مقدّمة

يُعتبر السامر طقسًا فنيًا كبيرًا من جملة الممارسات الإبداعية التي طوّرها الإنسان الأردني لتكثيف وتركيز قدراته على التعبير في المناسبات وإبراز قيمه التي يحرص على تأكيدها وتوريثها للأجيال القادمة من خلال ممارسته لها في المناسبات كلما سنحت الفرصة له بذلك. وعندما نقول “السّامر”، فإننا نقصد بذلك نظامًا متكاملاً من الغناء (شعرًا ولحنًا)، والرّقص والأزياء، وما هو على هامش ذلك من الترتيبات الديكوراتيّة المرتبطة بكل ما سبق ذكره من العناصر الفنيّة التي تشكّل مجتمعةً “طقس السّامر”.

التسمية

ترتبط تسمية هذا الطقس الاحتفالي بالسّمر، أي السّهر، والسّهر عادة يمارسها الأردنيّون بتسميات مختلفة مثل “التعليلة” – أي حلقات السهر المصغّرة في المضافات والبيوت – التي ترتبط بجرّات آلة الربابة وغناء القصيد والهجيني. في حين يُقام طقس السامر في السهرات الكبيرة التي يجتمع فيها عدد كبير من الأقارب والضيوف على هامش مناسبة سعيدة مثل العودة من السفر أو الطهور، أو الأعراس التي غالبًا ما تكون على مدى عدّة أيام بحسب عادات الأردنيين. ويُعتبرُ طقس السّامر الذي يُقام ليلةَ الزفّاف، وسيلة للإعلان عن الفرح، ولدعوة السامعين في المناطق المجاورة لمشاركة أهل المناسبة السّهر وشرب القهوة وتناول طعام العشاء، حيث يبدأ الزوّار بالتقاطر نحو بيت الفرح المزيّن بمشاعل النيران والرايات البيضاء ودق المهابيش ودلال القهوة الدوّارة.

الطقس

تعني كلمة “طقس” (وهي مأخوذة عن الكلمة اليونانيّة τάξις تاكسيس  “taksis” ومرادفها في الإنجليزية Rite) : النظام والترتيب الشعائري، بمعنى ترتيب مجموعة من المراسم والفقرات الأدائية بنسقٍ محدّدٍ وواضحٍ، وعلى مراحل متتاليّة، جديدة ومتكرّرة، ويشتمل هذا النظام على وتيرة سير دقيقة، إضافة إلى عددٍ من العناصر المرئية والملموسة، ويشترك في أدائه شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين لهم مهمّات محدّدة وقد ترتبط بارتدائهم لأزياء معيّنة، أو بتمتّعهم بصفاتٍ نوعيّة.

وإذا أردنا أن ننظر إلى السّامر على سبيل التحليل، فإننا نجده طقسًا احتفاليًا يشتمل على العناصر التالية مجتمعةً في نظام أدائي مرتّب ومنسّق :

  • العناصر السمعية : الألحان والأبيات الشعريّة وطرق الغناء المتنوّعة مع التصفيق الإيقاعيّ وإصدار الصيحات الحماسيّة.
  • العناصر الحركية : الرّقصات التي يتم أداؤها في مختلف مراحل هذا الطقس.
  • العناصر البصرية : الأزياء والأدوات المُستخدمة خلال الرّقص، والزينة التي يتم إعدادها بحسب المناسبة في موقع إقامة طقس السّامر.

فيما يشترك في تأدية فقرات هذا الطقس مجموعة من الشخوص الذين تكون لهم أدوارٌ واضحةٌ وموصوفة، وعلى بعضهم التمتّع بنوعٍ خاصٍ من المزايا التي تخوّله للقيام بدوره في طقس السّامر، ومن جملة هؤلاء الأشخاص :

  • القاصود (أو البدّاع) : وهو الشخص الذي يستلم مهامّ القيادة الموسيقيّة لغناء شعر السّامر، ويمكن اعتباره على أنه قائد جوقة المُنشدين، ومن المميزات التي ينبغي أن يمتاز بها القاصود؛ الذاكرة الشعريّة الكبيرة التي تمكّنه من استحضار وارتجال أبيات شعرية تتناسب مع التوقيت وطبيعة المناسبة والحاضرين، إضافة لامتلاكه الصوت الجهوري، والقدرات الإيقاعية التي تمكّنه من قيادة سرعة الغناء وتغييرها بحسب الجو العام. كما أن القاصود يجب أن يتمتّع أحيانًا بقدرات مسرحيّة وكاريزماتيّة لتساعده على التعبير عن معاني الشّعر بشكلٍ دراميٍّ ينسجم مع تأثيرها في وجدان السامعين.
  • الردّيدة : وهي بمثابة الجوقة من المُنشدين، الذين يصطفون على هيئة صفٍّ واحدٍ، وفي بعض الأحيان على صفّين متقابلين، ويقومون بإعادة ترديد أبيات الشّعر التي يغنّيها القاصود، أو بالرّد على غنائه بمردّات ثابتة. ولا يقتصر دور الردّيدة على الغناء وحسب، بل على التصفيق الذي يضبط إيقاع وسرعة الغناء، إلى جانب دورٍ رئيسيٍّ آخر في طقس السّامر، وهو التفاعل مع الحاشي في رقصها، ومن ثم أداء رقصة الدحّية، الصحجة، أو الرزعة.
  • الحاشي : الراقصة الرئيسيّة في طقس السّامر، وتاريخيًا فإن إحدى نساء القبيلة أو فتياتها تأخذ هذا الدور، أما في الحاضر فإنه من الممكن أن يكون مشتركًا بين النساء والرّجال أو على الرّجال وحدهم. وصفة رقص الحاشي؛ هي أنها تقوم بأداء حركات تمايليّة واستعراضية أمام صفّ الردّيدة، مستخدمةً السيف أو البندقيّة أو العصا، ومتلثّمةً بملفعها أو طرف عباءتها، وتتدرّج من اليمين إلى اليسار وبالعكس ذهابًا وإيابًا أمام صف الردّيدة، مُشْعِلةً في نفوسهم الحماس الذي يتصاعد تدريجيًا وصولاً إلى ذروة الرّقص في طقس السّامر.

كيف يُقام طقس السّامر؟

يُقام طقس السّامر بترتيبٍ واضحٍ ومنسّقٍ ودقيقٍ، حيث يبدأ بالعناصر البصريّة، ثم العناصر السّمعيّة، ثم العناصر الحركيّة، وتكون وتيرة طقس السّامر في البداية تتّسمُ بالسرعة المتوسّطة وتتصاعد تدريجيًا كلما تراكمت أنواع عناصره الثلاثة معًا، البصريّ فالسّمعيّ فالحركيّ، بشكل متتالٍ وبصفةٍ تراكميّة فيها تقنيّة تعزّز وتركّز الانطباعات الحسّية للحاضرين والمشاركين.

يبدأ طقس السّامر قبل أن يبدأ فعليًا، بالتحضير الرّوحي والنفسيّ للفرح الجمعي الذي ما أن يقترب موعده حتى تتصاعد مشاعر الحماس التي تدفع الجميع للتعاون الكامل بالتجهيزات اللوجستية التي ينتج عنها موقعًا مميزًا لإقامة الفرح في بيت صاحب المناسبة. ومن المعروف عند الأردنيين في المناسبات على اختلاف أنواعها التزامهم بقيم الفزعة والعونة التي تمثّل رابطًا روحيًا سرّيًا ينساب فيه جميع الأقارب والجيران والمعارف دون تفكير أو تخطيط في تشكيل فريق عمل عفوي يعبّر عن الرّوح الأردنية التي صنعتها تراكمات آلاف السنوات من النشاط الإنساني المتداعي لتحقيق ذرى حضاريّة تتغلّب على الفروقات والظروف والتحدّيات التي ما انفكّت تواجه الأردنيين منذ عصور قديمة ولازالت، أظهر خلالها الأردنيّون الفزعة والعونة الجماعيّة لبعضهم البعض ولجيرانهم التاريخيّين في أحداث سجّلها التاريخ. ولا يمكن النظر إلى فزعة الأقارب وتقديمهم العون في تجهيز ديكور الفرح وموقع إقامة المناسبة التي يعلو فيها طقس السّامر، بمعزلٍ عن فهمٍ عميقٍ لهذا السلوك الجمعي التاريخيّ الذي لطالما أخذ أشكالاً سياسيّة وعسكريّة على مدى آلاف السنين.

وعليه؛ فإن العناصر البصريّة التي تُعتبرُ جزءًا من طقس السّامر، والتي تشتمل على تجهيز الحطب لإشعال النيران وتوفير المقاعد والمراكي وأدوات ومواد تحضير القهوة والشّاي الذي يدور به المعازيب على الضيوف، وتزيين البيت بمشاعل النّار والرايات الملوّنة وبالذات الراية البيضاء التي قد تتوسّط بيت الفرح فوق المواقد، تعتبر جميعًا من العناصر البصرية التي تُعَدُّ إيذانًا ببدء الطقس الاحتفاليّ.

بعد أن يجتمع أهل الفرح والأقارب، يباشر صاحب المناسبة بدعوة الحاضرين لدخول السّاحة الأماميّة للبيت والبدء بالغناء، فيتصدّى لهذه الدعوة مجموعة من الشبّان ومعهم القاصود، فتتشكّل أولى صفوف الغناء والرّقص في طقس السّامر، وتكون هذه الانطلاقة الرسميّة للعناصر السّمعية في طقس السّامر، حيث يبدأ الغناء على النحو التالي :

القاصود :

الله يمسّيكو بالخير .. اظيوفن مع امحليّة

أول مسا للأجاويد .. ثاني مسا للكلّية

أول مسا للأجاويد .. ثاني مسا للوليّة

الله يمسّيكو بالخير .. الظيف اللي لفى سلّمْ

يا ظيفن يقريه العذر .. وظيفن عشّاه امولِّمْ

فيما تقوم مجموعة الردّيدة في كلّ مرّة بالرّد على القاصود :

هلا وهلا بك يا هلا .. لا يا حليفي يا الولد

ويستمر الغناء مع التصفيق بإيقاع متوسّط السّرعة لدقائق عديدة، قد يتخلّله أبيات شعرٍ تعالجُ موضوعات أخرى غير الترحيب، كمثل مدح أهل المناسبة، أو التفاخر ببعض القيَم والصفات، وغيرها من الموضوعات المتنوّعة التي جادت بها السليقة الشّعريّة الأردنية على مختلف ألحان الإرث الموسيقي فأغنت محتواها حتى غدا حصره صعبًا لكثرته وغزارته.

