مقدّمة

تتبعنا في الأبحاث الماضية من حقل إرث الاستقلال كيف تجاوز الاحتلال العثماني الأردن من حساب سلاطينه في شؤون البناء والتنمية، واستمرار سياسته في الحكم بالوكالة التي اعتمدت على نهب خيرات البلاد وسرقة قمح حوران وتحطيم غابات السلط والشوبك والطفيلة ووادي موسى وفرض الضرائب الجائرة على الأردنيين وجلب أبنائهم للتجنيد الإجباري لخوض حروبهم التوسعية والقمعية للشعوب الثائرة وقد استمر انشغال المحتل العثماني المستمر بتوطيد عاصمته في الأناضول، ثم انشغل بتوسيع احتلاله للشعوب والدول، بينما تركت بلادنا مهملة من حكم غير شرعي، بل وافرغت من كل عناصر التطور ومسبباته، وجلبت أموالها وغيراتها وأيديها العاملة إلى العاصمة العثمانية لتطويرها على حساب الأردن والأردنيين.

والدارس لحقبة التحرر من المحتل العثماني والراصد للثورات الأردنية الصغرى يدرك كيف كانت الحكومة العثمانية تتصرف في حكم البلاد، إذ أناطت مسؤولية أمن المنطقة بشيوخ العشائر الأردنية ولم تستخدم حامياتها وسجونها إلا لقمع الثائرين من الأردنيين الأحرار، وجعلت لغة الترهيب والقمع والإبادة العرقية الممنهجة لغتها الأساسية في التعامل مع العشائر والقبائل إذ سيّرت الحملات العسكرية من جنودها المرتزقة واحدة تلو الأخرى وبلا هوادة أو انقطاع، بينما أشاعت في أحيان كثير سياسة “فرّق تسد” بين القبائل الأردنية، حتى لا تتوحد كتيار استقلالي تحرري من المحتل العثماني فتشكّل قوة خطيرة يصعب مواجهتها وهو ما كان في الثورة العربية الكبرى، واستمرارا لمسلسل الخسّة والغدر المعروف عن العثمانيين وسلاطينهم فقد استخدموا الحيل وأخذ الرهائن للضغط على العشائر الأردنية وفرسانها وشيوخها تارةً وتارات أخرى عبر الإعدام على المشانق والاغتيال بالسُّم وهو أشهر عاداتهم في التعامل مع شيوخ العشائر الأردنية كما فعلوا مع الشيخ البطل الشهيد قدر المجالي.

قبيلة الحويطات الأردنية والاحتلال العثماني ( علاقة متأزمة )

  لم تسجل ذاكرة الأردنيين وروايتهم الشفوية ولا حتى كتب المؤرخين والمستشرقين أدنى حد من العلاقة المعقولة بين العشائر الأردنية والمحتل العثماني، ليست هذه العلاقة بالطبع بمختلفة أو حاملة لأي تمايز عن تلك التي جمعت الاحتلال العثماني مع أي قبيلة أو عشيرة أوحاضرة من الحواضر الأردنية على حدّ سواء، ويمكن لنا أن نقرأ شكلها ومضمونها بلغة الأرقام للتدليل على حقيقتها، إذ شهدت الأراضي الأردنية منذ اللحظات الأولى لاحتلال العثمانيين للمنطقة عددا واسعا من الثورات يتجاوز الـ 53 ثورة صغرى مما تم تدوينه وتوثيقه، وقد استعرضنا عددا كبيرا منها في حقل الثورات الأردنية الصغرى، وفي ذات السياق وعلى ذات الحال لم تكن حال العلاقة بين قبيلة الحويطات الأردنية والمحتل العثماني بالأفضل على الاطلاق . إذ لم تشهد العلاقة أي زيارات رسمية أو شبه رسمية، ولم تذهب وفود من قبيلة الحويطات وشيوخها إلى الحكومة التركية في أي مناسبة اطلاقا . ما عدا تلك الوفود المشكلة لاستقبال قوافل الحج لرفادتها واستلام الأموال من أمراء الحج العثمانيين مقابل توفير خدمات الحماية والضيافة لقوافل الحج العثمانية.

ومن الواضح أن الاتصال الوحيد الذي يذكر ـ كما تقدم ـ هو في باب أخذ المستحقات المالية في موعدها، من باب أنه حق واجب على الحكومة العثمانية لهذه العشائر، بدليل أن العشائر الأردنية كانت تثور فورا إذا أحسّت بأي تلاعب من قبل الولاة العثمانيين في أمر هذه المستحقات إذ عادة ما كان أمراء الحج العثمانيين يسرقونها لجيوبهم ويسيّروا حملات القمع للعشائر الأردنية ليمتنعوا عن دفع حقوقها المالية.

وكانت قبيلة الحويطات الأردنية كما هو حال باقي القبائل والعشائر الأردنية تعتبر أرضها ملك ارادتها ولا تدين للمحتل العثماني بطاعة أو ولاء، كما لم تخضع للاحتلال العثماني، ورفضت على وجه الدوام الانصياع لرغبته بتجنيد أبنائها حتى لو كان الأمر بالإكراه والإجبار، بينما يتضح الموقف العام لقبيلة الحويطات الأردنية تجاه العثمانيين عندما أمدّت قوات الثورة العربية الكبرى بالمال والسلاح والرجال والأرواح وقدّمت فيالق من الفرسان والمحاربين والشهداء .

الشيوخ التسعة

وكما هو ديدن المحتل العثماني في الغدر والخسّة وحالما شعر بأن النفس التحرري الاستقلالي قد بدأ بالاشتعال بشكل متزايد، خطّط الوالي العثماني في دمشق لوأد الحركة في مكانها، وحبكت الخطة أن يقوم باستدعاء شيوخ الحويطات التسعة واعدامهم مرّة وحدة بعيدا عن أهلهم وقبيلتهم ومنعا لقيام ثورة سريعة ومباشرة ضد المحتّل العثماني تكلفه جميع حامياته العسكرية في المنطقة، ومن هنا أوهم الوالي العثماني في دمشق كبار شيوخ قبيلة الحويطات التسعة أنه يرغب في حضور شيوخ قبيلة الحويطات الأردنية لاستلام مستحقات القبيلة المالية، وقد رشّحت عشائر الحويطات كبارها لهذه المهمة كالعادة، وتحضّر شيوخ عشائر النجادات والجازي والتوايهه والزوايدة والمراعية والسليمانيين والعمران والسعيدين والرشايده لهذه المهمّة، ورغم التردّد الكبير من قبلهم وشعورهم بأن مكيدة ما يتم تدبيرها من المحتّل العثماني، إلا أن اخلاصهم للقبيلة وشعورهم بالمسؤولية تجاه تأمين رزق أبنائها في ظل انقطاع موارد التنمية الأخرى أجبرهم على الذهاب وتلبية رغبة المحتل العثماني، وما أن وصلوا مقر الوالي العثماني حتى أمر باعتقالهم جميعا وقطع رؤوسهم، في استمرار لمسلسل الظلم العثماني ولا انسانية ولاته وسلاطينه.

 وقد ظن المحتّل العثماني أنه بارتكابه لهذه المجزرة الرهيبة ورفضه تسليم جثامين الشيوخ التسعة لقبيلة الحويطات ، سيخيف شيوخهم وفرسانهم فلا يقومون بأي تمرد في المستقبل، لكن الجواب كان قادما لا محالة.

 

( الغدر ) درب المحتل العثماني

وفي مؤامرة عثمانية أخرى في القرن التاسع عشر، ولتأديب قبيلة الحويطات وقمع النفس الثوري المشتعل في صدور أبنائها ولتصاعد المطالب المنادية بالاستقلال وضرورة دفع المبالغ الواجب دفعها لقاء حماية قوافل الحج العثمانية خاصة بعد أن ازدادت حالات التلاعب بأمر الصرة من قبل الوالي العثماني في دمشق ورغبته الخاصة بتغيير طريق الحج عن مناطق القبائل الأردنية التي اعتمدت في رزقها على خدمة الحجاج وحمايتهم ، وفي ذات الوقت الذي فرض فيه المحتل العثماني ضريبة جديدة على المواشي.

ولقمع الثورة في مهدها احتجز الوالي العثماني ثلاثة شيوخ من قبيلة الحويطات الأردنية هم الشيخ سالم بن نجاد ومعه اثنين من شيوخ عشيرة المطالقة من قبيلة الحويطات وتم سجنهم لفترة طويلة بعد أن تم استدراجهم بالحيلة والخديعة. كان الشيخ سالم بن نجاد أكبرهم سنا، وقد دبر الشيخ البطل ابن نجاد خطة لتهريب كل من الشيخين الآخرين، بعد ان أقنعهما بأن يسيرا إلى قبيلة الحويطات والعشائر الأردنية الحليفة لها كقبيلة بني عطية في البادية الأردنية الجنوبية ليحرضوهم على الاستمرار في إعلان الثورة ضد الاحتلال العثماني، وقطع طريق امداد الجيش العثماني الذي يمر بالمنطقة، ومهاجمة كافة الحاميات والقلاع والسجون العثمانية فيها .

ومن ثم شهدت العلاقة بين قبيلة الحويطات والاحتلال العثماني العديد من المواجهات المباشرة والدامية، وخاصة بعد تأسيس لواء الكرك عام 1892. إذ تُظهر وثيقة من وثائق (ميرزا وصفي )[1] عام 1893م رفض قبيلة الحويطات عموما وعشيرة الجازي بقيادة الشيخ عرار بن جازي تحديدا دفع الرسوم الضريبية المفروضة على الأغنام و الأبل.

