تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن إستدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

كنا قد تناولنا في بداية هذه السلسلة موضوع ديموغرافية الهوية الغذائية الأردنية التي تشكلت ملامحها عبر قرون متواصلة من البحث والتجريب ومزج المكونات للوصول الى أفضل نتيجة من ناحية القيمة الغذائية والطعم وتوفر المكونات والمواد في البيئة المحيطة، هوية يتوحد فيها الإنسان مع المكان والزمان، وخلصنا الى أن الهوية الغذائية الأردنية تتكون بشكل أساسي من ثلاثة مكونات: الحبوب مثل القمح والشعير والأرز، ومنتجات الحبوب المعالجة مثل البرغل والجريش والفريكة والخبز بأنواعه، ومنتجات الحليب من سمن وجميد ولبن ونحو ذلك، وسنتناول في هذا البحث مراحل انتاج الحبوب، وكيف أبدعت اليد الأردنية المنتجة في تحويل الحبّة إلى محبة.

عمّان 1900 – استخدام العربات الزراعية والادوات الزراعية المصنوعة محليا في محاولة الأردنيين البقاء والصمود خلال الفترة العثمانية

 

حراثة الأرض وتجهيزها

تعرف حراثة الأرض أو فلاحتها بأنها عملية زراعية تهدف إلى إعداد التربة الزراعية عن طريق تحريكها ميكانيكيًا، وهي عملية يتكفل بالقيام بها الرجل لما تتطلبه من جهد بدني عالٍ، وقد تتم لمرة واحدة أو بشكل دوري متكرر على فترات طوال الموسم، وتتنوع الأساليب المستخدمة في عملية الحراثة سواء من خلال التوقيت وعدد المرات، أو من خلال اختلاف الحيوانات المستخدمة والأدوات وذلك بحسب الهدف من الحراثة وطبيعة المكان الذي تتم العملية فيه، وقد شاع في السابق استخدام الفدان الذي تجرّه الدواب مثل الثور أو الحمار قبل أن تتطور تزامناً مع الثورة الصناعية التي نتج عنها تطور هائل في مجال تصنيع الأدوات الزراعية والمعدات، ويبدأ موسم الحراثة غالباً قبل بداية هطول المطر من منتصف شهر تشرين الأول ولغاية منتصف شهر شباط، كما أن هناك نوع آخر من الحراثة يسمى بـ “الكراب” وهي عملية حراثة تتم في نهاية الربيع بهدف تنظيف الأرض وتخليصها من الأعشاب والشجيرات غير المفيدة وتجهيزها للموسم القادم.

عمد الفلاح الأردني إلى استخدام أكثر من حيوان معاً في عملية الحراثة، لتسهيل العمل، ولزيادة الانتاجية، فذلك يعطي المزيد من القوة والكفاءة في عملية تسمى: “قَرَن” من اقتران، لأن الفلاح يَقْرٍن الحيوانات، أي يربطها معاً. وتستخدم الحمير لحراثة المناطق الوعرة او الضيقة أو بين الأشجار، لسهولة التحكم بها وبطئها، مما يتيح مجالاّ أكبر من الدقة دون الحاجة لكثير من الجهد، بينما تستخدم الخيول والبغال في المهام التي تتطلب جهداً أكبر، مثل البيادر الكبيرة، أو للدراسة (عملية معالجة القش)، وقد يتم في بعض الحالات قرن عدد كبير جداً من الحيوانات تصل الى نحو العشرين، وعرف ذلك في بيادر كبار الملّاكين في مناطق سهل حوران الأردنية، وفي حالة وجود أكثر من حمارين، فإن على الفلاح أن يحسن اختيار موقع كل حمار بحسب قوته، ذلك أن الحمار في الدائرة الأبعد، يكون الجهد المطلوب منه كبيراً مقارنة بالحمار في مركز الدائرة، ولهذا تتعد التسميات: فالحمار القوي في الموقع الأبعد عن المركز يسمى ” شوّاحي“، أمّا حمار المركز الضعيف فيسمى ” رابوط “، لأن مهمته لا تتجاوز الدوران حول نفسه، أما باقي الحمير فيسمى الواحد منها ” لوّاحي “، وهي تتسلسل بحسب قوتها.

جرش 1925 – فلاح يواصل شق الأرض وفلاحتها باستخدام الثيران وبالخلفية آثار جرش العريقة مع ملاحظة استعمال عملية “القرن” وربط الحيوانين معاً

وتعتبر الحراثة أولى خطوات التحضير والعمل للحصول على محصول جيد في الموسم القادم وتدل على ملامح التخطيط الاستراتيجي الطويل المدى للفلاح الأردني، والذي تحتم عليه ظروف عملية الزراعة المحفوفة بالمخاطر واحتمالات النجاح والفشل أن يعمل بكل طاقته وأن يحسب كل خطوة يقوم بها لما لها من نتائج في المستقبل، ويمكن تلخيص الأهداف المرجوة من الحراثة بكونها عملية لتنعيم التربة وتهيئة الأرض لعملية البذار أو الزراعة، ومكافحة الآفات وبالذات الأعشاب، وخلط الأسمدة بالتربة، والتخلص من مخلفات المحصول السابق.

البذار

وهي عملية وضع البذور في التربة بهدف نموها. وتتم من خلال وضع البذار على عمق مناسب وبتوقيت مناسب بهدف تسهيل إنباتها وظهورها فوق سطح التربة، وتتم العملية بطقوس مميزة تبدأ بالبسملة وبضع البذار في الثوب، وتترافق بعد ذلك مع الدعاء الممزوج بالأهازيج الشعبية، التي تقول إحداها:

يا الله الغيث يا ربي  تسقي زرعنا الغربي

 وكان يبلغ معدل زراعة الأسرة الأردنية ثلاثين نصمداً (نصف مد) من القمح ومثلهاة من الشعير ونصف المد ( نصمد بالعامية) هو وعاء برميلي الشكل يستوعب نحو 10 كغم من الحبوب، وغالباً ما كانت الأسرة تعزب في منطقة الزراعة طيلة مدة الحراثة والبذار، ثم تعود للتعزيب مرة أخرى للقيام بتعشيب الأرض والتخلص من الأعشاب غير المفيدة.

عمان 1900، أردني من بلقاوية عمّان ، ينثر الأرض حُباً وحباً في المدرج الروماني في مشهد يوضح ترسخ قيم الانتاجية عند الأجداد الأردنيين

 


لوحة للفنان ومختص الآثار الأردني نصر الزعبي وهي مستلهمة من الصورة الأصلية

الحصاد

يعتبر الحصاد مسؤولية جماعية، يتشاركها كل أفراد الأسرة القادرين على العمل، بغض النظر عن الفوارق العمرية والجندرية، وتتم بالأيدي والمناجل معاً، ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن الأردنيين كانوا أول من ابتكر المنجل تاريخياً، من خلال استخدام الأدوات الصوانية بتصاميم تشبه المنجل الحالي ولنفس الغاية، ويعتبر المنجل ضرورياً لحصاد القمح خصوصاً لكون عود القمح أقسى من عود الشعير.

تبدأ طقوس الحصاد منذ الفجر وحتى مغيب الشمس في محاولة للاستفادة من كل دقيقة من الوقت، وتترافق أيضاً مع الأغاني والأهازيج ومنها:

منجلي وا منجلاه    راح للصايغ جلاه

ما جلاه الا بعلبة     ليت هالعلبة إفداه

ومن العادات المرتبطة بالحصاد “العونة” التي تدل على أن المجتمع الأردني هو مجتمع تسوده روح التعاون والمحبة والانسجام تاريخياً وتأصل ثقافة العمل التطوعي في الوعي الجمعي للأردنيين، فترسل الأسر متطوع او اثنين من أبنائها لمساعدة الأسر المتأخرة في الحصاد، وعادة بالمقابل يذبح المستفيد من العونة رأساً أو رأسين من الغنم ويولم لضيوفه من المعاونين كتعبير عن شكره لمجهودهم وتعبهم، ولا تكون هذه الذبيحة إلا منسفاً.

 

الدْراسة

أثناء وبعد عملية الحصاد يكوَّم الزرع المحصود في أكوام صغيرة يطلق البعض عليها “إغمور / الواحد منها غِمِر“، ثم يتم نقله من الحقول الى البيادر، في عملية تسمى “الرجادة” تقع مسؤوليتها بشكل أساسي على الرجال لما تتطلبه من جهدٍ بدني عال، حيث يجمعون “الغمور” بعد نهاية الحصاد وينقلونها إلى البيدر، وهو أرض سهلة يتم تنظيفها من الحصى والأشواك، وترش الغمور بالماء حتى تتلبد وتتماسك وتصبح كومة أكبر تسمى “الحلة“، ثم تنقل بالحمير والدواب إلى “المدرس” حيث يتم درس السنابل وتحويلها إلى خليط من الحبوب والقش من خلال عملية تقنية معقدة ومتقنة تدل على دقة ومهارة الصانع وقدرة الأردني على تطوير الأدوات الزراعية.

 

مادبا، عيون موسى1900  – صورة توضح مشاركة كافة أفراد الأسرة في مختلف مراحل عملية الإنتاح

الذراة

هي عمليّة فصل الحبوب عن محيطها من قش وأعواد، من خلال إلقاء المزيج في الهواء لكي تبعثر الرياح القش الخفيف وتسقط الحبوب الثقيلة على الأرض من جديد. ويستخدم في ذلك أداة خشبية تشبه الشاعوب تسمى “المذراة” يحملها الرجل الذي يتحرّى ويتحيّن لحظات هبوب الهواء الذي يساعد على إتمام عملية الذراة، ومن هنا جاءت الأهزوجة الشعبية :

هبّ الهوى يا ياسين     يا عذاب الدرّاسين

وتشارك المرأة الرجل عملية تذرية الحبوب في مشهد يبرز التشاركية والتكاملية التي يعيشها الإنسان الأردني مع زوجته  التي يعتبرها شريكة له ولا ينتقص منها، وتتلخص مهمتها في هذا الجزء بمساعدة زوجها في إزالة ما يعلق بالمذراة من كتل التبن الخشنة باستخدام جذوع الأشجار في عملية تسمى بـ “المراحة“.

وبعد نهاية العملية تبدأ مرحلة “الكيالة” لاحتساب صافي الناتج وتعبئته في “شوالات” تمهيداً لتخزينها، وذلك في لحظات مميزة يقطف فيها الجميع ثمار تعبه، وجرت العادة أن أول ما يؤخذ من رأس الكوم وصافي الناتج يتم توزيعه على الفقراء، أو/ و مبادلته بحلاوة توزع على العاملين في البيدر كحلوان لنهاية العمل وإتمام المهمة بنجاح.

وكان الأجداد الأردنيين الأدوميين من السباقين في مجال تطوير القمح جينياً من خلال انتقاء الحب الجيّد مما ساعدهم على الاعتمادعلى أنفسهم في انتاج كامل غذائهم وتصدير الفائض للمناطق المجاورة ، وتعمل مؤسسة إرث الأردن حالياً على توثيق مسيرة القمح الايدومي الذي ينتج أضعاف ما ينتجه القمح العادي،ونرفق أدناه الجزء الأول من الوثائقي الخاص بهذا الابداع الأردني :

وكان الأجداد الأردنيين الأدوميين من السباقين في مجال تطوير القمح جينياً من خلال انتقاء الحب الجيّد مما ساعدهم على الاعتمادعلى أنفسهم في انتاج كامل غذائهم وتصدير الفائض للمناطق المجاورة ، وتعمل مؤسسة إرث الأردن حالياً على توثيق مسيرة القمح الايدومي الذي ينتج أضعاف ما ينتجه القمح العادي، ونرفق أدناه الجزء الأول من الوثائقي الخاص بهذا الابداع الأردني :

الطواحين والجواريش

كما لوحظ فإن عملية الزراعة لا يمكن أن تكون مجرّدة ومنفصلة عن باقي العمليات المرتبطة بها، فقد طوّر الأردنيون على مدار عشرات السنين كل الأدوات التي تساعدهم على تخفيف العبء والحصول على النتائج الإيجابية، ولعل الطواحين والجواريش الماثلة حتى اليوم في معظم القرى الأردنية خير دليل على هذا، فنظراً لصعوبة خزن دقيق القمح (الطحين) لمدة زمنية طويلة، وحفاظاً على جودة القمح، كان السكان المحليين يخزنون القمح حباً، ويذهبون للطواحين طوال العالم لطحن ما يلزمهم أولاً بأول، وتنوعت الطواحين والتقنيات المستخدمة فيها، ما بين طواحين مائية كانت تُقام على الأودية والمجاري المائية في خطوة تُعد من أقدم الأمثلة على استخدام الطاقة المتجددة، ولا تزال الطواحين مشهداً مألوفاً في معظم الأودية الرئيسية في الأردن، واستخدمت الطواحين لمعالجة أنواع مختلفة من الحبوب بما فيها القمح والشعير والأرز والحمص والعدس والحناء والكركم وقصب السكر، وكان أصحاب الطواحين يتقاضون جزءاً من المحصول مقابل عملية الطحن، وضلت طواحين الماء مستخدمة حتى منتصف القرن العشرين حتى بعد دخول الطواحين البخارية.

وتتنوع أشكال وأساليب الطواحين تبعاً لنوع الجريش، سواء كان خشناً أو دقيقاً ناعماً جداً، واستخدمت الجاروشة وهي طاحونة الرحى كجزء من اللوازم الأساسية في البيت الأردني، وكانت تقطع من حجر الغرانيت أو البازلت البركاني غالباً، ويستغرق قطع هذا الحجر من الجبال نحو يومين من العمل الشاق، ليتم إضافة يد الجاروشة والمحور الخشبي الذي يتوسطها وبذلك تكون قد صنعت يدوياً ومنزلياً، وتحتفظ الرحى كغيرها من الأدوات التقليدية مثل المهباش والدلة برمزيتها ومكانتها، وتحتفظ بها الأسر كرمز للدلالة على الإنتاجية والكرم، وتعتبر مهمة الطحن اليدوي من مهام المرأة عادة، فتقوم بغربلة الحبوب وتنظيفها، ثم تبدأ بأخذ الحب بيدها اليسرى وتضعه في الثقب الذي يتوسط حجر الجاروشة العلويّ، ثم تديره بيدها اليمنى، ويمكن تكرار عملية الطحن مرتين للحصول على طحين أكثر نعومة.

منتجات الحبوب

يعتبر الخبز الطريقة الرئيسة لاستهلاك القمح حالياً في حياة كثير من الشعوب، الا أن للحبوب استخدامات أكثر في المطبخ الأردني، فقد اعتاد الأردنيون على تحضير الحبوب المعالجة بأشكال وأساليب مختلفة، نستعرض أهمها فيما يلي:

  1. البرغل: وهو قمح متوسط السلق يجفف ثم يجرش خشناً، اعتاد الفلاحون في شمال الأردن على انتاجه بكميات كبيرة، وتقدّر كمية البرغل التي تخزنها عائلات الفلاحين في المنطقة ما بين 50-75 كغم سنوياً لكل فرد في العائلة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث كان البرغل هو الطعام الرئيس الذي يقدم في الأيام العادية، ويمكن أن يكون البرغل خشناً أو ناعماً، أو ناعماً جداً (سميدة) تتم إضافته لمشتقات الحليب لصناعة الكشك.

  2. الجريشة: القمح المجروش بدون سلق، وهي الأساس لأغلبية طعام القبائل الأردنية البدوية في جنوب الأردن كونها تتصل بنمط الحياة الأقل استقراراً.
  3. الفريكة: قمح مشوي يحصد أخضراً، في ما بين مرحلة اللبن -من مراحل نمو القمح ما قبل النضج بحيث تكون الحبّة طرية– ومرحلة النضج التام ، وتعتبر الفريكة ذات قيمة عالية، ولاحظ الباحثون والمؤرخون أن الهكتار من الفريكة يجني ضعف العائد المالي الذي يجنيه القمح العاديز
  4. السليقة : قمح مسلوق يُحضّر ليؤكل بحد ذاته كوجبة وغالباً كانت تؤكل كمنتج ثانوي عن عملية إعداد البرغل، وتقدّم للأطفال مع السكر كوجبة خفيفة وسهلة وسائغة المذاق.
  5. القَليَّة: حبوب قمح ناضج تماماً ومحمّص بالصاج يتم تحضيرها أثناء موسم الحصاد غالباً، وبإضافة السكر يمكن أن تقدم للأطفال كوجبة خفيفة، ويعتبر تحميص القمح قبل طحنه من طرق حفظه؛ فدقيق القمح المحمّص صالح للتخزين لمدة طويلة أكثرمن القمح العادي، ولهذا كان الحُجّاج يأخذونه معهم في موسم الحج.
  6. المفتول: إن رُطّب البرغل أو الجريشة ولف أيهما بالدقيق، وتم تبخيره، فسيكون أساساً للمفتول المشابه للكسكس المعروف في شمال افريقيا.
  7. الخبز بأنواعه: هو في الأساس دقيق الحبوب وتعد صنوفه المختلفة من الخبز المختمر وغير المختمر (غلاسي/ عويص) من القمح أو الشعير أو حتى الذرة، ويؤكل تقريباً مع كافة الوجبات، وللخبز قداسة لدى الأردنيين، فقد استخدمت مفردة “العيش” بمعنى الحياة للدلالة على الخبز، كما يُعامل الخبز بعناية فائقة فيُقطع باليدين بدلاً من السكين، ولا يُسمح بسقوط فتاته على الأرض، وفي حال حدث وسقطت كسرة يتم التقاطها ومباركتها، وإذا ما عُثر على كسرة منه في الشارع، فإنها تلتقط وتوضع في مكان مرتفع ليأكلها الطير فلا تُداس.