تُعتَبرُ الفقرات الغنائية الأولى في طقس السّامر إعلانًا لدعوة عامّة يتلقّاها كلُّ سامعٍ بالقبول والتلبية، فيتقاطر الضيوف من مختلف مضارب الجيران القريبة والبعيدة، وينضمّون مباشرةً إلى صفّ الردّيدة قبل دخولهم إلى البيت، بحيث يأتون من خلف الصّف ويخترقونه ويصبحون جزءًا منه وهم يصفّقون الإيقاع المسموع. ولهذه المشاركة قيمة كبيرة في نفوس الأردنيين، فالمشاركة بالغناء أو الرقص أو مجرّد التصفيق هو تعبيرٌ غير ملموس على المشاركة في إنجاح الحفل وتعظيم صوته وصورته، إذ يمكن اعتبار هذه المشاركة نقوطًا معنويًا يقدّمه الضيف لأهل البيت في فرحهم، وهو ما ينسحب أيضًا على المناسبات الحزينة حيث تتسابق النساء لغناء المعيد أو النواح أو اللطم وشقّ المدارق للتعبير عن مشاركتهم المشاعر لأهل الفقيد.

تُدعى مجموعات الضيوف التي يجذبها صوت السّامر إلى البيت الفرح بالـ “سراه، أو السرّى“؛ أي الذين يسرون تحت جناح الظلام ويتبعون صوت الغناء، وعند وصولهم والتحاقهم بصفّ السّامر فإنهم يعبّرون عن حضورهم بالغناء :

حنّا يومن سرينا .. تعليلة طَرَت علينا

والله لولا معزّتكو .. ما جينا ولا تعنّينا

ويستمرّ الغناء لفترة معيّنة على النحو السابق ومثيله، ثم يتوقّف للحظات معيّنة مع استمرار التصفيق دونما غناء، وتعني هذه اللحظات التهيئة للانتقال من الغناء المجرّد إلى دخول العنصر الحركي، مع كل العناصر التي سبق أن تراكمت في المراحل السابقة. وبعد هذا الصمت يقوم أحد القواصيد أو البدّاعين بالغناء :

يا من عين لي المعزّب .. يا من يذكّره ليّي

مرودي لربوعي حاشي .. ودّي البنت النشميّة

إلا يا معزّبنا تخيّر .. السّتر ولّا الفضيحة

مرودي لربوعي حاشي .. من البنات المليحة

هاتون الحاشي هاتونه .. هاتونه يلّي اتعرفونه

خلّه يتخضّع بردونه .. ليحوشي على الدحيّة

وتكون هذه الأبيات الشعريّة، إستئذانًا رسميًا جماعيًا يقدّمه المشاركون في صف السّامر من المعزّب لدخول الحاشي ومباشرتها الرّقص أمام الصّف، التي بدورها تدخل أمام الصّف برفقة صاحب الفرح الذي سيكون بطبيعة الحال من أحد أقاربها، ممسكًا بطرف مدرقتها أو ثوبها حتى تصل إلى الصّف فيتركها، وتباشر الحاشي التمايل والرقص بخفّة متناسبة مع سرعة الإيقاع المغنّى، والسير الراقص الاستعراضي للصّف من اليمين إلى اليسار والعكس، ممسكةً بالسيف أو البندقية أو العصا، ومرتديةً عباءة ولثام على وجهها. ويكون غناء الأبيات التالية حينها :

الحاشي جتنا ع هونه .. يا ربعي بالله تحبونه

يا ويلي ما اجمل عيونه .. رمتني عيون النشميّة

من الحاشي خلّك قريبي .. احرص على عيني لا تغيبي

عسى أنك من حظي ونصيبي .. تلقى من ربعك عطيّة

حاشينا ودّك المدح .. يا طولك غصّة الرّمح

لن شفتك صلاة الصّبح .. تزول همومي الخفيّة

لاشد اشدادي واجيبه .. واكرب(1) من فوق النجيّة

حرج وادويرع(2) عجيبة .. فوق ذلول عمليّة

يا بنت ملّا انتي ابنيّة .. لو فيكي من الطول شويّة

لحطّك بخريج الذلول .. والقيّ فيك الدويّة

الحاشي : سيّدة أردنيّة تحوشي بالسيف أمام صف من الرجال عام 1919

وبلحظةٍ ما يقوم أحد أقارب الحاشي ويمسك بطرف ردنها أو عباءتها، ويأخذها لتجلس بمعنى أنه يمنعها من الاستمرار بالرّقص أمام الصف، وتُدعى هذه العملية بـ “وسق الحاشي“، أي ربطها ورهنها، وهذا ما يستدعي أن يتجه القاصود نحو الشخص الذي رهن الحاشي ليتوسّل إليه من أجل يطلق سراحها، فيغني له :

يلّي ربطت حويشينا .. يا خيي وش لك علينا

يا الله ع الحق تقاضينا .. عند العوارف(3)  يقدونا

وش لك بالحاشي وقعوده .. خذلك من حقّه بارودة

يا روحي ما أقدر أسبّك .. أدنّق(4) عليك وأحبّك(5)

وأجوهك بالعالي ربّك .. تطلق حاشينا النشميّة

نعطيك اللي تريد وتهوى .. وندفعلك حملين القهوة

وندفع لك مية مع مية .. والموزر مع الرّدنية

وفي حال لم يستجب الشخص الذي رهن الحاشي، ينتقل القاصود بالغناء مع نبرة من التحدّي – الودّي بطبيعة الحال – ويخاطب الحاشي مباشرةً متجاهلاً مَن قام برهنها ومنعها من الرقص :

لا يطبّ بقلبك هوجاسي .. لافكّك يا اشقر الرّاسي

يا الحاشي هيه يا البنيّة .. وأنا صابتني برديّة

قالوا لي غطايا عندك .. بالله تعطيني المزوية

يا حاشي اعطيني الهندية .. من ايدك لايدي هديّة

يا حاشي اعطيني عباتك .. هبَّت عليّا الشرقيّة

يا مزغرتات الزغاريت .. طقّن ثلاثة سويّة

اللي ما تزغرت للغالي .. لاسوّي بيها جنّية

فتعود الحاشي مباشرة للرقص مجددًا بنفس الوتيرة السابقة، ويعود الغناء والتصفيق إلى وضعيته السابقة ما قبل “وسق الحاشي”، ومن جملة ما يُغنى بعد عودة الحاشي :

يا عشبن وانا له راعي .. ذبحني أبو عيون وساعي

يا بنت وانا طمّاعي .. اطرب لا شفت النشميّة

اطرب لا شفت العنودِ .. متلبّس بهدوم سودِ

عسى دهرنا يعودِ .. يبدل العتمة فضيّة

يتوقّف الغناء فجأة، وتبدأ الرّقصة التي تمثّل ذروة الحماس في طقس السّامر، وهي رقصة الرزعة، أو الدحّية (الدحّة)، وهي اللوحة الأدائية التي تلتقي فيها التعابير الصريحة عن الذكورة الغليظة والأنوثة الرقيقة، في آنٍ معًا، حيث يقوم الرجال في الصّف بالتصفيق وحَكّ أكفّ الأيدي مع النزول بأجسادهم نحو الأسفل وإصدار أصوات الفحيح مع الهمهمات التي تصدر من أغلظ طبقات الصوت الرجوليّة ( دحي دححيي – حي حي –) ، في حين تتوسّط الحاشي الصّف وتسير أمامهم بإيقاع سريعٍ، حتى تشتد وتيرة الرّقصة عندما يقترب الرجال من وضعية القرفصاء، وتسمّى هذه المرحلة بالسحجة (الصحجة)، ويقترب خلالها الرجال من الحاشي التي تردّهم عنها بالسيف أو العصا، وتستمرّ هذه العملية بين الكرّ والفرّ وتتصبّب جباه الرجال عرقًا، حتى تقترب الحاشي من مدخل البيت، فتدخله معلنةً إنتهاء الرقصة، التي ينتهي بانتهائها طقس السّامر ككل، ولكنّ أثره الرّوحي والنفسي والاجتماعي يبقى محفوظًا في نفوس الحاضرين، الذين قد يعاودون تكرار ذات الغناء والرقصات مجددًا في وقتٍ آخرٍ من الليلة ذاتها، وقد يشترك بها آخرون لم يكونوا قد اشتركوا بالجولة الأولى.

ماذا بقي من السّامر؟

يؤدّى غناء السامر تاريخيًا بصفة أكابيلّا A Capella) 6)، ولا ترافقه غير أصوات التصفيق والصيحات الحماسية والزغاريد، في حين ظهرت في أواخر القرن العشرين مجموعة من الفرق التي أخذت ألحان السّامر وقولبتها على شكل أهازيج غنائيّة بمرافقة الآلات الموسيقيّة، فساهمت بالمحافظة على ألحان وأشعار الكثير من الأنماط النوعيّة لطقس السّامر؛ وهو ما يمكن توصيفه بالانتخاب الطبيعي لهذا الإرث السّمعي والحسّي والقِيَميّ والجماليّ، الذي نختصره بعنوان “الإرث الموسيقيّ”.

وإذا لم تعد ممارسة طقس السّامر بكامل تفاصيله التقليدية منتشرة كما في الماضي، فإن ذلك يعود لمتغيّرات حياتيّة طبيعية تؤدّي بطبيعة الحال إلى تغيّر أنماط وعادات وتقاليد لدى كلّ الشعوب، إلا أن الأردنيين اليوم، ومن كافّة الفئات العمرية، والخلفيات المجتمعيّة، يمكنهم بكل بساطة استعادة الروح الإيقاعيّة للسامر بمجرّد سماعهم للمردّة الشهيرة : هلا وهلا بك يا هلا، التي اخترقت السنين والأجيال وظلّت حاضرةً في الوجدان جيلاً بعد جيلٍ. ولعل أحد أبرز هذه التجلّيات الحديثة لهذا الحضور الخاص الذي يتمتّع به السّامر في الذاكرة السمعيّة للأردنيين، هو المقطع الشهير لجماهير نادي الفيصلي الأردني التي ردّدت اللحن والكلمات مع أغنية الفنان الأردني عمر العبدللات بصورة عفوية تؤكد أهميّة هذا الطقس لجميع الأردنيين على اختلاف أعمارهم واهتماماتهم.