كتاب من متصرف معان إلى رفعت بكباشي البوليس ميرزا وصفي حول رفض قبيلة الحويطات دفع الضرائب بالعثمانية؛ حقوق النشر محفوظة لدى دائرة المكتبة الوطنية
كتاب من متصرف معان إلى رفعت بكباشي البوليس ميرزا وصفي حول رفض قبيلة الحويطات دفع الضرائب – منقولة للعربية؛ حقوق النشر محفوظة لدى دائرة المكتبة الوطنية

وفي عام 1894 وبعد امتداد سلطة الاحتلال العثماني نحو معان والمناطق التي يمتدّ فيها نفوذ وانتشار قبيلة الحويطات، رفض شيوخ عشيرة الحويطات وعلى رأسهم الشيخ عرار بن جازي أن يتنازلوا عن أي شكل من أشكال السيادة والحكم الذاتي للحكومة العثمانية وقام الشيخ عرار بن جازي – وكردٍّ مباشر وصريح على الرفض المطلق للاحتلال العثماني – بشن هجوم سريع ومباغت على القوة العسكرية العثمانية في معان، واستطاع فرسان عشيرة الحويطات قتل عددا من جنودها، قام الاحتلال العثماني بعدها على الفور بمطاردة الشيخ عرار بن جازي والقبض عليه بالخديعة وسجنه في سجن الكرك، وأفرج عنه بعد عامين بعد ضغط متواصل من شيوخ ووجهاء العشائر الأردنية وفرسان قبيلة الحويطات[2].

من اليمين : الشيخ البطل عرار بن جازي ( أبو حمد ) وأخيه الشيخ الفارس عبطان بن جازي (عبطان الخيل )، الصورة من مجموعة المستشرقة البريطانية جرتروود بيل في رحلتها الى منطقة البادية الاردنية ، عام 1868

قامت سلطة الاحتلال العثماني بمحاولة جديدة لإجبار قبيلة الحويطات على دفع ضرائب سنتين مقدما، وأرسلت سرية عسكرية لجمعها، فأبى الفارس البطل الشيخ عودة أبو تايه الدفع فقام جنديان عثمانيان برميه بالرصاص غدرا فلم يصيباه، فردّ عليهما بالمثل وقتلهما بينما فرّ باقي الجنود العثمانيين خوفا من ذات المصير[3].

ثورة الحويطات 1898

كانت حادثة أسر الشيخ سالم بن نجاد وأبناء عمومته من شيوخ المطالقة  قد ألهبت النّار في نفوس فرسان قبيلة الحويطات، وما أن وصل شيوخ عشيرة المطالقة إلى مضارب القبيلة بعد هروبهم من السجن بفضل الخطة المحكمة للشيخ ابن نجاد، سارع هؤلاء ببث دعوة الشيخ السجين إلى شيوخ القبيلة وحلفائها، واشتعل طلب الثأر في صدورهم ، فانطلقت الثورة عام 1898 حيث عمدت قبيلة الحويطات إلى الثورة ضد العثمانيين، وأعلنت نيتها الاستقلال المطلق عن الدولة العثمانية، نظرا لاستفحال حالة التهميش للمنطقة وغياب جهود التنمية والبناء وإدارة المنطقة بعقلية المزرعة عبر جمع الضرائب دون مردود أو مقابل ومن ثم امتناع الدولة العثمانية عن دفع حقوق القبيلة المالية لقاء حمايتها لقافلة الحج الشامي وتأمينها باحتياجاتها في الخانات والقلاع المتوزعة في مناطق انتشار ونفوذ الحويطات، بالإضافة لقيام الدولة العثمانية بمد خط سكة القطار العسكري العثماني والذي وجد أصلا لقمع ثورات الأردنيين وإحكام السيطرة والقبضة على المدن الأردنية ومن ثم جمع الضرائب وفرض التجنيد الاجباري بالسرعة التي يريدها الباب العالي وظهر الأثر الاقتصادي السلبي بشكل واضح وصارخ على مصالح قبيلة والعشائر الأردنية المقيمة قرب طرق الحج، والتي كانت تعتمد بالمطلق على الضرائب والأموال التي تجنيها لقاء حماية قافلة الحج الشامي[4]، في الأراضي الممتدة من معان إلى تبوك في ظل غياب أي مورد آخر للرزق مع تضخم حالة التهميش العثماني وحكم المنطقة بالوكالة.

أعلن فرسان الحويطات وشيوخهم الحرب على العثمانيين ورفعوا راية الاستقلال عن حكم المحتل العثماني، وقد هوجمت كافة الحاميات العثمانية بضراوة وشجاعة منقطعة النظير، وقطع طرق إمداد الجيش العثماني في الجنوب، ودبّ الرعب في صدور الجنود العثمانيين وقادتهم، فأرسلوا للوالي يطلبون النجدة، فأرسل الوالي العثماني في دمشق جيشا كبيرا لبث الرعب في قلوب الأردنيين، لكن قبيلة الحويطات وحلفائها من العشائر الأردنية لم تخش قوة الجيش العثماني، واستمرت في ثورتها بمواجهة الجيش العثماني الجرّار الذي هزم من قبل فرسان العشائر الأردنية على أعتاب البادية النبطية الأردنية التي قهرته لمرّات عدة.

و بعد فترة وجيزة اصطدمت عشيرة أبو تايه مع قوة عثمانية مكوّنة من عشرة فرسان بقيادة قائمة حامية الاحتلال العثماني في الكرك سليمان آغا، ولمّا حاولت القوة العسكريّة العثمانية أخذ الإبل المرافق لعدد من فرسان العشيرة، أسرع فارس شاب من عشيرة أبو تايه راكبا فرسه يتبعه فارسان من العشيرة وتوغلوا بين القوة العسكرية العثمانية وأفرغ بندقيته على القوة فوقع أحد الجنود العثمانيين صريعا، وامعانا في الرد على البطش العثماني ضرب الفارس الحويطي بأخمص بندقيته رأس قائد القوة العسكرية  العثمانية سليمان آغا فأسقطه من حصانه على الأرض وأخذه أسيرّا، وعلى إثر بطولة فرسان الحويطات فرّ جنود الحامية العثمانية إلى مدينة الكرك ليحتموا في قلعتها، ودون أن يستطيعوا سرقة أي رأس من إبل الحويطات، تاركين أحد الجنود العثمانيين غارقا في دمه، وقائدهم أسيرا، أخذت هذه القصة تنتشر بين فرسان العشائر الأردنية كالنار في الهشيم مشعلة الرّغبة بالخلاص من هذا المحتل.

وعندما شعر الوالي العثماني أن الأمور تخرج عن سيطرته بشكل متسارع على نحو لا يمكن معه استيعاب ثورة الحويطات ومع وصول الأخبار إليه بانتشار الثورة كالنار في الهشيم في صفوف العشائر الأردنية القريبة من الحويطات، وتحت الضغط الشديد أمر بالإفراج الفوري عن الشيخ سالم بن نجاد واضطر مجبرا للتخلي عن رغبته بإعدامه حتى لا تمتد الثورة أكثر، واستطاعت قبيلة الحويطات بإسناد من فرسان العشائر الأردنية أن تحصد النصر وتفرض شروطها على المحتل العثماني المنهزم أمام سنابك خيلها.

الحويطات وثورة الكرك 1910

تكررت محاولات قبيلة الحويطات الانفصال عن الدولة العثمانية منذ عام 1898 عبر ثورتها العارمة وصولا إلى مشاركة فرسانها بعد سنتين من ثورة الحويطات في ثورات الشوبك عامي 1900 و 1905، ومن ثم مشاركتهم بفعالية في ثورة الكرك ( الهيّة ) عام 1910.

و إبان ثورة الكرك عام 1910 شاركة قبيلة الحويطات مشاركة فاعلة في الهجوم على محطات سكة القطار العسكري العثماني والحاميات العثمانية في معان والشوبك وغيرها من المواقع وذلك نصرة لإخوانهم من عشائر الكرك ولتضييق الخناق على العثمانيين ومنعهم من إمداد الحامية العثمانية المهاجمة للكرك، إذ تورد جريدة المقتبس، تقريرا مفصلا للهجمات التي قام بها شيوخ الحويطات خلال هذه الثورة، حيث تورد كيف توّجه الفارس البطل عبد القادر بن صالح المجالي إلى قبيلة الحويطات في منطقة الجفر، وضافوه في مضاربهم مدة ثلاثة أيام حسب أعراف الضيافة عند العشائر الأردنية، ومن ثمّ اتّفق مع شيوخ عشيرة الحويطات على إعلان الثورة في الكرك وتم التخطيط عسكريا على دور العشائر الأردنية فيها ودور قبيلة الحويطات على وجه الخصوص، ولمّا انطلقت الثورة بقيادة الشيخ البطل قدر المجالي ووصل الخبر إلى الحويطات قاد الشيوخ الأبطال محمد بن دحيلان أبو تايه، وزعل بن مطلق أبو تايه، وعودة بن زعل أبو تايه هجوما واسعا على الحامية العسكرية العثمانية في معان، بينما هجم الشيخ البطل محمد بن عرار الجازي وعدد من فرسان عشيرة الجازي على مأموري معان ( مكاتب الإدارة العثمانية )، كما هاجموا محطة التلغراف العثماني في ضانا لقطع خطوط التواصل العسكري مع حامية الكرك، وباغتوا المحطة البحرية العثمانية في العقبة، في ذات الأثناء هجم الشيخ البطل حمد بن عرار الجازي وعدد من فرسان عشيرة الجازي على سكة القطار العسكري العثماني وعدد من محطاته، بينما هجم الشيخ البطل سحيمان الجازي وعدد من الفرسان، على مكتب جابي الضرائب العثماني ( كامل أفندي ) والسرية العسكرية العثمانية المرافقة له في الشوبك، بينما هاجم الفرسان عرسان بن ذياب ومفلح أبو ركيبة وعدد من فرسان الحويطات على عدة محطات للقطار العسكري العثماني وأحرقوها، وهاجم الفرسان جراد بن حرب العودات ونهار صباح العودات الحامية العسكرية العثمانية في الطفيلة.