 

                          

عمان 1936 – ولائم المنسف الأردني التي أعدت لضيافة الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية أثناء زيارته إلى الأردن

أنواع الخبز:

  1. خبز الشراك (الصاج) : وهو خبز عويص من دون تخمير، يتميز بعجينته الطرية وبكونه قرص رقيق باستدارة الصاج، ويستخدم للمنسف وفترة الجريشة ويؤكل مع السمن والزبدة والغبيب – وهذا الأخير من أنواع اللبن المخيض لكن أكثر لزوجة سيأتي ذكره بالتفصيل في البحث المتعلق بمنتجات الحليب.
  2. الخبز الغلاسي : خبز مكو من عجين دقيق القمح ولكن بدون تخمير ، ويتم تقطيعه غالباً لقطع صغيره واستخدامه مع اللبن والجميد والسمنة في أطباق المجللة والرشيدية.
  3. خبز الطابون (الحصاوي) : خبز من عجين القمح الخامر قُطر أقراصه حوالي 30 سم وسُمكها حوالي 5 سم، يخبز على حصى تسمى الرضاف توضع على أرضية الفرن فيخرج الخبز فيه تجاويف دائرية ويستخدم في الغماس عادة.
  4. خبز عويص مع زيت زيتون: يُعجن طحين القمح بالماء ويُخلط بالبصل المقطع والملح والزيت ويُترك ليلة كاملة ثم يشكل على شكل أرغفة ويخبز بالطابون. (في الطفيلة على وجه الخصوص ).
  5. خبز الحمص: يُعجن طحين الحمص الناشف بالماء وقليل من الملح بلا خميرة، وقد يُمزج بطحين القمح ويرق على شكل أقراص رقيقة السمك. (في قرى الشمال على وجه الخصوص)
  6. خبز الطرموز: ويعجن من طحين الذرة ويخبز على الصاج، ويقلب لينضج.
  7. خبز مبسبس: عجينة مخمرة يضاف إليها السمن وحبة البركة والحلبة والسمسم والسكر وتخبز في الطابون (في الكرك على وجه الخصوص).
  8. قرص النار: عجينته قاسية قليلاً وتخبز هذه العجينة كلها رغيفاً واحداً، ويخبز على الجمر مباشرة بوضعه فوقه حتى ينضج ويخبز في كل المواسم والأوقات ويؤكل مع المجللة.
  9. خبز اللّزاقي: عجينة مرقة (طرية جداً) تُصبّ داخل تجويف الصاج وعندما تجف يتم قلبها بالسكين وتترك حتى تنضج وتقطع ويتم رش السكر عليها وفتها بالسمن أو الزبدة وتُسمى هذه الأكلة مفروكية وتؤكل في كل الفصول والمواسم.
أكلة المجللة وخبز الغلاسي المستخدم في تحضيرها بعد تفتيته لقطع أصغر

أطباق أردنية تستخدم فيها الحبوب ومنتجاتها

  • المنسف : سيد المائدة الأردنية بلا منازع وطبق ذو دلالات عديدة تجسّد وحدة المجتمع الأردني وتماسكه ومساواته، ويقدم في المناسبات الاجتماعيةالمختلفة مثل الأعراس والعزاء وكجزء من طقوس الضيافة.
1931 الشونة، غور نمرين – ضيوف وزوار أجانب بضيافة الشيخ ماجد العدونا يتناولون طعام المنسف الذي يرتبط بدلالات اجتماعية وسياسية عديدة
  • البرغل الدفين : أكلة نباتية مكونة من مزيج من الحبوب والخضراوات تقدم في فترات الصوم المسيحي.
  • الكشك : إحدى وسائل حفظ اللبن في المناطق الشمالية من خلال خلطه بالبرغل وتجفيفه.
  • الرشوف/ المدقوقة: حساء الطاقة الأردني، مزيج من الحبوب مع اللبن الحامض يقدم في فترات البرد

  • البشيلة / العصيدة:  طبق خفيف ولذيذ وسهل الهضم بطعم حلو المذاق، يستخدم كنوع من الحلويات أحياناً.
  • البازينة النبطية: الفوتوتشيني الأردني رقائق الخبز بنكهة مميزة
  • تشعاتشيل: مزيج ما بين مشتقات الحبوب ومشتقات الحليب والأعشاب البرّية
  • المكمورة : من أطباق الشمال التي تمزج ما بين نكهة دقيق القمح المعجون والمخبوز مع البصل والدجاج والتوابل

  • الرشيدية: من الأطباق المشهورة في مناطق الجنوب الأردني (معان، الطفيلة، والكرك) والتي تولّف بشكل أساسي بين الخبز الغلاسي والخضار.
  • الفطيرة أو المجللة: من الأطباق القديمة المشهورة في مختلف مناطق الأردن والمحافظات الجنوبية على وجه التحديد، والتي تتكون من الخبز الغلاسي والسمن او زيت الزيتون، وقد تكون بمريس الجميد أو بالطماطم.

مطعم إرث الأردن، فرصة لتذوق الأردن في كل لقمة

ندعوكم لتذوق هذه الأطباق ومعرفة المزيد عنها وعن أكثر من 60 طبق أردني في مطعم إرث الأردن الذي تم افتتاحه بعد أربع سنوات من جولات البحث العلمي والميداني في الإرث الغذائي الأردني وتوثيق الأكلات الأردنية، يتم تحضيرها على يد أمهر الطهاة من أبناء المحافظات الأردنية وبمواد تم تصنيعها منزلياً من سيدات أردنيات في البوادي والقرى الأردنية.

المراجع

  • حتّر، ناهض. أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت: لبنان
  • نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان: الأردن.
  • نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
  • عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
  • زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.
  • أحمد أبو خليل، موقع زمانكم، قسم مفردات مصوّرة، مقالة بعنوان: القَرَنْ”: أي ربط حيوانين أو أكثر واستخدامهما معاً في أعمال الزراعة.

 

زراعة الحبوب واستهلاكها، الأردني يجعل من الحبة محبة

تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

ينظر للغذاء بوصفه أداة للتعبير عن الثقافة والهوية، وبكونه أداة وصل لبناء وتوطيد الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، بدءاً من وجبات الطعام اليومية وصولاً لأطعمة المناسبات الاجتماعية والطقوس الدينية والأحداث السياسية وغيرها، ومن خلال الغذاء يمكن الاستدلال على أسلوب الحياة الذي يتبعه مجتمع معيّن، فالأغذية التي تحضّرها وتستهلكها الجماعات الزراعية والرعوية القائمة على الإنتاجية، تعمل على تحديد ملامح شخصية هذه الجماعات وطريقة إدارتها لمواردها وتعاملها مع الظروف المحيطة بها، وبدراسة الهوية الغذائية لهذه الجماعات يمكن فهم وتحديد أوجه التشابه والتباين فيما بينها، وبالتالي يضاف بُعد آخر إضافة للبعد الجغرافي الذي يجمع هذه الجماعات ويصهرها في مزيج متجانس، يقول المفكر الفرنسي “Jean-Anthelme Brillat-Savarin” : (قل لي ماذا تأكل ، أقُل لك من أنت).

لمحة تاريخية

للأردن تاريخ ضارب في القدم يمتد لأكثر من مليون ونصف عام من الوجود الإنساني المسجّل، وانعكس ذلك على المطبخ الأردني الذي تطور عبر مئات السنين ليصل لما هو عليه الآن من تنوع وثراء، ويرتبط المطبخ الأردني ارتباطا مباشراً بميول الأردنيين نحو قيم الإنتاجية والاعتماد على الذات من خلال استثمار كل الموارد المتاحة وأهمها الأرض والتي يعتبرها الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع مصدراً للثروات، وقد كانت الأرض كذلك بالنسبة للأردنيين إذ فهموها وأنشأوا معها علاقة حب وبذل من نوع خاص، فمنحتهم بالمقابل خيراتها التي أحسنوا استغلالها وتدبيرها وكانوا من السبّاقين في إبداع وابتكار الطعام وأساليب تحضيره وتقديمه وتناوله، فالدراسات التي استندت على الأدلة الآثارية والمسوحات الميدانية أكدت جميعها بما لا يدع مجال للشك أن الأردنيين القدماء كانوا أول من قام بتحضير الخبز من خلال طحن البذور وعجنها وخبزها وفقاً لـ أقدم بقايا الخبز مكتشفة في العالم في الأردن ، والتي تم الكشف مؤخراً أنها تعود إلى أكثر من 14 ألف عام ، إضافة لبدايات استغلال الحليب مع بدايات التدجين الأولى، حيث اكتشف وجود بعض الأواني الفخارية التي تعود لفترة العصر الحجري النحاسي (4500-3600 ق.م) والتي يرجّح أنها استخدمت في إعداد الحليب كالمخضة التي عثر عليها في عدة مواقع أثرية في الأردن والتي تعود بتاريخها إلى مرحلة القرى الزراعية والتي تعتبر قرية “عين غزال” أقدمها وأولها، كذلك فيما يتعلق بما خلصت له دراسات مخلّفات بقايا النبات الآثاري،  فمن المرجح أن حبوب القمح المتفحمة قد تكون ناتجة عن عملية إعداد الفريكة.

أركان الهوية الغذائية الأردنية

من هنا نستنتج أن للهوية الغذائية الأردنية ، ثلاثة أركان أساسية:

  1. الحليب ومنتجاته: يعتبر حليب الضأن والماعز والإبل والبقر المقوم الأساسي الثاني في الغذاء الأردني، ومن النادر أن يشرب طازجاً ولكنه يقدم أثناء مواسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويخضع إلى سلسلة من التحولات في عملية المعالجة، وقد ابتكر الأردنيون عبر العصور أساليب لحفظه واستدامته لاستخدامه طوال العام، فمنه الجميد والكشك والزبدة والسمنة وغير ذلك، وسيتم الشرح عن ذلك بالتفصيل في بحث منفصل.
    الكرك 1933- مضارب أمامها مجموعة من الأغنام، مشهد يوضح نمط الحياة التي اضطرت بعض العشائر الأردنيه لعيشه والاعتماد عليه خلال فترة الاحتلال العثماني بعد تحولها من الاستقرار للتنقل هرباً من بطشه

     

  2.  الحبوب ومنتجاتها بالحبة الكاملة أو المعالجة: تعتبر الحبوب المكوّن الأساسي لعديد من الأطباق في المطبخ الأردني، فقد تخضع لواحدة أو أكثر من عمليات السلق أو التحميص، أو الجرش لحبيبات مختلفة الأحجام، مثل البرغل والفريكة والجريش.
  3.  الخبز: هو في الأساس دقيق الحبوب وتعد صنوفه المختلفة من الخبز المختمر وغير المختمر من القمح أو الشعير أو حتى الذرة، ويؤكل تقريباً مع كافة الوجبات، وللخبز قداسة لدى الأردنيين، فقد استخدمت مفردة “العيش” بمعنى الحياة للدلالة على الخبز، كما يعامل الخبز بعناية فائقة فيحفظ عادة في سجادة الصلاة، ويقطع باليدين بدلاً من السكين، ولا يسمح بسقوط فتاته على الأرض، وفي حال حدث وسقطت كسرة يتم التقاطها ومباركتها، وإذا ما عثر على كسرة منه في الشارع، فإنها تلتقط وتوضع في مكان مرتفع ليأكلها الطير فلا تداس.

وهذه العناصر جميعها واضحة وأساسية في الأطباق الأردنية التي بلغت أكثر من 60 طبق حتى الآن وفقاً لقائمة مطعم إرث الأردن، والتي تم جمعها في رحلة بحثية استمرت أكثر من 4 سنوات من البحث في الأرياف والبوادي والمدن الأردنية لتوثيق الإرث الغذائي.

صورة من الطفيلة عام 1935 يلاحظ في المدى الأراضي الزراعية الممتدة وبيوت الحجر وفي مقدمة الصورة قطيع من الأغنام في شكل يبرز ملامح الهوية الاجتماعية للشخصية الأردنية في اقتصاد انتاجي نصف بدوي نصف فلّاحي

التركيبة الاجتماعية للأردنيين

يستدل بنوع الغذاء ومكوناته في منطقة معينة على نوعية ونمط الحياة التي يعيشها سكان تلك المنطقة، فيرتبط ارتباطاً مباشراً بما ينتجه السكان، وعطفاً على ما تقدم، فقد بقيت الحياة الزراعية مزدهرة في الأردن لقرون طويلة، تزامن مع ذلك استقرار السكان في بيوت دائمة، إلا أن ذلك لم يدم وتغيّر الحال في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اللذين شهدا انحساراً كبيراً في الاستقرار والاستيطان البشري نتيجة حالة غياب الدولة واعتماد العثمانيين على أسلوب الحكم بالوكالة والتعامل مع السكان والبلاد كمزرعة لحصد الضرائب والموارد وملاحقة كل من يحاول رفض ذلك الحال، ما أدى بكثير من العشائر الأردنية للتحول من حياة الاستقرار إلى حياة التنقل والترحال هرباً إلى الصحراء بحثاً عن الحرية واحتماءً بها من بطش المحتل وملاحقته ومحاولاته للانتقام، وهنا اكتملت قصة تمازج الأردني مع محيطه، فقد لعبت الجغرافيا دورها، ففي إطار إقليم جبلي صحراوي في منتصف المسافة التي يلتقي فيها البحر والصحراء، الأخضر مع الأصفر، لا بد للأردني أن يكون متكيفاً مع كل تلك الظروف، فتراه يزرع ويرعى في آن واحد، وهو ما نتج عنه شخصية الأردني  نصف البدوي – نصف الفلّاح كما يصفها ناهض حتّر في كتابه “المعزّب ربّاح”، حيث يتّحد عالم البداوة المستقرة منتجاً اللحوم ومشتقات الحليب، مع عالم الزراعة البعلية الذي ينتج الحبوب ومنها الدقيق الذي يجعله الأردني بالحب خبزاً متعدد الأنواع والاستعمالات، ومن هنا يمكن أن نفهم رمزية المنسف الوجبة الرسمية للأردنيين، كطبق ذو رمزية ثقافية يدل على شخصية الأردني الاقتصادية والاجتماعية، فالمنسف لا يمكن أن يكون طبق بدويا في الأساس والمنشأ، نظراً لكون البدوي يعتمد على الإبل ولحمها الذي لا يصلح ليطهى في اللبن، لذلك نجد أن الثريد – لحم النياق المطهو بالماء ويسكب على الخبز الشراك – هو الطبق الأكثر شهرة والأكثر تعبيراً عن العشائر الحجازية وليس الأردنية !، إذاً فالعلامة المعيارية هنا لتصنيف المجتمع إلى مجتمع بدوي أو فلّاحي هي بالاستناد على ماذا ينتج وما هو غذاؤه بدلاً من استقراره أو تنقله، نظراً للكثير من الأسباب التي اضطرت العشائر الأردنية إلى التنقل، فقد ذكر العديد من المؤرخين أن البدو المحليين والفلاحين على حد سواء، قد استغلوا المناطق المنخفضة الدافئة شتاءً والمناطق المرتفعة الباردة صيفاً، إضافة إلى عملية “التعزيب” التي يقوم فيها الفلاح أو البدوي بمغادرة مكان سكنه واستقراره، إلى سكن مؤقت خلال مواسم الحصاد أو الرعي.

السلط 1920 – صورة لعائلة سلطية في أحد بيوت السلط وتعتبر الصورة مرجعا لطبيعة الحياة اليومية لأجدادنا ونظام البناء الداخلي لبيوت السلط القديمة إضافة لوجود أماكن مخصصة لحفظ الحبوب فيما يعرف بالكواير

ثبات ومرونة في آن واحد ، رغم التحولات والظروف

بعد سنوات عجاف استمرت لنحو قرنين، شهدت الحياة الزراعية والإنتاجية في الأردن تحسناً نسبياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تنبّه العثمانيون – ما بعد حملة عثمانيي مصر ممثلة بواليهم محمد علي باشا وابنه ابراهيم – لأهمية المنطقة وحاولوا القيام ببعض التحسينات الإدارية، ونشأت في الأردن عدة مناطق حكم محلي، ما سمح ببقاء بعض خير البلاد لأهلها ما شجّع على زيادة الإنتاجية، الأمر الذي جعل مناطق سهول حوران الأردنية تزوّد دمشق بالقمح، وتعدى ذلك لتصدير فائض الإنتاج إلى روما، وفي القرن العشرين شهدت الأردن العديد من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فالدولة الأردنية الحديثة أصبحت واقعاً، بعد أن كانت حلماً طال انتظاره من الأردنيين الذين حاربوا من أجل الحصول عليه بالنار والحديد، فاستحقوه بعد 400 عام من الثورات المحلية التي تكللت بالثورة العربية الكبرى على أيدي أبناءه من محاربي وفرسان العشائر الأردنية، وتزامن ذلك مع الثورات الصناعية والتحولات الاقتصادية التي شهدها العالم من اقتصاد الكفاف، الاكتفاء الذاتي حيث ينتج المرء حاجة بيته طوال العام، إلى اقتصاد السوق الذي فتح شهية السكّان إلى استهلاك أشياء جديدة واتباع أنماط جديدة من الاستهلاك نظراً لكونها أسهل أو أفضل أو أقل تكلفة أو جميعها معاً، إضافة لما تقدم يتسم المطبخ الأردني وهويته الغذائية بالثبات والمرونة في آن واحد، فمع مرور السنوات ورغم تبدل الحقب التي عاصرها الأردن واختلاف الظروف، حافظت الهوية الغذائية الأردنية على تماسكها، وفي ذات الوقت أظهرت شيئاً من المرونة سمحت بتطورها وتحدثها تجاوباً مع المتغيرات في نزعة فطرية نحو الصمود والبقاء، أو انفتاحاً على الثقافات الأخرى، فعلى سبيل المثال اضطر الأردنيون في فترات الاحتلال العثماني إلى استبدال خبز القمح بخبز الشعير، دليلا على قسوة الظروف في تلك الفترة وقيام سلطات الاحتلال العثماني بمصادرة مخزون القمح بالقوة وإجبار المزارعين على دفعه كضرائب، وقد قيل في ذلك ” إنك تدفع الضرائب قمحا، لكنك تأكل الشعير! “، ومثال آخر على تمازج المطبخ الأردني مع الثقافات الأخرى هو الطبق الأردني الشركسي “أرب قوية شيبس” والذي يعتبر مزيج تلاقح حضاري، حيث تكيّف القادمون الجدد مع موارد الموطن الجديد ، فاستبدلوا الجبنة الشركسية التي لم تكن متوفرة، بالجميد الأردني، فأصبح المعنى الأقرب هو: شيبس جبنة الأردنيين.

جرش 1900 صورة لمختار الشركس وأقاربه في مدينة جرش ويستدل من أريحية لبس الملابس التقليدية علناً على تجذر التناغم الثقافي المجتمعي في المجتمع الأردني

الحفاظ على الهوية الغذائية

 كل تلك العوامل كان لها تأثير سلبي لا يمكن إنكاره، فالجدير بالذكر أن الطرق التقليدية في إعداد الغذاء بدأت بالتلاشي مع دخول الأغذية المستوردة رخيصة الثمن كالدقيق التجاري، والسكر، والأرز، فقد حلت الأطعمة التي اتخذ الأرز والدجاج أساساً لها مكان الوجبات اليومية التقليدية، وأصبح شراء الخبز أمراً اعتيادياً بدلاً من إعداده في المنزل، لوفرة الدقيق التجاري بتكلفة وجهد أقل، كما أصبح زيت الزيتون بديلاً أقل تكلفة للسمنة الحيوانية والتي ما زالت تحظى بالاحترام، ومن هنا بادرت مؤسسة إرث الأردن خلال السنوات الأربع الماضية في رحلة بمختلف المحافظات الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية، من خلال البحث عن سيدات من كبار السن أو ربات منازل ما زلن يقمن بإعداد مثل هذه الأطباق، فتم تصوير طرائق التحضير وتسجيل المكونات بدقة، ثم تم تدريب عدد من الطهاة المحليين على تحضيرها، بالاعتماد على مواد يتم إنتاجها منزلياً، من جميد وكشك وسمن وبرغل ونحو ذلك، لتشجيع السيدات الأردنيات على الاستمرار في إنتاج هذه الأصناف ولحماية هذا الإرث الثقافي من الضياع والاندثار، ومن هنا جاءت فكرة مطعم إرث الأردن ليكون المطعم الأردني المتخصص الأول من نوعه في الأردن والعالم !.