تعريف مفردات البحث :

  1. أكرب : أشدّ.
  2. ادويرع : خرج الناقة.
  3. العوارف : قضاة البادية.
  4. أدنّق : التدنيق هو أن ينزل شخصٌ واقفٌ إلى مستوى شخصٍ جالسٍ، ويُقال “أطمِّنْ”.
  5. أحبّك : أُقبّلُكَ، وحُبّة تعني قُبلة، في اللغة الأردنية.
  6. A Capella : أكابيلّا (لغة إيطالية)؛ مصطلح موسيقي يعني غناء مجموعة من المغنّيين مع بعضهم البعض دون مرافقة الآلات الموسيقية.

المراجع :

  • العبّادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية (سلسلة من هُم البدو 3)، 1979 الطبعة الأولى، دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام الأردنية.
  • الخشمان، مصطفى، السامر في الأردن، 2018، دراسة، موقع التراث الثقافي غير المادّي الإلكتروني، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • الخشمان، مصطفى، الأغاني الأردنية في الجنوب، 2016، دراسة، منشورات العقبة مدينة الثقافة الأردنية، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • غوانمة، محمّد، الغناء البدوي في الأردن، 2009، دراسة، جامعة اليرموك، إربد، الأردن.

السّامر : طقس البهجة والاحتفاء بالقيم الأردنيّة

مقدمة

شهدت المملكة الأردنية الهاشمية في أواسط القرن العشرين نهوضًا نوعيًا في الفنون والموسيقى، كان من بين أبرز أسبابه أن وجد الأردنيون في افتتاح الإذاعة آنذاك، ثم التلفزيون، متنفّسًا لتطلّعاتهم الثقافيّة التي عادت تتصاعد عقب التحرر من نير الاحتلال العثماني، نحو شتّى المجالات الحضارية التي كانت قد أفلت في تلك الحقبة الظلاميّة، وظل الأردنيون طيلتها يحاولون استرجاع حضارتهم الإنسانية ذات الامتداد التاريخي العميق.

وعلى إثر تلك النهضة الموسيقيّة، برزت إلى الواجهة أسماءٌ أردنيّةً مميّزة، تركت بصمة لا تُنسى في الموسيقى الأردنية، وبذل أصحابها جهودًا تاريخيّة في صناعة ونشر الموسيقى الأردنية حتى وصلت إلى أبعد من الحدود الجغرافيّة وسافرت معهم إلى أهم المنابر في المنطقة والعالم، كان من بين هؤلاء الروّاد مغنّون وملحّنون وعازفون، صارت أسماؤهم تُذكر دومًا حين الرّجوعِ إلى الصفحات الهامّة في التاريخ الموسيقي الأردني المعاصر. ومن بينهم، أول عازف قانون أردني، الموسيقار إميل حدّاد.

نشأته ودراسته

وُلِد الموسيقار إميل حدّاد عام 1944 في مدينة إربد شمال الأردن، وكبر وترعرع في هذه المدينة التي ترك ريفها المميّز أثرًا في نفسه ووجدانه، كغيره من المبدعين الذين احتضنتهم الجغرافيا الأردنية بكل جماليّاتها وأثّرت في سلوكهم الإبداعي، فكبروا فيها معبّرين عن مكنوناتها الجماليّة بعد أن تركّزت فيهم تفاصيلها الساحرة.

في العاشرة من عمره، كان حدّاد يسكن مع عائلته بالقرب من مستشفى الأميرة بسمة، وكان أخوه الأكبر فريد يعمل ممرّضًا فيها، وصادفت أن أهدته إحدى زميلاته في التمريض آلة عود قديمة مستعملة، لم يكن إميل حدّاد الطفل يجرؤ على لمسها رغم أنها لفتت انتباهه منذ أول لحظة رآها فيها، ولكن احترامه لهذه الآلة وخوفه من أخيه كانا عائقًا أمام تجرّؤه على القرب من آلة العود. ولكن بطريقةٍ أو بأخرى، وبعد فترة من الزمن، استطاع إميل، وبموافقة أخيه فريد الذي اكتشف موهبة إميل، أن يُمسك بالعود للمرّة الأولى ويحاول أن يُخرج منه صوتًا.

نقرأ في قصّة إميل حدّاد الطفل، إصراره على أن يجعل الحلم حقيقة بدافع الموهبة الملحّة على حواسّه طيلة الوقت، فمنذ أن أمسك بالعود القديم (غير المدوزن)، وحاول أن يضبط دوزان أوتاره دون معرفةٍ مسبقةٍ له بالموسيقى وعلوم آلة العود، وجد نفسه يائسًا مرّات كثيرة في أن يُصدِر صوتًا مقبولاً من هذه الآلة، إلا أنه لم يفقد الرغبة في تحقيق ذلك، لأنه كان يندفع قهريًا تحت ضغط الشغف بالموهبة للمحاولة مرارًا وتكرارًا. خطر بباله أن يعزف أغنية “طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا” للفنان توفيق النمري، ضرب بريشته على الوتر السفلي، ثم الوتر الذي يعلوه مباشرة، وهما في حالة الوتر المطلق (1)، فنجح بأداء اللحن (طيّارة يمّا بتحوم) … بقي أن يُكمل (فوق حارتنا)، فلم يُجِد ذلك! كان هذا الطفل فرحًا بما استطاع أن يحققه من عزف نصف جملة موسيقية من مطلع أغنية توفيق النمري، ولم ترَ عينه النوم طيلة تلك الليلة، ولكنّه بقي يتساءل مع ذاته عن الطريقة التي سيتمكن فيها من إتمام عزف اللحن؟ وقبل أن يغلبه النعاس، راوده خاطر مفاجئ، فهرع مُسرعًا إلى العود وأمسك به ووضع يده اليسرى على أحد الأوتار وجعل يحاول حتى اكتمل اللحن (طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا…)، وبقي هذا الطفل يحاول، ويجتهد وحيدًا مع عوده وحلمه، شهورًا طويلة، حتى استطاع أن يؤدي ألحان توفيق النمري وجميل العاص وفريد الأطرش وعبدالوهاب وغيرهم.

لم يكن والد الموسيقار إميل حداد راضيًا عن فكرة أن يكون ابنه موسيقيًا، رغم أنه، أي الوالد، كان مولعًا بالطرب والموسيقى، لكنّ خوفه على مستقبل ابنه دفعه في إحدى المرّات إلى كسر العود أمام عيني إميل، فما كان من الأخير إلا أن ذهب بالعود إلى أحد النجّارين لإصلاحه ومواصلة تمارينه الموسيقيّة. وفي أحد الأيام، كان قائد المنطقة العسكرية في إربد، المرحوم عصر المجالي، قد سمع بموهبة إميل بالعزف على العود، فأرسل دورية شرطة إلى بيته لتحضره من أجل إحياء حفلٍ وطنيٍّ كبيرٍ سيُقام في المدينة، ولكن إميل لم يكن موجودًا وبعد ذهاب الشرطة وعودة إميل إلى البيت، استقبله والده بالأسئلة القاسية عن سبب مجيء الشرطة، وفي هذه الأثناء عاد ضابط من الشرطة مجددًا إلى البيت وأصر أن يأخذ إميل معه موضّحًا السبب، وهو الحفل الوطني، فلحق إميل ووالده بالضابط إلى الحفل، وكانت تلك المرّة الأولى التي يعزف بها أمام العامة، وبحضور والده، الذي تغيّرت نظرته إلى ولده وشعر باحترام كبير له ولفنّه.

وعلى إثر ذلك، استطاع إميل أن يحقق المزيد من المكاسب التي تمثّلت بموافقة والده على الذهاب لدراسة الثانوية العامة في القاهرة، ثم الالتحاق بالمعهد العالي للفنون هناك ودراسة الموسيقى، وهذا ما حصل بالفعل، وكان إميل حداد أول طالب أردني يدرس الموسيقى وآلة العود في القاهرة، وحصل أن كان خلال سنة الدراسة الأولى جالسًا في ردهة داخل المعهد، يعزف على آلة العود، وصدف أن مرّ الموسيقار المصري الكبير محمّد القصبجي، الذي كان يعزف في فرقة السيّدة أم كلثوم ولحّن مجموعة من أغانيها، فتوقّف مصغيًا إلى عزف إميل، واقترب منه وقال له “إنت منين يا ابني؟” فأجابه “من الأردن”، فقال له “سيكون لك مستقبل جيّد، ولكن عليك أن تخفف من الضغط على ريشتك أثناء العزف”، فقال له إميل “ولكن أنا يا أستاذ عازف قانون”، فقال له القصبجي “ستكون عازف قانون ممتازًا”. وكانت تلك الكلمات مصدر وحيٍّ وإلهام للطالب الأردني الوحيد في ذلك المعهد الذي وقف أمامه واحد من بين قلّة من ألمع نجوم الموسيقى في مصر.

المشوار الفنّي والمهني

لم يتأخّر إميل حدّاد عن موعده مع التلحين، فقد لحّن أول عملٍ له وهو طالب في القاهرة عام 1965، وانغمس بعدها في الألحان حتى نسي أن له صوتٌ جميلٌ ويمكنه الغناء، فصار يحاول البحث دائمًا عن أصواتٍ جديدةٍ ليكتشفها، ومن بين أولى الأصوات التي تعامل معها حدّاد، الفنانة الشهيرة سهام الصفدي، التي لحّن لها حدّاد أولى أغانيها التي اشتهرت عام 1968 وكانت بعنوان “سهم الهوى”. قام بعدها إميل حدّاد بتلحين أغنية، تُعتَبرُ واحدة من أقرب الأغاني الوطنية إلى الوجدان الأردني، وهي “وضّاءٌ وجهكَ يا بلدي” التي غنّاها الفنان الراحل اسماعيل خضر. وكان لقاؤه بالشاعر الكبير حسني فريز نقطة فارقة في مسيرته الفنية، حيث لحّن من كلماته أغنية “يا حلو طمّني عنّك” التي غنّتها سهام الصفدي.