الفرصة الحاسمة

شعرت قبائل الحويطات بشيوخها وفرسانها ونشمياتها بقرب فرصة الخلاص النهائي من المحتل العثماني لما تسامعوا بأنباء الثورة العربية الكبرى، فانضموا لصفوفها وقاد شيوخها وعقداء الخيل فيها الصفوف الأولى لقوات الثورة العربية الكبرى حتى تكللت الجهود بتحرير الأردن وتطهيره نهائيا من الاحتلال العثماني.

    

المراجع

  1. النجادات، نايف محمد، الحويطات ودورهم في الثورة العربية الكبرى، عمان، 1989م.
  2. بيك، فريدرك، تاريخ شرقي الأردن و قبائلها ، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان ، 2004 .
  3. الشرعة، ابراهيم ، موقف القبائل البدوية من قافلة الحج الشامي و الخط الحديدي الحجازي ، الدارة ، العدد 4 ، 1426 هــ .
  4. دائرة المكتبة الوطنية،  الوثائق الخاصة، مجموعة ميرزا وصفي .

[1] مجموعة ميرزا وصفي، وثيقة رقم م و 1/21/1. تاريخ 8/10/1310 هــ

[2]  فريدرك بيك ، تاريخ شرقي الأردن و قبائلها ، ص 231.

[3] المرجع السابق،  ص 232.

[4] الشرعة ،ابراهيم ، موقف القبائل البدوية من قافلة الحج الشامي و الخط الحديدي الحجازي، ص :65-35.

ثورة الحويطات 1898

عانت الأردن طيلة عهد الاحتلال العثماني بغياب الدولة عن شؤون الحكم والتنمية والأمن، فتبدّل الولاة والحكام على المنطقة وانتقلت تبعية الأراضي والجباية فيها ، بتبدّل الحكام والولاة، فكلّما انتصر والٍ عثماني جديد على آخر ووافق على دفع الضرائب للباب العالي في الأستانة وجمعها من الأهالي بالنيابة عنه ، انتقلت كل الأراضي والنيمارات والمالكانات إلى عهدته بالضرورة في حقبة كان عنوانها الأبرز ( حقبة حكم المزرعة).

وفي الفترة التي توسع فيها  حاكم عكا العثماني ظاهر العمر (1685-1775) بإمارته ونفوذه ليسيطر على لواء عجلون وما حوله، أرسل ابنه أحمد ظاهر العمر (1728-1775) ليكون حاكما بالنيابة . وقد بدأ ببناء قلعة ومسجد في تبنة، انتهى منهما حوالي 1770؛ ثمّ انتقل إلى الحصن. وعلى تلها بدأ ببناء قلعة.

في تلك الفترة ومنذ حوالي 1760 كان واحدٌ من أبرز شيوخ الحصن هو الشيخ ابراهيم بن مصطفى نصير ( شيخ عشيرة  النصيرات) ، وقد ولد الشيخ ابراهيم حوالي العام 1720 وتزوج من عشيرة الهزايمة. وقد رُزق بالعديد من الأولاد، وبما أنه لم توجد إدارة مباشرة للاحتلال العثماني على الأراضي الأردنية وكانت شؤون الحكم تدار بالوكالة من قبل الولاة والجباة، فقد كان الشيخ هو كل شيء: القائد والقاضي والشرطي.

 

مشانقٌ محليّة

استهل الحاكم العثماني الجديد لمنطقة حوران أحمد بن ظاهر العمر تعيينه بالنيابة عن أبيه بنصب ثلاثة مشانق لتكون علامة على طابع الحكم القادم لأهالي حوران الأردنيين وذلك بعد أن انتهى من بناء الطابق الأول من القلعة، وبناء السور الخاص بها، والواضح أنه أراد تقصير المسافة على الثوّار والأحرار من فرسان العشائر الأردنية، فبدلا من إرسالهم إلى سجون المحتل في الأستانة ودمشق وإعدامهم بالمشانق هناك، قرّر أن يجعل العقاب محليا ومباشرا وسريعا توفيرا للجهد والوقت بإعدام الأردنيين وقمع ثوراتهم.

لدينا مشانق جديدة ، فلنجرّبها !

وليكرّس عهد الحكم الجديد بالسطوة والقتل طلب أحمد ظاهر العمر من الشيخ ابراهيم النصيرات جلب ثلاثة أطفال من أبناء العائلات المسيحية الأردنية من عشائر الحصن وذلك لتجربة المشانق عليهم. حاول الشيخ ثنيه عن الجريمة ففاوضه بتجربة المشانق على الخراف ومن ثم على فرسه شخصياً، لكن الحاكم أبى وتعنّت ثم توعد الشيخ ابراهيم إن لم يجلب له الأطفال المسيحيين لشنقهم سيقوم هو ويختار من أبناء العشائر المسيحية الأردنية في الحصن بشكل عشوائي.

 وعاد الشيخ ابراهيم النصيرات إلى بيته مهموما، فسألته زوجته عن الأمر، فأخبرها بما حدث، فما كان منها إلاّ أن قالت : ( بالله لا تتقلد خطية أحد تأخذه من حضن أمه وأبوه، وبكرة إذا جاء هذا الظالم فليأخذ أحد أبنائنا، ويعوضنا الله خيراً) فآثرت التضحية بأبنائها على أن تخون حق الجيرة والدم لتقدّم أبناءها بدلاً من أبناء أشقائهم المسيحيين.

وتنفيذا لوعدها قامت زوجة الشيخ ابراهيم النصيرات بإطعام أطفالها ومن ثم قامت بتغسيلهم وإلباسهم أجمل ثيابهم بينما حافظت على هدوئها حتى لا تخيفهم، وهي تعدُّ اللحظات التي تفصل أبناءها عن تدوين أسمائهم في سجل الشرف والفداء .

مشهد للصورة المتخيلة في ذهن النشمية زوجة الشيخ البطل ابراهيم النصيرات لأبنائها وهم معلقين على المشانق العثمانية – لوحة للفنانة هند الجرمي

وفي منتصف تلك الليلة من عام 1774 م ، إذ بباب الشيخ ابراهيم النصيرات يُقرع بشدة وعنف شديدين، وكان الوالي العثماني أحمد بن ظاهر العمر هو القارع طالبا من الشيخ أن يفتح له الباب، وعندما فتح الباب أخبره الشيخ أن الموعد لم يحن بعد وأن الأولاد سيكونوا حاضرين في الصباح للإعدام على المشانق، فإذ بالوالي العثماني المخلوع يحتضن الشيخ ابراهيم النصيرات قائلا: أنا دخيل عليك يا ابن نصير، أنا طنيب عليك يا ابن نصير. فسأله الشيخ بصدمة عمّا حدث؟، فقال أحمد بن ظاهر العمر : لقد أرسل الوالي العثماني أحمد الجزار رجالا ليقتلوني. وذلك بعد أن دبّت الصراعات بين الولاة العثمانيين في المنطقة وأصبح أحمد بن ظاهر العمر والجزّار خصوماً في صراعات السلطة وتم اعلانه ملاحقاً ومطلوباً.

حدث هذا الأمر عندما أثار توسع نفوذ الأمير ظاهر العمر حنق الباب العالي العثماني، ما دفعه إلى إعلان الحرب عليه وعزله وأبنائه عن مناطق ولايتهم وتوجيه جيش بقيادة الوالي العثماني أحمد باشا الجزّار للقضاء عليه .

حينها استجدى الوالي المخلوع أحمد بن ظاهر العمر الشيخ ابراهيم النصيرات بأن يوصله بأمان إلى الأمير الغزاوي في الغور، وللوهلة الأولى أراد الشيخ ابراهيم النصيرات أن يفتك بالحاكم عقابا له وثأرا لكرامة الأطفال، لكن زوجته صرخت منبهة أنه دخيل بعُرف الأردنيين وتقاليدهم، وأن تقديم أولادهم بدلاً عن خيانة جيرانهم لا يزيد أهميةً بالمنظومة القيمية الأردنية عن إجارة الدخيل ولو كان قد ذبح الأولاد فعلياً.

فاستجمع الشيخ ابراهيم النصيرات قواه وضبط أعصابه وقام بترحيله مع مجموعة من الحرس إلى الغور مع ورقة تحمل ختمه، وطلب أن يختمها الأمير الغزاوي بعد وصول (الدخيل)، وأخذ منه مفاتيح منزل تل الحصن التي كان الطابق الأول منها قد أنجز، والعمل قائم على الطابق الثاني، وأحسَّ العمال الذين جلبهم الحاكم العثماني معه بعد زمن باختفاء الحاكم، فهربوا دون أن يكتمل بناء الطابق الثاني .