بعض المأكولات الأردنية التي تمزج بين منتجات الحليب والحبوب

علق الرّحالة الإنجليزي “تشارلز مونتاگو داوتي” في رحلته إلى المنطقة أن “بمقدور السيدات إعداد أطباق مميزة من الطعام باستخدام أي نوع من الحبوب، بإضافة القليل من الملح والسمن، ولا شيء غير ذلك”، ويصدق هذا القول على كثير من الوصفات الأردنية  في مختلف المناطق الأردنية، حيث يمكن إعداد تشكيلة واسعة من الأطباق باستخدام عدد ضئيل جداً من المكونات الرئيسة، ونستعرض هنا بعض أهم هذه الأطباق التي تتكون في الأساس من أحد أصناف منتجات الحليب ومنتجات الحبوب:

  • البسيسة: وهي سمن دافئ يعجن بدقيق القمح والسكر أو العسل، والشعير الذي ينقع في الماء ثم يعصر ويغلى في اللبن.
  • الفطيرة: وهي خبز غير مختمر “عويص” يُفت وينقع في اللبن أو في نقوع الجميد “المريسة” مع السمن، وقيل فيها أنها أفضل الطعام بعد اللحم.
  • المجللة: هي أكلة مشابهة للفطيرة من حيث الجوهر تضاف لها صلصة البندورة في بعض المناطق، وتُقدّم في المناسبات الخاصة.
  • الرقاقة (البازينة): وهي عجين يقطّع طولياً بما يشبه المعكرونة، ويطهى في الماء ويمزج بالسمن ليمنح مذاق رائع وشكلاً مشابه للفيتوتشيني الإيطالية.
  • الهيطلية: احدى أشهر أنواع الحلويات الأردنية تتكون من الطحين او نشأ الذرة والحليب مع السمن البلدي.
  • الرشوف: طبق مليء بالطاقة والدفء والحب، تمتزج فيها حبات الفريكة أو الجريشة مع العدس واللبن، وهي شائعة في مواسم البرد.

  • التشَعَاتشيل: بإضافة بعض المنكهات المستخلصة من الأعشاب والتي تعامل معها أجدادنا الأردنيون القدماء بذكاء وخبرة تتطلب معرفة بالأعشاب، إلى اللبن والسمن وأوراق الجعدة أو الدنديلة الجافة بعد سلقها، يمكن إضافة عجينة البيض ودقيق القمح (الطحين) والعدس والبص، تحصل على وجبة مليئة بالعناصر الغذائية المفيدة والصحية.
  • المكمورة: طبقات من العجين يتخللها اللحم والبصل المقلي في السمنة أو زيت الزيتون، تطهى في فرن على نار هادئة طوال الليل وتستكمل مراحل تحضيرها في اليوم التالي في اهتمام واضح من المطبخ الأردني ومراعاة أقصى معايير الجودة والإتقان والإبداع.
  • اللزاقيات: من أشهر أصناف الحلويات الأردنية وأوسعها انتشاراً مع تنوع في طرق التحضير والنكهات وتمزج بين الطحين والسمنة وبقية النكهات.

 

نوعية الغذاء وتوقيته

نؤكد هنا أن الأطعمة المذكورة أعلاه هي على سبيل المثال لا الحصر، بل هي أبرز الأطعمة محدودة الانتشار حالياً التي تولّف بين منتجات الحليب ومنتجات القمح بشكل أساسي في وقت كان فيه اللحم لا يعتبر جزءاً من الوجبات اليومية للأردنيين نظراً لشح الموارد والاستفادة من المواشي كمصادر للإنتاج بدلاً من كونها موضع للاستهلاك، أما طعام الولائم والمناسبات الخاصة فيتضمن اللحم كمكوّن أساسي، كما جاء في بحثنا حول  أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني حول أنواع الذبائح، وتختلف  أهمية ورمزية الطعام حسب توقيت تقديمه وموسمه، في يوم ما من السنة، أو من الأسبوع، أو في أي وقت من اليوم، وحالياً تعتبر وجبة الغداء هي الوجبة الرئيسة التي تقدم في منتصف النهار، ويقدم الغداء ساخناً بينما يقدم كل من الفطور والعشاء باردين غالباً.

تنوع وثراء المطبخ الأردني ، صفحة مطعم إرث الأردن على موقع فيسبوك

تحضير الغذاء مسؤولية تشاركية، ولا فرق بين الجنسين

في كل رحلة بحثية نستكشف أصالة النظرة الأردنية المساوية للمرأة مع الرجل، وتأصل قيم احترامها ومعاملتها بدون أي انتقاص أو دونية، وذلك كقيمة راسخة وأصيلة في المجتمع الأردني، فإلى جانب الدور الاجتماعي والسياسي للمرأة الأردنية الذي تم التطرق له سابقاً في دورها كموسيقية وملكة في الفترة النبطية والغسانية، وصولاً لدورها في الثورات المحلية ضد الاحتلال العثماني، فالمرأة الأردنية أيضاً شريكة لزوجها ومؤازرة له في الحقل والعمل، وعليها كما أسلفنا مثل ما عليها من واجب الضيافة للضيف فيما عدا المبيت، ورغم أن كثيراً من المجتمعات المجاورة تنظر للمرأة باعتبارها المسؤول الوحيد عن عملية تحضير الطعام، إلا أن المجتمع الأردني يساوي بينها وبين الرجل في مراحل هذه العملية، ففي إعداد المنسف مثلا فإن الرجال مسؤولون عن عملية الذبح وطهو اللحم، فيما تقوم النساء بذات الوقت بالخبز وطهو الجريش أو الأرز، وتحضير اللبن بالجميد أو اللبن، كما أن الرجال في بعض مناطق جنوب الأردن يعدّون صنفاً من الخبز أثناء رحلاتهم وتنقلهم.

عمان1934- ولائم حفل زفاف الملك طلال – الأمير في حينه – ويظهر دور الرجال في عملية طهو المنسف

المراجع

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت:لبنان
  • ئتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان:الأردن.
  • نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان:الأردن
  • نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
  • عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
  • زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.

 

ديموغرافية الهوية الغذائية الأردنية

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

 خلفية تاريخية

عرف أجدادنا الأردنيون القدماء قيمة الأرض وأولوها اهتماماً كبيراً منذ القدم فمنحوها جهدهم وحصدوا بالمقابل ثمار تعبهم فاستحقوا مكانتهم الراسخة في الإرث الإنساني، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من كون منطقة “عين غزال”  أول قرية زراعية في التاريخ الإنساني المسجّل، وأكدت العديد من المسوحات الكشفية أن المنطقة كانت تبذر فيها الحبوب وتحصد المحاصيل بتخطيط لم يشهده العالم من قبل، بعد أن كان يتم في السابق جمع الحبوب البريّة واستعمالها، وترتبط الزراعة والأرض بالضرورة بمجتمعات متحضرة ومستقرة وقادرة على إدارة وتنظيم شؤونها، وهو ما تؤكده الشواهد الآثارية التي ما زالت ماثلة حتى الآن وتعرض في المتاحف العالمية وعلى رأسها متحفي اللوفر في باريس وأبو ظبي، بالتشارك مع متحف الأردن.

واستمر الاهتمام بالأرض وتطوير نظم إدارتها وقوانين ملكيتها مع تواصل الوجود الإنساني غير المنقطع على الأرض الأردنية، وصولاً لعهد الأردنيين الأنباط الذين امتلكوا وحكموا مساحات شاسعة من الأراضي تمتد نحو شبه الجزيرة العربية جنوباً ودمشق شمالاً وصولاً لشواطئ المتوسط غرباً، بما في ذلك من تعقيدات وتنوعات جغرافية وتنوع سكاني، وهو ما استدعى وجود نظام يتم الاحتكام له في ملكية الأراضي وتقسيمها بين أبناء المجتمع الأردني النبطي بما يضمن تحقيق أعلى درجات الاستفادة منها، بحيث كانت السلطة المركزية هي المعنية بتوزيع الأراضي على الأفراد، فقد كان الأردنيون الأنباط ملتصقين ببيئتهم الزراعية ومحبين للتملك، بحيث فرضوا الضرائب على من سعى إلى خراب الأراضي الزراعية، كما كافئوا من حافظ عليها، وقد تناولنا في بحث سابق موضوع ملكية الأراضي عند الأردنيين الأنباط بشكل مفصّل.

وبقيت الأمور على هذا النحو حتى ما بعد الفترة الأردنية النبطية، وازدهرت أشكال متعددة من الزراعة خلال الفترات التالية، من إنتاج القمح وتصديره للمناطق المجاورة وصولاً لروما، بالتوازي مع انتشار أنواع مختلفة من الزراعة أبرزها قصب السكر خلال الفترة المملوكية والتي ترافقت بالتوازي مع ازدهار في الصناعة والتجارة فبرز سكر مونتريال كأول ماركة تجارية مسجلة في العالم اجتاحت الأسواق الأوروبية التي لم تكن تعرف السكر قبل ذلك الوقت، وما تزال الشواهد الآثارية قائمة حتى اليوم تشهد على عظمة الإنسان الأردني وإبداعه وإسهامه في الإرث الإنساني، وأبرزها معاصر السكر في الشوبك وطبقة فحل وبقية مناطق الأغوار الأردنية، ويمكن الاطلاع على بحثنا السابق عن تاريخ صناعة السكر في الأردن للاستزادة في هذا الموضوع.

مناخ وطبوغرافية الأرض الأردنية

تمتاز الأرض الأردنية بمزيج متنوع ما بين مناخي حوض البحر الأبيض المتوسط والصحراء القاحلة، حيث يسود مناخ حوض المتوسط في المناطق الشمالية والغربية من البلاد، بينما يسود المناخ المداري الجاف في وادي الأردن، فيما يسود المناخ الصحراوي في المناطق الجنوبية الشرقية. وبشكل عام، فإن الطقس حار وجاف في الصيف، ولطيف ورطب في الشتاء، ومن ناحية طبوغرافية فالتنوع أيضاً حاضر، ما بين سهول حوران الأردنية شمالاً الخصبة جداً لزراعة القمح والبقوليات، وجبال عجلون والسلط المشهورة بكروم العنب والزيتون والرمان، وصولاً للأغوار الأردنية، والغور هي مفردة تدل على التسمية المحلية لوادي الأردن الأدنى وتعني الأرض الهابطة والمنخفضة التي تمتد من بحيرة طبرية وحتى البحر الميت، وتعتبر من المناطق المميزة بطبيعتها التي لاءمت الإنسان عبر العصور المختلفة لخصوبة أرضها ووفرة مياهها، وعلى جنباتها يؤرخ لبدايات الوجود الإنساني المسجل بعد العصور الجليدية، وأصبحت منطقة زراعية منفردة اشتهرت بزراعات متعددة ومتنوعة كقصب السكر، والموز، والنخيل، والأرز ومختلف أنواع الخضار والفواكه وأجودها، وينظر للأغوار كسلة الغذاء، ليس للأردن فقط بل للمناطق المجاورة، سواء في الجزيرة العربية جنوباً حيث الجفاف والحر الشديد، وحتى أكثر المناطق خصوبة في سوريا لا تستطيع إنتاج بعض الأصناف خلال فترات البرد القارس شتاءً، بينما تتمكن الأغوار الأردنية من تصدير أطنان المنتجات الزراعية طوال العام.

1900 م- رجال من الشوبك بكامل أناقتهم على إحدى القمم الجبلية حيث تتميز المنطقة بمناخ مميز وماطر لوقوعها بين مناخين جغرافيين متداخلين

نقطة تحوّل ومنعطفات حرجة

شهدت الزراعة والاهتمام في الأرض تراجعاً ملموساً خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر مع دخول العثمانيين للمنطقة وإدخالها في نفق مظلم، من خلال احتلالهم غصباً للأراضي الأردنية واستيلائهم عليها وإعادة توزيعها على النظام الإقطاعي من جهة، ومن خلال سياسات الحصار الاقتصادي والتضييق التي تم اتباعها لتجويع الأردنيين ومحاصرتهم اقتصادياً لتجفيف منابع القوة التي كانت تؤرق السلطة الحاكمة في ذلك الوقت والتي أشعلت العديد من الاحتجاجات ضد الحكم الخارجي منذ أنفاسه الأولى، فما بين مطرقة الضرائب المبالغ فيها بدون أدنى عائد ومقابل، وسنديان غياب الأمن، غابت الملكية الخاصة وبذلك يغيب الدافع الأول للإنتاج، من هنا تحول جزء كبير من السكان من حياة الاستقرار في متجمعات زراعية منتجة مكتفية، وتصدر ما يزيد عن الحاجة أو تبادله بسلع أخرى، إلى مجتمعات أقل استقراراً تبحث عن نفسها وتحاول تأمين قوتها من خلال أساليب أخرى قد تكون قاسية وعلى حساب بعضها البعض، مع الأخذ بعين الاعتبار عامل تأجيج الفتن والتحريض المستمر على سياسة فرق تسد، ومع ذلك تعامل الأردنيون مع الظروف بحنكة ودهاء، فأوجدوا البدائل، وطوروا الأدوات، ونوعوا في الأساليب واستطاعوا بالقليل من الموارد الصمود والبقاء والاستمرار.

جرش 1900 – شارع الأعمدة في جرش وآثار الخراب والتهميش واضح على أهم اجزاء المدينة التاريخية

نهاية الفترة العثمانية، بداية الاهتمام

بعد تمرد الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا وحملته التي كادت أن تطيح بالدولة العثمانية لولا تدخل فرنسا وبريطانيا دفاعاً عن العثمانيين، تنبه العثمانيون لأهمية منطقة الأردن وبدأوا بعض المحاولات لتحسينات إدارية محدودة، واستفاد الأردنيون من تلك الظروف ومن ثوراتهم المستمرة ضد العثمانيين ومحمد علي باشا في الحصول على مناطق حكم محلي خاصة بهم من خلال اختيار زعامات يضمنون حقوقهم ويديرون شؤونهم، وهو ما نتج عنه عودة للحياة الزراعية وتحسن ملحوظ في الإنتاجية بعد شعور السكان بأن هناك قيمة وجدوى لتعبهم وكدحهم قبل أن تعود الأمور للتدهور من جديد مع توريط العثمانيين لأنفسهم في حروب محكوم عليها بالفشل، زادت من حالة من التوحش في استهلاك موارد المنطقة وفق عقلية المزرعة، وسنتعرض تالياً أهم جوانب عملية الزراعة وملكية الأرض خلال تلك الفترة:

أصناف الأراضي نهايات الفترة العثمانية:

  1. الأراضي المملوكة: وهي كما حددها قانون الأراضي العثماني لعام 1858م أربعة أنواع:
  • العرصات” وهي الأراضي الموجودة ضمن المناطق السكنية في المدن والقرى ولا تزيد مساحة الواحدة منها على نصف دونم.
  • الأراضي الأميرية التي تحولت إلى ملك خاص بعد إتمام فرزها ومنحها حسب رغبات سلطات الاحتلال العثماني.
  • الأراضي العشرية: وهي تلك التي تم توزيعها وتمليكها للمقاتلين بعد احتلال مناطق جديدة لتوسيع النفوذ العثماني تحت مسمى “الفاتحين”.
  • الأراضي الخراجية، وهي الأراضي التي تقرر تركها لأصحابها غير المسلمين شريطة مشاركتهم عوائد استثمارها، بطريقتين، الأولى حراج مقاسمة يتراوح بين عُشر إلى نصف ناتج الأرض حسب درجة خصوبتها، والثاني خراج الموظف، وهو مقدار معين ثابت من المال يؤخذ بشكل مقطوع على الأراضي.
  1. الأراضي الأميرية، وهي أراضي تم استملاكها والاستيلاء عليها من قبل الاحتلال العثماني تحت مسمى “بيت مال المسلمين”، وغالباً كانت من أفضل الأراضي وأكثرها موارد مثل المزارع والمراعي والمصائف والمشاتي والمحاطب، وكانت توضع تحت تصرّف الإقطاعيين الذين عزز من وجودهم النظام العثماني وهم نوعين : الزعامة والتيمار.

    • الزعامة: الإقطاع الذي يدر ربحاً سنوياً يتراوح ما بين 20 – 100 الف أقجة عثمانية و “يمنح لمن أبدى قدرات فائقة في خدمة الدولة العثمانية” وفق نص القانون، وفي الواقع يقوم بدفع مبلغ معين للحاكم العثماني، مقابل أن يقوم باستغلال الناس واستعبادهم للعمل بالسخرة لجمع هذا المبلغ مضافاً إليه ربحه الشخصي.
    • التيمار: شكل مصغّر عن الزعامة، حيث يدر ريعاً سنوياً يتراوح ما بين (2000 – 19999) أقجة.

كما تم منح بعض هذه الأراضي لغايات إعادة توطين المهاجرين الشراكسة، والشيشان، والطاغستان، واللازكي، والتركمان في محاولات لخلق مجتمعات وبيئات حاضنة وموالية وأكثر تقبلاً للعثمانيين في وسط المناطق الأردنية.

  1. الأراضي الموقوفة: وهي الأراضي التي أوقفها أصحابها لغايات استثمارها لبناء دور عبادة من مساجد وكنائس وأديرة أو مدارس وأضرحة للصحابة والأولياء، وكثيراً ما كان يتم الاستيلاء عليها وتحويلها لغير أهدافها.
  2. الأراضي المتروكة: وتشمل الأراضي الخالية التي تركت لعموم الناس مثل الطرق العامة غير المؤهلة وغير المخططة، إلى جانب المراعي والبيادر والأحراش.
  3. الأراضي الموات: الأراضي الخالية التي تبعد عن العمران مسافة لا تقل عن ميل ونصف تخميناً أو مسير نصف ساعة مثل الجبال والأودية.
  4. الأراضي المشاع: وهي الأراضي التي تعود ملكيتها للجماعة من أهالي قرية أو عشيرة معينة وتقسم على العائلات بالتساوي بغض النظر عن عدد الأفراد، ويتم إعادة التوزيع كل سنتين أو ثلاث سنوات ويتولى ذلك شيوخ القرية أو العشيرة.
  5. الأراضي المحلولة: وهي الأراضي التي تؤول ملكيتها الفعلية للحكام والولاة التابعين للاحتلال العثماني بوفاة أصحابها دون ورثة شرعيين، أو الأراضي التي تركها أصحابها مدة تزيد على ثلاث سنوات متتالية من دون “عذر شرعي”، وكان يتم تأجيرها للأهالي بمزايدة علنية مقابل مبلغ من المال.
  6. الأراضي المدورة: وعي الأراضي التي كانت ملكيتها للسلطان عبد الحميد قبل خلعه عن العرش ثم تحولت ملكيتها لصالح خزينة الاحتلال العثماني

صورة تعود الى 1890 لسيدات واطفال من قبيلة العدوان الأردنية أثناء ترحالهم الموسمي بعيداً عن سطوة الضرائب العثمانية الجائرة التي تبتدأ ب25% على الدخل
  • طرق استثمار الأراضي الزراعية:

عرفت المنطقة خلال تلك الفترة طرقاً متعددة لاستثمار الأراضي الزراعية وبعضها ما يزال معمولاً به حتى اليوم بين المزارعين، ومن هذه الطرق:

  1. الاستثمار المباشر : أن يقوم صاحب الأرض باستثمار أرضه بمساعدة أفراد أسرته.
  2. المزارعة : من الطرق القديمة في استغلال الأراضي، يتمثل في الشراكة بحيث تكون الأراضي من طرف والعمل من طرف آخر وهي ثلاثة أنواع :
  • الشراكة: بحيث يقدم المالك الأرض ويقدم الفلاح الجهد والعمل ويتقاسمان التكاليف والنفقات، ويحصل كل منهما على نصف الغلّة 50%.
  • المرابعة: بحيث يقدم المالك الأرض ويتكفل بكامل النفقات والتكاليف، وإقامة وطعام الفلاح، بينما يقدم الفلاح العمل مقابل حصوله على ربع الغلّة 25%.
  • الخُمس: ويقدم بموجبه المالك الأرض وجميع النفقات واللوازم، في حين يقدم الفلاح عمله وكون نصيبه خمس الناتج 20%.
  1. التأجير: تأجير الأرض لمدة طويلة قد تصل لعشر سنوات مقابل مبلغ معلوم ومتفق عليه من المال، أو نسبة من الغلّة.
  2. المغارسة: يقوم المزارع بزراعة البستان بالأشجار المثمرة لفترة زمنية محددة بالسنوات، مقابل تقاسم الناتج ما بين المالك والمزارع وورثتهما حتى نهاية فترة العقد.
  3. الضمان: من طرق استثمار الأشجار المثمرة بعد ظهور الثمر، بحيث يدفع المستأجر مبلغاً من المال لصاحب البستان للاستفادة من الثمر وقطفه وينتهي العقد بنهاية موسم جني الثمر.

