وبحثا وقد انصب عليها اهتمام حملات التنقيبات والحفريات. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية سنطلع على أهم معالم الحضارة في جراسا كاقتصادها وتجارتها وآثارها.

الاقتصاد في جراسا

اعتمد اقتصاد مدن الديكابولس الأردنية بشكل عام على الزراعة والصناعات المرتبطة بها تحت مظلة الاقتصاد الزراعي. وأتاحت الطرق التجارية التي استحدثها الأردنيون الغساسنة متفرعة من طريق الحرير القديم على جعل مدن الديكابولس الأردنية مراكز تجارية متخصصة في منتجات مميزة، كزيت الزيتون الذي اشتهرت فيه أبيلا (حرثا) أو تجارة الحيوانات المدجنة الذي اشتهرت فيه بيلا (طبقة فحل). ولكن تمتعت جراسا بمكانة مميزة لكونها تقع في قلب خريطة مدن الديكابولس الأردنية.

العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط

 في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بدأت المملكة الأردنية النبطية بالاتساع  حتى وصلت دمشق، فصارت بوسطرا (بصرى) مدينة نبطية وظلت جراسا (جرش) على مكانتها كمدينة ديكابولس أردنية مرموقة ولكنها تأثرت كثيرا بالثقافة الأردنية النبطية بفعل حركة التجارة العالمية التي قادها أجدادنا الأردنيون الأنباط في العالم القديم عبر ما سمي بطريق الملوك[1] وبالرومانية سمي  “طريق مارس”.

شهدت المملكة الأردنية النبطية في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع 9 ق.م – 41 م أشد حالات اتساع نفوذها السياسي والتجاري. حيث اعتمدت مدينة جراسا على النقد النبطي خصوصا الذي يعود لحقبة الحارث الرابع وقد وحجت الكثير من العملات النقدية خلال حملات التنقيب إضافة للعديد من المنتجات النبطية كالفخار النبطي ونرى أيضا تأثر جراسا بمعتقدات الأنباط الدينية وأنظمة الري والهندسة المعمارية. (شهاب: 1989)

لم يتغير الحال التجاري عندما سقطت المملكة الأردنية النبطية بعد حصار اقتصادي طويل عام 106 ميلادي فقد أعاد الإمبراطور تراجان تقسيم الطرق التجارية وجعل مركزها مدينة جراسا وكانت تابعة إلى ما سمي “الولاية العربية البترائية- بترايا أرابيا” ( العقيلي: 1973)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أما في عهد الأردنيين الغساسنة (القرن 2-6 ميلادي) فقد شهدت مدن الديكابولس نهضة تجارية لا مثيل لها. وصارت المنتجات الزراعية والصناعية الأردنية تجوب أنحاء العالم القديم بفضل الشبكة التجارية المحكمة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة كفروع عن طريق الحرير القديم. إضافة للمراكز التجارية وخطوط الطرق فقد عرف الأردنيون الغساسنة بأنهم حماة القوافل فقد كانت مهمتهم تأمين القوافل التجارية القادمة والذاهبة من مدن الديكابولس الأردنية إلى أنحاء العالم.

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

الزراعة

 تحيط غابات عجلون بمدينة جراسا وقد وصفها العديد من الرحالة كجنة خضراء تحيط بها عيون الماء ويتخللها نهر متدفق لقب “بنهر الذهب” وقد ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأنه متدفق وغزير ويدير عدة طواحين. إضافة للنهر في جراسا عدة ينابيع طبيعية غزيرة كعين القيروان وعين البركتين واستخدمت الأولى للشرب والثانية للري. وقد أسس الأردنيون في جراسا نظاما مائيا يغذي المدينة وكان يستخدم لري كل البساتين حول المركز وقد خلصت دراسة أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1982 إلى مخطط شبكة المياه والري والمجاري.

تتمتع جراسا بتربة خصبة للغاية كحال أغلب مدن الديكابولس الأردنية. وقد عزز توافر المياه والتربة الخصبة إضافة لإتقان الأردنيين لأسس الزراعة وأساليبها على جعل جراسا من أهم المدن الزراعية الأردنية التي تنتشر فيها كروم العنب والزيتون ونستدل على وجود معاصر الزيتون والنبيذ الحجرية المكتملة والتي تعد من المعاصر الأكبر حجما في الأردن.

من بقايا معاصر الزيتون في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

مخطط وبناء المدينة

 يتسم تخطيط مدن الديكابولس الأردنية بالتنظيم وبعناصر أساسية لا غنى عنها في كل مدينة. فلكل مدينة بوابة وسور عظيم وسبيل حوريات ومسارح (مدرجات) وشارعين رئيسين (كاردو) ( وديكيمانوس)، وتتابين التفاصيل الأخرى. ولكن في مدينة جراسا يختلف الأمر قليلا فقد تحكمت العوامل الجغرافية والطبيعية في بناء المدينة وتوسعها وأهم هذه العوامل هو وجود النهر الذي يقطع جراسا إلى جزأين غربي وشرقي وتقع أغلب المدينة الأثرية في الجزء الغربي إلا أن توسعها كان أمرا يتبع للحقبة التي تقع فيها.

مخطط المدينة الأثرية وقوس النصر وملعب الخيل إلى اليسار من المخطط

يمكننا تقسيم الطرز المعمارية وتوسع المدينة بحسب أهم الحقب التي مرت عليها. وسنبدأ من الحقبة البطلمية فكما أسلفنا وقعت جراسا تحت حكم السلالة البطلمية[2] في القرن الثالث قبل الميلاد. وبمقارنة جراسا بأختها فيلادلفيا نجد بعض الفروق في اعتبار جراسا حامية عسكرية بنيت فيها قلعة على الهضبة الغربية الجنوبية حيث يقع المدرج الجنوبي ومعبد زيوس. وتختلف هذه القلعة في تخطيطها عن القلاع العسكرية التي بنيت في فيلادلفيا أو جدارا. وفي تلك الفترة بني للمدينة أيضا سور عظيم فيه أبراج للمراقبة وتتميز هذه الأسوار بأنها تسير بشكل مستقيم ومن ثم تنحرف على شكل زاوية حادة وفي كل زاوية برج مراقبة وللسور بوابة واحدة تقع على الجهة الشرقية.  وتبلغ المساخة الداخلة ضمن هذا السور 147 ألف متر مربع. (شهاب: 1989)

جزء من سور المدينة الأثرية- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

في القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول دخلت المدينة في الحقبة السلوقية  وتمثلت أهم معالمها المعمارية ببناء سور دفاعي بطول خمسة كيلومترات وبعرض مترين لثلاثة أمتار. إضافة لذلك، شهدت هذه الحقبة تطور العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط مما ساهم في تلاقح الأساليب المعمارية وتطويرها؛ فبنيت عدة بوابات للمدينة.  ففي السور الدفاعي أربعة بوابات رئيسة تم تغيير وإعادة بناء بعضها عند دخول المدينة الحقبة الرومانية، إلا أن البوابة الشمالية الغربية التي بنيت  76-75 ميلادي هي البوابة الوحيدة التي لم يتم تغييرها. (شهاب: 1989)

البوابة الشمالية – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

أما البوابات الأخرى فقد تأثرت كما أسلفنا بدخول الحقبة الرومانية في القرن الأول الميلادي. فالبوابة الشمالية قد أعيد بناؤها عام 115 ميلادي وذلك لحل مشكلة تقاطع شارعين رئيسيين الأول هو طريق تراجان القادم من بيلا (طبقة فحل) والثاني شارع الكاردو في المدينة. والبوابة الجنوبية الضخمة التي تتفرد بثلاثة مداخل قد أعيد بناؤها على فترات مختلفة وصولا إلى العصر الإسلامي.