الغدر والثأر

وحسب الرواية الشفوية وقبل هروب الوالي العثماني أحمد بن ظاهر العمر وانقلاب العثمانيين على أبيه بأيام قليلة كان قد دعى الشيخ موسى الحمد الخصاونة في قرية تُبنة الى الغداء وبنيته الغدر به بعد أن خشي من خطرِ زعامة الخصاونة على ناحية بني عبيد ومناوئتهم للعثمانيين. وعند قدومه قام بغدره وأمر بضرب عنقه على سدر الطعام داخل بيته وأخفى الأمر ليتم التمثيل بجثته باليوم التالي،إذ علَقَ رأسَه على باب قلعته في بلدة تُبنه في الكورة التي كان يتخذها مقراً له وسجنَ العديدَ من رجالاتها، ولا تزال المعمرات من عشيرة الخصاونة يهزجن عن الشهيد البطل الشيخ موسى الحمد الخصاونة بالقول ”  موسى الحمد يا مطلع الجردة ….حملها رحلين ورواقها فردة “.

وعندما علم فرسان عشيرة الخصاونة ما حصل بشيخهم الشهيد البطل موسى الحمد الخصاونة قاموا ومعهم جمع من باقي فرسان الحصن بالذهاب إلى منزل الحاكم فلم يجدوه، فكسروا المشانق وأخذوا جميع الأسلحة والذخيرة التي وجدوها ووزعوها بين الفرسان وأرسلوا الى شيخ الغزاوية أن هذا الوالي المخلوع مطلوب لهذه الفعلة الشائنة وأن تسليمه للقاضي العشائري أمر لا يمكن تجاوزه أو التنازل عنه.

وكُسِرت المشنقة

وقبل ساعات من انفاذ قوانين القضاء العشائري الأردني المتجذر في التاريخ، كان أحمد ظاهر العمر قد خرج من الغور الى فلسطين وقد خرج من دخالة الأمير الغزاوي بحكم التقاليد بعد أن غادر ديرته، حيث لحق به بعض فرسان عشيرة الخصاونة فقتلوه وجنوده في الطريق وأحضروا بعض متعلقاته الشخصية وعلقوها فوق بيته السابق بالحصن.

بينما تشير روايات أخرى أنه حين سقطَ حُكم ظاهر العمر في عكا بعد انقلاب والي دمشق عليه، ثار العجلونيون على ابنه أحمد الظاهر، وطاردوه حتى قرية «لوبية» غربي طبريا.

خاتمة

ليس هذا الحدث برمزيته وعظمته ببعيد عن مسيرة كفاح الأردنيين نحو الاستقلال من الاحتلال العثماني، ولا هو بمختلف أو طارئ على سيرة الأردنيين ووئامهم، ولأجل هؤلاء العظام من أمثال أجدادنا وجداتنا الشيخ ابراهيم النصيرات وزوجته تستحق هذه المسيرة الوطنية أن تخلّد وتبقى في ذاكرة الأردنيين لا كقصة عابرة بل كنقش متوهج في صدورهم .

المراجع :

  1. نصير، د.عبدالمجيد، ورقة بحثية منشورة عن عشيرة النصيرات .
  2. كرد علي، محمد، خطط الشام، دمشق، 1925.
  3. الزركلي، خير الدين، موسوعة الأعلام، 1980.

مشانق الحصن

تمهيد

بداية نوضح للقارئ والباحث المهتم في هذا الموضوع أننا عند الحديث عن ” ثورات الأردنيين الصغرى في حوران وجبل عجلون والكورة 1838 – 1840 ” فإن المقصود هو التسميات المعتمدة للتقسميات الإدارية في ذلك الوقت والتي قد تشمل في بعض الأحيان مناطق حالية بمسميات أخرى، وحيث تشمل هذه المسميات حالياً كافة المناطق الشمالية والغورية في الأردن بما في ذلك الرمثا واربد والحصن والكورة والطيبة والوسطية وعجلون وجرش والأغوار الشمالية وصولاً الى المناطق الشمالية والغربية من الزرقاء والمفرق، وتمتد أيضاً لتشمل مناطق حوران الأردنية تاريخياً الواقعة من درعا والسويداء والقنيطرة وغيرها من المناطق التي كانت ضمن حدود الممالك الأردنية النبطية تاريخياً  .

 

خارطة تبين حدود منطقة حوران التي كانت تاريخياً ضمن مملكة الأنباط الأردنيةخارطة تبين حدود منطقة حوران التي كانت تاريخياً ضمن مملكة الأنباط الأردنية

وكنا قد تناولنا في بحثنا السابق ثورة الكورة عام 1834، والتي تم قمعها كغيرها من الثورات المحلية التي عمّت الأردن والمناطق المجاورة في تلك الفترة، وأعدم على اثرها قائدها الشيخ رباع الثاني الشريدة في بلدة سوف، بعد استدراجه بالغدر والحيلة كما قصفت قلعة الكرك، وأعدم الشيخ البطل اسماعيل المجالي ( الشوفي )، وأحرِق أبناء الشيخ ابراهيم الضمور كعقوبة له ولأهل الكرك على حمايتهم للدخيل قاسم الأحمد، إلا أن ثورات شعوب المنطقة وسعيهم الدائم للحصول على حريتهم وحكمهم المحلي لم تهداً فاستمرت المناوشات والاشتباكات مع قوات ابراهيم باشا ( عثمانيي مصر)، المتواجدة في مناطق الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان بعد تمرده على السلطان العثماني وحملته العسكرية المعروفة ضد الدولة العثمانية التي اوقفتها تهديدات بريطانيا وفرنسا بقصف قوات الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا اذا لم تتوقف عن الزحف تجاه اسطنبول، وذلك دفاعاً  من تلك الدول العظمى عن الاحتلال العثماني التركي في حينه للمصالح التي كانت تجمعهم، حيث أرغمت فرنسا وبريطانيا الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا على الجلاء عن الأناضول بعد أن وصلت قوات ابنه ابراهيم باشا الى قونية التركية وانتصرت على القوات العثمانية التركية فيها، وتقرر الاكتفاء بتنازل الباب العالي عن سوريا والأردن وفلسطين ولبنان لعثمانيي مصر، والتي اصبحت منذ حينه مناطق خاضعة لاحتلال قوات محمد علي باشا العثمانية المصرية بدلاً من قوات الاحتلال العثمانية التركية وذلك بموجب اتفاقية “كوتاهيه”، الموقعة في 4 مايو/أيار سنة 1833م ولغاية عام 1840 بعد اتفاقية لندن.

 وثيقة تؤكد إعدام اسماعيل الشوفي المجالي واغتيال الشيخ رباع الشريدة في سوف من قبل العثمانيين ومعهم شيوخ آخرين من منطقة جبل عجلونوثيقة تؤكد إعدام اسماعيل الشوفي المجالي واغتيال الشيخ رباع الشريدة في سوف من قبل عثمانيي مصر ومعهم شيوخ آخرين من منطقة جبل عجلون

أسباب حملة الوالي العثماني محمد علي باشا على المنطقة

تعود أحلام وطموحات الوالي العثماني على مصر محمد علي باشا ( أو كما يلقب بالتركية العثمانية: قوللى محمد على پاشا) في المنطقة إلى عام 1810، بعد وعود من السلطان العثماني “محمود خان الثاني” له بتوليته عليها كمكافئة على مساعدته للعثمانيين في حروبهم ضد الوهابيين في نجد، وما تلاها من مشاركة قوات الوالي العثماني في مصر محمد علي في محاولة قمع الثورة التحررية في اليونان والتي انتهت بتدخل الدول الاوروبية لمساعدة اليونانيين والضغط على العثمانيين الأتراك وعثمانيي مصر لمنح اليونانيين حريتهم واستقلالهم، وبعد ذلك شعر الوالي العثماني محمد علي بالخديعة، فما حصل عليه نظير خسائره الضخمة في اليونان من قبل أسياده العثمانيين الأتراك لم يكن أكثر من مجرد جزيرة كريت غير ذات الفائدة له ولحكمه في ذلك الوقت، مما أدى لقيامه بالتعاون مع الولاة العثمانيين الآخرين في عكا ولبنان بالانقلاب على العثمانيين الأتراك في اسطنبول واعلان سيطرتهم على دول المنطقة، وذلك يعود لعاملين أساسيين:

  1. سياسي يتمثل بجعل المنطقة حاجزاً يقي منطقة حكمه في مصر من الهجمات العثمانية التركية، ويقضي على محاولات شعوب المنطقة للاستفادة من مناخ النهضة والتحرر الذي كان في أوجه في ذلك الوقت بعد نجاح الثورة الفرنسية وعدة ثورات أخرى في العالم في تلك الفترة، كما أن بسط نفوذه على هذه البلاد سيُمكنه من تجنيد جيش عظيم من سكانها، فيزداد بذلك عدد أفراد جيشه .
  2. أما العامل الاقتصادي فيعود إلى إرادته استغلال موارد المنطقة والأردن على وجه الخصوص من الخشب والفحم الحجري والنحاس والحديد التي كانت تفتقر إليها مصر، فضلاً عن أهمية المنطقة الاقتصادية بسبب موقعها الجغرافي، وعلاقاتها التجارية بأواسط آسيا حيث تمر قوافل التجارة، إضافة لموقعها الهام على طريق الحج.