المنتجات الزراعية ومناطقها:

كما تقدّم ، أدى موقع الأردن المتوسط ما بين إقليم حوض البحر المتوسط والإقليم الصحراوي، وتباين التضاريس الطبيعية وتنوع مناخها إلى تنوع المنتجات الزراعية وأدوات الإنتاج، ونلخص هنا أبرز هذه المنتجات:

  1. المحاصيل الزراعية:

–          القمح والشعير: تعتبر حبوب القمح والشعير جزء أساسي من الهوية الغذائية الأردنية، وكانت تعتبر أهم المحاصيل من حيث المساحة المزروعة والناتج، وذلك لاعتماد السكان عليها في غذاءهم وفي غذاء حيواناتهم التي كانت مصادر للإنتاج، وانتشرت زراعة هذه المحاصيل في كل أرجاء الأردن خصوصاٌ في اربد والسلط، وتكثر زراعة القمح في المناطق السهلية والمنحدرات الجبلية  لخصوبة تربتها ووفرة أمطارها، وأما الشعير فغالباً ما كان يزرع في المناطق التي تقل فيها خصوبة التربة ومياه الأمطار لقدرته على تحمل العطش، وتتضح لنا من كثرة  الطواحين الماثلة حتى الآن وفرة إنتاج المناطق الأردنية من هذين المحصولين اللذين كانت تصدر كميات كبيرة منهما من حوران الأردنية إلى المناطق المجاورة، وصولاً لدمشق وأبعد من ذلك إلى روما منذ عهد الامبراطورية الرومانية وحتى فترات حديثة في بداية القرن العشرين.

صورة لسهول حوران الأردنية في اربد عام 1900 وتظهر المساحات الشاسعة  من الأرض التي كانت تزرع بالقمح وفي المدى تل الحصن ، حيث يلاحظ من النمط العمراني في المدن والبلدات الأردنية بناء السكان لمساكنهم في المناطق الجبلية للاستفادة من الأراضي المنبسطة في الزراعة

 

اليادودة 1914 وتكتل عمراني مميز وبه عناصر دفاعية نتيجة لغياب الأمن في تلك الحقبة ويلاحظ أيضاً استعمال الأراضي المنبسطة لغايات الزراعة والبناء في المناطق المرتفعة للاستفادة من الجغرافيا وتطويعها لأسباب اقتصادية وسياسية حيث كانت الجغرافيا حليف الأردنيين وصديقهم الدائم في مواجهة الاخطار والاستعمار

 

–           البقوليات: تتنوع سلة الغذاء الأردنية بشكل يوضح سبب غٍنى المطبخ الأردني بالأطباق المتنوعة، ونجد أن اهتمام المزارع الأردني تعدى المواد الأساسية لتشمل زراعة البقول بأنواعها والتي احتلت المكانة الثانية بعد زراعة الحبوب، كالعدس والكرسنة، والحمص والجلبانة والنعمانة الشبيهة بالفاصولياء، حيث زرعت هذه المحاصيل على نطاق واسع في قضاء السلط، واليادودة، ووادي السير، والرميمين، وقرية الرمان وفي سهول مأدبا والكرك.

–           كما تنوعت المحاصيل ما بين صيفية وشتوية بشكل يضمن استمرار الإنتاجية، ومن المحاصيل الصيفية السمسم والذرة ، إضافة للتبغ (الدخان/ التتن / الهيشي) ، ويذكر الرحالة والكاتب الفرنسي أنطون جاسان أن الدخان كان يزرع في الطفيلة والكرك، كما زُرع في أراضي السلط وقراها.

  1. الخضروات والمقاثي:

اهتم السكان بزراعة مختلف أنواع الخضار في المناطق المرويّة لتكتمل لوحة الألوان المنسجمة والمتنوعة في المطبخ الأردني، وذلك نظراً لخصوبة التربة وملاءمة المناخ، ومن هذه الخضروات: البندورة والبصل والثوم والبامية والباذنجان، والكوسا، وتشتهر مناطق اربد وعجلون وجرش والسلط والأغوارالأردنية وصولاً للمناطق الجنوبية بانتاج وتصدير أفضل أنواع الخضروات والمقاثي في المنطقة، نظراً لاستفادتها من الأغوار الأردنية ودفئ طقسها حتى في أصعب الظروف الجويّة، وقد اهتم الأردنيون العديد بثراء وتنوع أطباقهم فمزجوا الخضار والمقاثي مع منتجات الحبوب والألبان مما أكسب المطبخ الأردني قيمة غذائية عالية من خلال توفر كامل العناصر التي يحتاجها الجسم من فيتامينات ومعادن وحديد الى جانب الطاقة، ومن أبرز هذه الأطباق الأردنية السفرجلية ، والفناقش والمحاشي البردقانية.

  1. الأشجار المثمرة:

 اهتم الأردنيون بزراعة أنواع مختلفة من الأشجار المثمرة، وأهمها العنب الذي يعتبر من أهم تلك الأشجار نظراً لإمكانية استغلال أوراقه في تحضير الأطباق، وحبوبه التي تؤكل طازجة أو تستغل ليصنع منها الزبيب أو النبيذ حيث عثر على العديد من المعاصر التاريخية لتصنيع أجود أنواع النبيذ للاستهلاك المحلي وتصديره للمناطق المجاورة حيث تشير التقديرات أن 15% من الناتج المحلي من العنب يذهب لصناعة النبيذ، وتكثر كروم العنب في السلط وعجلون خصوصاً كما تتم زراعة العنب في اربد ومأدبا ووادي الكرك، وفي الطفيلة وقصبة معان والشوبك ووادي موسى.

كما عرفت زراعة الزيتون في المنطقة لنفس الأهداف فزيته وحبوبه تعد مكون من عناصر الهوية الغذائية الأردنية واستخدمت مؤخراً كبدائل لعناصر أخرى مثل السمنة البلدية، كما اشتهرت زراعة الرمان الذي يستهلك حباً وعصيراً ويصنع منه الدبس، ولا تكاد تخلو محافظة أردنية من أودية وبساتين الرمان، وكان الباعة المتجولين في دمشق ينادون : معاني يا رمان ، أردني يا رمان ، في إشارة لجودته وطعمه المميز، كذلك اشتهرت زراعة التين، والدراق، والسفرجل، والأجاص، والمشمش، والخوخ، والتفاح، والليمون، والتوت.

ومن الجدير ذكره أن الأهالي في قضاء الطفيلة في عام 1911 قاموا بتأسيس شركة زراعية من أجل جلب أشجار التوت وزراعتها في القضاء والاستثمار في هذا المجال، إلا أن محاولات الحصول على ترخيص من الاحتلال العثماني باءت بالرفض وحكم على المشروع الريادي بالفشل والإجهاض ككثير من أحلام الأردنيين في ذلك الوقت.

وخلال سنوات النهضة التي تلت تأسيس الدولة الأردنية الحديثة ازدهرت الزراعة بشكل واضح، وفرضت صادرات الفواكه الأردنية مكاناً لها في أسواق الدول المجاورة، فوفقاً لأرقام 1943 فإن الأردن صدّر إلى السوق الفلسطيني 500 طن من الزبيب و 2420 طن من العنب، و 1850 طن من الفواكه الأخرى.

  1. الأشجار الحرجية:

تشكل الأشجار الحرجية جزء مهم من الغطاء النباتي للأردن، حيث كانت تغطي معظم مناطق الأردن في المرتفعات الجبلية وبطون الأودية وخاصة مناطق مجاري المياه، وتعتبر أشجار البلوط والسنديان والصنوبر والسرو والبطم والدفلى والحور والصفصاف والطلح والطرفاء من أهم أشجار المنطقة، وكان السكان يعتمدون عليها مصدراً للدفء ويستفيدون من أخشابها والجذوع المتكسرة منها بشكل يضمن استدامة هذه الفائدة، ولكن كثافة هذه الغابات أغرت العثمانيين وأثارت شهوتهم للاستهلاك النهم والمتوحش، فقاموا بنهبها وتقطيعها بشكل واسع لاستغلالها وقوداً للقطارات العسكرية، حيث بلغ فيهم الأمر إلى مد خط فرعي من سكة القطار العسكري العثماني لوسط منطقة الهيشة في الشوبك التي سميت بذلك نظراً لتشابك الغابات فيها نتيجة كثافتها وذلك لتسهيل عملية قطع الأشجار منها ونقل الخشب إلى مناطق أخرى ما حوّل الهيشة حينها إلى أرض جرداء.

الزرقاء 1903 وتظهر الكميات المهولة للخشب الذي قطِع باشراف مهندسين ألمان لاستكمال بناء سكة حديد القطار العسكري لنقل الجيوش العثمانية والألمانية ومؤنها وتسريع قمع الثورات الأردنية الصغرى، كنموذج عن عقلية التوحش في استهلاك موارد المنطقة خلال فترة الاحتلال العثماني
  1. النباتات البرّية:

عرف الأردنيون كيفية الاستفادة من كل ما تقدمه الطبيعة الأم، لأنهم فهموها ودرسوها بعناية حتى تمكنوا من فهم أسرارها، فانتقوا المفيد منها بعين الخبير وميزوه عن الضار ، فأنتجوا أفضل أنواع المنكهات للأطعمة، ومن أهم هذه النباتات الحندقوق ، والسماق الذي يكثر في البلقاء، والنيلة في غور الصافي، وتضاف بعض الأعشاب للجميد لإضفاء نكهات مميزة له، كما كان ينمو نبات السمح الذي يثمر قروناً كبيرة فيها بذور، تجمع القرون وتوضع بالماء حتى تتفتح وتصعد القشور إلى السطح في حين تغوص البذور في القاع، لتجمع وتجفف وتطحن دقيقاً يصنع منه خبز لذيذ الطعم، كما تستعمل الكثير من الأعشاب في الطب الشعبي الأردني، أو حتى كوصفات منزلية بسيطة لمشاكل البرد وارتفاع الضغط وغير ذلك من الأمراض الموسمية.

المراجع:

o          حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن

o          بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن

o          العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن

o          العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

o          الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت: لبنان

o          نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان: الأردن.

o          نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن

o          نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن

o          أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.

o          عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.

o          صويلح،  ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.

o          زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.

o          أحمد أبو خليل، موقع زمانكم، قسم مفردات مصوّرة، مقالة بعنوان: القَرَنْ”: أي ربط حيوانين أو أكثر واستخدامهما معاً في أعمال الزراعة.

ملكية وإدارة الأرض وتجذّر قيم الإنتاجية عند الأردنيين

مقدّمة

توجد في الأردن تاريخيًا العديد من الآلات الموسيقيّة الشعبيّة، منها الوتري والنفخي والإيقاعي، ويُعدّ الإيقاع في الموسيقى الشعبيّة الأردنية عنصرًا جوهريًا وأساسيًا وذلك بالنظر إلى طبيعة الغناء الشعبي الذي يحوي أغلبه العديد من الضغوط الإيقاعيّة الحيويّة والرشيقة، خصوصًا وأن في الإرث الموسيقي قوالب غنائيّة استُلهِمَت من إيقاع سير الإبل وحركتها، مما يؤكد العلاقة الإيقاعيّة المتبادلة بين الإنسان الأردني وبيئته. وتعتبر الآلات الإيقاعيّة الأردنية قديمة تاريخيًا، إذ ظهر نموذج لآلة الخرخاشة الإيقاعيّة تعزف عليها إمرأة أردنية نبطية في التمثال الذي يجسّد أول فرقة موسيقيّة أردنيّة، وإذا لم يكن اليوم نموذجًا مشابهًا لهذه الآلة، فإن الروح الإيقاعيّة حملت أجيالاً من الأردنيين على تطوير ممارساتٍ إيقاعيّةٍ تُستخدمُ خلالها أدوات غير موسيقيّة بالأصل لغاية عزف الإيقاع في المناسبات المختلفة.

رسم توضيحي لتمثال نبطي يمثّل أول فرقة موسيقيّة أردنيّة تظهر فيها إلى اليمين آلة إيقاعيّة تُسمّى الخرخاشة

أواني الطعام

جرت العادة أن تستخدم النساء في الأردن خلال حفلات الزفاف والسهرات التي تسبق الفاردة، مجموعة مختلفة من أواني الطعام لمرافقة الغناء الجماعي بالإيقاع، ومن جملة ما تستخدمه النساء لهذه الغاية ( القِدِر ) أو ( الطنجرة ) المعدنيّة وضربها بالملاعق أو أية مطرقة أخرى، كما تم استخدام الوعاء البلاستيكي ( الطشت ) والصحون الكبيرة ( السدورة – جمع سدر) لذات الغاية. وهذه من جملة الممارسات الإيقاعيّة المرتبطة بالنساء حصرًا، إلى جانب الرقص باستخدام كاسات الشاي، بحيث تمسك إحدى السيّدات كاسين مقلوبين في كل يد وتقوم بطرقهما ببعضهما البعض خلال الرقص، مما يُعطي تأثيرًا نقريًا مميزًا للإيقاع المعزوف.

صوت الدبكة

تعتبر الدبكات في الأردن من أهم وأكثر الرقصات انتشارًا وأهميّة، وبمعزل عن كونها رقصة أدائيّة ترافقها الموسيقى أصلاً، فإن أصوات خبطات أقدام “الدبّيكة” يمكن اعتبارها نمطًا إيقاعيًا مستقلاً قادرًا على إضافة تنويعات على الإيقاع الأصلي لموسيقى الدبكة، وفي هذا السياق فإن الدبكة المعانيّة أو “التسعاوية” هي مثال واضح لهذه الممارسة الإيقاعيّة.

التصفيق

يُعدُّ التصفيق سلوكًا شائعًا في مختلف المجتمعات البشريّة، ويأخذ التصفيق أنماطًا وأشكالاً متنوّعة، وفي الأردن يُرافقُ التصفيق معظم أشكال الأداء الغنائي الموزون حتى بوجود آلات إيقاعيّة أخرى، على اعتبار أن التصفيق هو إضافة فرعيّة يشعر من خلالها الفرد بمشاركته الماديّة في الاحتفال الموسيقي والتفاعل مع الغناء بالتصفيق. وفي بعض الحالات يكون التصفيق رئيسيًا وضابطًا إيقاعيًا منفردًا، كحالة الغناء في طقس السّامر على سبيل المثال، كما أن الغناء في الساحل يتطلب تصفيقًا جماعيًا بأسلوب منسّق يَنتج عنه أنماطًا متداخلة وغير رتيبة من الصفقات الجميلة.

المراجع

الخشمان، مصطفى، الأغاني الأردنيّة في الجنوب، دراسة، 2016، منشورات العقبة مدينة الثقافة الأردنية، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.

الممارسات الإيقاعية في الأردن

مقدمة

يزخر الإرث الأردني بالكثير من المعتقدات والأساطير التي ترتبط بالفلك الشعبي والنجوم والأجرام السماوية تحديدا؛ منها ما يدخل بالمعتقدات ويصبح مرتبطاً ببعض المناسابات والطقوس الخاصة به، حيث أن بعضها أصبح ينقل كقصة أو حكاية تروى بهدف التسلية.
في هذا البحث من سلسلة الفلك الشعبي الأردني نسلّط الضوء على أبرز الأساطير المرتبطة بالفلك الشعبي الأردني.

قران العجوز أو قران العجايز

تطلق هذه التسمية على سبع ليال مجتمعة بين شهري شباط وآذار، وتتتوزع على آخر ثلاث أو أربع ليالٍ في شهر شباط (فبراير-2) وأول ثلاث أو أربع ليالٍ من شهر آذار (مارس-3)، بحيث تكون هذه السبع ليال ثلاث منها في آخر شهر شباط إذا كانت السنة عادية وأربعة ليالي في حال كانت كبيسة.

تناقل أجدادنا الأردنيون حتى يومنا هذا عدة روايات عن قران العجوز أو قران العجايز، وسوف نذكر أبرز رواية عن هذه القصة الأسطورية :

يروى أن عجوزاً ( سيدة طاعنة بالسن ) تسكن لوحدها في خربوش (نوع من أنواع بيت الشعر[1]) وعندها ناقتها ومونة كثيرة، قالت في يوم من أيام شباط متحدية شهر شباط وبرده :

                                                    مونتي وفيرة وناقتي وبيرة

                                                                    وهذا شباط كويناه بالمخاط

حيث أنها تشير لاستعدادها التام لبرد شباط فعندها مايكفيها من المونة (مونتي وفيرة) وناقتها دافئة وعليها وبر يحميها من البرد ( ناقتي وبيرة ) ثم أنها آذت الشباط وتمكنت منه ( وهذا شباط كويناه بالمخاط ) والمخاط هو إبرة كبيرة تستخدم لخياط الأقمشة السميكة مثل بيوت الشعر والبسط، ولسوء الحظ يسمعها شباط ويستفز ويغضب حيث يقرر طلب المساعدة من آذار ( مارس ) فيقول شباط: ( أخوي يا آذار نخيتك تاخذلي حقي من هالعجوز ثلاثة مني وأربعة منك وتصير البلاد بحيرة ونخلي العجوز تنط نطاط ) أي أن شهر شباط طلب العون من آذار لأن يأخذ حقه من العجوز بأن تصبح الأرض كثيرة التجمعات المائية ( وتصير البلاد بحيرة ) ثم تصبح الرياح قوية وباردة جدا ( ونخلي العجوز تنط نطاط )، وهذا ما حدث فعلا، إذ انتقم شباط باتحاده مع آذار منها وتحولت أيامه الأخيرة إلى وبال على العجوز.