تقع  البوابة الشمالية عند النهاية العليا لشاعر الكاردو  وهي على امتداد طريق بيلا (طبقة فحل) التجاري. فيها ممر واسع به جانبان أضيق قليلا وعلى الممر من الأعلى وجد النقش الذي يؤرخ لسنة إنشائها وهي أعرض قليلا من البوابة الجنوبية التي وجدت في حالة دمار بعد اكتشاف غرفة الحارس. البوابة الجنوبية مشابهة لقوس النصر ولكن أصغر حجما وهي مثله تحوي على أربعة أعمدة. (شهاب: 1989)

زودت البوابات بمداخل من نوعين الأول هو الدرجات للاستخدام البشري والثاني هو المنحدر لاستخدام الحيوانات والعربات. وقد اكتشفت بوابة أخرى من الجهة الشرقية أثناء شق طريق وهي مغلقة بالحجارة ولكنها جعلت الباحثين يعيدون النظر بتخطيط المدينة حيث اقترح بعضهم وجود شارعين آخرين رئيسيين وبهذا تصبح جراسا مدينة الديكابولس المتفردة التي تحوي أربعة شوارع رئيسة تقسم المدينة إلى مستطيلات تتراوح أبعادها بين الخمسين والمائة متر على مساحة خمس دونمات (شهاب: 1989)

المباني الأثرية

 كانت جراسا مدينة شديدة الازدهار وقد تجلى ازدهارها الحضاري بعظمة تخطيطها وبنائها وفي ما يلي أهم آثار المدينة :

قوس النصر 

إن قوس النصر هو أول ما يراه القادم من فيلادلفيا إلى جراسا وهو بناء ضخم وجميل بني على شرف الإمبراطور الروماني أدريان  129-130 ميلادي. .”  ولأنه يشرف على عمان ولأنه بني تخليدا للإمبراطور أدريانوس لقب قوس النصر (بوابة عمان) و(بوابة أدريان).

صورة لقوس أدريان أو بوابة عمان

 ونقش على قوس النصر “تخليدا للإمبراطور ادريانوس، أغسطس، الكاهن الأعظم أبي الوطن، ولسعادة وسلامة أسرته. إنها مدينة أنطاكية الواقعة على سيل كريزوراس، جرش بتوصية من فلافيوس أغربيا تتقدم هذه البوابة مع  تمثال النصر”

 يتكون البناء من مدخل كبير مقوس في الوسط ومدخلان جانبيان وفوق القوس الكبير وضع تمثال الإمبراطور أدريان ممتطيا عربة بأربعة خيول. وفي الواجهة أربعة أعمدة مزدانة بأكاليل الخرشوف والقوسان الصغيران فيهما حنايا لوضع التماثيل. (شهاب: 1989)

ملعب الخيل (هيبودروم)

 يقع ملعب الخيل على يسار قوس النصر ويمتد على شكل مستطيل طوله 160 متر وعرضه 65 متر وكان يحيط بالملعب جدار سمكه 5 متر. من المرجح أن هذا الملعب قد بني في القرن الثاني الميلادي بعد بناء قوس النصر. يعد هذا الملعب مرفقا ترفيهيا مهما حيث كانت تدار فيه ألعاب سباق الخيل والعربات. والجدير بالذكر أنه قد طرأ عليه بعض التغيرات عند الغزو الفارسي 614 ميلادي حيث عثر على ثغرات خاصة بلعبة الصولجان الفارسية. (العقيلي: 1973)

إطلالة على ملعب الخيل

للملعب مدرجات شمالية وغربية للمتفرجين وهي قائمة على أقبية كبيرة تشبه نظام بناء المسارح والمدرجات المغلقة. والأغلب أن هذه الأقبية استخدمت كإسطبلات للخيل. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات

يعد سبيل الحوريات مبناً مشتركاً نجده في كل مدن الديكابولس الأردنية وهو دليل واضح على الرخاء والرفاه الاجتماعي. في جراسا، يتألف السبيل من طابقين وهو عبارة عن هيكل لعذارى الماء (النمفيوم) ويعد حمام جراسا متميزا من ناحية الزخارف والمعمار فتتدفق الماء من أفواه الأسود المنحوتة إلى المصارف تحتها إلى أن يمتلئ الحوض. وسبيل الحوريات مزود بشبكة تصريف مياه متميزة مكونة من قنوات فرعية تصب في أخرى رئيسية وأخرى أكبر تصل مدن الديكابولس الأردنية ببعضها. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات المؤلف من طابقين والمزين بأجمل الزخارف

هيكل أرتميس

 تشتهر أرتميس بكونها آلهة الصيد وآلهة المدينة الأعظم وحاميتها. وبني هيكلها لتكريمها. يقع الهيكل في الجانب الغربي الشمالي من المدينة ويعتبر من أعظم آثار جراسا على الإطلاق. بني الهيكل في منتصف القرن الثاني الميلادي. (العقيلي: 1973)

تبلغ أبعاد الهيكل 40 متر طولا، 22.5 متر عرضا و4.5 ارتفاعا وقد بني على عدد كبير من الأقبية وهو مطل على أغلب المدينة الأثرية وقريب من البوابة الشمالية والبوابة الشمالية الغربية ومن القرب منه بنيت عدة حمامات لا زالت بعض بقاياها موجودة. كان للهيكل حرمة فلا يدخله سوى الكهنة. (العقيلي: 1973)

إطلالة على هيكل أرتميس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

يعد هيكل أرتميس رائعة معمارية قل مثيلها في المدن التي بنيت على الطراز الروماني في العالم أجمع. فهو مبني على طراز الممرات والساحات ويبدأ نظام الممرات شرق سيل جراسا ب300 متر ويشكل الممر شارعا بطول 38.7 متر وعرض 11 متر يتقاطع مع الشارع الرئيسي ويصنع ساحة على شكل شبه منحرف. وللهيكل بوابة عظيمة يبلغ ارتفاع جدارها 14 متر ويمتد لمسافة 120 متر. وإلى الداخل توجد بوابة بديعة ثلاثية مزدانة بالأعمدة والزخارف النباتية وبعد البوابة تأتي الساحة الداخلية تليها عدة درجات ومن ثم الهيكل. يخلّف هذا النظام من تقاطع الممرات والساحات شارعا مقدسا وآخر للاحتفالات ويعد استغلالا رائعا للمساحات بهدف خلق حالة من الشعور بالرهبة والخشوع. (شهاب: 1989)

معبد زيوس

 زيوس هو كبير آلهة الأولمب اليونانية وهو سيد البرق والصواعق ويلقب بأب الآلهة والبشر وانتشرت عبادته في مدن الديكابولس التي خضعت للتأثيرات اليونانية لفترات طويلة.

معبد زيوس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

  يقع معبد (هيكل) زيوس شرقي المسرح الجنوبي وأعمدته متساقطة في نفس الموقع وبعض من جدرانه لا يزال قائما. والمثير في هذا المعبد هو الأقبية الضخمة التي أُنشئت لرفع مستوى ساحة المعبد والتي استخدمت كمخازن للأدوات. (العقيلي: 1973)

وقد ذكر المسؤول عن حملة تنقيبات البعثة الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي الباحث “جاك سين” أن أبرز ما اكتشفته البعثة هو أن بناء المعبد قد تم على يد وتحت إشراف واحد من أبناء جراسا بالاعتماد على الكتابة اليونانية التي وجدت في ساحة المعبد. (شهاب: 1989)

الساحة (الفورم)

تقع الساحة البيضاوية في مكان منخفض بين الهضبتين الشرقية والجنوبية الغربية وهي من أكثر المعالم الأثرية شهرة. تبلغ  أبعادها 80 × 90 مترا وهي مبلطة بالحجر الكلسي الأملس ويحيط بها 55 عمود. أما من ناحية تخطيط المدينة فهي تقع في نهاية الشارع الرئيسي في الجهة الجنوبية من المدينة الأثرية. (شهاب: 1989)

الساحة البيضاوية المحاطة بالأعمدة

يطلق عليها عدة أسماء (الفورم) باليونانية وساحة الندوة حيث كانت ملتقى اجتماعي وثقافي وسياسي. وهي تشهد على ازدهار جراسا في القرن الأول الميلادي. (شهاب: 1989) وفي الذاكرة الشعبية كانت تلقب الساحة “السحاجّة” للاعتقاد السائد بأن الله أنزل غضبه على أهل المدينة عندما كانوا يعدون لسهرة “الدحية والسحجة” فحولهم لأعمدة.

 شوارع الأعمدة

شارع الديكمانوس الفرعي والذي يتقاطع مع الكاردو

من الساحة البيضاوية  باستقامة حتى البوابة الشمالية، يبلغ طول الشارع الرئيس 600 متر وهو شارع مزدان بالأعمدة على جانبيه ( العقيلي: 1973) وتختلف الأعمدة في طرازها فمن الجانب الشمالي هي على الطراز الأيوني الذي يتميز بصغر قطر العمود نسبيا وتاجه البسيط أما من الجانب الجنوبي فتتبع الأعمدة الطراز الكورنثي وهي أعمدة بتاج مزخرف بزخارف نباتية وورود.  في شارع الكاردو قرابة الألف عمود ومن هنا أخذت جراسا لقبها “مدينة الألف عمود”

تصميم العمود الأيوني حيث يكون رفيعا وبنهاية ملتفة
نهاية العمود الكورنثي المزين بالزخارف النباتية

يتقاطع الشارع الرئيسي بشارعين متقاطعين آخرين. لا زال الشارع الفرعي الممتد من الشرق إلى الغرب ظاهرا بينما اختفت آثار الشارع  الفرعي الجنوبي. ومن المثير أن نجد في هذه الطرق آثار باقية للعربات وقنوات تجميع وتصريف المياه. ( العقيلي: 1973)

شارع الألف عمود

 

عمارة الكنائس

كما ناقشنا في البحث الأول عن مدينة جراسا ازدهرت المسيحية في  المدينة ولقت فيها تربة روحية خصبة وقد أسفر هذا عن إبداع غير مسبوق في مجال عمران الكنائس. حتى الآن، اكتشفت 15 كنيسة مسجلة ولكن الباحثين يرجحون أن المدينة حوت عددا أكبر وربما يكون هنالك المزيد من الكنائس المطمورة تحت الأنقاض.