استمرار المعاناة وتكرار المأساة خلال فترة حكم محمد علي باشا

مما لا يمكن انكاره أن المنطقة شهدت تطوراً نسبياً في تلك الفترة في شتى المجالات الاقتصادية والتعليمية والإدارية، مقارنة بعصور الظلام التي عاشتها خلال الفترة العثمانية التركية السابقة، لكن في حقيقة الأمر فإن هذا لم يكن فقط بهدف إعطاء القبائل الأردنية وشعوب المنطقة حريتها وحقوقها، بل في إطار مراحل بناء الدولة وحشد المزيد من الموارد لحماية السلطة الجديدة وتوسعة نفوذها، ومحاولة ابراهيم باشا اجراء بعض الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة لاستمالة السكان الساخطين على المحتل العثماني التركي واسترضائهم، فقام بتقسيم المنطقة ادارياً أيضاً وجعل المتسلمين والمباشرين في كل منطقة مسؤولين عن النواحي الاقتصادية في كل مديرية، ولم تكن الغاية من هذا التقسيم تختلف كثيراً عن غاية العثمانيين الأتراك، فالاختلاف الذي حصل أن الضرائب في عهد الاحتلال العثماني التركي كانت تجبى عبر السكّان المحليين مع حالة من الفراغ السياسي والغياب التنموي الكامل من قبل سلطة الاحتلال العثماني مع توفر الحد الأدنى من السيادة المحلية التي أدارت شؤونها بذاتها في المدن الأردنية، بينما أصبحت في عهد عثمانيي مصر تجبى مباشرة من قبل المتسلمين والمباشرين بعد أن أعفى ” السرعسكر ” الشيوخ من القيام بذلك مع تواجد عسكري ضخم غير مؤلوف بالنسبة للأردنيين الذين اعتادوا على الحكم المحلي منذ أيام مدن الديكابوليس، وهو بالطبع ما جعل الأمور أكثر سوءا، فهؤلاء المتسلمين تفوقوا بالرشوة والتلاعب ، وتفاقم ظلم المتسلمين والحاميات العسكرية للفلاحين، من خلال مضاعفة الضرائب وإجبار الشباب والأطفال على الانضمام للجيش حتى وصل الأمر بالناس لقطع سباباتهم عمداً كوسيلة لإعفائهم من التجنيد الاجباري الذي لم يكن محصوراً، وهذا سرعان ما تسبب بسقوط القناع وتزايد حالة الغليان بعد انكشاف الحقيقة للقبائل الأردنية التي تأملت خيراً بأن يضع هذا الحكم الجديد حداً للظلم والاضطهاد والتهميش التنموي الذي عانوه من العثمانيين الأتراك وولاتهم، وهو ما أدى بالنتيجة الى شعور عام بالخيبة بعد اكتشافهم أن حكم الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا لم يكن إلا الوجه الآخر للنهج العثماني التركي القاضي بفرض الضرائب القاسية ومصادرة المحاصيل والتجنيد الالزامي للشباب والاضطهاد والقمع مما قاد لقيام ثورات الكورة والكرك والسلط وحوران في عام 1834 والتي أخمدها ابراهيم باشا بمساعدة حليفه بشير الشهابي أمير لبنان، فأعدم قادتها وتم التنكيل بالمدن والقرى الثائرة في حينه.

والواضح البديهي هنا مما لا يتطلب المزيد من التفسير والايضاح أن انتقال الثورة من الشمال الأردني في حوران وصولا للوسط عبر عشائر البلقاء ومدنها ، والتحاق بني حميدة ، وعشائر الكرك والحويطات بالثورة يؤكد على الحالة الوطنية الأردنية الثورية الجامعة الرافضة لأشكال الاحتلال ، والمتضامنة كليا مع مكوناتها في الريف والبادية والحضر، في تأكيد آخر على تاريخية الأردن .

وبينما نقوم في هذا البحث باستعراض ثورات حوران والكورة وجبل عجلون، فسنقوم بتفصيل ثورات الكرك والسلط وقبيلة بني صخر والحويطات وباقي القبائل الأردنية في تلك الفترة في أبحاث منفصلة لاحقا ، عدا عن تلك المنشورة على موقع إرث الأردن سلفا.

 

ثورات حوران والكورة وجبل عجلون 1838-1840

ولم تتوقف المحاولات عند ذلك الحد، ففي ظل مناخ النهضة والتحرر السائد في تلك الفترة والتأثر العالمي بأفكار الثورة الفرنسية، لم يكن لدى شعوب المنطقة أي خيار سوى الاستمرار بما كانت تقوم به لعقود طويلة سبقت ذلك، من ثوراتها المحلية للتحرر من الحكم الخارجي والتخلص من الاحتلال بكل أشكاله، فلا احتلال أفضل من آخر مهما تبدلت الأعلام والأسماء، وقد تجددت الاحتجاجات والاضطرابات مرة أخرى بدءاً من عام 1838 ، نتيجة فرض ضريبة جديدة هي ضريبة ” الفردة ” على كل الذكور البالغين من العمر 14 سنة فما فوق ومقدارها (15-500 قرش)، إلإضافة للتجنيد الالزامي الذي كان يفرض على 10% من دافعي ضريبة ” الفردة ” والذي تم تطبيقه بطرق وأساليب وحشية، كما تم جمع كل أشكال السلاح من المدن والعشائر الأردنية كمحاولة لإجبارهم على دفع الضرائب والالتزام بالتجنيد الإجباري، وقد بدأت هذه الثورات في حوران الأردنية مع نهايات عام 1838 ثم اتسعت لتشمل الكورة والطيبة وجبل عجلون ووصلت حتى للبنان لتضرب مقر الأمير بشير الشهابي الذي ساعد محمد باشا في قمع ثورات عام 1834.

وقد كتب القنصل النمساوي في عكا في حينها “أنطوان كتفاكو” في حينه قائلاً : “يظهر أن ثورة حوران التي بدأت في رمضان، ليست على وشك الانتهاء، بل أنها قد اتخذت شكلاً أكثر خطورة، لأن كثير من دروز لبنان قد انضموا الى اخوانهم في اللجاة (حوران)، واستولوا على جملة قرى منها حاصبيا في محافظة النبطية أقصى الجنوب الشرقي في لبنان التي فرّ متسلمها“.

ويورد الكاتب والباحث أيمن الشريدة في كتابه “دراسات وثائقية لثورة جبل عجلون”، عدداً من الوثائق التي تمثل شكاوى شعبية من شيوخ وفلاحين من أغلب قرى منطقة جبل عجلون كالكورة وبني عبيد وما حولها والتي كانوا يرسلونها للسر عسكرابراهيم باشا كمحاولة لتجنب الاصطدام مع القوات العثمانية المصرية وجاء من ضمنها عبارة “لكم البلاد وليس لكم العباد” وعبروا فيها عن ظلم المتسلمين وبطشهم وعن سخط الناس ورغبتهم بالرحيل من أماكن استقرارهم هرباً من هذا الظلم، ولما لم تجد هذه الشكاوى تجاوباً يذكر، أخذت بوادر الشجب والمعارضة تظهر هنا وهناك وانتهت أخيرا بثورة عمّت جبل عجلون قاطبة والتي كانت تشمل ليس مدينة عجلون وحدها فحسب بل نواحي عجلون السبعة، وقد تزامنت هذه الثورة مع عدة ثورات في المناطق المجاورة، وقد استعملت بهذه الثورة أسلحة كثيرة عددا ونوعاً كما اتخذت الثورة الجبال الوعرة والغابات الكثيفة مركزاً لها.

وجرت في أثناء ذلك مصادمات كثيرة بين الجنود والثوار في العديد من المناطق الأردنية،  مما ادى لتخبط المتسلمين والقادة من عثمانيي مصر  خصوصاً مع تحركات عشائر الصقر والِغزاوية في الأغوار الشمالية،  مما دفع بالبكباشي ” محمد آغا الدلي ” إلى إرسال قواة ضخمة إلى هناك بدون تخطيط ولا تفكير وهو ما تمت محاسبته عليه لاحقاً  بأوامر من قبل ابراهيم باشا نفسه، فترك 150 جندي فقط في اربد لحماية قلعة السرايا فانتهز ثوّار الكورة والطيبة والوسطية الفرصة للهجوم على دار السرايا في اربد واغتنام محتوياتها وأسلحتها وخيولها ووثائقها، واشتبكوا مع الحامية الموجودة فيها طوال اليوم وسقط منهم 10 شهداء.

ونورد هنا الوثائق التي ارسلها وجهاء مناطق الكورة وبني عبيد وجبل عجلون لابراهيم باشا يبلغونه فيها عدم احتمال السكان لظلم المتسلّمين وتجاوزاتهم:

 

الوثيقة الأولى : اعتراض زعامات ووجهاء الكورة ونواحيها : نمر الأحمد (جديتا) ، محمد العيسى (كفرعوان) ، محمد البشارة (كفرابيل) ، أحمد الياسين (بيت ايدس) ، أحمد الصالح (الأشرفية – خان زينة سابقاً)، حسين (دير ابي سعيد)، حسن العثمان (عنبة)، عبد القادر (سموع)، ابراهيم الدخيل (جفين) ، سعيد الأحمد وأسعد الأحمد وعبد الرحمن الموسى وسلامة العبدالله (تبنة).


الوثيقة الثانية: اعتراض زعامات ووجهاء الكورة ونواحيها: موقعة من مصطفى الشريدة (حفيد رباع الشريدة الذي تم اغتياله في وقت سابق)، وصلاح عبد الرحمن، ودرغام العباس، وأحمد المصلح وبركات الأحمد.


الوثيقة الثالثة: اعتراض موقع باسم شيخ بني عبيد وفلاحي المنطقة.