نجم الجدي وبنات نعش

صورة متحركة توضح دوران كوكبة بنات نعش الصغرى (الدب الأصغر) حول نجم الجدي، وتتضمن الصورة مجموعة ذات الكرسي.

كما أشرنا في أبحاث الفلك الشعبي الأردني السابقة فإن مجموعة بنات نعش تتكون من سبع نجمات، تقول الأسطورة أن نجم الجدي اختلف مع والد البنات السبع ثم قتله، فبقين البنات منذ مقتل أبيهن وهن يدرن حول نجم الجدي طلبا للثأر، وبذا فسّرت هذه الأسطورة سبب دوران بنات نعش حول نجم الجدي.

قصة (سعد)

 كما ذكرنا سابقا في بحثنا (رزنامة المواسم والفصول الأردنية) أن ثاني جزء من فصل الشتاء يسمى العقارب، مقسمة على ثلاثة نجوم صنفها أجدادنا كالتالي (أولها سم، وأوسطها دم، وآخرها دسم) فالأول والثاني هما آخر فصل الشتاء وأيضا يسميان (سعد الذابح وسعد بلع) وسميت العقارب لأن بردها يأتي فجأة فيلسع كالعقرب، فالعقرب الأول (عقرب السم) أو سعد الذابح؛ برده شديد يشبه السم، أما العقرب الثاني (عقرب الدم) أو سعد بلع أو سعد البالع والذي سمي بذلك لأن البرد يبدأ فيه بالانحسار فيعود الدم بالتحرك في الجسد دلالة على الدفء، أما دخول نجم سعد السعود (عقرب الدسم) فهو إشارة لدخول فصل الربيع في الثامن من شهر آذار(مارس)،  حيث أنه سمي بسعد السعود دلالة على البهجة التي تحملها هذه الفترة من فصل الربيع فتزهر الأشجار وتغمر الأرض بالأعشاب ويكثر حليب المواشي، أما سعد الخبايا أو الأخبية فهو الجزء الثاني من الربيع ويبدأ مع طلوع نجم الحميم الأول إذ أن الطقس يميل فيه للدفء، وتورق فيه الأشجار وتزهر ؛ ويعتدل فيه الربيع بالحادي والعشربن من آذار (مارس) وتنهي الزواحف والأفاعي سباتها.

تقول الأسطورة أن سعد هو شخص قرر أن يسافر في آواخر كانون الثاني (يناير) وحاولت والدته أن تمنعه من هذا التصرف بسبب الجو البارد جدا، حيث أن هذه فترة من الشتاء تحمل معها الكثير من العواصف والثلوج، لكنه أصر على السفر آخذاً معه ناقته، وفي بداية شباط (فبراير-2) بدأت الأمطار الغزيرة والبرد القارس، فشارف سعد على الهلاك وحلم في ليلتها أن أمه تقول لهُ : ( إن ذبحت ياسعد تسلم ) أي أن نجاتك مرتبط بذبح ناقتك، فذبح سعد ناقته وأزال أحشاءها واحتمى بجثة الناقة لمدة ثلاثة عشر يوماً فسميت هذه الفترة ( سعد الذابح )، ثم بدأ يأكل لحم الجيفة لمدة ثلاثة عشر يوماً فسمي ( سعد البالع ) لأن لحم الجيفة قاسٍ وكان يأكله نيئاً لذا اضطر لأن يبلعه بلعاً، وعندما زالت موجة البر والصقيع لبس سعد جلد الناقة فرحا بنجاته من الهلاك؛ فقيل (سعد السعود) وهي مدة أيضاً تمتد لثلاثة عشر يوماً وبنهاية البرد وعندما بدأ الطقس بالاعتدال خرج سعد وعاد لأمه فقالوا (سعد الخبايا) دلالة على أن سعد عاد من المكان الذي كان يختبئ به.

مشهد سينمائي مشابه لقصة سعد مأخوذ من فيلم the revenant

خسوف القمر والحوت

كان أجدادنا يفسرون خسوف القمر بأن حوتاً قد ابتلع القمر ولأنهم يعتبرون القمر لهم وهو نور ليلهم الطويل فيتحتم عليهم أن يساعدوا القمر، ولم يكن بوسعهم إلا أن يخيفوا الحوت بكل الوسائل المتاحة؛ حيث أنهم كانوا يطلقون الرصاص من بنادقهم باتجاه السماء حين الخسوف ويضربون آواني النحاس ويرددون ( حوت؛ بالله ياحوت لاتخلي قمرنا يموت ) ظننا منهم أنهم بذلك يُفزعون الحوت ويجبرونه على إعادة القمر لموضعه بعد اخراجه من باطنه.

رسم تاريخي لشعب الإنكا وهو يقوم بطقس الخسوف مشابه بعض الشيء لما كان يقوم به أجدادنا.
مراحل خسوف القمر.

طاسة الخريعة

الخريعة أو الرعبة هي الخوف من شيء بشكل مباشر، فكان أجدادنا الأردنيون يضعون ماءً في آنية نحاسية منقوش عليها آيات أو أدعية ثم يتركونها تحت النجوم ليلة كاملة من ثم يسقون المرعوب من هذه المياه ليتجنبوا أن يدوم أثر هذا الموقف المرعب في حياته، علماً أن هذه الطريقة تستخدم إلى يومنا هذا عند بعض الأردنيين.

طاسة الخريعة، المصدر: موسوعة وكيبيديا الحرة.

خاتمة

نستنتج مما سبق أن أجدادنا الأردنيين كانوا يفسرون الكثير من الظواهر الفلكية والكونية بالأساطير والحكايات التي توارثوها جيلا عن جيل والتي أغنت إرثنا الوطني وزادته ألقا ومتعة وهذا يدل بالطبع على اتساع مخيلتهم وقدرتهم على على ربط الحقائق العلمية مع معرفتهم وخلفيتهم الثقافية إذ أنهم لم يتركوا شيئاً إلا ووجدوا له تفسيراً يسهل عليهم فهم مايدور حولهم وأيضا يضيف قصصا وحكايات يتسامرون بها خلال (تعاليلهم) وسهراتهم.
المراجع

  • أبو الغنم، أحمد سلامة ،”البادية عادات وأعراف“،منشورات وزارة الثقافة،2013.
  • عبندة،علي، “الفلك والأنواء في التراث“، دار الفرقان للنشر والتوزيع،1998 .
  • العثمان، عواد ملهّي، “علم الفلك الشعبي وحساب المواسم والفصول“، دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2018.
  • الخليلي،علي،”مدخل إلى الخرافة العربية“،مطابع الإقتصاد،نابلس،1982.

[1] طالع بحث بيت الشعر

أساطير الفلك الشعبي لدى الأردنيين

تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

تطور المجتمع الأردني عبر آلاف السنين في عملية مستمرة منذ بدايات ظهور الانسان الأول على الأرض الأردنية قبل نحو مليون ونصف عام من الآن، وذلك  بعد الحركات الأرضية العنيفة التي أدت لظهور حفرة الانهدام لتكون جزيرة رطبة ودافئة صالحة للحياة خلال العصور الجليدية، وبقي هذا المجتمع يبني نفسه على مر العصور مشكلاً هويته المتماسكة في منطقة وسطى ما بين الصحراء وما يختبئ فيها والبحر وما قد يأتي عبره، في تناغم جمع الإنسان مع المكان والظروف المحيطة، وجعله يطوّع الطبيعة لخدمته ويتكيف مع التضاريس المتنوعة من حوله، ما بين حفرة انهدام وسهول غورية وشفا غورية غرباً، وسهول خصبة شمالاً ومرتفعات جبلية تمتد على طول الخريطة، وصحراء ممتدة شرقاً، عوامل كلها ساهمت في رسم الملامح العامة لشخصية المجتمع وهويته وأنماط الإنتاج والغذاء والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية ما بين أبنائه، فكانت عين غزال أول قرية زراعية في تاريخ الإنسانية على ضفاف نهر الزرقاء المزدهر في ذلك الحين، وفيها بدايات ظهور المساكن الدائرية متعددة الطبقات والتي تشير لمجتمعات مستقرة تمارس الزراعة وتقوم بتدجين الحيوانات والمواشي وتعتمد عليها كمصادر في الإنتاج.

وتؤكد نتائج العديد من الدراسات البحثية والكشفيات الأثرية إلى إسهام الأردنيين القدماء في تطور السلوك الغذائي للبشرية، حيث كان آخرها دراسة بإشراف جامعة كوبنهاجن بين عامي 2012 – 2015، خلصت نتائجها لاكتشاف أقدم بقايا للخبز في العالم تعود إلى 14.400 عام، إلى جانب مواقد دائرية وبقايا طعام أخرى تضمنت لحوم غزلان وأرانب وبقايا نباتات إضافة للكثير من الأدوات الحجرية، حيث فسّر بعض الباحثين وجود هذا الخبز إضافة للجعة في المجتمعات الإنسانية القديمة كحالة من الترف والرفاهية وبارتباطه بالولائم الاجتماعية أو الطقوس الخاصة، وهو علاوة على ذلك أمر يتطلب معرفة في زراعة الحبوب وحصادها أو التقاطها في حال كانت برية، ومعرفة بالنباتات الصالحة للأكل وغير الضارة، ثم طحنها ومزجها وعجنها، ولاحقاً خبزها، وهذه عملية انتاجية زراعية صناعية تتطلب وجود أدوات خاصة بتلك العمليات وهي ذات الأدوات التي تم العثور عليها في الموقع البحثي، وهذا ما جعلنا في مؤسسة إرث الأردن نسلط الضوء في هذه السلسلة من أبحاثنا على كيفية تشكل الهوية الغذائية الأردنية وربطها بالأنماط الإنتاجية والاستهلاكية، ودراستها من ناحية اقتصادية اجتماعية وتأثيرها على أنماط العلاقة بين الأردنيين فيما بينهم أو حتى مع غيرهم على مر العصور وصولاً ليومنا هذا.

للمزيد حول هذه الدراسة راجع تقريرنا المفصّل : من رحم الأرض الأردنية، تفاصيل ودلالات اكتشاف بقايا خبز عمره أكثر من 14 ألف سنة.

جذور الضيافة والكرم في المجتمع الأردني

يرى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أن الضيافة قانون إنساني مطلق وغير مشروط ويتسم بالغلوّ؛ وهي أنْ نعطي للقادم كل مأواه وذاته وخصوصيته وخصوصيتنا من غير أن نطلب منه اسمه أو أي مقابل، إنما في تناقض (مستمر ومستحيل) مع قوانين الضيافة ذاتها التي تجعلها مشروطة بتفصيلات معقدة، ولكن كيف ينظر الأردني للضيافة وما هي الضيافة وجذورها وقانونها في قاموس الضيافة الأردني؟

وادي السرحان ١٩٢٦ – الأردنيون يقدمون واجب الضيافة لسلطان باشا الاطرش وأعيان جبل العرب بعد لجوئهم إلى الأردن خلال فترة مقاومتهم ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا ( مجموعة إرث الأردن الصورية)

تعامل الإنسان الأردني تاريخياً وبحكم نمط الحياة الاجتماعية السائد في ذلك الوقت بشكل تعاوني مع محيطه، من خلال نظام القرى الزراعية التي اعتمدت على العمل الجماعي لإنتاج الغذاء وبناء المساكن المتجاورة، والحياة ضمن منظومة عشائرية تضمن له الحصول على ما يكفيه من طعامه من خلال التعاون وتوزيع العمل وتشارك مصادر الإنتاج، إلى جانب ضمان الحماية من تعدي غيره على حياته أو ممتلكاته وانتاجه، وهذا يتطلب حالة من الوعي بالمصير المشترك ووجوب تحمّل المسؤولية من خلال أن يصبح الفرد جزءاً مسؤولا في المجتمع الذي يعيش فيه، بحيث يلتزم بالعمل لإنتاج ما يحتاجه وأسرته من طعام بدلاً من البقاء عالة على من حوله، وفي حالة الحرب والخطر يلتزم بالدفاع عن مجتمعه بما يضمن أمنهم وحمايتهم، في ما قد يمكن اعتباره جذور ما يعرف اليوم بالعقد الاجتماعي، وهو الأمر الذي يتطلب علاوة على ما سبق نوعاً من الالتزام الأخلاقي من هذا الفرد تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، والقناعة والاكتفاء خلال أوقات المواسم الجيدة، وإظهار التكافل والتضامن مع أبناء مجتمعه الذين لم ينجح موسمهم، والبذل والتضحية والتحمّل خلال مواسم القحط والجفاف والظروف غير المعتادة من حرب وترحال وعدم استقرار، فلا نتائج أكيدة ومضمونة في عملية الزراعة، بل محتملة ومعرّضة للخطر ولكن لا خوف على الذات والعائلة من الجوع والفشل في ظل النظام التضامني، وهذا ما جعل العلاقة بين أبناء المجتمع محكومة بالعديد من العادات والأعراف التي شكّلت مع مرور الوقت قانوناً اجتماعياً وأصبحت جزءاً من ثقافة المجتمع وأخلاقياته وأسلوب الحياة فيه.

كادر مطعم إرث الأردن مدرّب ومتخصص في الضيافة على الأصول الأردنية

ومن جملة هذه الأخلاقيات والقوانين والقيم، تجلّت الضيافة كقيمة مترسخة في المجتمع الأردني، في تعامل الأردنيين واحتكاكهم بسكان المناطق المجاورة، من خلال وجودهم على أهم طرق التجارة العالمية، وطريق الحج لاحقاً، فتشير الدلائل أن “بترا” كانت مركزاً للتجارة العالمية وجسراً بين المشرق والمغرب وخزانة لكنوز الشعوب وثرواتهم ورأس مالهم، فيما يمكن اعتباره سويسرا الشرق في ذلك الزمن، كما استفاد الأردنيون من ازدهار الطريق الملوكي، فطوّروا أساليب الحياة الخاصة بهم على أسس اقتصادية تضمن لهم استدامة الدخل طوال العام مستفيدين من أشهر الحج ورحلته التي كانت تمتد لعدة أشهر والتي كانت رحلة دينية وتجارية في آن واحد، فنرى أن العشائر الأردنية تولّت مهمة تنظيم قوافل الحج وحمايتها، من خلال استلام الحجاج من مناطق “المزيريب” في شمال حوران الأردنية وصولاً للمدينة المنوّرة، فأنشؤوا شبكة نقل مكوّنة من الجمال والهوادج، وشبكات حماية تضمن سلامة الحجاج في ظل حالة غياب الدولة إبان الاحتلال العثماني، إلى جانب التكفل بإقامة الحجاج وإطعامهم وسقايتهم، حيث أقيمت الاستراحات والخانات على امتداد هذه المسافة الجغرافية، يفصل بين التجمّع والآخر مسافة 50 كم تقريباً، وهي المسافة التي يقطعها الجمل خلال مسير يوم واحد، مما يجعل الضيافة نوعاً من أنواع العبادة وجزءاً من عقيدة الأردنيين.

أركان الضيافة

ومن أهم هذه الأخلاقيات ما يتعلق بالكرم أو الضيافة، فهي انعكاس يمكن من خلاله قياس مدى قدرة الإنسان على التعامل والتعاطي مع محيطه، وقدرته على البذل والعطاء بدون انتظار المقابل، ومن أهم أركان هذه العملية ، المعزّب : ويقصد به المُضيف، والضيف، وترتبط كلمة المعزّب هنا بالأرض، فقد جرت العادة أن تبنى البيوت في مكان واحد وغالباً في المناطق المرتفعة لأسباب أمنية من خلال توفير الحماية في حالات الغزو والأطماع الخارجية، في حين تترك السهول والأراضي المنبسطة والخصبة ليتم الاستفادة منها زراعياً في ارتباط وثيق يرسخ أهمية قيم الإنتاجية عند الأردنيين، وهو ما يستدعي إقامة مساكن مؤقتة في الكروم والمزارع إبان أوقات الحصاد للاستفادة من أكبر وقت ممكن من اليوم بدلاً من التنقل ما بين مكان السكن وبين العمل صباحاً ومساءً وأوقات وجبات الطعام، خاصة في حالة الاستفادة من مجهود كامل أفراد العائلة في عملية القطف والحصاد والتي تتطلب جهود الجميع لإنهاء المهمة في الوقت اللازم، وتعرف هذه المساكن المؤقتة شعبياً بـ “العزبة” وتسمّى هذه العملية بالتعزيب، وتحصل كذلك في حال جمع الناس مواشيهم مع راعِ واحد مقابل أجرة متفق عليها، فإنه يعزب في الأغنام ويرعاها في المناطق الرعوية وأماكن الحصيدة، أما في عملية الضيافة فسنتعرف تالياً على أهم أركان وعناصر هذه العملية :

أولاً: المعزّب

نخلص مما تقدّم أن من يقيم في هذا المسكن المؤقت هو ركن الضيافة الأول “المعزّب” وجمعه “المعازيب”، وهو المضيف الجاهز دائماً لاستقبال عابر سبيل، أو شخص جاء يتفقده ويطمئن عليه، إذاً فالمعزّب هو المُضيف وعليه يقع عاتقها وله شرف القيام بها، ويقع على عاتقه مهمة استقبال الضيف وإكرامه ضمن أعراف المجتمع الأردني، كما سيتم تناولها لاحقاً، وقد تغنّى الموروث الشعبي بالمعزّب، فنجده حاضراً في الأهازيج الشعبية، وأشهر الأمثلة على ذلك ما يردد من أبيات في رقصة الدحيّة والسامر:

حنّا جيناكم سريّة لا علمٍ ولا دريَّة

لولا معزّبنا ما جينا، ولا قطعنا وادينا

جيناكم يالمعازيب ياللي تعِزُّون الغريب

جيناكم يا هل الشومة، سمعنا بطاري العزومة

وهذا يوضح أهمية دور المعزّب في تخفيف عناء ومشقة السفر، خصوصاً في وقت لم تكن رفاهية وسائل النقل الحديثة متوفرة، واستعداده الدائم لاستقبال الضيوف بدون استعداد أو تحضير مسبق، أو طلب منهم، فهي مهمّة مقدّسة ومطلقة، يقول الكاتب والمفكّر الأردني ناهض حتّر في كتابه “المعزّب ربّاح” والذي ندين له بالفضل في كثير مما جاء في هذا البحث، أن المعزّب يكون رابحاً، بل ربّاحاً لأنه:

  1. يستجيب للواجب المطلق ويربح كرامته الإنسانية في مجتمع يلتئم على الضيافة.
  2. يربح التكريم المعنوي.
  3. يربح التكريم الفعلي حين ينقلب بدوره إلى ضيف، ليس على أمل السداد ولكن في سياق مطلق أيضاً.
  4. وعلى المستوى العملي يربح المعزّب، اطعام أهل بيته وعزوته وجيرته.