 تتسم عمارة الكنائس بطابع جمالي يؤرخ لحقبة كان فيها الإنسان الأردني على قدر عال من الإبداع. أغلب الكنائس في جراسا تتبع طراز البازليكا أي الكنيسة المستطيلة وغالبا ما ترصف بالفسيفساء الجميلة الملونة والمزدانة بالزخارف النباتية والحيوانية إضافة إلى  الأعمدة والنوافير والغرف المرفقة. ( العقيلي: 1973)

من الزخارف النباتية على الجدران

وفي الحقيقة،  تمثلت الحركة العمرانية في جراسا بل في مدن الديكابولس الأردنية ببناء الكنائس ذات الطراز المعماري المميز. ونذكر من هذه الكنائس كنيسة القديس ثيودور التي تقع بجانب البركة المقدسة وكنيسة يوحنا وكنيسة القديس جورج وكنيسة الشهيدان قزمان ودميان (كوزموس ودميانوس) وكنيسة القديسين بطرس وبولس وآخر ما بني من الكنائس كانت كنيسة المطران جينيسوس. ( العقيلي: 1973) وهناك أيضا كنيسة الرسل والشهداء والكنيسة ذات الرواق وكنيسة بروكوبيوس وكنيسة إلياس وماري وسورح إضافة لكنيس يهودي حول إلى كنيسة عام 531 ميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة الكاتدرائية إحدى أقدم الكنائس في مدن الديكابولس

من الجدير بالذكر أنه في القرون الميلادية الأولى وخصوصا بعدما اعتنق الإمبراطور أوغسطين  المسيحية وأعلن أن دين الإمبراطورية هو الدين المسيحي بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناق المسيحية وتحولت المسيحية من دين جديد مضطهد إلى دين الأغلبية وقضت الحاجة بتحويل المعابد الوثنية إلى كنائس. ففي فيلادلفيا (عمان) حُول هيكل فينوس إلى كنيسة وكذلك كان الحال في جراسا حيث تحول معبد ديونيسيوس إله الخمر إلى كاتدرائية وأقام الأردنيون بجانبه معبدا لمريم العذراء والملاكيين جبرائيل وميكائيل ويصعب تحديد عمر الكنيسة ولكن يرجح المؤرخون أنها لا تتعدى القرن الرابع الميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة القديس ثيودور واحدة من الكنائس المهمة في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

عمارة المسارح

 عاشت مدن الديكابولس الأردنية رفاهاً ورخاءً اقتصاديا واجتماعيا، وتساعدنا الآثار التي وجدت في مدن الديكابولس على اكتشاف ماهية معالم الحضارة الأردنية. تنتشر المسارح التي بنيت في الحقبة الكلاسيكية في الأردن وقد بلغ عددها 13 مسرحا 3 منها في جراسا: المسرح الجنوبي، والمسرح الشمالي، ومسرح البركتين. (العقيلي: 1973)

يشيع استخدام لفظة “مدرج” بدلا من المسرح، ولكن المدرج في الحقيقة جزء من المسرح. تبدو المسارح متشابهة في مدن الديكابولس الأردنية ولكن مع بعض التدقيق تظهر لنا اختلافات جوهرية فالمسارح التي بنيت في الحقبة اليونانية تكون مفتوحة السقف ولكن تلك التي بنيت في الحقبة الرومانية والبيزنطية تكون مغلقة بسقف خشبي أو واق من الشمس وهي معدة لتمثيل المسرحيات لا للمصارعة مع الحيوانات. (العقيلي: 1973)

كانت المسارح تبنى على سفوح الجبال أو تقتطع من الجبال وذلك لتجنب حوادث الانهيارات كحادثة انهيار المسرح الخشبي في أثينا 500 ق.م. ومن ثم تطور أسلوب البناء ليصبح البناء على “حجر الزاوية” وهو نمط معماري يقوم على تأسيس نظام من الأقبية والعقود لتتحمل مباني قد يصل ارتفاعها لأربعة طوابق. ويشمل هذا البناء على مداخل داخلية لممثلين وخشبة مسرح ومكان مخصص لأوركسترا ونوافير جانبية لتلطيف الجو أثناء العرض المسرحي. (العقيلي: 1973)

المسرح الجنوبي أكبر المسارح التي بنيت في مدن الديكابولس الأردنية

وبالعودة إلى مسارح جرش الثلاثة، بني المسرح الجنوبي وهو أكبر المسارح في الأردن في القرن الأول ميلادي  وتحديدا 81-98 ميلادي في عهد الإمبراطور روميتان ويؤكد هذا كتابة يونانية طويلة على الصف الأول وهي تؤرخ لتقديم ضابط نبطي تمثالا للنصر عقب الثورة على اليهود عام 70 ميلادي ويبلغ ثمن هذا التمثال ثلاثة آلاف دراخما. ويقع  المسرح قرب معبد زيوس. (العقيلي: 1973)

المسرح الشمالي

أما مسرح البركتين فهو يقع قرب البركتين على بعد 1200 متر شمال البوابة الشمالية. والبركتين عبارة عن نبع ماء غزير يسقي البساتين المحيطة وسمي بالبركتين لأنه يتكون من حوضين. اكتشف هذا المسرح المستكشف الألماني شوماخر. واكتشف بعض النقوش التي تعود للقرن السادس الميلادي أن احتفالا وثنيا يسمى “عيد ماء يوماس” كان يقام في هذا المسرح وكان المسيحيون لا يتقبلون هذا النوع من الأعياد ورغم ذلك ظل هذا العيد حتى وقت متأخر كالقرن السادس الميلادي. (العقيلي: 1973)

حوض البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود
المسرح الاحتفالي في موقع البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

المدافن واللقى الأثرية

خلال عمليات التنقيب التي أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1985 اكتشفت العديد من الآثار التي تعود للحقب المتعددة التي مرت على المدينة. فقد اكتشف مدفن على الطراز الروماني يقع غرب البوابة الشمالية خارج سور المدينة. وهو مبني من الحجارة على طراز القناطر ويؤرخ للقرن الثاني الميلادي. (شهاب: 1989)

وكشفت تنقيبات عام 1984 عن غرفة ويتوسطها تماثيل بشرية رخامية بأسماء يونانية ويقع هذا الموقع شرقي المدينة الأثرية. كما اكتشف مفتش آثار جرش لعام 1967 السيد سليمان دعنه فسيفساء في استراحة جرش. وقادته الصدفة لاكتشاف غرف متعددة  مرصوفة بالفسيفساء الجميلة ولها أقواس وقناطر. أسفرت  التنقيبات عن العديد من اللقى الأثرية كسراج فخاري مميز عليه رسوم لأسماك وصليب وتدل الأسماك على فكرة “المسيح ابن الله” وهي رمز كان يستخدمه المسيحيون الأوائل  زمن اضطهاد الأباطرة الرومان لمعتنقي الديانة المسيحية وقد استمر استخدام هذا الرمز حتى يومنا هذا.