في العام 1971 انتقل الموسيقار إميل حدّاد إلى المملكة العربية السعوديّة ليعمل في إذاعة الرياض ثم إذاعة جدّة لمدّة 14 عامًا، قدّم خلالها الكثير من الجهود في هاتين الإذاعتين الناشئتين آنذاك اللتين استفادتا من خبراته وقدراته الموسيقيّة، واستفاد منها عددٌ من العازفين السعوديين آنذاك بطبيعة الحال. وكان الفنان الكبير محمد عبده من جملة أصدقاء الموسيقار إميل حداد خلال إقامته هناك، رافقه في كل رحلاته الفنيّة.

عاد حدّاد عام 1985 إلى الأردن إثر وفاة أخيه، وبقي لمدة عامين في حالة أشبه بالعزلة، حتى أقنعه صديقه وزميله في الدراسة الملحّن الكبير روحي شاهين الذي كان يعمل رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، بالعودة إلى نشاطه، فعاد مجددًا للتلحين، ولحّن لفارس عوض مجموعة أغاني هامة ظلّت في الذاكرة الأردنية حتى اليوم، أبرزها “عمّان يا دار المعزّة” من كلمات الشاعر الأردني الكبير علي عبيد السّاعي. ومنذ العام 1985 وحتى 1998 عمل الموسيقار إميل حدّاد محاضرًا غير متفرّغ في قسم الموسيقى/ جامعة اليرموك.

عام 1991 عُيِّن رئيسًا لقسم الموسيقى في الإذاعة الأردنية، والتقى لاحقًا بالشاعر الكبير حبيب الزيودي في أول تعاون جمعهما بأغنية “عمّان أرض النّدى” التي غنّتها الفنانة سميرة العسلي، وبناءً على هذا التعاون نشأت صداقة مميّزة بين الملحّن والشّاعر الذين تركا بصمة في مسيرة الأغنية الأردنية، تمثّلت بسلسلة من الأعمال منها (هلا يا عين أبونا) التي يستذكرها الأردنيون بصفتها الأغنية الأكثر شهرةً في أول أيام تسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين سلطاته الدستوريّة عام 1999، إلى جانب غيرها من الأغاني (هذي بلدنا، والطيب طيبك…).

لم ينقطع نشاط الموسيقار إميل حداد الموسيقي حتى بعد مغادرته الإذاعة الأردنية، فلقد انضم إلى فرقة جيل الروّاد التي تؤدي أسبوعيًا حفلاتٍ فنيّة يغنّي ويعزف فيها كبار هذا الجيل الذي أعاد صنع أغنية أردنيّة تحترمها كل المنابر العربيّة والعالميّة، وتسافر مع الأجيال عبر الزمان، لتحكي قصّة أردنّ النهضة والبناء، والشمس والحريّة.

الموسيقاران إميل حدّاد وعامر ماضي

تأثيره على الأغنية الأردنية

كان للموسيقار إميل حدّاد، بصمةً موسيقيّة مميّزة في الأغنية الأردنية، صنع من خلالها زاويةً هامّة في الوجدان السّمعي للأردنيين بألحانه التي توسّطت بين مزاج الرّيف والبادية، فعبّرت بعفويةٍ وانسيابٍ تلقائيٍّ عن الرّوح الحقيقيّة للمكان والإنسان الأردنييَّن، وعن جوهر الشخصيّة الأردنية. ولم يكن الموسيقار حدّاد لينجح بهذه التجربة لولا أنه كان متعلّقًا بجماليّات الإرث الموسيقي، دون قيود أو تبعيّة عمياء، ومتطلّعٌ بشغف إلى آفاق سمعيّة جديدة، يخلق في فضاءاتها الجملة الموسيقيّة التي يجد فيها الأردنيّ نفسه أصيلاً ومعاصِرًا في آنٍ معًا.

لم يقتصر دور الموسيقار حدّاد في النهوض بالموسيقى الأردنية على ألحانه التي أعطاها طيلة مشواره الفنّي وحسب، بل وعلى الصعيد الأكاديمي، وهو الذي نال درجة الدكتوراة في الموسيقى من إحدى الجامعات العالميّة في النمسا (وطن المؤلف الموسيقيّ الشهير موزارت)، فقد قدّم أطروحة جامعيّة حول الأغنية الأردنية المعاصرة، استعرض خلالها تطوّر الغناء في الأردن وقيمتها الثقافية.

المراجع :

  • حدّاد، إميل، الصدفة وحدها كانت السبب في تعلّمي آلة العود، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الزيّودي، حبيب، إميل حدّاد صانع الوجدان، 2005، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • ومضات ثقافيّة،وثائقي قصير، 2016، إنتاج وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.

الموسيقار إميل حداد : أول عازف قانون أردني

مقدمة

عند الحديث عن الأغنية الأردنية التي عادت لتزهر من جديد مع مختلف القطاعات الأخرى التي نهض بها الأردنيون في القرن العشرين بعد التخلّص من عصور الاحتلال العثماني المظلمة، فإن الموسيقار جميل العاص، وهو أول عربيّ يحصل على لقب موسيقار من بريطانيا، سيكون دومًا حاضرًا بمكانته وألحانه وروحه الموسيقية التي كبُرت على ضوئها المسموع أجيالٌ من الأردنيين حتى يومنا الحاضر. فهو واحدٌ من مجموعة الروّاد الأوائل الذين فهموا لهجة هذا الشعب على أنها اللغة المقدّسة التي تنطق بها البيادر والمدارق وغصون الحور وأوراقه العطريّة التي تستقبل بأريجها ضيوف الدار، الدار الأردنية التي نطق باسمها الموسيقار العاص أنّها “ترحّب بالظيف .. والمشاعل مظويّة”.

الميلاد والنشأة الفنية

وُلِد جميل العاص في الأول من كانون الثاني عام 1929،  لعائلة بسيطة تعيش حياة بسيطة متواضعة وظروفًا عاديّة ضمن الحياة الاجتماعية التي ارتبطت بالظروف السياسيّة وأجواء الحرب العالميّة الثانية آنذاك. باشر الموسيقار العاص تعليمه في الكتّاب حتى الصف الثالث الابتدائي، حيث تعلّم القراءة والكتابة وقراءة القرآن، وتميّز بموهبة ملفتة للنظر في حفظ النصوص القرآنية في التاسعة من عمره، ثم انتقل إلى التعليم النظامي واستمرّ به حتى الصف السادس، وخلال هذه المرحلة كان لفت نظر مُعلِّم الأناشيد المدرسيّة بحسّه المرهف للموسيقى والأغاني، فاهتم به وساعده على تنمية موهبته ضمن حدود المتاح في المدرسة آنذاك.

دفعه فضوله وشغفه بالموسيقى للتسلل إلى كنيسة القيامة، لكنّه كان يُبدي سلوكًا صبيانيًا مشاكسًا كأقرانه الذين يداومون على سرقة الشمع من الكنيسة، لكن راعي الكنيسة الأب حنا كان في إحدى المرّات قد أمسك بجميل وشاركه الطعام وقال له “لا تشاكس يا جميل”، وبعد هذه الحادثة ظهر السبب الحقيقي الذي كان يدفع جميل إلى الكنيسة، ليست المشاكسة، وإنما اللّحاق بصوت التراتيل التي تُتلى بمرافقة آلة الأورغن، وكانت هذه ثاني آلة موسيقية يعرفها جميل بعد آلة العود في صغره، وكان العازف والمؤلف الفلسطيني أوغستين لاما هو عازف الأورغن الذي يخدم في صلوات الكنيسة كل يوم أحد، وبعد طلب جميل؛ أخذه الأب راعي الكنيسة إلى أوغستين الذي لاحظ بدوره في جميل بعد عدّة مرّات من جلوسه إلى جانبه أنه يتمتّع بموهبة نادرة وميول لتعلّم الموسيقى، وما لبث جميل أن التحق بالجوقة في الكنيسة وصار يرتّل معهم. تعلّم آلة العود على الشيخ محمد شكري عبدالكامل مُدرّس الأناشيد في المدرسة البكرية في القدس حيث كان جميل العاص يدرس فيها، قبل أن ينتقل إلى المدرسة العمرية ويكمل دراسته في الكلية الرشيديّة ويحصل على شهادة المترك.

عمل جميل العاص بعد دراسته مع المحامي محمّد الصّالح البرغوثي، وكانت آلة العود لا تفارقه حتى خلال ساعات العمل في مكتب المحاماة، وفي مرّة من المرّات دخل المحامي البرغوثي ووجد العاص يعزف العود بإتقان مبهر، فأُعجِب به وأبلغ صديقه الأستاذ عجاج نويهض – مدير إذاعة القدس آنذاك – بموهبة العاص، فانتقل الأخير إلى دار الإذاعة ليعمل عضوًا في الكورال ويقدّم كل يوم سبت أغنية بصوته.

الانطلاقة والمشوار الفنّي

في العام 1959 تم افتتاح الإذاعة الأردنية في العاصمة عمّان، وقبل الافتتاح قام دولة المرحوم عبدالمنعم الرّفاعي بتكليف مجموعة من موسيقات القوات المسلّحة وآخرين بتلحين نشيد “أيّها السّاري”، وهو نشيد وطني للجيش، ولم يقع اختياره على أي من الألحان التي تقدّم بها أصحابها. استدعى الأستاذ ساري عويضة الفنان جميل العاص، الذي كان يعمل وقتها في الإذاعة دون مكتب ويقوم بواجباته من المطبخ، فسأله المدير : لماذا لم تلحّن النشيد؟ وكان جواب العاص ببساطة أن أحدًا لم يكلّفه بهذه المهمّة، فقال له المدير : أنا الآن أكلّفك وأعطيك مهلة عشرة أيام لتلحينه، فرد العاص : أحتاج فقط لساعات معدودات. وبالفعل قام بتلحينه في نفس اليوم وتم اختيار اللحن وإذاعته، وإثر ذلك قرر الرّفاعي تعيين العاص رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، وتم استدعاء مجموعة من الفنانين وتشكيل فرقة موسيقى دار الإذاعة.