فشل الحل العسكري وتكليف حكمدار حلب بإدارة الأزمة 

فشل الحكام المحليين وقواتهم في إدارة الأزمة واخماد الثورات وحصرها بسبب اتساع رقعة الاحتجاجات، لتشمل سهل حوران والرمثا  وبني عبيد والكورة بقراها الثلاث والعشرين وعجلون بنواحيها السبعة والأغوار الشمالية وناحية بني جهمة (وهي ناحية تاريخية تشمل مدينة اربد الحالية، وكفريوبا والبارحة وزبدا وكفرجايز وتقبل)، مما أدى بابراهيم باشا الى تكليف حكمدار حلب المدعو ” اسماعيل عاصم بك “، شعورأ منه بخطورة الوضع وبتأزم الموقف وخروج المنطقة عن السيطرة، وقام في رسالته المرسلة إلى الحكمدار بتكليفه بمهمتين أساسيتين: أولاً اخماد الثورات والاحتجاجات وثانياً محاسبة المتسلمين المفسدين لتهدئة الناس، ولجأ اسماعيل عاصم بك في ادارته للأزمة إلى االمهادنة بعد تأكده من فشل الحل العسكري خصوصاً بعد الاشتباك مع الثوار في وادي بيت يافا-الطيبة وسقوط قتيل من القوة الغازية و4 شهداء من الثوّار الأردنيين، فأعطى الأهالي الأمان على أرواحهم وأموالهم إن هم سلموا أسلحتهم مما اغتنموها من سرايا اربد، فاستجاب أهالي الطيبة نظرأ لسهولة اجتياح منطقتهم والطرق المؤدية لها في حال مقاومتهم، إلا أن اهالي الكورة اختاروا المقاومة ورفضوا تسليم اسلحتهم خشية تكرار الغدر الذي تعرضوا له في ثورتهم السابقة، مما دفعهم للتحصن في تبنة التي كانت مقر الاجتماعات والتحركات وبمثابة مركز لإدارة الثورة كونها محصنة بالتضاريس الجبلية الوعرة والمحاطة بالغابات والأحراج الكثيفة جداً في حينه.

وقد أرسل ثوار الكورة خطابا مكتوبا يرفضون فيه تسليم السلاح والخيل الذي اغتنموه حتى تحقيق مطالبهم المتمثلة باعفاء متسلّمي الكورة المتسلطين عليهم والذين وصفوهم بأنهم “لا يخافون الله ولا يرحمون مخاليقه”، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، معلنين اعتزامهم عدم الهدوء والسكينة في مناطقهم بالكورة وجبل عجلون حتى لو راحوا ذبحاً تحت سيف ابراهيم باشا نفسه.

حشد الحكمدار اسماعيل بك قوات ضخمة قوامها أربعة أعلام (كتائب) من الفرسان والمشاة، حيث بلغ عدد الفرسان في هذه الحملة أكثر من 900 خيلاً، وقاموا باقتحام تبنة بالقوة ونهب أموال أهلها ومواشيهم بعد أن لجأ الأهالي المقاومين إلى الغابات المحيطة بالقرية مستدرجين قوات اسماعيل بك لملاحقتهم داخل الأحراش، فلم يتمكن الفرسان من التوغل في الغابات واكتفت القوة الغازية بملاحقة الثوار من قوات المشاة، وجرت اشتباكات متفرقة بينهم سقط فيها قتلى وجرحى من القوة الغازية وارتقى أكثر من 20 شهيداً من أبناء المنطقة، وكتب اسماعيل بك أن قواته طاردت الثوار لخمس ساعات في الجبال والغابات ولكن بسبب الوعورة الشديدة للمنطقة لم يتمكنوا من إلقاء القبض عليهم لكنه عادوا بما وجدوه من مواشي قدرها : “ستمائة ثور ، وثلاثمائة ماعز وأشياء شتى”.

واستمرت الحملة بعد ذلك في طريقها إلى عجلون لإخضاع بركات الأحمد الفريحات وصلاح العبد الرحمن بالتعاون مع محمد خفتان بك آغاسي، واشتبك الثوار الأردنيون مع قوات عثمانيي مصر مستفيدين من الميزة الجغرافية التي توفرها جبال المنطقة وتضاريسها وغاباتها، ولكن سرعان ما اكتشفوا حجم حشد العدو وامكانياته، فانسحب الثوار من المنطقة ليجنبوا أهلها ما حدث في المناطق الآخرى، ودخلت القوة العسكرية الى كفرنجة وجمعوا أسلحتها واستمروا بالمسير جنوباً لملاحقة قبيلة بني صخر بعد وصول الأنباء أنها كانت تتمركز في منطقة بيادة التمر قرب عين الزرقاء والتي يتأكد من الوثائق والمراسلات العثمانية المصرية مشاركتها في الثورات والاشتباكات مع قوات عثمانيي مصر في ذلك الوقت، فهاجمت القوة العسكرية مضارب القبيلة التي كانت تستعد للرحيل وسقط في هذه الاشتباكات أكثر من 20 شهيداً من أبناء قبيلة بني صخر، ونهبت القوات الغازية أكثر من 400 رأس من الإبل وأكثر من 25 الف رأس من الغنم، وكانت هناك مخاوف لدى قادة الحملة العسكريين من الاستمرار في ضرب العشائر الأردنية لعدم إثارة المزيد من السخط ولمحاولة تهدئة الأمور، وهو ما تؤكده رسالة محمد شريف باشا حكمدار الشام إلى ابراهيم باشا بتاريخ 6 تشرين الثاني 1839 والتي يخبره بها بنهاية الثورة والسيطرة عليها، وقد سمّت الرسالة بعض القبائل الأردنية التي لم تقترب من القوات الغازية ولم تشتبك معها في حينه، ولكن الرسالة أكدت أنه اذا دعت الحاجة لضربها فالأمر منوط بأمر ابراهيم باشا نفسه نظراً لبعض المخاوف من تدخلها وانضمامها للثورة الأردنية العارمة.

الثورة  لم تنتهِ بل استمرت بأشكال أخرى

اضطر الشيخان بركات الأحمد الفريحات وصلاح العبد الرحمن اللذان تصفهما المراسلات العثمانية المصرية بـ “الشقيّان رئيسا الفساد” إلى الهرب مع مجموعة من الثوار، لحماية الأهالي وممتلكاتهم فيما تبقى من المناطق الثائرة وتجنيبها مصير ما لاقته منطقة تبنة، فقد كان النهج العسكري السائد في تلك الفترة تأديب المدن والقرى العاصية وجعلها عبرة لغيرها ، من خلال ممارسة أشد انواع التنكيل والقمع بالأهالي ونهب خيراتهم وثرواتهم ومحاصيلهم ومواشيهم، وبذلك يتم تجويعهم وافقارهم بزيادة على الضرائب المرتفعة التي كانوا بالكاد يستطيعون دفعها قبل الثورة، كما تم جمع الأسلحة المتبقية في الكورة وعجلون وبلغ عددها وفقاً للمراسلات العثمانية المصرية نحو 150 بندقية و22 زوجاً (44) من الغدارات (سلاح ناري يبلغ طوله حوالي 50 سم ما بين المسدس والبندقية)، واستمرت الأعمال ضد القوات العسكرية الغازية بعد ذلك من خلال عمليات متفرقة بدلاً من المواجهة الواحدة المباشرة التي كانت الغلبة فيها سابقاً للجيش النظامي المدجج والمجهز، حيث أشارت المراسلات إلى وجود  300 محارب في المزار الشمالي إلى جانب الشيوخ بركات وصلاح ولباد ، منهم 200 من حملة البنادق و100 من حملة النبابيت (سلاح محلي الصنع)، وجاء في الرسالة التي بعثها محمد شريف باشا حكمدار الشام طللباً للإمدادات وملاحظته لوجود ثوار من مناطق أخرى لجانب الثوار المتحصنين حول المزار الشمالي، ومنهم ثوار من “قبيلة بني حميدة القريبين من الكرك خلف الجبل” على حد وصفه، قبل أن يتبين لاحقاً في رسالة أخرى عدم التأكد النهائي من هذه المعلومات مما يرجح قيام الثوار المحليين بإشاعتها في نفوس عثمانيي مصر لإرهابهم وتخويفهم من حشد ( بني حميدة -قاهرة الأتراك ) والقبائل الأردنية وتحقيق المزيد من المكتسبات للسكان المحليين، أو أن بعض القادة العسكريين اختلقوها لتخويف قادتهم الأعلى رتباً والتأثير على الأوامر بمواصلة القتال، خصوصاً في ظل نقص الإمدادات بالمؤن والسلاح ووعورة المناطق مما تسبب بتمدد الحملة العسكرية جنوباً باتجاه الزرقاء والأزرق، وقد استغل ثوار العشائر الأردنية انشغال القوات الغازية بالسلب والنهب هناك بتنفيذ المزيد من العمليات ضد القوات الغازية مرغمينهم على التفاوض لمرات عديدة مع ممثلين عنهم، وفي الوقت ذاته لم تكتفِ القوات الغازية من ملاحقة قبيلة بني صخر بل أعادوا السطو على مواقع أخرى لهم ناهبين 12 ألف شاه و 200 بعير وحمل 200 بعير من الشعير والحنطة كانت مخزنة في قلعة الزرقاء بعد وشاية قام بها أحد جواسيس الغزاة في ذلك الوقت.