إطلالة على المدينة الأثرية

 ووجد فنجان وعدة عملات  ورأس تمثال وقبر مرسوم عليه بالدهان الأحمر صليب وقد أرخ الموقع لنهاية القرن الرابع 396 ميلادي. أسفرت التنقيبات الكشف عن قناة خاصة للمياه في هذه الغرف ومكان مخصص لوضع العلف للدواب وجداران مكتوب عليهما (أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا رسول الله)  ويدل هذا على استمرار استخدام هذه المساكن والمدافن في العصور الإسلامية.  (شهاب: 1989)

تتوالى المفاجآت الأثرية في جراسا حيث اكتشفت بقرب مخيم سوف كنيسة بيزنطية مزدانة برسوم نباتية وحيوانية ونقوش يونانية. إضافة لاكتشاف العديد من المنازل التي تعود للعصور الإسلامية واكتشاف شوارع داخلية فرعية بطول ستة أمتار ونصف وعلى جانبيها بقايا منازل تحوي الكثير من الخزفيات والفخار والعملات. إضافة لاكتشاف واجهة لمبنى ضخم يبلغ عرضه خمسين مترا ويقع خلف الشارع المعمد في منتصف المسافة الواقعة بين المصلبة الجنوبية والساحة  البيضاوية المعمدة. على جانبي المبنى شارعان بعرض ستة أمتار ونصف. واكتشفت أرضية فسيفسائية هندسية بجانب هذا المبنى أيضا. (شهاب: 1989)

صورة جوية لواحد من مواقع المدافن المكتشفة. حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

وأثناء عملية شق شبكة الصرف الصحي في جرش عام 1981 اكتشف أيضا مدفن  يحوي حجرتان  في كل حجرة ثلاثة نواويس (توابيت حجرية) وفي الغرفة الثانية عامودين عند المدخل وحجر لعصر الزيتون في المنتصف حيث يرجح استخدام الحجر كمعصرة قبل تحويلها إلى مدفن. والمدفن مرصوف بالحجارة الكلسية والتوابيت لها شناكل حديدية عبث بها من قبل اللصوص فكانت مفتوحة. واحتوى كل تابوت على عدة هياكل وعملة برونزية تعود لأوائل القرن الرابع ميلادي. عثر في هذا المدفن على عدد كبير من اللقى الأثرية كمعطرة زجاجية وفخاريات ملونة بالأحمر والوردي وجرار للخمر وسرج فخارية.

اكتشف أيضا مدفن روماني عام 1985 شرق قوس النصر ووجدت فيه هياكل عظمية لإناث وطفلة صغيرة ووجدت في التوابيت عدة حلي ذهبية وجرار فخارية للخمر والحبوب وأخرى زجاجية ويعود المدفن للقرن الثاني الميلادي. واكتشف في نفس العام مدفن جماعي يعود للقرنين الأول والثاني الميلادي بجثث مدفونة بالأرض دون توابيت إضافة لعدد من الجرار الفخارية والزجاجية.

الخاتمة

  استعرضنا في الجزء الثاني من بحثنا عن جراسا اقتصادها ومعمارها الذي يعد الأكثر تميزا من بين مدن الديكابولس الأردنية. تستقطب جراسا ملايين السياح سنويا، راغبين بالاستمتاع بالحضارة الأردنية.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • مجلي،عبد المجيد (1982) نظام المياه والمجاري في مدينة جرش الكلاسيكية، حوليات دائرة الآثار الأردنية

[1] طريق الملوك أو الطريق السلطاني كما كان يسمى في العصور الإسلامية ظل مستخدما حتى نهايات الاحتلال العثماني وكان يربط العقبة بروما.

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية – الجزء الثاني

مقدمة

يعتبر العرس الأردني فرصة اجتماعية يتم استغلالها بأقصى ما يمكن لاستعراض وإعادة انتاج وتوريث العديد من العادات والتقاليد، وترسيخ الكثير من القيم المجتمعية التي توارثتها الأجيال على مر السنوات الطويلة، من الشخوص وأدوارهم التي يقومون بها خلال أيام العرس، مرورًا بالطقوس والإجراءات وكيفية تنفيذها، وصولاً إلى مظاهر الفرح التي يعبّر عنها الأردنيون بالكثير من الألوان الغنائية والرقصات المتنوّعة والمختلفة، ولا يوجد قالب غنائي معين للعرس الأردني، فقد جرت العادة أن تُغنّى مختلف الألوان الغنائية في الأعراس، كلٌّ بحسب منطقته.

ويمتاز العرس الأردني بتسلسل مراحله وامتدادها على أكثر من يوم واحد، لتصل مراسم العرس في بعض الاحيان إلى “سبعة أيام بلياليها”، ولكل يومٍ تحضيرات خاصّة، ومراسم خاصّة، ولكل من هذه التحضيرات والمراسم أغانٍ معيّنة، نستعرضها في هذا البحث بحسب موقعها من مراحل العرس.

تراويد وأغاني الحنا والفاردة

تنتشر طقوس الحنا في مختلف مناطق الأردن، وتمتاز بعض المناطق بطقوس الحنا للعريس أيضًا وليس فقط للعروس، وليلة الحنا هي الليلة التي تسبق الزفاف، وظلت هذه الليلة متواجدة في العرس الأردني حتى هذه الأيام وإن أخذت أسماء أخرى مثل “سهرة الوداع، سهرة الشباب”، فعلى الرغم من قلة استخدام الحنا في هذه الليلة حديثًا، إلا أنها احتفظت بطابعها الوداعي، بصفتها الليلة الاخيرة التي يقضي فيها العرسان آخر أوقات العزوبية في بيت العائلة.

لم تكن تجري مراسم تحناية العروس في بيت أهلها، بل في بيت أحد الأعمام أو الأخوال، وذلك تمهيدًا أو محاكاةً لخروجها من بيتها إلى بيت الزوجيّة. وتسمّى النساء المشاركات في ليلة الحنّا : الحنّايات، ولهن تراويد مشهورة يقلنها في أثناء سيرهن إلى البيت الذي ستجري فيه مراسم الحنا :

واحنا مشينا ليلتين وليلة .. واحنا خذينا من كبار العيلة

يارب يسلم من تريده عيني .. علي ومحمد يسلموا الاثنين

وأيضًا الترويدة الشهيرة التي تقال في هذه المناسبة وأيضًا في الفاردة :

يا بيي فلان وسّع الميدان .. والعز لك والفرح للصبيان

يا بيي فلان وكثّر الترحيبي .. واحنا البنات ما بينا الغريبة

وافرم اللحم واذبح الشاتين .. وفلان هدّى ع النسب الزّين

شاة النذل تمشي على رجليها .. شاة أبو فلان مقصّعات ايديها

يا بيي فلان يا ذهب ع صدري .. ذابح خروفه والنذل ما يدري

ويوجد لهذه الترويدة نسخة أخرى وهي الأكثر شهرة :

فرّش الديوان يا بيي فلان وفرّش الديوان

والفرحة للصبيان والعز لك والفرحة للصبيان

قهوتك عسلية يا بيي فلان قهوتك عسلية

دقة الصبحية رطلين الشامي دقة الصبحية

من طليت أشوفه بيتك يا فلان ومن طليت أشوف

والشباب تحوفه عمدانه صنوبر والشباب تحوف

نازلين الدرب هلك يا فلانة نازلين الدرب

يشلعون القلب اهل الصهاوي يشلعون القلب

صفلنا الكراسي يا بيي فلان صفلنا الكراسي

رافعات الراسي جنك الصبايا رافعات الراسي

وتقال التراويد السابقة في الفاردة أيضًا وليس فقط في مشوار الحنايات إلى ليلة الحنا، ويُطلق على مَن تغني هذه الأغاني “روّادة”، وتُسمّى أيضًا بالـ “فرّادة” وهو الفعل الذي تقوم به في المسير إلى بيت العروس لحنّاها أو لزفافها المُسمّى “فاردة” أو “تفورد”، وتغنيها النساء من طرف أهل العريس لأهل العروس الذين يستقبلون الفرّادات بالزغاريد والبارود، وتوزيع صرر الحناء على الجارات والقريبات والصديقات ممن حضرن اللحظة، وتتم دعوة كل من تصلها صرّة الحنّا للعشاء بالغناء :

فرّقوا حنّاها تحت الدوالي فرّقوا حنّاها

وابعدوا مشحاها يا بي فلانة وابعدوا مشحاها

وبعد العشاء يأتي دور الحنا، على وقع التراويد وأشهرها :

لمّي يا لمّي وحوشيلي مخدّاتي

طلعت من البيت وما ودعت خيّاتي

لمّي يا لمّي وحوشيلي قراميلي

طلعت من البيت وما ودّعت أنا جيلي

وهي من التراويد الحزينة التي تحمل العروس على البكاء واستحضار مشاعر الشوق المحتملة لأهلها خصوصًا بعد استشعارها لحقيقة لحظة مفارقة بيت أهلها الذي كبرت وترعرعت به. ومن تراويد ليلة الحنا أيضًا ما قد تروّد به إحدى النساء من أهل العروس معاتبة :

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم ذمة

وش هو الـ عماكو عن ابن الخال والعمّة

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم خاطر

وش هو الـ عماكو عن ابن العم هالشاطر

وهناك ما تروّده النساء بما يملأ القلب حسرة وألمًا، إذا ما شعرت الروادة أن العروس مقبلةٌ على عريس لا تريده :

يا حسرتي يا رويدة بختنا قصّر

والنذل ما نوخذ وع السبع نتحسّر

والبارحة يا رويدتي كنت أنا وانتي

والفلفك بحضني وانتحب وابكي

والبارحة يا رويدتي كنا بالحارة

واسمع حنينك مع العصفورة طيارة

ومن التراويد التي تعاتب بها العروس أهلها وأباها وتتمنى بقاءها في بيته حتى وان كانت سعيدة بزواجها :