انضم جميل العاص إلى فريق ضمّ الشاعر رشيد زيد الكيلاني والفنان توفيق النمري، وقاموا معًا بجولات لمسح وجمع وتوثيق العديد من الأغاني والأهازيج التراثية الأردنية، فاستلهم منها العاص أعمالاً كثيرة صاغها بروحه وشخصيته وأسلوبه الذي لم يطغَ بسماته اللحنية على الشخصية الأصلية للأغنية التراثية، حيث كان يأخذ اللحن الأساسي ويطوّره بما يتلائم مع روح اللحن وشخصيته، ويضيف إليه اللوازم الموسيقية أو الجُمَل المُكمِّلة له.استطاع العاص من خلال عمله في هذا الفريق أن يصنع معهم أغنية أردنية على أعلى مستوى من التميّز والتعبير عن روح الإرث الموسيقي الأردني. وعلى يده وصلت الألحان الأردنية إلى مختلف دول العالم وتم توزيعها من خلال سفارات المملكة في دول العالم ولاقت استحسانًا ورواجًا كبيرًا.

بقي تأثّر العاص بالإرث الموسيقي واضحًا ومستمرًا، وظلّت الجملة اللحنية ذات الطابع الشعبي تفرض نفسها في ألحانه الخاصة، حتى تلك الألحان الطويلة التي لحّنها لكبار المطربين من أمثال وردة الجزائرية (أغنية عزمات، من كلمات عبدالمنعم الرّفاعي)، والقصائد التي كتبها حيدر محمود وغنّتها نجاة الصغيرة. ومن الجدير بالذكر أن جميل العاص كان الأول والرائد في صياغة الألحان الطويلة للقصائد في الأردن.

بموازاة اهتمامه بالإرث الموسيقي، اهتم العاص بالأعمال المسرحية التي كانت تؤدّى في مختلف المهرجانات الفنية في القرن العشرين، وعلى رأسها مهرجان جرش الذي كان العاص من روّاده منذ انطلاقته الأولى في الستينيات، ومن أعماله المسرحية الغنائية : العودة إلى الجنّة، عين القصر، عروسة الطّير، وتل العرايس، وخالدة. وخلال رحلته الموسيقية والمسرحية في المهرجانات والمشاركات الإذاعية والتلفزيونية، اكتشف العاص العديد من الأصوات التي أصبحت مع مرور الوقت من الأسماء الهامة في مجال الأغنية الأردنية، وكان العاص معروفًا بين الملحنين على أنه الأكثر غزارة في عطائه وانتاجه وأكثرهم اعتمادًا على الإرث الموسيقي وقدرةً على توظيفه وتجديده وبناء آفاق لحنية جديدة مستوحاة من القديم وتحمل سمات الحداثة في آنٍ واحدٍ. ولعلّ أبرز الأسماء الأردنية التي لحّن لها العاص أعمالاً تناقلتها أجيال الأردنيين من جيلٍ إلى جيلٍ : سلوى، اسماعيل خضر، إلياس عوالي، شكري عيّاد، فهد النجّار. ومن الأسماء العربية التي غنّت ألحان العاص : وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، سميرة توفيق، وديع الصافي، محمد ثروت، لطفي بُشناق.

تميّز العاص بأدائه على آلة البزق، التي كانت أقل شهرةً مما هي عليه اليوم، كان قد رآها خلال إحدى رحلاته الفنية في بيروت وتعلّم عزفها هناك، وعاد بها موظّفًا إياها في التوزيع الموسيقي للأغنية الأردنية، ليضرب مثلاً نموذجًا على انفتاح الأردنيين موسيقيًا على الآلات والتجارب المجاورة وأخذهم بها وتطويعها لشخصيّة الأغنية الأردنية. وكان العاص بصفته قد تميّز بأدائه على البزق قد شارك بها في عدة مهرجانات في دول غربية مثل : إزمير، لوس أنجلوس، شيكاغو، وفي معظم الدول العربية. وحاز على العديد من الجوائز لإبداعه في العزف عليها.

كتب العاص موسيقى تصويرية لأكثر من 16 فيلمًا سينمائيًا، كما أنه لحّن معظم أغاني الأفلام التي شاركت فيها الفنانة سميرة توفيق، ومن أشهرها : حي الله بليالي الكيف، حاسس في قلبي دقّة، يا مدقدق بن عمّي.

أهم المراحل التي مرّت بها الأغنية الأردنية على يدي جميل العاص

المرحلة الأولى :

كانت مرحلة خلق الأغنية الأردنية الملتزمة بروح الإرث الموسيقي الأردني وأغانيه المنتشرة بين الشعب في البادية والريف والمدينة. وهي المعجزة التي صنعتها الإرادة السياسيّة آنذاك التي أدركت مبكّرًا أهميّة الفنون في عملية النهضة وبناء الدولة الحديثة، والتقت هذه الإرادة التي مثّلها قادة كبار في التاريخ الأردني الحديث مثل الشهيد وصفي التل وهزاع المجالي وحابس المجالي وعبدالمنعم الرفاعي، برغبة وحماسة فنّانين أردنيين مخلصين ومتطلّعين شوقًا لخلق أغنية تعبّر عن رومانسية المكان الأردني وقيم الإنسانيّة فيه المتوارثة عبر مئات الأجيال من الأردنيين، فكان للشاعر رشيد زيد كيلاني وحسني فريز، والموسيقيين مثل توفيق النمري وجميل العاص وغيرهم من العازفين والمغنيين، الدور الأبرز في إنجاح هذه المرحلة التي لازال المشهد الموسيقيّ الأردني يقطف ثمارها ومتأثّرًا بها تأثيرًا ثقافيًا عميقًا.

أبدع العاص خلال هذه المرحلة مجموعة من الأغاني، مثل : شدّينا ع الخيل الضمّر، النشامى، يا بو قظاظة بيظا، بالله تصبّوا هالقهوة، يا خيال الزرقا، تخسى يا كوبان، مرحب يا ريم الفلا … وغيرها من الأغاني والأهازيج.

المرحلة الثانية :

وكأيّ موسيقيّ مُبدع، وجد العاص نفسه أمام تحدٍّ لذاته للانعتاق من الدوران المجرّد في فلك الألحان التراثية، نحو آفاق موسيقيّة جديدة في اللحن والتوزيع، فبدأ يلحّن لمطربين أردنيين وعرب ألحانًا جديدة، لكنّها تعتمد على الجملة الموسيقيّة الشعبيّة المتعمّقة في جذور الإرث الموسيقي. ومن أعماله في هذه المرحلة : يا هلا بالضيف، بلدي عمّان، يا طير يا طاير، أنا من العقبة يا عيوني، يا بلادي أنتِ حرّة، يا خالي قرّب العيد. ومعظم تلك الأغاني كانت ملتزمة بالموضوع الأردني الوطني، فلاقت انسجامًا مع طموحات وأفكار وقضايا الأردنيين، ما منحها شهرةً ووسّع المداخل أمام دخول ألحانٍ جديدةٍ إلى المكتبة الموسيقيّة الأردنيّة.

https://www.youtube.com/watch?v=re0_FSQTNX4

المرحلة الثالثة :

انطلق العاص في هذه المرحلة للتلحين لعدد من المطربين العرب النجوم آنذاك، ومنهم : وديع الصافي، وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، وآخرون. وتميّزت ألحانه في هذه الفترة، وبخاصة التي غنتها نجاة الصغيرة، بأنها ألحان طويلة وأكثر تعقيدًا في توزيعها الموسيقي، بالإضافة إلى التنوّع المقامي في الأغنية الواحدة واستخدام آلات الأوركسترا (الوترية والنفخية النحاسية والخشبية). وهنا سافرت الجملة الموسيقيّة الأردنية على يد الموسيقار العاص إلى توزيعات موسيقيّة جديدة لم تعهدها من قبل، أثبتت ندرة نوعيّة هذه الروح الموسيقيّة وقدرتها على التناغم مع الآفاق الموسيقيّة الأخرى أيًا كان شكلها ونوعها.

https://www.youtube.com/watch?v=yRhiaLKiTZw

الملامح والسمات

كان العاص مولعًا بفصل الرّبيع، وكان يفضّله على بقيّة الفصول. إلى جانب أنه كان من الأشخاص الذين يُنتجون معظم إبداعاتهم في الصباح الباكر، ولعلّ هذا ما يفسّر عذوبة ألحانه ونقاوتها وبساطة توزيعها، الأمر الذي ساهم بانتشار ألحانه البعيدة عن الصخب المبالغ به في روحها فكان سماعها مستساغ لأذن المستمع حتى في كل الأوقات وبخاصة الفترات الصباحيّة.

تميّزت ألحان العاص بأنها تجعل كل شيء فيها أردنيًا، ويعود السبب في ذلك إلى تأثّره منذ بداياته بالإرث الموسيقي الأردني وتعمّقه في جماليّاته، وشعوره المتجذّر بأردنيّته وقدرته على ترجمة هذا الشعور في ألحانه دون تكلّف أو تزييف. فكل الذين يستمعون إلى نجاة الصغيرة وهي تؤدي القصائد الأردنية التي لحّنها العاص، يتبادر إلى ذهنه أنها فنانة أردنية، ومردّ ذلك إلى طبيعة وإيقاع وروح الجملة اللحنية التي كتبها العاص من إبداعه الخاص ولكن بتأثّر حقيقيّ بالروح الموسيقيّة الأردنية. كما أن معظم ألحانه كانت على المقامات الموسيقيّة التي أحبّها : النهاوند والكُرد والبيات والسيكاه، وصاغها بما لا يتنافى مع الوجدان السمعي للناس، فعاشت هذه الألحان في قلوبهم دومًا.