نص رسالة ابراهيم باشا الى حكمدار حلب يكلفه فيها بتزويد الجيش بالمؤن والسلاح و بانهاء الاحتجاجات في جبل عجلون ومعاقبة المتسلّمين المقصرين واصفاً اياهم بأبشع الأوصاف
نص رسالة ابراهيم باشا الى حكمدار حلب يكلفه فيها بتزويد الجيش بالمؤن والسلاح وفيها امر ضمني بالسطو والسلب  والنهب على المؤن، و بإنهاء الاحتجاجات في جبل عجلون ومعاقبة المتسلّمين المقصرين واصفاً إياهم بأقسى الأوصاف

نتائج الثورة

  • انتهت الثورة بعزل متسّلم جبل عجلون والخواجا موسى فارحي كاتب الحسابات ، وحبسه بأوامر من ابراهيم باشا، وهو المتسلّم الذي كانت العرائض الاحتجاجية التي كتبها وجهاء المناطق تشير لظلمه واضطهاده.
  • عزل متسّلم الكورة ، محمد آغا الشوربجي الذي طالب الوجهاء في رسالتهم لابراهيم باشا قبل الثورة بعزله.
  • خسرت قوات محمد علي باشا خلال سلسلة الثورات تلك أكثر من 10 آلاف مقاتل وهو عدد أكبر من العدد الذي تم جمعه من سكان المناطق في حملات التجنيد الإلزامي في ذلك الوقت.
  • أجبرت السلطة الحاكمة ممثلة بمحمد علي باشا، عبر ابنه ابراهيم باشا وقادته العسكريين على تغيير نهجها من النهج السلطوي إلى نهج المهادنة مع الأردنيين والتفاوض مع الثوار، إضافة لمحاولتها كسب ود بعض المناطق واسترضائها .
  • لجأت الإدارة إلى تسليم الحكم في المناطق الثائرة إلى الزعامات الأردنية المحلية بدلاً من المتسلمين التابعين لعثمانيي مصر من خلال اتباع أساليب ادارية جديدة تمثلت بالمجالس التمثيلية، وحققت هذه الزعامات نجاحات كبيرة في ضمان مصالح الأهالي، ومثال ذلك زعامة الشيخ يوسف الشريدة في تبنة، بعد أن كان يتم التعامل مع المناطق الواقعة تحت الاحتلال كمزارع لحصد الضرائب، ويتم بيعها للجباة مقابل منحهم نسبة من الربح بدل جمعهم لهذه الضرائب وحسب عدد سكانها.
  • انهاء نظام الالتزام والإقطاع الزراعي في المنطقة والعمل على تشجيع الزراعة، وتشجيع التعليم وفتح بعض المدارس.
  • ساهمت الثورات في إضعاف وإنهاك حكم الوالي العثماني المصري محمد علي باشا الذي انتهى في المنطقة بعد أقل من عام على نهاية هذه الثورات، حيث أن العثمانيين الأتراك ، كانوا يستعدون إبان الثورات لتلك المرحلة وفي انتظارها، حيث عادوا لاحتلال هذه الأراضي الأردنية تدريجياً من جديد بعد جلاء قوات محمد علي باشا العثمانية المصرية على اثر اتفاقية لندن التي وقعتها الدولة العثمانية التركية مع بريطانيا وروسيا والنمسا والتي دعمت جميعها الدولة العثمانية التركية ضد محاولات الوالي العثماني محمد علي إعلان الاستقلال في مصر.
  • أجبر العثمانيين الأتراك وفي المرحلة المقبلة من حكمهم واحتلالهم للمنطقة أن ينتبهوا أكثر لأهميتها وخطورة تركها بدون إدارة حقيقية، وذلك من خلال اتخاذ أساليب أكثر مراعاة لطبيعة وشخصية سكان المناطق الأردنية مقارنة مع غيرها من المناطق المحاذية التي كانت أكثر مطاوعة.
  • على المدى الطويل أدت الثورة لزيادة القدرة التنظيمية والتنسيقية بين الوجهاء وشيوخ العشائر الأردنية الرافضين لكل أشكال الحكم الخارجي واستناد هذه الزعامات على قوى عسكرية ورجال مسلحين ومدربين لحماية مصالح السكان، وهو ما ساعد خلال الفترة التالية التي تضمنت انتزاع حوالي 10 سنوات من حكم الزعامات المحلية خلال فترة ما بعد انسحاب قوات محمد علي باشا من 1840-1849 ثم برز أثر هذه الثورة على البيئة المحلية من خلال حركات التحرر الوطني من الاحتلال العثماني التي بدأت بالثورات الأردنية الصغرى ومنها هذه الثورة انتقالات للثورات الأردنية الوسطى والتي تكللت لاحقا بالنجاح في الثورة العربية الكبرى، ثم مقاومة الاستعمار البريطاني والفرنسي لاحقاً فاستضافة الأردنيين ودعمهم للثوار السوريين كالزعيم سلطان باشا الأطرش ورفاقه ضد الفرنسيين، وكذلك دعم وتسليح الثوار الفلسطينيين ضد الاحتلال الريطاني، كل هذه المواقف كان لها جذورها وما كانت لتتم بدون وجود قيادات وزعامات لها خلفية سياسية وتؤمن بالاستقلال وحرية الشعوب.

انسحاب جيش محمد علي باشا من المنطقة

بعد مؤتمر لندن واتفاق القوى العظمى على دعم العثمانيين الأتراك في الأستانة ضد الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا في محاولاته لإعلان استقلال مصر، استسلم الأمير بشير الشهابي حليف محمد علي في لبنان، فأصدر محمد علي الأوامر لقواته بالانسحاب من المنطقة والعودة إلى حماية مركز الحكم في مصر، وكان الانسحاب على ثلاثة مراحل، كان آخرها انسحاب الفوج الأخير بقيادة ابراهيم باشا نفسه الذي وقف في الساحة العامة بدمشق مودعاً سكانها وأوصاهم بأن يلتزموا الهدوء وينتظروا الهدوء وأن لا يثوروا، وأضاف وهو يمتطي جواده ويهدد بأصبعه  “والا عدت من منتصف الطريق وحاربت العصاة”، وهكذا انسحبت قوات عثمانيي مصر بهدوء وسلام من سوريا بتاريخ 20 ديسمبر من عام 1840 عائدة إلى مصر، ولكن هذا الهدوء لم يكن حاضراً في طريق العودة التي تمر بالأردن، وبقي الأردنيين الذين لا ينسون ثأرهم رافضين لهذا الحكم الذي قتل آبائهم وأجدادهم وظلوا يقاومونه حتى أنفاسه الأخيرة، حيث يذكر الرحالة الانجليزي تراسترام أن جيوش محمد علي دمرت قرية زوبيا أثناء مرورها بالمنطقة وذلك بعد مواجهة أهالي القرية للجيش، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ عندما قرر الجيش المرور بقرب الكرك عند انسحابهم عبر غور الصافي باتجاه غزة انتهز الكركيون الفرصة للثأر من جيش ابراهيم باشا ووجهوا ابنهم جلحد الحباشنة كدليل للجيش فاستطاع أن يدمر غالبية الجيش المنسحب بذكائه ومعرفته الجيدة بأرضه وأرض أجداده إذ قام البطل جلحد الحباشنة بتسيير القوة المؤلفة من ثلاثة آلاف جندي وضابط مع الخيل والمدافع واللوازم الأخرى، في طريق أشد وعورة عن قصد ليتكفل أهل الكرك بمهمة دحرجة الحجارة من المرتفعات لتهشيم الجيش المنسحب عبر أرض لا يعرفها، ويغوص الفارين بأرض طينية، وقد وصل شاطئ البحر الميت حوالي ثلاثمئة جندي من الثلاثة آلاف جندي من جيش ابراهيم باشا.

وبذلك انتهت مرحلة وبدأت مرحلة جديدة في الأردن التي نعمت بنحو 10 سنوات من الحكم المحلي المستقل الذي أرسى ركائزه زعامات محلية كان لهم السبق في إدارة شؤون مناطقهم والحفاظ على مصالح سكانها عبر ثورات عظيمة خاضوها بمعاني الشرف والكرامة، ولتكون نهاية قوات عثمانيي مصر وحكمه على أيدي فرسان العشائر الأردنية، والمسمار الأول في نعش الاحتلال العثماني التركي.

 

المراجع :

  • عدنان فريد جراد ، الحكم المصري في سوريا (1831-1840) ص 119 – 120
  • أحمد صدقي علي شقيرات‎، تاريخ الإدارة العثمانية في شرق الأردن (1864 – 1918) ص 44 – 49
  • قسطنطين بازيلي ، سورية و فلسطين تحت الحكم العثماني كتاب تأريخي ص 258 – 259
  • أيمن الشريدة ، دراسات وثائقية لجبل عجلون والكورة من خلال المحفوظات الملكية المصرية ، الجامعة الأردنية 1995
  • فتوحات إبراهيم باشا في فلسطين ولبنان وسوريا نقلا عن تقارير أنطون كتافاكو قنصل النمسا في عكا وصيدا 1831-1841, عربها وعلق عليها الخوري بولس قرألي ، حريصا : مطبعة القديس بولس, 1937
  • ﻋﻠﻴﺎن اﻟﺠﺎﻟﻮدي، ﻗﻀﺎء ﻋﺠﻠﻮن. 1864-1918. الجامعة الأردنية 1994