ياريت ابوي يحلف عليّ الليلة

وانا العزيزة انام بين العيلة

ياريت ابوي يحلف عليّ أباتي

وانا العزيزة انام بين خيّاتي

قولوا لأبوي الله يخلي أخوتي

استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

وتغني بعض العرائس تراويد تعني استعجالها للخروج من بيت اهلها، وشوقها للحظة لقاء عريسها، ومن مثل هذا :

يا حنا ما اريدك تعقد على أديّا

غير تا ييجي فلان ويعطف عليّا

يا حنّا ما ريدك تعقد على راسي

غير تا ييجي فلان واعرف خلاصي

وفيما يلي نماذج مختلفة جُمعت من مناطق عديدة للتراويد التي تقال للعروس أو على لسان العروس، سواء في الفاردات أو في ليلة الحنا :

واتحملونا يا الاهل هالليلة

وبعد سويعة وبخاطرك يا ميمة

واتحملونا يا الاهل ثلاث ساعات

وبعدها بخاطركن يا خيّات

يا ليلة الحنا متى تنقضي

وارمي ثويباتي ع دار اهلي

يا ليلة الحنا متى تكملي

واشلح ثويب امي وابوي واخوتي

يا هلي ظللوني عند القايلة

وان عطيتوني لشويقي ماني سايلة

يا منقشة بالحنا والحنا ع دياتك

والليلة باتي عنا وبكرا عند حماتك

يا منقشة بالحنا والحنا ع قميصك

والليلة باتي عنا وبكرا عند عريسك

لا تطلعي ع الدرج ترى الدرج عالي

لا تنزلي للعزب ترى العزب غالي

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة السكر

لا تأمني للعزب ترى العزب يسكر

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة القهوة

لا تأمني للعزب ترى العزب يهوى

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحليب

لا تأمني للعزب ترى العزب غريب

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة المشمش

لا تأمني للعزب ترى العزب يكمش

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة التفاح

لا تأمني للعزب ترى العزب بوّاح

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحنّا

لا تأمنّي للعزب ترى العزب يهنا

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الراحة

لا تزعلي ع العزب ترى العزب راحة

زفاف العروس

في اليوم التالي لليلة الحنّا، تقوم النسوة بتجهيز العروس وتجميلها بالملابس والحِلي والمجوهرات، بعد غسل شعرها وتمشيطه وتجديله، جدلتين على الأغلب، وفي هذه الأثناء تكون الفاردة التي يسير بها أهل العريس متجهين لمقر إقامة العروس، تسير على وقع غناء الحدا، وعند وصولها يستأذن كبير الجاهة أو الفاردة من والد العروس، وعند إجابته الطلب تنطلق حناجر النساء من أهل العروس بالزغاريد والأغاني التي تعلن بداية لحظة زفاف العروس لعريسها، ومن هذه الأغاني ما يوجد فيها مفردات تدل على استخدامها حتى نهايات القرن العشرين :

قومي اركبي ع المهر يا شجيرة الحنّا .. عريسك مثل القمر بالبيت يتسنّى

قومي اركبي ع الفرس يا شمس الملاحي .. أهلك عليكي حرس بسيوف ورماحي

قومي اركبي يا “فلانة” تمامك عادي .. شعرك رطايب رابي ع شط هالوادي

قومي اركبي يا “فلانة” والتكسي ع باب الدار .. بيك أبو فلان وبرطيله زنّار

**

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا أم الاسوارة

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات الحارة

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا ام الحلق

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات البلد

وتشارك النسوة من أهل العريس بالغناء وبالذات المهاهاة، مطلقات المدائح الوصفية على شرف أهل العروس :

يخلف على “بو فلان” يخلف عليه خلفتين .. طلبناه النسب واعطانا بناته الثنتين

قومي اطلعي قومي اطلعي من دارك .. واحنا حطينا هدوم أبوكي وخالِك

قومي اطلعي قومي اطلعي ولا يهمّك .. واحنا حطينا هدوم خوالك وعمّك

وعند خروج العروس يُقال :

مشّوها ع مهلها .. عزيزة ع أهلها

وعلى مهلها مشّوها .. عزيزة على أبوها

مشّوها براحتها .. عزيزة ع أخوتها

ولمواساة والدها الذي يكون متأثّرًا في الغالب لخروج ابنته من بيته، كما هو معروف عن الآباء الأردنيين شدّة تعلّقهم ببناتهم، فإن النساء تغني له الأغنية التالية وهي من مشتقات لحن “وسّع الميدان” :

لا تنام غضبان يا بيّ فلان لا تنام غضبان

فزعتك صبيان والحمدلله فزعتك صبيان

يا ولد نخيتك واعلى بظهرها يا ولد نخيت

يا كريم ببيتك والشيخة لك يا كريم ببيت

وقد تغني النساء في الفاردة على لسان العروس في حال كانت غريبة ولم تتزوج من نفس القرية أو العشيرة :

قولوا لبوي الله يخلّي ولاده .. استعجل عليّ وطلّعني من بلاده

قولوا لبوي الله يخلي اخوتي .. استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

ومن جملة ما تغنيه النساء عمومًا في الفاردة التي ركبت بها العروس :

واحنا مشينا ليلتين بيوم .. واحنا خذينا من كبار القوم

علّية أبو فلان بالثريا دومي .. فراشة قطايف والبسط مرقوم

يا بيي فلان شنشل الدبّوس .. خش المحاكم واطلِع المحبوس

وأيضًا :

ومن وادي لوادي واحنا مشينا من وادي لوادي

بنات الاجواد واحنا خذينا بنات الاجواد

من حارة لحارة واحنا مشينا من حارة لحارة

بنات الأمارة واحنا خذينا بنات الأمارة

من صيرة لصيرة واحنا مشينا من صيرة لصيرة

والبنت الأصيلة احنا خذينا البنت الأصيلة

ومن الصبح للعصر احنا مشينا من الصبح للعصر

طيّبات الأصل احنا خذينا طيّبات الأصل

وأيضًا :

حنا نوينا واتكلنا على الله .. يارب تسلم من قصد باب الله

يا خظر الأخظر وافتح البوّابة .. “فلان” دخيل ع النبي وصحابه

وعند وصول العروس لبيت العريس تقول النساء :

خش الفرح دارنا يا مين يهنينا .. واللي فرح لينا يجي ويهنينا

واللي فرح لينا يجي لنص الدار .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا مشوار

واللي فرح لينا يجي لنص البيت .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا هنّيت

حمام العريس وزفّته

كان الأردنيون في السابق يأخذون العريس إلى أحد عيون الماء أو الغدران التي في الجوار، للقيام بطقوس حمام العريس وإلباسه الملابس الجديدة الخاصة بالزفاف والعودة به إلى مقر الفرح حيث تكون مجموعة من النساء تنتظر موكب حمام العريس وتستقبله بالأهازيج والأغاني التي منها :

يا نويعمة الريّانة يا نويعمة الريّانة “فلان” عريس وميمته فرحانة

قولولها لام العريس قولولها ترى العريس بالحمام عريان

وديتله ميتين بدلة مخيطة يلبس ويلبِّس من حدا عريان

قولولها لأم العريس قولولها ترى العريس بالحمام حفيان

وديتله ثمان كنادر مبنّدة يلبس ويلبِّس من حدا حفيان

وأيضًا:

بالورق يا ناشد لف الحلاوة بالورق يا ناشد

للعدا جاهد واحنا انتصرنا للعدا جاهد

بالورق يا توفي لف الحلاوة بالورق يا توفي

والعدو يشوفي واحنا انتصرنا والعدو يشوفي

بالورق يا ملبّس لف الحلاوة بالورق يا ملبّس

والعدو يتيبّس واحنا انتصرنا والعدو يتيبّس

أما الأغاني التي يغنيها الشباب للعريس فمنها :

طلع الزين من الحمام الله واسم الله عليه

مبارك حمام العريس بهالساعة الرحمانية

ان شاء الله تسلم وتدوم وانت ميّة عينيّا

وانت الملك يا عريس واحنا عندك رعيّة

طلع طلع هالعريس حلو وملبّس تلبيس

زغرتي يا ام العريس جبنالك ذهب بالكيس

جبنا الورد غمار غمار ونثرناه بقاع الدار

يا ما شاء الله على طوله طوله يا مطرق ريحان

يا ما شاء الله على عيونه عيونه يا وسع الفنجان

يا ما شاء الله على سنونه سنونه يا حب الرّمان

يا ما شاء الله على جبينه جبينه يا كهرب عمّان

شطبنا اسم العريس من دفتر العزوبية

ومن أغاني النساء في هذه اللحظات :