 

في مطعم إرث الأردن كلنا معزّيين نحرص على تأدية واجب الضيافة على أكمل وجه

واجبات المعزّب – حقوق الضيف :

  • التهلّي والترحيب بالضيوف واستقبالهم حتى لو كانوا على خصومة أو عداوة مع المعزّب
  • ربط الخيل وتقديم العلف لها، إذ للخيل رمزية خاصة في المجتمع الأردني، فهي مرتبطة بالرجولة والشجاعة، والرجل يحب فرسه ويهتمّ بها، والاهتمام بالخيل جزء من عملية الضيافة ومن إكرام الضيف.
  • بسط الفراش، ويتم إكرام الضيف وتوجيبه بتوجيهه للجلوس في صدر المجلس، وعلى الضيف الاستجابة لرغبة المعزّب في مكان الجلوس، فهو أعلم بزوايا بيته، ويضمن الترتيبات اللازمة لضمان الموازنة بين راحة الضيف وحماية خصوصية البيت.
  • تقديم القهوة، يقدمها المعزّب للضيف حال وصولهم وللقهوة أدبيات خاصة تم تناولها في بحث كامل ومختص على موقعنا.
  • تقديم الطعام، يقدم للضيف بعد وصوله وشرب القهوة، بغض النظر عن وقت حضوره، فيذبح له ويولم ويدعو الأهل والجيران لمشاركته تناول المنسف، والضيافة إحدى المناسبات القليلة التي يتم ذبح الخراف فيها، حيث لا ذبيحة في التقليد الغذائي الأردني إلاّ بمناسبة حياتية، كالزواج والولادة والوفاة والسكن ( النزالة للجيران الجدد ) وغير ذلك، وفي قمة هذه المناسبات تقع الضيافة، وذلك في اقتصاد انتاجي يتعامل مع الحلال كوسيلة إنتاج، لا وسيلة استهلاك، وحين يدعو المعزّب الضيوف لتناول الطعام يلتزم أدباً وحرصاً منه على الاعتذار عن التقصير، فيقول: “اعذرونا من القصور”.

  • الإكرام والمساواة بين الضيوف، وعدم تمييز بعضهم عن بعض، فأسوأ ما يفعله المعزّب هو إكرام بعض الضيوف وإهمال بعضهم، يقول الشاعر في هذا:

“أول السبع التلوف                         عزلك ضيوف عن ضيوف”

وفي ذات الوقت تؤخذ الأولوية والتراتبية في عين الاعتبار، فالضيف مقدّم على من سواه، ومعه كبار السن والقدر.

  • تلبية الطلب، لا يسأل الضيف عن حاجته وسبب زيارته، ولكن في حال كانت الزيارة بنية طلب شيء ما، فعلى المعزّب تلبية هذا الطلب قدر الإمكان.
  • قبول الاستجارة والدخالة والطنابة، وهذه مواضيع تتعلق بإغاثة الضيف وحمايته ونصرته وسيتم تناولها في أبحاث مخصصة ضمن حقل إرث القضاء العشائري، كما يكون للمعزّب إزاء الآخرين ما يسمى بـ “حق الملحة”، وهي الاعتراف المعنوي بالحماية الشاملة التي يضمنها المعزّب للضيف، فلا يُهان الأخير ولا يُطلب ولا يُؤذى طالما هو في ضيافة المعزّب، والممالحة في الأصل نسبة الى الحليب وهو من معاني الملح، ولكنها تعني أن من أكل لقمة أو شرب لبناً أو ماءً في بيت، فله حينها حق الحماية من قبل المضيف، ولا ينتهي هذا الحق إلاّ حين يمالح الضيف بيتاً آخر.
  • المعزّب لا يأكل، وإنما يخدم ضيفه ويعمل على راحته خلال تقديم الطعام، كما أنه ملزم بالآداب المرافقة للضيافة، فيتكلم للضيف بما تميل له نفسه، ولا يشكو الزمن أو ينظر للساعة أو يسأل عن الوقت أمام الضيف، ولا يشكو الفقر أو المرض ولا يتثاءب أو ينعس أو يبدي غضباً لئلا يفهم من تصرفه هذا تثاقلاً او تهرّباً من واجب الضيافة.

ثانياً: الضيف

أوضحنا فيما تقدم أهمية الضيافة وكونها نوعاً من أنواع العبادة وجزءاّ من عقيدة الأردنيين، فالضيف في أبجديات الضيافة الأردنية هو “ضيف الله”، وإكرامه هو واجب مقدّس، ويقال في الموروث الشعبي : الضيف أميرٌ إذا أقبل، فله الاستقبال الحسن، وأسير إذا جلس، فهو ملزم بالأدب والحشمة والالتزام بالعادات والقيم المتعلقة بالمجلس والكلام والطعام، وهو شاعر إذا رحل، يتكلّم بالخير عند مغادرة المعزبين ويمتدح ما لاقاه في ضيافتهم من حفاوة وإكرام، وكما للضيف من حقوق والتزامات يضمنها له المعزّب، دون شرط أو مقابل، فعليه واجبات أخلاقية ينتظر منه الالتزام بها بالمقابل.

واجبات الضيف – حقوق المعزّب :

  • عدم استغلال كرم المعزّب وقانون الضيافة كي يطيل الإقامة رغماً عن رغبة المعزّب، ما يعرف بـ “اللحز”، فيصبح “ملحزاً” أو “ملحزة”.
  • عدم رفض تناول الطعام وغالباً هو المنسف، حيث يُقال للضيف “أفلِح” وهي دعوة لبدء تناول الطعام، يقال في الموروث الشعبي: “الفلاح لا يلطم”، أي أن الدعوة لا ترد، ورفضها يعادل صفع صاحب الدعوة، وهي من أكبر الكبائر في قاموس الضيافة الأردني.
عمان ١٩٣٥ – ضيوف حفل زفاف الأمير طلال (الملك لاحقاً) ، يتناولون طعام القرى في بيوت شعر نصبت لاستقبالهم بجوار قصر رغدان العامر

ومن محظورات أكل الطعام عموما والمنسف تحديدا  :

  • اللهمطة: السرعة وعدم التركيز
  • الفغم: أكل الخضار بصوت مرتفع
  • اللغ: سكب اللبن بسرعة ولهوجة
  • الفنش: التغميس بلا أدب
  • اللشوطة: التعجّل على الأكل الحار (الساخن)
  • اللش: كثرة الاكل
  • مسح اليد بطرف الطبق
  • إعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها

رابعاً: دور المرأة الأردنية في الضيافة

لا يميز قانون الضيافة الأردني بين رجل وامرأة في منح الضيف حقوقه، وهذه قيمة أصيلة مترسخة تعبّر عن دور المرأة الأردنية التاريخي في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فعلى المرأة في مهمّة الضيافة المقدسة مثل ما على الرجل، والمرأة تشارك زوجها هذه المسؤولية التي تتسع لتصبح مسؤولية العائلة بأكملها، وقد تتعدى ذلك لتصبح مسؤولية العشيرة وفقاً لاتساع دائرة الضيوف، والمرأة هي أيضاً معزبة لبيتها وزوجها، وهي مسؤولة عن عملية الضيافة بكافة أركانها في حال كان زوجها غائباً، فللضيف على المرأة إذاً حقوق الإكرام، والطعام، والقهوة والذبيحة والمنسف، ولكن دون حق المبيت.

الضيافة في مطعم إرث الأردن

بخبرة قرون طويلة من الإسهام في الحضارة الإنسانية من قبل الأردنيين الأوائل، وسنوات من البحث في الإرث الأردني بكافة حقوله قادها فريق عمل مؤسسة إرث الأردن، تم افتتاح مطعم إرث الأردن على اكتاف جبل اللويبدة في قلب العاصمة عمان ليحافظ على استمرارية الهوية الغذائية الأردنية وليمنح الزائر فرصة تجربة أكثر من 60 طبق من المطبخ الأردني الغني والمتنوّع، بمكوّنات ومنتجات صنعتها سيدات من مختلف المناطق والمحافظات الأردنية، ويتم تحضيرها بأيدي كادر عمل محترف ومتميّز من جميع هذه المحافظات، في أجواء أردنية تتيح للزائرين الاطلاع على معرض للصور التاريخية، والتعرف أكثر على الأطباق ورحلة توثيقها، واكتشاف الأردن مع كل طبق.

مطعم إرث الأردن في جبل اللويبدة بالعاصمة الأردنية عمان

المراجع:

o        حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن

o        بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن

o        العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

o        عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.

o        صويلح،  ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.

o    Ramsy and others, Archeological evidence reveals the origins of bread, 14.400 years ago in northeastern Jordan, University of Copenhagen, PIANS Articles.

أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني

مقدّمة 

ثمّن أجدادنا الأردنيون الضيافة غالياً، ومن مظاهرها و أعمدتها القهوة، حيث يشرب المعزب ، الفنجان الأول على الملأ ، ليتأكد من سلامة القهوة ومذاقها وجودتها.

وفي العقود الماضية كان لدى شيوخ العشائر الأردنية وبعضهم ما زال لديه حتى الآن، عامل متخصص بصنع القهوة أو قهوجي متخصـص يدعى ( الفداوي )  وهو إضافة إلى إتقانه صانع القهوة، لا بدّ له من أن يتقن العزف بالمهباش في الجرن (الوعاء المخصص لطحن القهوة ) . وجرن الشيوخ مصنوع عادة من خشب البطم أو الزيتون المشغول والمزخرف بمسامير نحاسية ، طوله بين 50-60 سم، والفداوي الذي يكسر النجر أثناء دق المهباش، يستحق عند الشيخ مكافأة خاصة هي عبارة عن رداء يسمى ( لبسة الجرن)، وذلك لأن كسره دليل على كرم الشيخ الذي لا تنطفئُ ناره ولا يتوقف دق المهابيش في داره .

نار القهوة وأدوات تحضيرها في بيت شعر أردني

القهوة أداة للتعبير عند الأردنيين

مع مرور الزمن أصبحت القهوة جزءاً من التركيب الاجتماعي للمجتمع الأردني، وحاضرة في كل المناسبات والعادات، وإحدى وسائل التعبير عن كرم صاحب البيت أو عن الدعوة لتناول الطعام أوعن إجابة الطلب بطريق السماح، إضافة للتعبير عن الحزن أو الفرح، وارتبطت بطقوس مختلفة مثل الشعر والقصيد وأمسيات بيت الشعر والربابة، وهناك الكثير من القصائد والأهازيج التي تتغنى بالقهوة، والتي أصبحت رمزاً للكرم ونارها مضرباً للأمثال، كركن من أهم أركان عملية الضيافة، والتي أوضحنا في بحثنا المفصل عن أبجديات الضيافة أنها ضرب من ضروب العبادة بالنسبة للأردنيين.


القهوة وفن التفاوض عند الأردنيين

ترتبط القهوة بالعديد من التقاليد والمناسبات الاجتماعية، وتنعقد على أدبيات القهوة القرارات الحاسمة، وأهمها الزواج في الجاهة التي يرسلها أهل العريس لأهل العروس لطلب موافقتهم تكون القهوة بداية الحديث وخاتمته، فعندما يقدّم المعازيب (أهل الفتاة) القهوة للضيوف (أهل الخاطب) يضعها الضيوف أمامهم على الأرض، فلا يشربونها، وهذا بحد ذاته لفت نظر للمعازيب أن هناك أمر ما، ذلك أنه عادة ما تقدم القهوة لمجموعة، فإنها تقدم باستخدام ثلاثة فناجين، وحين الانتهاء من صب الفنجان الثالث يتم العودة لأخذ الفنجان الأول فيجده الصبّاب على الأرض، فيفهم أن الأمور تقترن بالطلب، فيأخذ حينها دلته ويعيدها الى جانب النار، وهذا في نفس الوقت تنبيه للحاضرين بأن هناك شيء تريد الجاهة طلبه، مع ما في كل ذلك من تفصيلات ودلالات، ويقوم المعني بالأمر من المعزبين أو من يمثلهم ، ويلقي التحيّة، ويسألهم المعزّب عن سبب عدم شربهم لقهوتهم، ويجيبون بأنهم لن يشربوها حتى تتم تلبية طلبهم، وتبدأ سجالات وجولات عديدة ، قبل الوصول للمرحلة الخاتمة والتي تحضر القهوة ودلالاتها فيها، فبعد الاتفاق وإجابة الطلب، تبادر الجاهة بالقول: صبوا القهوة، ويرد المعازيب: اشربوا قهوتكو، ويتم افراغ الفناجين السابق صبّها من القهوة من جديد، لأنها أصبحت فاترة (غير حارّة بما يكفي للشرب)، ويقال في مثل هذه السياقات بأن: ” الجاهة الشاطرة قهوتها ما تبرد ” ويقصد هنا أن الجاهة الناجحة والتي يتمتع وجهاؤها من القدرة على التأثير والإقناع، لن تحتاج إلى الكثير من الوقت لإقناع المعزّبين بتلبية طلب الضيوف، فهي بذلك إذاً لا تبرد قهوتها نظراً لقصر الوقت بين الطلب والإجابة.

أدوات تحضير القهوة

حبّات القهوة بعد تحميسها واكتسابها اللون البني

تتكوّن أدوات تحضير القهوة من :

1- المحماسة:

وهي من المعدن، وبالذات من الحديد.بحيث تبدو كصحن مقعر ذي مقبض (عصاة) من الحديد مربوطة بالجسم المقعر بواسطة برغيين يثبتانهما معا، وعند هذا الموضع رجلان، لترتكز عليهما المحماسة، بينما في نهاية المقبض ثقب تخرج منه سلسلة أو زرد خفيف من الحديد يقبض بما يسمى (سواطة المحماسة) وهي مطرق من الحديد ينتهي برأس مرقوق بحجم فوهة كأس الشاي الصغيرة، وبها تحرك حبات القهوة داخل المحماسة وهي على النار.

توضع حبات البن بالمحماسة، وتقلب وتحرك بيد المحماسة حتى يتحول لونها الأخضر إلى أشقر أو المائل للسواد ثم توضع على قطعة قماش أو جلد، حتى يبرد، ثم تدار في المهباش، حيث تدق لتكون مسحوقا يصنع منه القهوة.

وتستعمل (البشعة ) : لتحريك المحماسة وهي على النار مرفوعه على ثلاثة احجار تسمى (لدايا) وتكون على شكل مثلث، كما ان (البشعة) كانت تستخدم لكشف الشخص الكاذب بوضعها على لسانه ولسعه حسب قوانين القضاء العشائري.

2- المهباش:

أما الجُرن (المهباش) فهو أمر يعتز به صاحب البيت ويطرب له ويعتبر في الوقت نفسه وسيلة نداء لمن يسمعه من الجيران أو عابري سبيل للضيافة. ولدق الجُرن نغم يتفنن به كثير من الناس فهو بالإضافة إلى عملية طحن البن والهيل فإن عملية الطحن هذه تتم بإيقاعات متناسقة، وهو المدقة الكبيرة التي يتم فيها دق القهوة بيد خاصة من الخشب أيضًا، (ويمسى النجر، الجرن، وعبدان، الضبوح والعزّام) وهو المصنوع من الخشب وخاصة خشب البطم والزان والبلوط.

واختيار خشب البطم يأتي لكونه قوي وصلب، وسهل النجارة في آن واحد، حيث يمكن لصانع المهابيش النحت والتسوية، والتجميل والزينة فيه كما يشاء، ويمتاز خشب البطم أنه إذا جف لا يتشقق، وعادة يضعون أو يكمرون قطعة الخشب المنوي صنع المهباش منها بعد قطعها مباشرة في الزبل حيث تتوفر رطوبة تعوض عن المفقودة، فيذبل الخشب بدل أن يجف ويتشقق لو بقي في الشمس أو العراء. وصوت النجر من أجمل الأصوات المحببة المقبولة عند الأردنيين. خاصة لمن يجيد دق القهوة فيه.

ويعتبر دق المهباش فناً قائماً بحد ذاته وله أصوله ويستخدم صوته مناديا وداعيا للمجيء والمشاركة في شرب القهوة، وقد تختلف دقاته من شخص إلى آخر وهو فن قليل من يتقنه، وهم المختصون بدق القهوة وتجهيزها.

3- الدلال: مفردها دلة وهي آنية من النحاس واسعة القاعدة والفوهة، ضيقة الوسط، ذات مقبض يدوي ولها (فتحة) كالقناة تصب القهوة منها بالفنجان وهي ثلاثة أحجام، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ولكل واحدة دور في صنع القهوة متمم للآخر، ومتفرع عنه إذا صنفناها تنازلياً:

أ. الدلة الكبيرة: وهي التي يوضع فيها الماء عند البدء بصنع القهوة، وتسمى (المطباخ، أو الطباخ) ذلك لأن الماء يغلي مع طبخ حثل القهوة القديم فيها، ويكون حجمها كبيرا قد يبلغ بعضها سعة صفيحة من الماء، أما الثانية فهي الوسطى، التي يوضع فيها مسحوق القهوة، ويصب الماء فيها بعد غليانه بالكبيرة، وذلك فوق القهوة التي يكون دورها بالغليان في الوسطى، وكلما تؤخذ كمية من ماء الكبيرة للوسطى يضاف ماء جديد بدلا منها (وتبقى قريبة من النار) لإضافتها عند الحاجة إلى الدلة الوسطى.

ب. الدلة الوسطى: المسماة (المصفاة أو الثنوة)، لأنها مرحلة وسط، وبها يَصَفَّى الماء المأخوذ من الكبيرة، ليطبخ هنا ويغلي مع القهوة المصحونة حتى يصبح لونها قريب إلى الأشقر أو الاحمرار.

جـ. الدلة الصغيرة (المَصَب): ويوضع فيها البهار، ثم تصب القهوة من الوسطى بعد أن (تصفى، وتركد)، وتترسب المواد العالقة بالسائل، ومن الدلة الصغيرة يتم صب القهوة لشاربيها، وتسمى الصغيرة (البكرج)، وتحتاج البكرج للنار باستمرار لتحافظ على حرارتها.

4- المبرد: وهو وعاء خشبي مجوف يتم  استخدامه لتبريد القهوة، حيث توضع القهوة المحمصة بداخله إلى أن تبرد قبل وضعها في (المهباش).

5- المنقل: يستعمل لإشعال النار من الحطب أو الفحم، لوضع الدلال والبكرج حول النار لتبقى القهوة ساخنة.

6- الظبية: عبارة عن كيس من جلد الغزال تزيّنه خيوط صوفية ملونة والخرز، توضع فيها القهوة ويكون مربوط معها كيس آخر أصغر حجماً يوضع فيه البهار (الهال )، ويصنع من الكيس من جلد الغزال تقديرا للقهوة واحتراما لها وحفاظا على نكهتها من التغيّر والتبدّل .

7- المصفاة والفناجين ( الفناجيل باللهجة الأردنية)، تستعمل المصفاة لتنقية القهوة خلال مراحل إعدادها، وتستخدم الفناجين الزجاجية المزخرفة لتقديم القهوة، وقد كانت في البداية تصنع من الفخار، ثم أصبحت تصنع من الخزف الصيني الأبيض والمنقوش والملون، وقد يزين جدارها الخارجي بنقوش جميلة، ويجب ألاّ يقل عددها عن ثلاثة، ويكون بجانبها وعاء ماء ليجري تنظيفها بين الحين والآخر.