استخدم العاص في ألحانه الإيقاعات البسيطة المتداولة بين الناس (اللف، المقسوم أو البلدي، إلخ…)، كما وظّف في ألحانه آلات من الموسيقى الغربية مثل الجيتار، وأصوات كهربائية بواسطة الأورغ، تركت أثرًا مميزًا في توزيعه الموسيقي.

كان العاص أول من استخدم الأغنية الطويلة المبنية على لحن شعبي، وهي ألحانه التي قُدِّمت في الكثير من المسرحيات والأفلام وبمصاحبة فرق الفنون الشعبية، ومن حيث النص الشعري فإن جميع الكلمات التي لحّنها العاص لم تكن تخرج عن حدود الذوق العام وتوقّعاته.

محطات مميزة

تُعتبر قصّة الموسيقار جميل العاص مع دولة الشهيد وصفي التل، عندما أتى به التل بسيّارة شرطة إلى دار رئاسة الوزارة لتلحين أغنية تخسى يا كوبان، من أكثر القصص شهرةً بين الأردنيين، وهي تُدلّل على مكانة العاص الموسيقيّة آنذاك وثقة دولة وصفي التل بقدراته الإبداعية ليكلّفه بتلحين أغنية أرادها الشّهيد أن تكون علامة بارزة وأداةً ثقافيّة وجماليّة في مواجهة موجات الردح الإذاعي التي كان يتعرّض لها الأردن من المشاريع السياسيّة المحيطة به والتي كانت تستهدفه دومًا بالنيل، حتى أن أحد نجوم هذه الحملات المسيئة في إذاعة صوت العرب كان يسخر من إذاعة الأردن ويصفها بـ “إذاعة سلوى”، نسبةً إلى الفنانة سلوى زوجة جميل العاص، لكنّ الحملة وأبواقها انتهت وبقيت أغنية “تخسى يا كوبان” حتى هذا اليوم تتصدّر الخيارات الموسيقيّة في المناسبات الوطنية بما فيها أعراس شهداء الأردنيين الذين ما يزال أبناؤهم وأحفادهم على الوعد “ولفي شاري الموت لابس عسكري”.

أيضًا فإن قصّة تلحينه لأغنية “أرخت عمّان جدائلها”، عندما أتى به الشاعر حيدر محمود الى المكان الذي أوحى له بكتابة القصيدة، فما كان من الموسيقار العاص إلا أن ينغمس في رحلة من الوجد والتنسّك في محراب الوطن، وأبدع في تلحين القصيدة في ذات المكان خلال ذات الجلسة، لتُطِل نغماته مع كلمات حيدر محمود كتحفةٍ مسموعةٍ احتلّت مكانها في الضمير الوطني الأردني عبر عقود، وستبقى.

وفاته

توفّي الموسيقار جميل العاص في 26 أيلول عام 2003 في عمّان بعد صراعٍ مع المرض والظروف الصعبة، تاركًا وراءه حديقة من الألحان الأردنية العذبة التي ما زالت تشكّل مصدر إلهامٍ للعديد من الموسيقيين في الأردن، ويُعاد استذكارها وتقديمها في مختلف المناسبات، لا سيّما تلك القصائد الخالدة التي لحّنها الموسيقار العاص بروحٍ أردنيّةٍ أصيلةٍ ومعاصرةٍ. ودُفِن جسده بالقرب من إذاعة المملكة الأردنية الهاشميّة التي اختارها لتكون منصّة ألحانه الجميلة، وقاد مسيرتها الموسيقية على مدى 18 عامًا.

المراجع :

  • العاص، خالد جميل، جميل العاص أغنية وسيرة، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الشرقاوي، صبحي، جميل العاص، مشروع إحياء التراث الموسيقي الأردني، 2010 الطبعة الثانية، المعهد الوطني للموسيقى (مؤسسة الملك الحسين)، عمّان، الأردن.

جميل العاص : الموسيقار الأول وأبو الأغنية الأردنية

ثلاثة من نشامى قوّات البادية الملكية يعتلون ظهور الإبل

مقدمة

الحداء لغةً واصطلاحًا هو صوت الغناء للإبل، وهو لون غنائي موجود في البادية الأردنيّة منذ القِدم، ويُعتبرُ مثالاً واضحًا على ارتباط النشاط الموسيقي بنشاطاتٍ أخرى وتداخله معها، فالمضمون الإيقاعيّ لمعظم ألحان الحداء تأتي منسجمة مع الطبيعة الحركية للإبل والخيول التي استخدمها الأردنيون منذ زمن بعيد للتنقّل. لذلك يرى الباحثون أن هناك فرقًا في الروح الإيقاعيّة للحداء بحسب ظروف الأداء والطبيعة الحركيّة التي تختلف عند استخدام الخيول عن ظروف الأداء على ظهور الإبل، ولكن الأصل في الحداء أنه الغناء الذي يُنشد فوق ظهور الإبل.

الخصائص الفنيّة

الحداء هو مقاطع شعريّة باللهجة الأردنية تمتاز بسهولة المفردات وبساطة البناء الشعريّ، تُغنّى على ألحانٍ غنائية رشيقة سهلة الحفظ والترديد وحيوية الأداء، فتكون الحداءات عبارة عن مقطوعات غنائية قصيرة تتكوّن من بيتين لهما قافية واحدة تتغيّر بتغيّر المقاطع، فيما يحافظ اللحن على محتواه طيلة الغناء. غالبًا ما يربط الحداء بمعانٍ وأفكارٍ مؤثرة وخصوصًا تلك التي ترتبط بالحماس والتفاخر والتغنّي بالذات والأهل والوطن. ومن مظاهر اهتمام الأردنيين بالحداء واستحضاره حتى في الأدبيات الهامّة ما جاء في قصيدة الشاعر الكبير عرار – مصطفى وهبي التل :

يا حادي الرّكب قف واصمت على مضضٍ … فالرّكبُ تحدوه سعلاة تحداني

مناسباته

كغيره من ألوان الغناء البدوي مثل الهجيني، فإن الحداء معروف عند الأردنيين في الريف والبادية على حدٍّ سواء، واهتموا به اهتمامًا خاصًا يعكس مكانة هذا اللون من الغناء الذي يعبّر عن تجذّرهم وارتباطهم التاريخي بالأرض، وعليه فقد انتشر الحداء في مختلف الأوساط الأردنيّة وتنوّعت استخداماته في المناسبات المختلفة.

فقد قيل الحداء غناءً في لحظات المعارك للتغنّي والتفاخر وشحذ الهمم، وفي إطار الفروسية وسباق الخيل، ومن مثال ذلك :

يا يُمّه غذّي مهيرتي .. تسلم وأنا خيّالها

لاشري لها شرشف حرير .. ريش النعام قذيلها

أو

يا شيخ ما جنّك علوم عن عركة صارت شمال

تعلّقت قبل الضّحى وما فكها كود الظلام

ويمكننا القول أن الحداء هو غناء للعمل الجماعي، سواء أكان ذلك العمل في المعارك أو التدريب على الفروسيّة وسباقات الخيل أو حتى في الحصيدة، لذا فهو في الغالب يحمل طابعًا حماسيًا لشد انتباه المجموعة وتركيزها في لُب وجوهر العمل الذي تقوم به.

وكان الزواج أيضًا من المناسبات التي استخدم فيها الأردنيون الحداء، فكما هو معروف؛ أن مراحل الزفاف الاحتفالية عند الأردنيين تتم على مراحل متدرّجة بدءًا من الجاهة ووصولاً إلى انتقال العروسين إلى بيت الزوجيّة، ومرورًا بالسهرات المتنوّعة وإقامة الولائم وليلة الحنّا وحمّام العريس والفاردة، وهذه المراحل كانت تمتد لعدّة أيام سابقًا، ولكل واحدة منها طقوس خاصة ترافقها أغانٍ من نوع خاص. أما الحداء فيغّنيه الأردنيون في آخر مراحل الزفاف بعد إقامة الدبكات الاحتفالية في الساحات والبيادر، ينتقل موكب العروسين إلى عش الزوجية على أنغام الحداء ذي الوزن الثلاثي، بإيقاع منضبطٍ متوسّط السرعة يضبط مسير الموكب والحشد المشارك في الزفاف.

ومن أشهر حداءات الزواج في الأردن :

عريسنا زين الشباب .. زين الشباب عريسنا

وهي مبنيّة على ألحانٍ عدّة، منها لحنٌ تم استخدامه في مسرحية برجاس التي كتبها الشاعر الأردني حيدر محمود ولحّنها الموسيقار اللبناني زكي ناصيف، في المشهد الراقص الذي يمثّل مناسبة الزواج وتقاليده الغنائية. كما أن ذات اللحن استخدمه الأخوان رحباني في فيلم سفربرلك الذي يوثّق همجية الاحتلال العثماني، بصياغة شعرية أخرى.

https://www.youtube.com/watch?v=D8hS5Y9h_5g

المراجع :

  • غوانمة، محمّد، الغناء البدوي في الأردن، 2009، دراسة، جامعة اليرموك، إربد، الأردن.
  • العبّادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية (سلسلة من هُم البدو 3)، 1979 الطبعة الأولى، دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام الأردنية.
  • حدّاد، رامي، والدرّاس، نبيل، المضمون الموسيقي للحداء، دراسة، الجامعة الأردنية، عمّان، الأردن.

الحداء

آلة الربابة

الشروقي قالب غنائي بدوي أردني، يُبنى على القصيدة الطويلة متعددة الأبيات، والتي تُغنّى بالجَر على آلة الربابة، وتتميّز قصيدة الشّروقي بتطابق القافية في الأشطار الأولى جميعها، كما في الأشطار الثانية جميعها، كما أن غناء الشّروقي بالجَر على آلة الربابة يتميّز أيضًا بالمد الصوتي الطويل الذي غالبًا ما تنتهي به حروف القوافي .

يتسم طابع الغناء الشروقي غالبًا بالموضوع الحزين، الرثاء أو التوجّد، كما يمكن أن يسرد مواضيع الفخر والغزل والنضال والوصف. والمعنى القاموسي لكلمة شروقي هو صاحب العين الدامعة، ويُعتقد أيضًا أن أصل التسمية جاء نسبةً إلى المناطق الشرقيّة من الأردن، وتورد الرواية الشعبية أن الشروقي ارتبط أيضًا برحلة التشريق التي كانت تسلكها العشائر الأردنية في انتقالها شتاءً إلى المناطق الشرقية وجنوبًا إلى الصحراء النبطية الأردنية والجوف لتجنّب البرد.