يا راشق حنّا على عروق الشجر .. والحمدلله توّه قليبي انجبر

بالله اطلعوا “فلان” وبارونه .. يا كحل عينه من بغداد يشرونه

وفي هذه الأثناء يكون العريس قد خرج من الحمام وفي طريقه إلى إحدى الأماكن المتعارف عليها في البلدة كالمقامات المباركة أو إحدى الأشجار الشهيرة أو في ساحة معيّنة، وتتبرّع إحدى قريباته برش الملح وحبات الملبّس والتوفي وأحياناً النقود المعدنية، خوفًا عليه من عيون الحاسدين، وتسير وراءه مجموعة من النساء تعلو حناجرهن بالأغاني التي من أشهرها :

وين أزفّك وين “فلان” يا عريس .. قاعد بالحمام تلبس بالقميص

وين أزفّك وين “فلان” يا مدلّل .. قاعد بالحمام والشّعر مبلّل

وين أزفك وين يابو عيون السّود .. ع الخظر الاخظر والنبي داوود

ويغني الرجال في زفة العريس من ألوان الحداء الأردني :

حنا رجال الحرايب ضرب الموازر يلبق لنا

يا طير يلّي بالسما بلّغ سلامي لاهلنا

واحنا ان نوينا ع الحرب بالسيف ناخذ ثارنا

دارٍ دعتنا للفرح واجب علينا نزورها

ومن أغاني زفّة العريس الشهيرة التي يغنيها الرجال :

تلولحي يا دالية يا ام غصون العالية .. تلولحي عرضين وطول تلولحي ما اقدر أطول

تلولحي ع دارنا وعلى دار جارنا .. يا ام ثويبٍ طرّزتيه وحطيتي البلاوي فيه

يا ام ثويبٍ زم بزم زمّيني وانا بنزم .. هون واربط باب الحوش بيضا والفستان كلوش

شامم ريحة حندقوق وشلعت قلبي هاللي فوق .. شامم ريحة زنزلخت واخذت عقلي هاللي تحت

وتغني النساء للعريس أيضًا :

غنن لفلان يا بنات خالاته .. زفن فلان وخيّطن بدلاته

غنن لفلان يا قرابة أمه .. زفّن فلان والورد ع كمّه

وأيضًا :

طلوا النشامى من ورا التلّين .. كلهم نشامى مبرشمين الخيلِ

يا فرحتي وان كان فلان معهم .. وان كان فلان قايد الصفّين

طلّي يا فلانة من العلالي وزغردي .. وقولي هظول اخواني واهلي وعزوتي

أغاني الصمدة

عند وصول موكب الزفاف إلى موقع الاحتفال، الذي تقول الأسطورة أنه كلما توقف الموكب مرات متكررة يكون ذلك فال خير يتعلق بعدد مرّات الإنجاب، وتجلس العروس على المصمد (اللوج لاحقًا) الذي يكون مرتفعًا ليراها الجميع ولا يتسع إلا للعروسين. وتختلف أغاني الصمدة عن بقية أغاني العرس حيث يرافقها الإيقاعات على الطبلة “الدربكّة” والدفوف وغيرها من أدوات الايقاع، ذلك لسهولة استخدامها في مكان مغلق، بعكس أغاني الزفة والحنا التي يكون فيها الجهد مركّز على شؤون أخرى، ومن أغاني الصمدة :

جينا نهني ونغني عشان أمه .. ورشينا العطر الغالي على كمّه

جينا نغني ونهنّي عشان أخته .. ورشينا العطر الغالي على تخته

“فلان” حقه علينا علينا .. “فلان” ما هو غريب منّا وفينا

“فلان” حقّه عليكِ يا ام سوارة .. “فلان” ما هو غريب ابن الأمارة

**

ع عرق الدالية ترعى بغنمها ع عرق الدالية ع العالي يلا

حلوة وغالية عروسك “يا فلان” حلوة وغالية قولوا ما شاء الله

ع عرق التفاحة ترعى بغنمها ع عرق التفاحة ع العالي يلا

حلوة وفلاحة عروسك “يا فلان” حلوة وفلاحة قولوا ما شاء الله

ع عرق البندورة ترعى بغنمها ع عرق البندورة ع العالي يلا

حلوة وغندورة عروسك “يا فلان” حلوة وغندورة قولوا ما شاء الله

**

مية اسم الله يا عروس مية اسم الله

عريسك قمر وسلافك ما شاء الله

مية اسم الله يا عروس يا ام سوارة

عريسك قمر وسلافك أمارة

مية اسم الله يا عروس يا ام الخاتم

عريسك جدع وسلافك أوادم

**

غنن له يا بنات عمّه .. يا “فلان” ترى زال همّه

غنن له يا بنات الناس .. يا “فلان” ترى رافع الناس

غنن له يا بنات أخته .. يا “فلان” ترى اليوم بخته

**

بالورد والحنا رشوا العرايس بالورد والحنا .. توخذ وتتهنا يا شب “فلان” توخذ وتتهنّا

بالورد والهيلِ رشوا العرايس بالورد والهيلِ .. من كبار العيلة واحنا خذينا من كبار العيلة

بالورد والزعتر رشوا العرايس بالورد والزعتر .. يطلب يتأمر قولوا “لفلان” يطلب ويتأمّر

بالورد والريحة رشوا العرايس بالورد والريحة .. وأخذ المليحة يا شب “فلان” وأخذ المليحة

أغاني يوم الِقِرى

الِقِرى هو اسم الطعام الذي يقدّمه العريس للمعازيم الذين يحضرون الفرح، وهو بطبيعة الحال طبق المنسف الأصيل الذي يقدّمه الأردنيون في مختلف مناسباتهم، وتعكس مكوّناته الكثير من القيم الغذائية والاجتماعية. وتكون وجائب الضيافة عملاً جماعيًا يسمّيه الأردنيون بالـ “عونة” أو “الفزعة”، إذ يهب الجميع لمساعدة أهل المناسبة بتأدية واجب الضيافة للضيوف، وهي من الأدوار المقدّسة التي لا يرغب أي أردني بتأديتها على غير صفة الكمال والدقّة والمبالغة في بعض الأحيان. وتعكس بعض أغاني يوم الِقِرى قيم العونة والفزعة الجماعية :

يا مين يعاونّا ويا مين يعينّا

ع جر المناسف يا مين يعينّا

يا مين يردّ الحمل لا صار مايل

وفلان يردّ الحمل لا صار مايل

**

ذبحنا الذبايح ع المرج الاخضر .. واللي مكذّبنا يجي اليوم يحضر

**

يا علا واطلع المنسف مليان .. يا علا رز ولحم خرفان

والمنسف يدرج يدرج على الطار .. منسف أبو فلان صدّر الخطّار

والمنسف يدرج يدرج على هونه .. منسف ابو فلان خيّر يذكرونه

وفيما يلي مجموعة مختارة من أغاني العرس الأردني، قام الفنان الأردني عمر العبدللات بإعادة أدائها حديثًا للحفاظ عليها وإفساح المجال لحضورها اليوم بعد انتقال الأعراس إلى الصالات الحديثة :

المراجع

  • الزعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.
  • النصيرات، نضال محمود، الأغاني الشعبيّة الأردنية في العرس الأردني، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الزعبي، أحمد شريف، أغاني الزفّة الشعبيّة الأردنية، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

أغاني العرس الأردني

 مقدمة

من شمال الأردن الزاخر في الحضارات، ومنذ العصور القديمة التي كان الإنسان الأردني الأول يخطو خطواته من البدائية إلى الحضارة والمدنية، تأتينا مدينة بيلا، أو طبقة فحل كما يسميها الأردنيون اليوم، لتكشف لنا عن أصالة هذه الأرض، وعن حضارة تضرب جذروها في التاريخ. في سلسلة مدن الديكابولس الأردنية، سنستعرض مدينة بيلا، كمثال آخر على ازدهار الحضارة الأردنية الغسانية بشكل خاص.