8- المنفاخ: يستعمل لزيادة إشعال النار .

9- الليف: هو الذي يحجب الهيل من النزول في الفنجان عند صبه . 

10- البيق : تمسك به الدلة إن كانت حارة .

 

بعض أدوات تحضير القهوة

عملية تحضير القهوة

تُحمّس القهوة الخضراء بمحماسة من الحديد، ثم توضع على مبراد من خشب، وبعد أن تبرد توضع في المهباش ليتم دقها وطحنها، وتوضع بعد ذلك على المنقل في طبّاخ وتترك لتغلي لفترة طويلة، حتى تصبح فقاعتها بحجم”عين النملة” ثم تدار في الدلة التي تحتوي على البهار المدقوق، ثم تدار في بكرج أصغر من الدلة، وتقدم ساخنة بالفناجين.

اضافة حبّات القهوة الخضراء ليتم تحميسها في المحماسة
حب الهيل يمنح طعم مميز للقهوة الأردنية
دق القهوة بالمهباش في الجرن ليتم طحنها بعد تحميسها
صب القهوة في الدلال “جمع دلّة”

ومن المهم أثناء التحضير وبعد الانتهاء منه أن ينتبه صانع القهوة أو المعزّب لسلامة القهوة من أي عيب خوفا من أن تكون “صايدة” فيلحقه حق كبير، والقهوة الصـايدة هي القهوة التي لحقها الأذى من طعم غريب أو جسم غريب كالحشرات واوراق النباتات العطرية وغيرها أو أن يعملها شخص على نجاسة ذلك أن القهوة تستطيع امتصاص أي رائحة حتى رائحة الانسان، وقد كان أجدادنا يعرفون ويميزون القهوة الصايـدة عن تلك السليمة نظرا لسلامة مذاقهم واعتيادهم على مستوى جودتها الرفيع، وهناك مسمّيات وأوصاف خاصة بالقهوة التي تخالف أصول تحضيرها وجودة تقديمها منها :

  •  القهوة الغْراق : وهي القهوة التي تكون فيها حبات القهوة غير محمصة جيداً مما يؤثر على طعمها .
  • القهوة الحْراق : وهي القهوة التي تكون فيها حبات القهوة قد حُمّصت إلى درجة الاحتراق مما يؤثر على طعمها.
  • القهوة كثيرة الماء : وهي القهوة التي تكون فيها كمية الماء أكثر من القهوة بنسبة مرتفعة .
  • القهوة المسّربه : وهي القهوة المتبقية في نهاية الدلة بعد نفاذ الكمية الموجودة فيها إذ تكون رواسب القهوة أكثر من سائل القهوة .
  •  القهوة الدافيه ( الدافئة ) : وهي القهوة التي انخفضت درجة حرارتها وأصبحت غير مستساغة للشارب .
  • القهوة الشايشة : وهي القهوة التي يقوم المعزب بصبها بعد الغليان مباشرة بحيث تكون المواد الصلبة منتشرة على سطحها في الدله ولم تترسب بعد .

عمليّة تقديم القهوة

كما أشرنا في قواعد التعامل مع القهوة عند الأردنيين فإن من واجب صباب القهوة أن ينحني ليصبح الفنجان أدنى من صدر الضيف وفي متناول يده، وعند صب القهوة في الفنجان ينزل خيطا رفيعا من القهوة مع رفع الدلة عن الفنجان دون قطع الخيط، والغاية من هذه الحركة إمتاع الضيف بمنظر انسكاب القهوة قبل شربها. ويحمل صباب القهوة البكرج بيده اليسرى ويقدم الفنجان باليد اليمنى بعد أن يضرب فوهة الدلة بطرف الفنجان للفت انتباه الضيف الذي يسكب له، وشارب القهوة إن هز فنجانه بعد شربه فيعني أنه اكتفى، وان لم يهزه يبقى صباب القهوة يصب له إلى أن يهزه، وهنا يقول الشارب “عمار” أو “دايمة” أو ” عن وساع ” ويرد الصبّاب : “صحتين”، وفي حالة الترح وتقديم واجب العزاء لأهل الميت تعتبر هزة الفنجان أو شرب أكثر من فنجان أو استخدام لفظة “دايم” من الأمور غير اللائقة واللا مقبولة لأنها جميعاً تعبّر عن الأمل بدوام الحال، وتكرارالمناسبة، وهذه أمنيات مستخدمة ومقبولة في حالة الفرح فقط، لذلك يجب الاكتفاء بوضع اصبعي السبابة والوسطى على الفنجان دون هزّه.

ومن واجب الضيف أن يتناول الفنجان باليد اليمنى والتصرف بغير ذلك معاكس لقوانين الضيافة الأردنية، فلا يجوز مقابلة اليمين باليسار، لأن ذلك احتقار للمضيف وازدراء له، كما أنه لا يجوز أن يتناول الفنجان وهو متكئ، بل عليه أن يستند وأن يكون جالسا باحترام.

كما أن هنالك العديد من القصائد في اللهجة المحلية التي تمتدح قهوة البن وتصف صنعها وتقاليدها ؛ ومنها :

يا عاملين البن وسط التراميس

 لا تقطعونه من حشا مرضعاتو

ردوه لامات الخشوم المقاييس

 صفر الدلال اللي عليها حلاتو

 ما عاد شفنا البن وسط المحاميس

يحمس وصوت النجر طوّل اسكاتو

القواعد الأردنية في التعامل مع القهوة

و لدى العشائر الأردنية مجموعة من القواعد الرئيسية للتعامل مع القهوة، إذ أنه كما للضيافة قانون، أيضاً للقهوة قوانينها وآدابها التي تحكم الضيف والمضيف معاً؛ وقد ذكرنا بعضها في السياق ونعيد ذكر أبرزها وأهمها تباعاً مع دمجها مع بعضها البعض حسب تشارك مواضيعها ليسهل فهمها للقارئ:

القاعدة الأولى: (القهوة مفتاح السلام و الكلام)، أي أن الضيف و المعزّب لا يأخذان راحتهما بالكلام إلا بعد أن يشرب الضيف فنجان القهوة الأول، فيكون بذلك قد مالَح المعزب وأمن أحدهما الآخر وأخذا حريتهما بالكلام في أمان مطلق، ومن المعروف أن القهوة لا تقدم فاترة أو قليلة الدفء، ومهمة من يقوم بصبّها سواء كان المعزب أو صبّاب القهوة أن يتأكد من حرارتها وسلامتها وجودة مذاقها، ولذلك عليه أن يشرب الفنجان الأول قبل الجميع ويسمّى فنجان الهيف، وواحد من أبرز أسباب ضرورة شرب الفنجان الأول من قبل المعزّب أنه قد تعتريه برودة السطح وبذلك يقدم الفنجان الثاني للضيف ساخناً.

القاعدة الثانية: (القهوة قصّ مش خَصّ لو كان أبو زيد عاليسار) أي أن تقديم القهوة يبدأ من الجالسين على يمين المعزب الذي يقدم القهوة ثم يستمر باتجاه اليسار بغض النظر عن منزلة الشخص الجالس إلى اليسار. و تكسر هذه القاعدة فقط في حال وجود ضيوف غرباء، حيث يبدأ المعزب تقديم القهوة عندهم، وحينها تتحول القاعدة لتصبح ( القهوة أولها خص وثانيها قص )، أما في الجاهات ، يقدّم أول فنجان لكبير الجاهة، ثم لأفرادها، ولكنهم يمتنعون عن شربها، حتى إذا تمّت استجابة المعزب لطلب الجاهة، قال لهم : اشربوا قهوتكو، وهذه القاعدة سنأتي عليها بشيء من التفصيل في عنوان قادم.

القاعدة الثالثة: (فنجان للضيف، فنجان للكيف، و فنجان للسيف) أي أن نِصاب القهوة ثلاثة فناجين. و كان من حق الضيف الداخل إلى بيت أحدهم أن تقدم له القهوة، و إذا لم يحصل ذلك يحق للضيف أن يطالب المعزّب بالحقوق الناجمة عن عدم احترامه.

القاعدة الرابعة: يمسك المعزب أو صبّاب القهوة الدلة بيسراه والفناجين بيده اليمنى، ويصب القهوة وهو واقف ثم يناولها للضيف بيده اليمنى، وتصب بالفنجان كمية قليلة لا تزيد عن حجم ملعقة طعام فالقهوة لغاية الضيافة والكيف وليست لتحصيل الشبع أو الجشع ، ذلك أن الأردنيين يصفون كمية القهوة في الفنجان بـ ( شفَهّ وهَفهّ) أي أنك تَشِفْ شَفَّ ثم تَهُف هَفَّ فتنتهي الكمية في الفنجان ورغم أن هذا معاكسٌ لكرم الأردنيين الذي يقدمون كل شيء بزيادة إلا القهوة فالزيادة تكون فقط بالبهار والهيل وفلسفتهم في ذلك أن الدلة الواحدة يجب أن تكفي عشرات الجالسين كما أن الأشياء العزيزة تكون في شُح والحصول عليها قديما لم يكن بالأمر الهين.كما أن زيادة القهوة في الفنجان تدل امتلاء قلب صبّاب القهوة بالغضب والحقد وهو أمرٌ معيب وشائن بحق الضيف، كما أن عليه أن يراقب القهوة التي يصب منها فلا يقدمها والحثل يندلق في قلب الفنجان، فهذه علامة على نفاذ كمية القهوة ويجب تبديل الدلّة فورا.

القاعدة الخامسة: يجب على الضيف تناول القهوة بيده اليمنى، ثم أن يشرب ويرجع الفنجان إلى صبَّاب القهوة يداً بيد ولا يجوز أن يضع الفنجان جانباً قبل أن يشرب منه إلا في حالات فنجان الجاهة.

القاعدة السادسة: يستمرّ صبَّاب القهوة بتقديم القهوة عن يمينه للضيوف بعدد الفناجيل التي بيده وبعدها يعود لأول ضيف فيأخذ منه فنجاله ويستمر في تقديم القهوة من حيث توقف، وهكذا حتّى آخر ضيف، ومن العيب ترك أحد الضيوف دون أن تُصب له القهوة سهواً، فعيون الذي يصب القهوة عليها أن تكون أحدّ من عيون الصقر، وعليه أن يدور على الضيوف باستقامة وبثبات حتى لا يدلق شيئاً من القهوة على أحدهم.

القاعدة السابعة: من المعتاد أن ينحني صبَّاب القهوة أثناء تقديم الفنجال للضيف، وفي ذلك زيادةٌ في الاحترام للضيف، وعلى الضيف بالمقابل الاستناد أو تعديل جلسته عند تناول القهوة من المعزّب أو الذي يصبها احتراما لضيافته، يقول المؤرخ الدكتور محمد أبوحسّان :”و أَذكر في ذلك أنني كنت ضيفاً عند أحد بيوت منطقة تقع جنوب مطار الملكة علياء الدولي، ولم ينحنِ صبَّاب القهوة عندما قدّم لي الفنجال، فلاحظ ذلك المعزب وقام بصرفه من البيت واعتذر لي اعتذاراً خجلت لشدة صدقه و إلحاحه وأبى إلا أن يقدِّم لي القهوة بيده ويقف أمامي إلى أن فرغت منها وهززت له بفنجالي.

القاعدة الثامنة: إذا كان الضيف مشغولاً بالحديث أو خلاف ذلك ينبهه صَبَّاب القهوة إلى وجوده بأن يدق الفنجال بمقدمة الدلّة، كما أنه من غير اللائق ترك المعزّب أو صبّاب القهوة واقفا لفترة أطول من اللازم، وعلى الضيف أن يهز الفنجال لدى إرجاعه كإشارة إلى أنه لا يرغب بالمزيد، فإذا لم يهزه وجب على الصَّباب أن يعيد الصب.

القاعدة التاسعة : من العيب النفخ على الفنجان إذا كانت القهوة ساخنة، ولكن يمكن تحريك فنجان القهوة باليد قبل شربها للمساعدة على تبريدها، كما يمكن شربها على ثلاث جرعات.

معزّب غانم باللباس الأردني يقوم بتقديم القهوة الصورة بعدسة الصحفي سهم الربابعة

لمن تصب القهوة أولاً ؟

تتنوع حالات وقواعد أولوية صب القهوة، وأهم هذه القواعد والحالات:

  • البدءُ من اليمين: من الآداب الرئيسية لتقديم القهوة عند الأردنيين هي أن تدار من اليمين إلى اليسار، وهم يقولون: ”القهوة قص ما هي خص لو كان أبو زيد على يسارك”، ويعني ذلك أن الأصل في تقديم القهوة أن يناول صبّاب القهوة الفنجان الأول إلى أول شخص على يمينه، ثم يستمر باتجاه اليسار حتى لو كان أبو زيد الهلالي – وهو فارس مشهور ويضرب به المثل – على يساره.
  • البدءُ بصاحب الرأي: في حالات أخرى خاصة لا يجوز تقديم الفنجان الأول لرجل ما لمجرد قعوده في يمين المجلس، حيث يجب أن يكون الفنجان الأول من نصيب صاحب الرأي، وهو الشخص الذي يمتاز برجحان عقله وقوة حكمته، وسداد رأيه، ولا شك أن هذا التقليد يعكس أهمية الرأي عند العشائر الأردنية، واحترامهم للحكمة والعقل وتدبير الأمور .
  • البدءُ بالضيف: إما إذا أعدت القهوة على شرف ضيف قادم من منطقة بعيدة، أو إذا دخل أثناء إعدادها فإن الدور يبدأ به أينما كان مجلسه، ويستمر بمن يجلس عن يمينه حتى ينتهي بمن يجلس عن يساره.
  • البدءُ بكبير السن: إذا كان عدد الضيوف أكثر من واحد فإن الدور يبدأ بأكبرهم سنا، ثم الذي يليه ، وإذا التبس الأمر على ساقي القهوة، فعليه أن يحرك الفناجين بين يديه مصدرا صوتا، إشعارا للضيوف أنه عاجز عن معرفة كبير السن بينهم، وفي هذه الحالة، على الضيوف أن يبينوا له ذلك، ويشيرون عليه بصب القهوة للذي يسمونه من بينهم.

وفي هذا السياق يضيف الباحث الأستاذ سليمان أحمد عبيدات إلى أن من الأخطاء الفادحة عند البعض أن يتجاوز ساقي القهوة أي شخص عند تقديم القهوة، ويعتبر ذلك أكبر إهانة واحتقار له، ولا يُفعل هذا الأمر قصدا وعمدا إلا أن يكون المقصود قد هرب من معركة أو اقترف جرما أخلاقيا، أو قام بعمل مشين لا يؤهله لأن يجلس بين الرجال ويشاركهم شرب القهوة.

دلالات هز الفنجان

بعد أن يرتشف الضيف فنجانا أو عدة فناجين من القهوة عليه أن يناول الفنجان لصباب القهوة بعد أن يهزّه عدة مرات بيده اليمنى الممدودة إلى صباب القهوة ليشعره بأنه اكتفى من شرب القهوة، فيتوقف حينئذ الصباب عن صب القهوة لهذا الرجل والمقصد من عملية هز الفنجان أنها مرتبطة بحركات لغة الإشارة والإيماءات بالوجه واليد والعينين وهنا كحركتين مختلفتين في هذا السياق فإن لهما معاني مختلفة:

  • الحركة الأولى: دفع راحة اليد التي تحمل الفنجان باتجاه خارج الجسم قليلا.
  • الحركة الثانية: رفع راحة اليد المذكورة إلى أعلى والتوقف لحظات مع هز الفنجان.

وهذا يعني في أن الحركة الأولى تعني طلب الابتعاد بالقهوة، أما الحركة الثانية فتعني طلب التوقف عن صب القهوة ، أي الاكتفاء من شرب القهوة عند هذا الحد، سواء كان الشخص قد تناول فنجانا أو أكثر. 

فنجان قهوة أردني بالشكل المتعارف عليه

رمزية عدد الفناجين وترتيبها

أحيط عدد الفناجين التي يشربها الضيف بالدلالات الرمزية، فالقول الشائع أن القهوة ثلاثة فناجين، الأول للضيف والثاني للكيف، والثالث للسيف، فما دلالات هذه التسميات؟ نستعرضها فيما يلي:

  • الفنجان الأول : وهو الفنجان الذي يأتي بعد فنجان الهيف ويسمى فنجان الضيف وهو فنجان الترحيب بالقادم سواء كان معروفا أو غير معروف، وشرب هذا الفنجان لا بد منه إلا لعلة مرضية واضحة، ويمكن للضيف أن يرفض الفنجان الثاني، أما رفض الفنجان الأول فلا يجوز ويحسب إهانة كبيرة بحق المضيف وإنذارا بشر أو طلب صعب.
  • الفنجان الثاني : يسمى فنجان الكيف ويوصف من يشربه أنه صاحب كيف، وهو على استعداد لمسامرة مضيفه ومؤانسته وتبديد وحشته.
  • الفنجان الثالث: يسمى فنجان السيف ويفترض بمن يشربه أن يكون عونا للمضيف في حالة الشدة وأيام الحرب، وهو على استعداد لمشاركة مضيفه في رد أي عدوان يقع عليهم. وهو أشبه ما يكون بعقد تحـالف عسكري وميثاق أمني ما بين الضيف والمضيف وفي هذا الموضوع أورد الاستاذ الباحث ياسين صويلح قصة أحد شيوخ القبائل البدوية وقد اتجه مع رجاله إلى مكان آخر بقصد التجارة، وعند حلول الليل حطوا رحالهم يستريحون، فرأى الشيخ ضوءاً فترك رجاله وقصده لاعتقاده أن الضوء صادر من قرية، لكنه فوجئ بخيمة لأحد المماليك، فأصر المملوك على استضافته، فشرب الشيخ فنجاني قهوة، واعتذر عن الثالث بإصرار، وحين استفسر المملوك عن سبب إصراره ورفضه الفنجان الثالث، أجاب الشيخ بأنه جاء تاجراً وليس محارباً.