وتُعتَبَر قصيدة “الثأر” التي غنّاها الفنان عبده موسى من أشهر مواويل الشروقي في الأردن، والتي كتبها الشاعر الكبير رشيد زيد الكيلاني واقتبس في مطلعها ما تغنّى به العراقيّون في بغداد لحظة وصول كتيبة الجيش الأردني التي شاركت بإحباط الانقلاب على النظام الملكي في العراق في الأربعينات :

يا مرحبا يا هلا منين الرّكب من وين .. أقبل علينا الضحى يا زينة إقباله

حيهم نشامى الوطن حيهم جنود حسين .. ربع الكفافي الحُمُر والعُقُل ميّالة

الفنان الأردني عبده موسى

مراجع :

حجاب، نمر حسن، الأغنية الشّعبية في عمّان (موسوعة عمّان التراثية 5)، 2003، منشورات أمانة عمّان الكبرى.

الشروقي

مقدمة

تُعتَبَرُ التراويد من قوالب الغناء الشعبي الأردني التي تختزلُ جانبًا من جماليات الإرث الموسيقيّ الأردنيّ الغني بالقصائد والألحان الموروثة عبر أجيال الأردنيين خلال العصور المختلفة. يغنّي كُل مِن الرجال والنساء التراويد على حدٍّ سواء، مع اختلاف في المضمون بين الجنسين، وتعلو التراويد مع الزغاريد ومشاعر البهجة والفرح والنشوة الجماعية في الأفراح التي اعتاد الأردنيون على اقامتها في بيوتهم الرحبة وساحاتهم الوسيعة، فيجعلون من “السطوح” و “العلالي” و “حيشان الدُّوْر” مسرحًا عفويًا للغناء والرقص لإعلان الفرح واستقبال الضيوف المشاركين بالتهنئة والمباركة.

أصل التسمية

التراويد (ومفردها ترويدة، ويُقال لمَن يغنّيها أو تغنّيها : الروّاد/الروّادة)، والتي أصلها في اللغةِ النّحوية من (روَّد/يروِّد)، جاءت تسميتها من فعل “الإرادة” المُستخدم في اللغة/اللهجة الأردنية بمعنى : الحب، فكلمة “أريدك” بالأردنية تعني : أحبّك، ومن الشواهد على ذلك الأغنية الشهيرة : ريدها ريدها .. كيف ما أريدها؟

وعليه؛ فإن تسمية التراويد اشتُقَّت من الكلمة التي يعبّر بها الأردنيون عن الحُب والعشق، وفي ذلك سمة جمالية تعطي لهذا الغناء ملمحًا خاصًّا يعبّر عن الإغراق المتّزن في التعبير عن المشاعر لدى الأردنيين، ليس فقط عن طريق القصائد والألحان، وإنما أيضًا باشتقاق أسماء القوالب والألوان الغنائية من تسميات تتعلق بنشاطات أو انفعالات أو مشاعر، كالهجيني والسّامر والدلعونا، والترويدة.

يمكن تصنيف أغاني التراويد في الأردن إلى ثلاثة تصنيفات :

تراويد العروس : وهي الأغاني التي تغنيها الفتيات للعروس في “ليلة الحِنّة”، ويكون شكل الغناء في الغالب تبادليّ بين مجموعتين من الروّادات، وتتضمن هذه التراويد أبيات شعر على شكل قوالب مُكرّرة يتم فيها التغنّي بجمال العروس وأصلها وعائلتها وعشيرتها. ومن وظيفة هذه الأغاني أيضًا الإعلان عن وداع العروس لبيت أهلها، فيغلب على بعضها طابع من الحزن المتواري خلف نغمات الفرح وأضوائه، والذي يتصاعد تدريجيًا ليصل إلى درجة الانتحاب، وخصوصًا إذا كانت العروس بالتعبير الأردني “غريبة” : أي تزوّجت شابًا من غير بلدتها وستنتقل للعيش معه بعيدًا عن أهلها، ومن التراويد التي تُقال للغريبة :

كَنّك غريبة وهِلّي من الدّمع جرّة              يا أهل الغريبة يمرّوا بالسّنة مرّة

كَنّك غريبة وهِلّي من الدّمع طاسة            يا أهل الغريبة يدوسوا بالسّنة فراشي

ومن التراويد التي تُقال في الغريبة أيضًا ما فيه من العتب على الأهل الذين لم يسعوا لتزويج ابنتهم من أحد أقاربها :

يا الاهل يا الاهل لا يبري ليكو ذمّة           وشّو عماكو عن ابن العمّ والعمّة

يا الاهل يا الاهل لا يبري ليكو بال           وشّو عماكو عن ابن العمّ والخال

وفي ترويدة أخرى تناشد الفتيات العروس بعدم البكاء :

خيّة يا (فلانة) لا تبكي ولا دمعة             خيِّك حنيِّن يزورك ليلة الجمعة

خيّة يا (فلانة) لا دمعة ولا ثنتين             خيِّك حنيِّن يزورك ليلة الاثنين

ومن أهم مراحل الفرح عندما تقوم أم العروس بتمشيط شعر ابنتها يوم الزفاف، وهي التي تقوم بتزيين الفرس التي ستُزَف عليها ابنتها، فيُغنِّن الروّادات على لسان العروس الترويدة الشهيرة :

لُمّي يا لُمّي وهيّي لي قراميلي         طلعت من البيت وما ودّعت أنا جيلي

لُمّي يا لُمّي وشدّيلي على الفاطِر              الليلة عندِك وبكرا من الصّبح خاطِر

تراويد العريس : وهي الأغاني التي يغنّيها الشباب لصديقهم العريس بمناسبة زواجه وتحديدًا خلال تخضيب يديه بالحنّة، ولكن تختلف تراويد الرجال عن تراويد النساء بالأداء القوي الذي يعبّر عن سمات الشخصيّة الذكورية. وتؤدّي التراويد مجموعتان من الرجال اللتان تتبادلان الغناء دون مرافقة أيٍّ من الآلات الموسيقيّة، ومن الأمثلة عليها :

رحت أحوّش القطن صادفني غزال          يا غزال الهولِ مِلا هو غزال

قلت يا (فلان) ومنين لك هالغزال            قال حُشتُه البارحة حين المنام

تراويد الطهور : وهي الأغاني التي تغنيها النساء (والرجال أحياناً) بمناسبة طهور (ختان) الأطفال الذكور، وهي أغانٍ تخاطبُ كلماتها المُطهِّر، وتحذره ضمنيًا من أن يؤذي الطفل المُطهَّر خلال التطهير، وذلك من خلال حوار غنائي بين الروّادين والروّادات. ومن الدوافع النفسية للغناء بهذه المناسبة هي طمأنة الطفل وأهله والابتهاج بطقوس هذه المناسبة، وعند مقارنة استخدامات التراويد في الأعراس والطهور معًا، نجد أن الأردنيين اعتبروا، ضمنيًا، الطّفل المُطهّر عريسًا لأهله. ومن تراويد الطهور :

بالله عليك      يا مطهِّر الصبيان     بالله عليك

ندعي عليك    إن وجّعت (فلان)     ندعي عليك

يُذكر أن طقوس وألحان التراويد الأردنية لمناسبة الطهور قد انتشرت في عددٍ من البلدان المجاورة، وأبرزها في مصر بحسب بعض الباحثين الذين أشاروا لاستخدام ذات الألحان الأردنية في مناسبة الطهور.

الخصائص الفنّية

عند النظر في أركان الترويدة، نجد أن الكلمة تمتاز في الغالب بالبساطة والمرونة والقدرة على التعبير الرمزي الخاطف عن الصور والأفكار والمضمون الموضوعي للمناسبة، بأسلوب ذي مدلولات اجتماعية ترتبط بالواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناس، مما يعطي للأغاني بُعدًا وظيفيًا هامًّا. كما تمتاز ألحان التراويد بجُمل لحنية قصيرة وجذابة ورشيقة الطابع، قلّما تتباعد درجاتها النغمية عن بعضها البعض، مما منحها سهولة الانسياب على الألسن ليشارك الجميع في أدائها، حالها كحال أغلب القوالب الغنائية الشعبيّة، وهو ما سهَّل أيضًا انتشارها أفقيًا بين الناس وعاموديًا عبر الأجيال. كما أن هذه الألحان ارتبطت بإيقاعات بسيطة ومتكررة تتماشى وتعكس بساطة النص الشّعري وسلاسة التركيب النغمي، وهي ايقاعات مستوحاة من الأوزان الشعرية للتراويد ومنتشرة في أغلب مناطق الأردن ومرتبطة بالعديد من الرقصات والدبكات الرّيفية.

ومن الأغاني الشهيرة التي جاءت على لحن التراويد وفي كلماتها، أغنية “لا تطلعي ع الدّرج” التي غنّتها الرائدة سلوى العاص بمصاحبة الفرقة الموسيقية للإذاعة الأردنية في القرن الماضي، وكان قد صاغ كلماتها من الإرث الأردني الشاعر الكبير رشيد زيد كيلاني وقام بإعداد لحنها وتوزيعها الموسيقار جميل العاص.

المراجع :

  • العبّادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية (سلسلة من هُم البدو 3)، 1979 الطبعة الأولى، دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام الأردنية.
  • غوانمة، محمّد، أغاني التراويد، 2006، مجلّة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعيّة، مجلّد 33، العدد 3، عمادة البحث العلمي/الجامعة الأردنية، عمّان، الأردن.
  • غوانمة، محمّد، أغاني النساء في الأردن، 2009، المجلّة الأردنيّة للفنون، مجلّد 2، عدد 1، عمّان، الأردن.