ما قبل بيلا: موجز تاريخي

أثبتت الدراسات بأن بيلا قد سكنت منذ العصر الحجري القديم (Smith: 1987) ويجعلها هذا التاريخ العريق محط أنظار العلماء والباحثين حيث أجرت جامعة سيدني وجامعة ووستر التنقيبات في المدينة على مدار 22 عام وأثبتت دراستهما أن بيلا كانت مأهولة من أكثر من نصف مليون عام. وقد رسمت أبحاث الجامعتين خطا زمنيا لتاريخ المدينة:

  • مساكن من العصر الحجري الحديث (حوالي 6000 سنة قبل الميلاد)
  • مجمعات تخزين فترة العصر الحجري (حوالي 4200 قبل الميلاد)
  • منصات دفاعية من العصر البرونزي المبكر (حوالي 3200 قبل الميلاد)
  • أسوار طينية ضخمة من العصر البرونزي المتوسط (حوالي 1800 قبل الميلاد)
  • معابد العصر البرونزي الأوسط والمتأخر والمساكن الفخمة (حوالي 1800-1200 قبل الميلاد)
  • إقامة المحافظين المصريين[1] في العصر البرونزي المتأخر مع ألواح من الطين (حوالي 1350 قبل الميلاد)
باحثة من جامعة سيدني أثناء عملية تنقيب على أرضية معبد يعود للعصر البرونزي الوسيط (2000 سنة قبل الميلاد) . المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني
إطلالة على المعبد الكنعاني، حيث أسس في مدخل المعبد عام 1600 قبل الميلاد وأضيفت المرافق الأخرى كالجدران وقدس الأقداس في فترات مختلفة. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني.

ومنذ العصر البرونزي المتأخر وصولا إلى غزو الإسكندر الأكبر للمشرق بأكمله عام 333 ق.م كانت المدينة مهجورة. وصلت التأثيرات الهلنستية للمدينة في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد.  وبين عام 323-31 ق.م. تحولت بيلا إلى مركز تجاري حيوي يذكر كثيرا في المصادر التاريخية الهلنستية وكإحدى اهم مدن الديكابولس التي سنأتي عليها بمزيد من التفصيل في الفصل القادم من هذا البحث.  وللأسف فإن هذا الازدهار لم يدم كثيرا، فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جننيوس بحملة تدمير وإبادة لأبيلا عام 80 ق.م. وذلك لأن أهالي المدينة رفضوا بقوة ارتداء الزي اليهودي أو التحول لليهودية وفقا لما أرخه الأسقف يوسابيوس[2] أحد أهم مراجع التاريخ التوراتي والمسيحي.

صورة للملك الحشموني ألكسندر جننيوس الذي دمر أبيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحُصن دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى) ) وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

وكما نرى فقد كانت بيلا من المدن العشرة الأساسية، التي تقع أغلبها في الأردن. ورغم الدمار الذي ألحقه الملك الحشموني بالمدينة إلا أنها استعادت مكانتها كمدينة ديكابولس، حظيت باستقلال وحكم ذاتي، وازداد تعداد السكان فيها كثيرا. وسرعان ما اتخذت موقعا متميزا أكثر عندما استغلها الأردنيون الغساسنة كحلقة وصل بين مدينتي الديكابولس في سورية (دمشق وبوسطرا -بصرى) وبين مدن الديكابولس الأردنية الثمانية الأخرى وحتى مدينة سيكثوبوليس (بيسان) الفسلطينية. إضافة إلى ذلك، فقد كانت قريبة لعاصمتي الأردنيين الغساسنة جلق والجابية في سهل حوران قبل أن يتخذوا من البلقاء عاصمة دائمة لهم.

الموقع والتسمية

تقع بيلا في وادي الأردن على بعد 5 كلم شرق نهر الأردن، وتتبع إداريا للواء الأغوار الشمالية. تبعد نصف ساعة عن مدينة إربد. ولأن المدينة واقعة في وادي الأردن فهي تتصف قليلا بالوعورة وتنخفض عن سطح البحر بمقدار 50 متر  وهذا ربما من أهم الأسباب التي جعلت الحضارات تهتم بالمدينة قرنا بعد قرن، إنه الموقع الاستراتيجي، فالمدينة مُقامة على ممر ضيق على وادي نهر الأردن وتقابلها مدينة سيكثوبوليس (بيسان) في فلسطين. تعطي هذه الممرات الضيقة بين أوديتها خاصية دفاعية ممتازة كان ولا بد للجيوش استغلالها.

أما تسميتها (بيلا) فجاءت إكراما من الإسكندر الأكبر الذي وجدها مهجورة منذ العصر البرونزي المتأخر وأعاد لها مكانتها وسميت بيلا نسبة لمسقط رأسه. أما اسمها “طبقة فحل” فهو أقدم بكثير من بيلا، ويعود للعصرين البرونزي المبكر (3000-2500 ق.م) من الكلمة “pihil” حيث يقابل الحرف p الصوت (ف) ويرجح أن pihil   تعني حيوانا منقرضا من فصيلة الأحصنة يدعى equid  ويشبه هذا الحيوان الحمار الوحشي. وهو من أولى الحيوانات التي تم تدجينها لخدمة الإنسان في العصور القديمة وكانت الأردن موطنا له لآلاف السنين. (Smith: 1987) ولأن المدينة كانت مركزا تجاريا مهما لبيع هذا النوع من الحيوانات التصق الاسم بها وتم نحت الاسم فيما بعد ليصبح فحل.

حيوان equid المنقرض الذي اشتهرت فيه مدينة بيلا

التجارة في بيلا

كما أسلفنا، حظيت بيلا بمكانة تجارية مرموقة نتيجة لموقعها الاستراتيجي كمدينة واقعة في وادي الأردن. كشفت لنا التنقيبات الأثرية عن هذه الأهمية التجارية المتميزة عن طريق اكتشاف الكثير من المنتجات غير المحلية وغير المتواجدة في طبيعة المدينة. (Smith: 1987) فمثلا وجد العلماء والباحثون  حجر الزبرجد البركاني البيضاوي المسطح ذي اللون الزيتوني وهو حجر لا يتواجد في محيط  ثلاثين كيلو حول المدينة (Smith: 1987) ويمتلك هذا الحجر خطوطا متداخلة ومتوازية وهو نمط لا نجده سوى في الحضارة السومرية. كما كشفت التنقيبات عن وجود حجر البازلت وهو بالتأكيد قد تم جلبه من مدن أخرى غالبا ما تكون جدارا (أم قيس) الشهيرة بحجر البازلت الأسود.

إطلالة على آثار أم قيس الشهيرة بحجرها البازلتي الأسود

وكما نقاشنا في الفصل السابق أصلا اسم “فحل” الذي تبين أنه يعود للعصر البرونزي المبكر نتيجة لاشتهار المدينة ببيع حيوان يتبع لفصيلة الحصان. وبذلك لا عجب أن تذكر البرديات المكتشفة أن بيلا اشتهرت بالصناعات الخشبية خصوصا المرتبطة بالحصان كالأسرجة وقد ساعدت الطبيعة المميزة للمدينة على تطوير هذا القطاع حيث كانت التلال المحيطة ببيلا كثيفة الأشجار(Smith: 1987)

وتذكر العديد من المصادر التاريخية السريانية والمصرية أن المدينة اشتهرت بالصناعات المحلية، كالزجاج والسيراميك ذي الجودة العالية، والصناديق والمعدات الحديدية والبرونزية(Smith: 1987). وللأسف، فقط توقفت هذه الصناعات عندما تم تدمير المدينة 80 ق.م. على يد الملك الحشموني. وعند دخولها في الحقبة الهلنستية عندما أعاد الإسكندر الأكبر بناءها دخلت أيضا حقبة جديدة في تجارتها.

وعلى غرار التنقيبات التي كشفت عن تواجد منتجات غير محلية في بيلا تعود للعصور القديمة وجدت الكثير من المقتنيات التي تعود للحقبة الهلنستية والرومانية. فقد وجدت عدة منتجات يونانية الصنع كالفخار والسيراميك، كما وجدت فخارات مميزة لحفظ النبيذ وأخرى للسمك. ومن آسيا الصغرى، وجدت أطباق صغيرة منبسطة. أما من مصر وإسبانيا وإيطاليا، فقد اكتشفت قوارير “جاروم” والجاروم هو مستخلص من نبات له ذات الاسم يستخدم في تتبيل الأسماك وفي ذلك الوقت لم يكن من الممكن جلبه سوى من مصر أو إسبانيا أو إيطاليا. (Smith: 1987)

قارورة جارووم من مدينية بومبي الإيطالية

ومن كل هذه المقتنيات المكتشفة، نستنتج أن المدينة احتلت مكانة مهمة كحلقة وصل تجارية في العالم القديم وذلك لتعدد الصناعات المكتشفة فيها وغناها وتعدد مصادرها. عند دخول المدينة في الحقبة الرومانية استمرت كمركز تجاري مهم في القرنين الأول والثاني الميلادي إلا أن الإمبراطورية الرومانية اعتمدت على تكثيف حضورها العسكري في المنطقة بسبب نشوب الحروب المتكرر مع الفرس أو القبائل الأردنية التي كانت ترفض فرض الولاية بالقوة. ولهذا فقد تحولت المدينة من مركز تجاري لما يشبه الثكنة العسكرية على طريق جراسا (جرش) وتم منع عبور الأحصنة والجمال التي كانت تستخدم لنقل البضائع وهذا ما أدى لتضاؤل حركة التجارة شيئا فشيئا. (Smith: 1987)

 وقد شهدت المدينة عودة إلى الحيوية التجارية مرة أخرى عند دخولها ضمن حكومة الأردنيين الغساسنة التي تأسست في القرن الثاني  الميلادي واستمرت حتى القرن السادس الميلادي. وفي هذه الفترة شهدت المدينة تنظيما أكبر ورفاهً نراه في البيوت الكبيرة التي بنيت، واتسمت بتنظيم مدني وديني كبير متمثلا في الكنائس التي بنيت. (Smith: 1987) ولوقوعها على خط التجارة الذي استحدثه  الأردنيون الغساسنة عبر ميناء يافا – تكريت – قبرص  من المؤكد أن بيلا عادت مركزا تجاريا من جديد.