وقديما كان هنالك فنجان آخر خاص ونادر التقديم وهو ليس من فناجين الضيف الثلاثة ولا يقدّم أو يشرب إلا في حالة الثأر والحرب ويسمى  فنجـان النشامى أو فنجان الفارس أو فنجان الدم وكلّها سيّان، ويقدّم الفنجان عندما يطلب صاحب الدم أو الثأر في العشيرة ثأره – سواء كان شيخ العشيرة أو رجلا كبيرًا في السن أو إمرأة أو من هو غير قادر على انفاذ ثأره – فيستدعى عقداء الخيل وفرسان العشيرة من قبل صاحب الثأر ويصب القهوة في الفنجان ويرفعه عاليا على رؤوس الأشهاد وأمام الجميع ويقـول :

هــذا فنجـان فـلان بن فـلان – يقصد به الشخص المراد أخذ الثأر منه – من يشربـه ؟، أي من يأخذ حقنا أو ثأرنا أو دمنا منه؟، فيقوم أحد الفرسان ممن يتطوعون لجلب الحق أو أخذ الثأر فيقـول : أنا له ، في تعبير عن قدرته على تعمل مسؤولية وتبعات هذا الفنجان، فيأخذ الفنجـان ويشربـه، ويذهب في طلب هذا الشخص ولا يعـود إلى عشيرته إلا بعد إحضـار البينة على أنه انتقم لصاحب الفنجـال من الشخص المطلوب، وإلا فله أحد خيارين :

  • إما أن يجلي – يرحل – عن مضارب عشيرته ولايعـود لها أبدا لما لحقه من ذل وعار عدم وفاءه بالوعد.
  • وإما أن يعود محملا بالخزي والعار ويصبح مدعاة لسخرية أفراد القبيلة صغيرها وكبيرها رجالا ونساء، فلا يتزوج منها ولا يخرج للحرب مع فرسانها ولا يجلس مجالس الشيوخ والفرسان.

وقد سبق وأن شرب هذا الفنجان عدد واسع من شيوخ وفرسان العشائر الأردنية خلال حروبهم وطلبهم للثأر من جيش الاحتلال العثماني أثناء الثورات الأردنية الصغرى والوسطى، ولعلّ أشهر هذه الحوادث، حادثة شرب الشيخ البطل الشهيد اسماعيل المجالي ( الشوفي ) لفنجان الثأر للشهيدين سيّد وعلي ابنا الشيخ ابراهيم الضمور بعد حرقهما على يد ابراهيم بن محمد علي باشا والي مصر المنقلب على العثمانيين.

  • المراجع:
  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت:لبنان
  • نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان:الأردن.
  • نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان:الأردن
  • نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
  • عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
  • زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.

أدبيات التعامل مع القهوة الأردنية

مقدمة

تُعرَّفُ آلات النفخ الموسيقية على أنها الآلات التي يصدر منها الصوت عبر مرور الهواء من خلال أجزائها، وتعتبر الآلات النفخية أوّل الآلات الموسيقيّة التي عرفها الإنسان في التاريخ، إذ كانت الرياح التي تمر بين ثقوب خشب الأشجار والصخور والعظام تصدر صفيرًا لَفَت سمع الإنسان وجعله لاحقًا يستفيد منه في صنع نماذج بدائية لآلات نفخية أحاديّة الصوت يستخدمها لمحاكاة أصوات الطبيعة، ثم اهتدى لاحقاً إلى فكرة إحداث الثقوب في الأنابيب لإخراج عدة أصوات من الأنبوب الواحد، ومع مرور الزمن وتطوّر الحضارة الإنسانيّة ظلت هذه النماذج تتطوّر حتى أفضت إلى ابتكار آلات موسيقيّة نفخية مازالت حتى يومنا هذا تُستخدم في أداء الموسيقى.

عرف الإنسان الأردني، منذ أزمانٍ بعيدةْ، الآلات الموسيقيّة، صُنعًا وتطويرًا وأداءً، ودلّت الآثار التاريخيّة على أهميّة الموسيقى في الحضارات الأردنيّة القديمة، وكنا قد تناولنا في أبحاث سابقة الموسيقى عند الأردنيين الأنباط ودور المرأة النبطية في الحياة الموسيقيّة آنذاك. فيما نتناول في هذا البحث الآلات النفخية الأردنيّة التي عرفها الأردنيون قديمًا ولازالت تُستخدم لمرافقة الغناء والرقصات الشعبيّة والعروض الرسميّة، وهي : الشبّابة، المجوز، اليرغول، والقربة.

الشبابة

أو الشُّبّيبة، وهي آلة نفخية تمتاز بصوت الصفير العذب، موجودة منذ حضارة الأردنيين الأنباط، إذ ظهرت في لوحة يعزف عليها طفلٌ مُجنَّح يُعتقد أنه الإله بان، ويرى باحثون أنها الآلة التي تطوّرت عنها نماذج أدّت إلى ظهور آلة الناي و Flute الشهيرتين في الشرق والغرب.

لوحة نبطية يُعتقد أنها للإله بان

تُصنعُ الشبّابة من القصب (القُصّيب)، وتتكون من قصبة واحدة مستقيمة وجوفاء، مفتوحة الطرفين، ويتم ثقبها في خمس أو ست مواضع على ظهرها، وتكون الثقوب متساوية الاتساع وتفصل بينها أبعادٌ محدّدة. وبالرغم من نضوب مجاري المياه الطبيعيّة في الأردن وندرة القصب الذي ينبت على حوافّ الأنهار والسيول، لم يخفت اهتمام الأردنيين بهذه الآلة، بل لجؤوا لصناعتها من مواد صناعيّة بلاستيكيّة أو معدنية للحفاظ على وجودها بين الآلات الموسيقيّة الشعبيّة.

تُعتبرُ آلة الشبّابة الأكثر انتشارًا في الأردن، إذ أنها حاضرة وبقوّة في الأرياف والبوادي على حدٍّ سواء، فهي في الرّيف من الآلات التي ترافق الدبكات، في حين أنها في البادية ونيسة الراعي ورفيقة دربه في المنحدرات والأودية وفضاءات الرّعي الواسعة.

الراعي الفتى يعزف على شبّابته أثناء الرعي في ربوع الأغوار الأردنية عام 1914

هناك العديد من الألوان الغنائية الأردنيّة مثل الدلعونا والزجل والعتابا وظريف الطول ويا علّا .. وغيرها من الألوان الغنائية التي يزدحم بها الإرث الموسيقيّ الأردني، يرتبط غناؤها بمرافقة آلة الشبابة حصرًا دونًا عن الآلات النغمية الأخرى، وبالذات في شمال الأردن، كما أننا نجد الشبّابة حاضرة وبقوّة مع الدبكات الأردنية، ولعل الدبكة التسعاوية الشهيرة في محافظة معان جنوب الأردن نموذجٌ حيٌّ على مرافقة الشبّابة للدبكات.

يكون العزف على الشبّابة بواحدةٍ من الطريقتين التقليديتين المتعارف عليهما في الأردن، الأولى أن يضع العازف الفتحة العلوية للشبّابة على الشفّة السفلى لفمه وينفث الهواء بشكلٍ جانبيٍّ، وهي طريقةٌ شبيهة بآلية العزف وإخراج الصوت من آلة Flute التي تعتبر من أهم آلات النفخ في الأوركسترا السّيمفوني. أما الطريقة الثانية فتكون بأن يضع العازف الفتحة العلوية لأنبوب الشبّابة على نابه العلوي، وهذه الطريقة مريحة أكثر للعازف بحيث لا تتسبّب بإجهاد شفتيه أو تعرّضهما للإصابات خصوصًا عند العزف لفترات طويلة وبشكل متواصل. ينحصر المدى الصوتي لآلة الشبّابة بين ست وسبع نغمات موسيقيّة بالكاد تمثّل سلّمًا موسيقيًا كامل الدرجات، ويمكن الوصول إلى عدد نغمات أكبر من ذلك بحسب مدى براعة العازف واحترافيّته وقدرته على مضاعفة قوّة النفخ وشدّ الشفاه للحصول على نغمات عالية تُدعى بالـ “جوابات”. وكمثل آلة الربابة التي يصنعها عازفها بنفسه، فإن ثمة علاقة خاصة بين عازف الشبّابة وشبّابته تنعكس على أدائه الموسيقي عليها، لذا فإنه يصعب عليه إعارتها لغيره، أو العزف على شبّابة أخرى، ويعود ذلك للثقة الآتية من الاعتياد على مقاسات الآلة وطبيعة صوتها التي تعتمد على الاختلاف البسيط في المقاسات والتفاصيل وجودة الخشب من شبّابة لأخرى.

المجوز

تعتبر آلة المجوز في المرتبة الثانية بعد الشبّابة من حيث مدى انتشارها، ويرتبط أداؤها بالدبكات والرقصات الريفيّة، ويكاد لا يكون لها وجودٌ في البادية. والمجوز هي آلة نفخية تمتاز بصوتها القوي والصادح، وتُصنَع قديمًا من القصب وعظام النّسر، وحديثًا من المواد الصناعية مثل المعدن والبلاستيك.

تدل الآثار المُكتشفة عن حضارة الأردنيين الأنباط على وجود آلة المجوز منذ ذلك الزمن وحتى يومنا هذا، إذ ظهرت هذه الآلة في التمثال الشهير الذي يمثّل أول فرقة موسيقية أردنية مكتشفة في التاريخ، يعزف عليها أحد العازفين الذكور وعلى جانبيه إمرأتان موسيقيتان تعزفان على القيثارة والخرخاشة، ويُعرف المجوز في المراجع والكتب المتخصصة في الآثار والتي تشرح تفاصيل هذا التمثال على أنه “الناي المزدوج”، في إشارة واضحة لأصول تسمية المجوز الذي نعرفه اليوم.

رسم توضيحي لتمثال نبطي يمثّل أول فرقة موسيقيّة أردنيّة يظهر فيها المجوز ويُعرف بالناي المزدوج

يصنعُ آلة المجوز عادةً عازفُها بنفسه، وتتكوّن بشكل رئيسي من أنبوبتين متساويتي الطّول، ملتصقتان ببعضهما البعض بواسطة شمع العسل الذي يُذاب ويُستخدم كمادة لاصقة، وتتكون آلة المجوز من مكوّنات فرعية هي كما يلي :

  • البنيّات : وهما قصبتان رفيعتان مكونتان من عقلتين صغيرتين من قصب الغاب (البوص)، طول الواحدة منها حوالي 5 سم وقطرها 1 سم، تكونا مفتوحتين من أحد الطرفين ومغلقتين من الطرف الآخر، لكنّهما مشقوقتان طوليًا عند الطرف العلوي المُغلق، ووظيفة هذا الشق هو إصدار الصوت ذات الطابع التزميري، فتصبح هاتان البنيّتان بمثابة الزمّارة (الزمّيرة)، أو الجزء المصوّت الذي يصدر منه صوت المجوز الأساسي. وبمعنى آخر فإنه من الممكن اعتبار البنيّات على أنها (Mouth Piece ) في المجوز.
  • العرايس : وهما قصبتان من خشب الغاب (البوص)، وتمثلان حلقة الوصل بين البنيّات واللعّابات، تدخل كل عروسة في واحدة من البنيّات من طرفها العلوي، وبإحدى اللعّابتين من الطرف السفلي.
  • اللعّابات : وهما قصبتان ملتصقتان طول الواحدة منهما تقريبًا 30 سم، واللعابة هي الأنبوب الذي يصل إليها الصوت الصادر من البنيّات عبر العرايس، ويتضخم فيهما عبر ارتجاجه في الجدار الداخلي لكلّ لعّابة. وعلى الوجه العلوي لللعّابتين خمس أو ست فتحات متساويات في القطر وفي الأبعاد التي تفصل بينها.

يكون المدى الصوتي لآلة المجوز بالعادة بين 5 إلى 6 نغمات، بعدد الثقوب الموجودة على ظهر اللعابتين، مضافًا إليها نغمة أخرى هي الصادرة من خلال الفتحتين الرئيسيتين السفليتين لهما. ويصدر الصوت من آلة المجوز عبر اصطدام الهواء الذي ينفخه العازف ويدفع به عبر البنيّات، والتي سبق وأن وضحنا في أعلاه أنهما الجزء المصوّت في آلة المجوز، وينتج عن اهتزاز الهواء في البنيّات صوت الزمير الذي ينتقل عبر العرايس إلى اللعّابات ليتم تضخيمه فيهما، وعندئذٍ تكون النغمة الصادرة هي النغمة الأساس للآلة، يتم تغييرها من خلال سد وفتح الثقوب الموجودة على ظهر اللعابتين بواسطة أصابع العازف. وتتميّز آلة المجوز بأنها تُصدر صوتًا مكررًا من الأنبوبتين معًا في نفس اللحظة  (Unison)، وهذا هو السر الصوتي لآلة المجوز والتي يميّزها عن الشبّابة. يتطلب العزف على آلة المجوز استخدام تقنية تدوير الهواء من قِبَل العازف، وهي تقنية ليست بالسهلة، إذ يقوم العازف بتزويد رئتيه بالهواء عبر الأنف في الوقت نفسه الذي يقوم به بنفخ الهواء عبر فمه، ويمكن تحقيق ذلك من خلال جعل الفم مخزن للهواء المدفوع بقوّة عضلات الوجه لحين انتهاء عملية الشهيق من الأنف.

اليرغول

آلة اليرغول هي الآلة الأقل انتشارًا بالمقارنة مع الشبّابة والمجوز، وعلى الرغم من ذلك فهي مشهورة ومعروفة في المناطق الشمالية والوسطى وبنوعٍ خاصٍ في الأغوار الأردنية، ويمكن القول أن اليرغول قد تكون آلة تطوّرت مع الزمن عن آلة المجوز، وذلك بالنظر إلى شبه التطابق الكلّي في المكوّنات الرئيسية وأسلوب العزف عليها والتشابه الكبير في الصّوت الناتج عن الآلتين، وأيضًا؛ فإن اليرغول كالمجوز، آلة يتم العزف عليها لمرافقة الأغاني والأهازيج والدبكات والرقصات التي تؤدّى في مناطق انتشارها.

تُصنع آلة اليرغول من ذات المكوّنات التي تُصنع منها آلة المجوز، وتتكوّن من ذات الأجزاء الرئيسيّة التي في المجوز، من البنيّات، العرايس. إلا أن ما يميّز اليرغول هو وجود لعّابة واحدة فقط، وبجانبها لعّابة طويلة أخرى تُدعى الدوّاية، وسبب تسميتها بهذا الاسم لأنها تحافظ على دوي صوت ثابت طيلة العزف، بينما تقوم اللعّابة بنفس الدور الذي تؤديه في المجوز، ويكون طول اللعّابة في اليرغول كما في المجوز، إلا أن الدوّاية يتجاوز طولها 30 سم ولا يتم ثقبها بأية ثقوب، وتكون صفة الصوت الصادر من الدوّاية أنه صوت غليظ مستمرّ لا يتغيّر يُعطي نغمة القرار (3) للمقام الموسيقي الذي تؤدّى عليه المعزوفة أو اللحن.

القربة

في السياق الذي يتصل بتميّز السلوك الموسيقي الأردني بصفة الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع الحضارات الأخرى منذ عهد الأردنيين الأنباط الذين أخذوا نماذج موسيقيّة من حضارات أخرى وتبنّوها وصارت جزءًا من ثقافتهم الموسيقيّة، فإن آلة القربة نموذج معاصر على هذا السلوك المتجذّر في الشخصيّة الأردنية.

دخلت آلة القربة إلى عائلة الآلات النفخية الأردنية واشتهرت من خلال فرقة موسيقات القوّات المسلّحة الأردنيّة، والتي تشكّلت أولى أنويتها مع طلائع جيش التحرير الذي قاد معارك الثورة العربيّة الكبرى للتخلّص من نير الاحتلال العثماني، وقد أخذتها الفرق العسكرية الأردنية الأولى عن الجيش البريطاني الذي كان حليفا لقوات الثورة، ولاحقاً بموجب الانتداب كان يُشرف على تدريب نواة القوات المسلحة الأردنية. وآلة القربة أو Bagpipes هي آلة نفخية رئيسية في موسيقات الجيش البريطاني، إلا أنها في الأردن ومع مرور الزمن تزيّن صوتها بأداء الألحان التراثية والمارشات العسكريّة الأردنية، حتى بات طابعها الصوتيّ في فرق وأوركسترا موسيقات الجيش الأردني متميّز عن نظيرتها البريطانيّة في الرّوح الأدائيّة والإيقاعيّة للألحان التي تُعزَف عليها.

تتكوّن آلة القربة من المكوّنات التالية :

  • أنبوب الهواء : يضعه العازف على فمه ليقوم بتزويد القربة بالهواء.
  • القربة : وهي مخزن الهواء الذي يقوم بتوزيعه على مخارج الآلة التي تصدر منها الأصوات.
  • اللعّابة : وتُسمّى باللغة الإنجليزية Chanter، وهي أنبوب يحتوي على عدد من الثقوب، ويتصل بأسفل القربة، يضع عليه العازف أصابع يديه ليقوم بتنغيم الصوت الصادر عن اهتزاز ريشة العزف Reed Chanter ومروره بالأنبوب.
  • الدوّايات : وبالإنجليزية تُسمّى Drones، وهي أنابيب طويلة تخرج من أعلى القربة، وتُصدر أصواتًا ثابتة طيلة العزف، وتشبه بدورها ما تقوم به الدوّاية في آلة اليرغول. وفي الوقت الذي تمتلك فيه القربة الإنجليزية التراثية دوّاية واحدة، فإن القربة الأردنية والمأخوذة عن الاسكُتلندية فإنها تمتلك عدّة دوّايات.
فريق الموسيقى النسائي في سلاح موسيقات القوات المسلّحة الأردنية

تمثّل القربة اليوم آلة نفخية مهمّة في موسيقات القوّات المسلّحة الأردنيّة، وهي تعزف ألحانًا هامة في البرنامج الموسيقيّ العسكري، الذي تمثّل ألحانه طقوسًا ومراسم عسكرية متنوّعة في الاستعراضات الاحتفالية والجنائز العسكريّة وغيرها. كما أن أجيالاً من المتقاعدين العسكريين من سلاح الموسيقات ساهموا بنقلها إلى الحياة المدنيّة، من خلال تشكيل فرق الاحتفالات الشعبيّة التي ترتبط بمناسبات الزفاف والتخرّج. كما أن القربة باتت اليوم الآلة الموسيقية الرئيسية في فرق الكشّافة والشبيبة الكنسية، وتؤدّى عليها العديد من الألحان الوطنية والشعبيّة في الاحتفالات الكنسية واستقبال رجال الدين المسيحي رفيعي المستوى خلال زياراتهم الرعوية للأردن.

تعريف مفردات البحث

  • Mouth Piece : أي قطعة الفم، وهي إحدى أجزاء الآلات النفخية (الخشبيّة والنحاسية) التي يتم تركيبها عند أعلى الآلة ليضعها العازف على فمه ويتمكّن من نفخ الهواء عبرها لتصدر الصوت منها وينتقل إلى تجويف جسد الآلة النفخية ويتضخّم فيه.
  • Unison : عزف أو غناء نغمتين بنفس الدرجة الصوتية في آنٍ معًا.
  • نغمة القرار : النغمة الأساس في المقام والسلّم الموسيقي، وتُسمّى أيضًا بدرجة الرّكوز.

المراجع

  • غوانمة، محمّد، آلات النفخ الموسيقيّة الشعبيّة في الأردن، جامعة اليرموك، إربد، الأردن.
  • حجاب، نمر حسن، الأغنية الشعبيّة في عمّان، 2003، موسوعة عمّان التراثيّة (5)، منشورات أمانة عمّان الكبرى، عمّان، الأردن.
  • الخشمان، مصطفى، الأغاني الأردنيّة في الجنوب، 2016، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الزّعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

آلات النفخ الموسيقيّة الأردنية

Scroll to top