التراويد

مقدمة

تُعتَبر الدلعونا من أكثر القوالب الغنائية الشعبية شهرةً في الأردن والمناطق المجاورة، وهي ترتبط حصرًا بالمناطق ذات الطابع الريفي، وقد أغرق الأردنيون من سكّان الريف بخلق أنماطٍ متنوّعةٍ من الدلاعين حتى ذاع صيتها على امتداد الجغرافيا الأردنية وأصبحت الدلعونا، بألحانها ومفرداتها وأسلوبها الخاص، معروفةً لكافة أطياف المجتمع الأردني باختلاف مكوّناته، وذلك يقودنا إلى أن اختلاف الأنماط الموسيقيّة في الأردن رافقه تفاعل وتبادل وانفتاح سهَّل من انتشار تلك الأنماط وقبولها واستيعابها حتى وإن لم تكن مُستخدمة في منطقة دون الأخرى.

حَمَّل الأردنيون الدلعونا كثيرًا من فِكرهم الخاص، فبات هذا الفن يؤرّخ لعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وفلسفتهم الخاصة في الحياة والحب والواقع الاجتماعي الذي عاشوه. وعليه فقد تنوّعت الدلعونا في أغراضها، من الغزل وشكوى الحب وشيطنات الشباب وحتى الدلاعين التي قيلت في الأولياء والجنّة، مما انعكس على أنماطها الشّعرية واللحنية.

أصل التسمية

يشير اسم قالب الدلعونا بشكل واضح إلى أنه مُشتقٌ من مفهوم “الدّلع”، والدّلع هو التأبّي والصدود عن “الوليف” واخفاء رغبة الوصل رغم وجودها، وهو شكلٌ من أشكال المشاكسة العفوية بين الأحبّة.

الانتشار

ارتبطت أغاني الدلعونا بالدبكات بشكلٍ مباشر وحصريّ، واستُخدِمَت معها الطبلة والشبّابة والمجوز، وهي من الآلات الموسيقية المنتشرة في وسط وشمال الأردن وارتبطت بالفنون الريفية. وكان البناء الشعريّ للدلعونا من مؤشرات ارتباطها بالدبكات، فهي تُبنى على شكل أربعة أشطر شعريّة، تنتهي جميعها بقافية معيّنة باستثناء الشطر الأخير الذي يجب أن ينتهي بقافية “و،ن،ا”، مع إطلاق حرف الألف الأخير، فتكون هذه الألف إشارة لقائد الدبكة “اللوّاح” ليقوم بسحب الراقصين إلى القفز السريع.

وعليه؛ فإن الدبكة التي سمحت الطبيعة المكانيّة ذات السهل المنبسط في المكان الريفي لانتشارها بشكلها السريع والرشيق، في حين لم تسمح الطبيعة المكانيّة في مناطق أخرى ذات الحنايا الجبلية بانتشار الدبكات لصالح ظهور الصحجة ذات الحركات الثقيلة، أدّى ذلك إلى انتشار الدلعونا بمناطق دون الأخرى، في حين ارتبطت الصحجة (وهي الرقصة النظيرة للدبكة) بقوالب غنائية أخرى مثل السامر والهجيني.

الخصائص الفنيّة

الشّعر : يتكوّن نص قالب الدلعونا من أربعة أشطر تكوِّن بيتي من الشّعر الشعبي، تنتهي الأشطر الثلاث الأولى بقافية واحدة معيّنة، في حين ينتهي الشطر الأخير، دائمًا ولِزامًا، بالقفلة الدلعونية الشهيرة المأخوذة من اسم الدلعونا، وهي الواو والنون والألف المطلقة، كما في المثال التالي :

ثلاث غزلان من الشَّرِق طَلَّنْ                     مَدَّن العِبِي وراحَن يصَلَّنْ

سِمعَن المِجْوِزْ صارَن يغنَّنْ                      غيَّرَن اللحن على دلعونا

وقد تتبدّل القافية الدلعونية من (ونا) إلى (وما) في بعض أبيات الدلعونا :

على دلعونا ليش دلَّعتيني                             عرفتيني مجوَّز ليش أخذتيني

لاكتُب طلاقِك ع ورقتينِي                           واجعل طلاقِك في هذا اليوما

في بعض الأحيان يتغيَّر بناء القوافي الشعريّة في أشطر الدلعونا إلى أسلوبٍ مختلف، الغرض منه تنويع الصوت الشعريّ وكسر الرتابة الإيقاعية في الكلمات، بحيث تكون الأشطر (الأول والثاني والرابع) منتهية بالقافية الدلعونية، وتصبح القافية المختلفة في نهاية الشطر الثالث، كما في المثال :

على دلعونا على دلعونا                     الهوا الشّمالي غيَّر اللونا

الهوا الشّمالي غيّرلي حالي                 حبَّت بدالي بنت الملعونا

اللحن : يتألف لحن الدلعونا من جملتين موسيقيتين متكررتين، وغالبًا ما تكون على مقام البياتي، ويلازمه إيقاع الملفوف الثنائي. ولكن بالرغم من ذلك، إلا أن ألحان الدلعونا تنوّعت حتى وصلت إلى أكثر من سبع ألحان معروفة ومشهورة، تشترك جميعها بنفس الأسلوب اللحني والإيقاع، مع اختلاف في المسافات بين النغمات أحيانًا أو درجة الركوز أو الحليات اللحنية.

الأداء : بعكس بعض القوالب الغنائية الأخرى التي يكون فيها الغناء حكرًا على أحد الجنسين، يشترك الرجال والنساء في غناء الدلعونا على حدٍّ سواء، ولا يكون الاختلاف بين النمط الذكوري والانثوي سوى في المضمون الشِّعري وأسلوب الغناء الذي يأخذ منحىً أكثر صلابةً وحيويةً للتعبير عن الشخصيّة الذكورية.

المراجع :

  • العمد، هاني صبحي، أغانينا الشعبيّة في الضفّة الشرقيّة من الأردن، 1969 الطبعة الأولى، منشورات دائرة الثقافة والفنون وزارة الثقافة والإعلام، عمّان، الأردن.
  • غوانمة، محمد، الغناء الرّيفي في الأردن 2009، قسم الموسيقى، جامعة اليرموك، إربد، الأردن.

الدلعونا

الهجيني هو أحد أشهر القوالب الغنائية الأردنية، والهجينية هي الأغنية التي في قالب الهجيني، وجاءت تسميته من كلمة الهجن، ومفردها هجان أو هجين، وهي صغار الإبل، ويُعتقد أن غناء الهجيني لم يتم إلا فوق ظهور الإبل ولذلك أخذ هذه التسمية. وعند غناء الهجيني فوق الإبل أو معها فإنها تتأثر به تأثيرًا محسوسًا وتُصاب بالنشوة.

وبالرغم من ارتباط الهجيني بالإبل وبحياة البادية، إلا أنه انتشر وشاع في مختلف مناطق الأردن وأخذ بالتنوّع اللحني والشّعري بشكلٍ ثري، وأُخضِع لمزاجات متعددة، وصار له عدة ألوان تنسكب عليها أشعار شعبية مختلفة ومتنوّعة.

يؤدّى الهجيني في الأصل على انفراد وبمرافقة الربابة، وقد يؤدى على شكل جماعة تنقسم إلى قسمين ترد إحداها على الأخرى فيما يُعرف بالـ “مراددة“، ويُغنى في مختلف المناسبات وتُستخدم فيه الأشعار ذات المواضيع المختلفة، من الغزل والوجد والفخر والهجاء وغيرها.

يوجد للهجيني أكثر من بناء شعريّ واحد، منه ما هو الثنائي : يتكوّن من بيتي شعر لهما نفس القافية، ومنه ما هو الثلاثي : يتكوّن من بيتي شعر تتطابق فيه قوافي الصدر والعجز في البيت الأول مع صدر البيت الثاني، وينتهي عجز البيت الثاني بقافية مختلفة، وهو مطابق تمامًا لمبدأ البناء الشعري في لون العتابا القروي.

وهذه الهجينيّة من أشعار الشيخ الشّاعر هايل السّرور :

من راس عنازة زعقت الصوت .. واهجّع القلب لا يطيري

عيني تخايل سمار بيوت .. شرق البساتين بظميري

يا شوقي حبّن قبل لا موت .. قبل لا تتبدّل على غيري

أبو الثنايا ذهب ياقوت .. رز بحليب المغاتيري

الشيخ الشاعر هايل السّرور

وفيما يلي نماذج مُختارة من الهجيني مأخوذة من الإرث الأردني التي جمعتها وغنّتها عصفورة مؤاب ميسون الصنّاع، ونلاحظ في مقاطع الهجيني التالية تنوّعًا في الموضوعات والمشاعر :

حطّيت راسي على التختي .. قلبي بهواجيس وهمومي

الله يجازيك يا بختي .. ما جبتلي من السنة يومي

النّاس درب السّهل تمشي .. وأنا تلقّيت ع الطّوري

شاورت قلبي بعهد خلّي .. ما يوم شوره على شوري

الله انت سلّط على النسوان .. حتّى العجايز تجازيهن

ما جرّبن لوعة الهويان .. نسين عمرين مظى بيهن

يا قلبي يلّي شريت الهَم .. وأشوفك اليوم تحتاسِ

ع صويحب أنا شربت الدم .. ذبحتني يا اصلع الرّاسِ

يا خيي يلا انا وياك .. ع الغور نزرع بساتينِ

لازرع لحبّي ثلاث وردات .. واسقيهن من ميّة العينِ

ميسون الصنّاع

للإستماع إلى الهجيني بصوت ميسون الصنّاع (من تسجيلات إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية) :

مراجع 

  1. العمد، هاني صبحي، أغانينا الشعبيّة في الضفّة الشرقيّة من الأردن، 1969 الطبعة الأولى، منشورات دائرة الثقافة والفنون وزارة الثقافة والإعلام، عمّان، الأردن.
  2. العبّادي، أحمد عويدي، المناسبات البدوية (سلسلة من هُم البدو 3)، 1979 الطبعة الأولى، دائرة المطبوعات والنشر في وزارة الإعلام الأردنية.
  3. حجاب، نمر حسن، الأغنية الشّعبية في عمّان (موسوعة عمّان التراثية 5)، 2003، منشورات أمانة عمّان الكبرى.
  4. مقابلات شخصية لفريق عمل إرث الأردن في البادية الشمالية 2018.

قالب الهجيني

Scroll to top