البُعد الديني

لبيلا بُعد ديني قديم وتاريخي للغاية، فقد شهدت المدينة ظهور الممارسات الدينية القديمة إضافة لإقامة معبد كنعاني ضخم عام 1600 ق.م. وتحوي المدينة عدة مدافن قديمة تدلنا على وجود قيم ومعتقدات دينية متعلقة بالحياة الآخرة.

باحثة من جامعة سيدني تجد فخارة أثرية يقدر عمرها بثلاثة آلاف عام في تنقيبات المعبد الكنعاني عام 1999، وكانت الفخارات تستخدم لسكب الطعام، حيث ينزل الطعام من الفتحة السفلى كهدية من الإله. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني

 

لكن البُعد الديني الذي يهمنا في بيلا بوصفها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الغساسنة هو ما روي عنها في كتب التأريخ الكنسي. فبحسب ما ذكره المؤرخ أوزيبيوس قيصرية أو (يوسابيوس) فقد لجأ أتباع المسيح الأوائل إلى بيلا هربا من الاضطهاد الروماني وذلك قبل أن يدمر الرومان مدينة “أورشاليم- القدس” عام 70 ميلادي. ولكن التنقيبات التي أجراها الباحث ستيفن بروك، المسؤول عن حملة التنقيبات الأكبر في بيلا، لم تسفر عن أي شيء يخص القرن الميلادي الأول، فلا مساكن ولا قبور عائدة لتلك الحقبة، وحتى المدافن الرومانية والكنيسة الغربية قد بنيا في وقت لاحق.

وبالرغم من ذلك، تعد بيلا إحدى المدن التي لا تزال تتمتع ببعد ديني وروحاني ويعتقد بحصول عدة معجزات فيها وهي على خارطة الحج المسيحي.

الآثار

الكنيسة الغربية

لفتت الكنيسة أنظار الرحالة والمستكشفين منذ القرن التاسع عشر فوصفها الرحالة إيربي والرحالة إنجليز والرحالة روبنسون وشوماخر وغيرهم، وبدأت التنقيبات فيها عام 1967 من جامعة ووستر واستكملت دائرة الآثار الأردنية تنقيباتها وترميمها فيما بعد.

منظر عام للكنيسة، المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009

تقع الكنيسة في الجزء الغربي من مدينة بيلا، وتعد واحدة من أكبر التجمعات الكنسية في شمال الأردن. والغالب أنها بنيت 527-565 ميلادي في عهد الأردنيين الغساسنة الذين اهتموا ببناء المجمعات الكنسية الضخمة في الأردن.

إحدى العملات الرومانية التي وجدت في محيط الكنيسة، وتؤرخ للقرن الثالت الميلادي. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

تبلغ أبعاد الكنيسة 36×25 متر وتتخذ طراز البازيليكا (شكل الكنيسة المستطيل) هي مزينة ببلاط ملون وأرضيات فسيفسائية وأروقة، تتنوع الزخارف الفسيفسائية فيها بين الأشكال الهندسية وأشكال الحيوانات والنباتات إضافة لدخول عنصر الزجاج في صناعة الفسيفساء.

مخطط الكنيسة العام. المصدر حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
من فسيفساء الكنيسة، ويظهر رسم لثور. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009

وجد في الجزء الشمالي من الكنيسة تابوت يحوي هيكلا بشريا يعود لعام 655 ميلادي ويرجع أن يكون للكاهن. تحوي الكنيسة عدة مرافق أخرى كفرن للخبز وأروقة مزدانة بأعمدة وخزان ماء مهدم بفعل الزلازل. ومن المثير للانتباه وجود عدة مرافق أخرى كغرف مبنية وأفران خبز وفخارات  ومراود للكحل وغيرها تعود للقرن الثامن أي العهد الأموي، ودون تغيير في هوية الكنيسة أي أنها لم تحول لمسجد بل ظلت كنيسة محتفظة بأهميتها ومركزيتها في شمال الأردن.

الأرضية المبلطة في الكنيسة، المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
فرن للخبز أحد مرافق الكنيسة. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدرج (الأوديون)

يقع الأوديون في مجرى وادي الجرم في بيلا، وهو مدرج صغير نسبيا وملحق به ساحة مستطيلة تحولت فيما بعد لكنيسة. بجانب المدرج توجد بقايا حمام (سبيل حوريات). عانى المدرج من عدة عوامل ساهمت في تهدمه، حيث يعتقد العلماء بأنه استخدم كمسكن مع إضافة بعض الغرف الجانبية أواخر القرن السادس ميلادي، ومن ثم تم تحويله إلى مكب نفايات. كانت التنقيبات صعبة للغاية بسبب تدفق الينابيع الكثيف من كل جانب وبسبب سرقة أحجار المدرج واستخدامها في بناء مبان أخرى.

إطلالة على المدرج من أعلى وادي الجرم. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
بقايا المدرج من زاوية أخرى. المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
مخطط المدرج الأوديون، وتظهر الغرف المضافة إلى اليسار. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدافن

اكتشف مدفنين أثريين في التلة المقابلة للموقع الأثري، وتشتهر هذه التل بكونها “تلة المدافن الأثرية” أثناء عملية توسيع الطريق تكشف مدفنان أثريان. المدافن صغيرة تتراوح أبعادها بين 2.5×2.5 متر تحوي عدة توابيت. في المدفن الأول ثلاثة توابيت يحوي كل منها على هيكل عظمي واحد وبعض الأساور البرونزية والنحاسية والأجراس وكذلك المدفن الثاني الذي فاق الأول بالمقتنيات حيث اكتشف عدد كبير من السرج الفخارية المميزة. يرجح العلماء بأن هذه المدافن تعود للقرنين الثاني والثالث ميلادي، وهي دلالة على الرخاء والرفاه الاقتصادي.

مخطط المدفن الأول وغالبا ما تتشابه المدافن التي تعود لتلك الحقبة في تخطيطها. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009
من السرج الفخارية التي وجدت في المدافن، المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

الخاتمة

في عهد الأردنيين الغساسنة ازدهرت مدن الديكابولس الأردنية وانتعش اقتصادها وحظيت بتنظيم اجتماعي وديني وسياسي قل مثيله، ولم تكن بيلا بعيدة عن هذا الازدهار بل مثالا له لا زلنا نتلمس آثاره حتى يومنا هذا.

المراجع العربية:

  • د. إسماعيل ملحم، النتائج الأولية للتنقيبات الأثرية في طبقة فحل 2007-2008، حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
  • د. حكمت الطعاني، التنقيب عن مدفنين أثريين في طبقة فحل 1995،حوليات دائرة الآثار الأردنية 1995
  • طبقة فحل من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المنطقة، مقال منشور على صحيفة الدستور

المراجع الأجنبية:

[1] امتد حكم الحضارة المصرية إلى الأردن، عبر الحروب التي شنتها ضد الهلنستيين، وكانت الأراضي الأردنية تارة تقع تحت سيطرة الهلنستيين وتارة أخرى تحت سيطرة السلالة الحاكمة في مصر ومنها البطلمية التي كانت تعين محافظين على المدن التي تقع تحت ولايتها.

[2] (حوالي ٢٦٤ – حوالي ٣٤٠) ، الأسقف ومؤرخ الكنيسة ؛ المعروفة باسم أوزيبيوس قيصرية. إن تاريخه الكنسي هو المصدر الرئيسي لتاريخ المسيحية (خاصة في الكنيسة الشرقية) من عصر الرسل حتى عام 324.

مدن الديكابولس الأردنية : بيلا المدينة التي جلبت تجارة العالم لها

Scroll to top