ثورات الأردنيين في حوران وجبل عجلون والكورة 1838 – 1840

الكورة خلال الحقبة الاسلامية المتأخرة

بعد هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركة مرج دابق 1516 واجتياحهم للمنطقة توجهت قواتهم الغازية بقيادة سليم الأول لمصر التي أحكموا سيطرتهم عليها بعد معارك دامية  عام 1517 واصبحت كامل المنطقة تحت سيطرة الاحتلال العثماني لمّدة اربعة قرون ، بما في ذلك الأراضي الأردنية التابعة للواء عجلون المكون من عّدة مقاطعات (نواحي) تضم الكورة من الشمال، وعجلون جنوباً، وبنو علوان (المعراض) شرقاً، ويضاف اليها ثلاث مقاطعات شمالية وهي بنو الأعسر، وبنو جهمة، وبنو كنانة المحاذية لنهر اليرموك ، والتي ألحقها العثمانيون بولاية دمشق، في محاولة منهم لإضعاف السكان وفصلهم عن عمقهم التاريخي الأردني ، حيث تشكل منطقة عجلون وما حولها جزءاً من أراضي جلعاد القديمة، التي كانت تضم عددا من مدن الديكابوليس في الحقبة الرومانية، وتعتبر عجلون منطقة جبلية حرجية، تنتج الحبوب وتصلح لزراعة شجر الزيتون حيث اشتهرت بزيتها، وعرفت على الدوام كموطن للجوء واستقرار السكان الحضريين. أطلق عليها أحياناً اسم جبل جرش أو جبل عوف، نسبة للقبيلة الثائرة التي سكنتها في عهد الفاطميين (القرن العاشر الميلادي)، ومن ثمّ عمّ السلام في المنطقة في عهد الأيوبيين (أواخر القرن الثاني عشر الميلادي – بداية القرن الثالث عشر الميلادي)، وبنيت فيها قلعة تدعى اليوم بقلعة عجلون أو قلعة الربض في موقع يُقال بأنه كان ديراً سابقاً، ولعبت عجلون دوراً هاماً في زمن الحرب ضد الصليبيين، وتعرضت للتدمير الجزئي على يد المغول، حتى أعيد بناؤها في عهد المماليك (نهاية القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر الميلادي).

التقسيمات الإدارية العثمانية للواء عجلون عام 1596 (عدنان البخيت)
(التقسيمات الإدارية العثمانية للواء عجلون عام 1596 (عدنان البخيت

لمحة تاريخية عن الكورة :

الكورة: تعني الصقع والبقع التي يجتمع فيها القرى والمحال وجمعها كور، كانت قصبة الكورة في العهد الروماني هي قرية عفر  (مرحبا) وفي عهد البيزنطيين مدينة فحل (بيلا)  وفي عهد المماليك ( كفر الماء ). أما في العهد العثماني فقد كان مركز الناحية تبنه، أما في العهد الهاشمي فأصبحت مدينة دير أبي سعيد مركزا للواء الكورة.

إن الباحث عن الكورة يظهر له جلياً الكثير من  المناطق التي تحمل ذات الاسم ( الكورة ) في المصادر. وقد أشار ابن خردذابة (ت 300هـ/ 912م)  في بداية القرن الرابع الهجري إلى كورة الجبال ومركزها غرندل، وكورة مآب ( مؤاب ) ومركزها مآب وكورة الغور ومركزها أريحا وكورة الظاهر ومركزها عمان وكورة فحل ومركزها فحل والأخيرة هي مقصدنا، وقد أشار الباحث متمن  (Mittmann)  الألماني إلى سكنى دير أبي سعيد في العصر البرونزي، وهناك الكثير من المواقع الأثرية التي ترجع إلى العصر الحديدي مثل تل دير أبي سعيد، وتل الفخار، وتل المقلوب، وأبو الخس. أما في العصر الكلاسيكي، فقد دخلت المنطقة تحت النفوذ اليوناني، ولعبت فحل دوراً اقتصاديا وسياسيا، ثم دخلت المنطقة تحت حكم الرومان، ثم العصر البيزنطي حيث انتشرت فيها الكنائس والمدرجات والطرق المبلطة وبقايا حمام بيزنطي، لا زالت آثاره ماثلة للعيان حتى كتابة هذا البحث. ثم دخلت دير أبي سعيد وجوارها بعد معركة فحل سنه  14هـ/ 635م تحت السيادة الإسلامية فظهرت مخلفات معمارية تعود للعصور الأموية والعباسية والأيوبية والمملوكية انتشرت في مختلف أنحاء دير أبي سعيد وجوارها مثل خربة صير- قرب بلديه بيت أيدس ومسجد خان زينة (الأشرفية حالياً)  (الأشرفية حاليا) ، وخربة  دير العسل غرب كفر راكب (4).

حدود الكورة:

حددها الرحالة السويسري بيركهارت (J.L.Burkhardt) عام 1812م بقولة: “دير أبي سعيد والكورة يفصلها عن عجلون الجانب الغربي الجنوبي وادي اليابس الذي يصب في نهر الأردن والكورة تجاور الوسطية في الغرب والغرب الشمالي وبلاد بني عبيد في الشرق وقراها الرئيسية، وتبنه حيث يقيم الشيخ الذي يمارس نفوذه على عنبه، دير أبي سعيد، ازمال،  كفرأبيل، كفرعوان، بيت ايدس، خان زينة (الأشرفية)، كفرراكب، كفر الماء”.

وأما الرحالة  البريطاني ج.س بكنجهام (Bekngham.S. J. ) فقد زار الكورة عام 1821م، ولم يذكر دير أبي سعيد واكتفى بالقول “وممرنا بعد ذلك بقرية سموع ” (16) . وبعده مر بها الرحالة روبنسون (Robinson) وسميث   (Smeeth) وكتب في تقريره الصادر عام 1838م عن القرى التابعة لناحية الكورة وهي: تبنه، وعنبه، وزمال، وسموع، وجنين، ودير أبي سعيد، وكفرالماء، وخان زينة (الأشرفية حالياً)، وكفر راكب، وبيت ايدس، وكفر عوان، وكفرابيل، وجديتا، وزوبيا، ودير يوسف، وبيت يافا، والنقيع، وكفركيفيا، الرخيم، الأربعين”.

أما الرحالة سيلاه ميرل  (Selah Merrill) فقد مر بالمنطقة عام 1876م وزار تبنه ووادي اليابس، ولم يشر إلى  دير أبي سعيد، إلا أنه تناول جوارها بقوله ” شجرة القينوسي شجرة مقدسة عند أهل المنطقة”. وأشار إلى وادي حمام ووادي زقلاب وتبنه وعين سيرين وعين الجرن، وجنين، وازمال، وأبو شوشه، وشجرات بنات اليسر، وشجرة المستريحي، وسموع التي قال عنها أنها تعاني من جشع المرابين الدمشقيين.

المنطقة في سجلات الضرائب العثمانية

ويبين سجل الضرائب (الدفتر المفصّل) في نهاية القرن السادس عشر، عدد الرجال الذين يدفعون الضرائب للاحتلال العثماني والنشاطات الاقتصادية للواء عجلون ويوضح السجل أن منطقة جبل عجلون وما حولها كانت أكبر المناطق الأردنية المأهولة بالسكان تليها السلط وجوارها، كما تضّمن السجل أيضاً جرداً لجميع القرى، بما فيها عدد الوحدات الضريبية (خانة = أسرة) والضرائب المفروضة على المنتجات الزراعية والحرفية. حيث بلغ عدد القرى في منطقة الأردن 400 قرية بتعداد سكاني يصل إلى 35،000 نسمة تقريباً في القرن السادس عشر في نفس الحين كانت دمشق تضم 50،000 نسمة تقريباً، مع الإشارة إلى عدم احتساب القبائل والعشائر الأردنية التي كانت ترفض التعداد وتتنقل وتتحول من حياة الاستقرار لحياة الترحل هرباً من دفع الضريبة التي كانت بطريقة الجباية وبدون توفير أدنى حدود الخدمات والحقوق بالمقابل، وخوفاً من بطش السلطة العثمانية.

المنطقة

إجمالي عدد البيوت
عجلون 1801
السلط 881
علّان 284
الكرك 1203
الغور 18
الشوبك 361
وادي موسى 136
جبل بني حميدة 342
قبائل بدوية مسجّلة 1690
الإجمالي المسجّل 6716
إجمالي غير المسجل غير معروف

كانت قرى لواء عجلون في القرن التاسع عشر تنتج الحبوب والقمح والشعير وكذلك الخضار المخصصة للإستهلاك المحلي. واختلفت المحاصيل المخصصة للتجارة من منطقة إلى أخرى، حيث كانت تزرع الهضاب بالقمح وتنتشر فيها زراعة العدس. أما في القرى الجبلية كقرية تبنة، فقد زرعت فيها بشكل أساسي أشجار الزيتون (زيت الزيتون) والكروم التي تنتج العنب المجفف (الزبيب). وفي القطاع الواقع على الحدود الشمالية المحاذية لليرموك، في منطقة الكفارات، بدأ من التجّار أيضاً بإنشاء مساحات كبيرة لزراعة الزيتون التي بدأت من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. كما وجدت في أنحاء المنطقة مراعي للماعز وخلايا للنحل، وتشكل مصدراً معيشياً إضافياً للقرويين. أمّا الحيوانات فقد كانت تعيش في الخارج طليقًة، وفي بعض الأحيان كان يتّم تجميعها في المغارات أو داخل البيوت نظرا لحالة انعدام الأمن في ظل غياب الدولة التي كانت تحكم بالوكالة إبان فترة الاحتلال العثماني. وتعتبر قرية تبنة من أهم القرى في منطقة جبل عجلون، وتضم 280 أسرة، وهي من المناطق ذات الأراضي الواسعة الإنتشار. حيث يوجد في الأراضي الواقعة في الشرق حوالي 10000 شجرة زيتون، تتبع لقانون الملكية الخاصة على الرغم من وجودها في اراض للمشاع وبنيت المنازل فيها من الحجارة والمواد المحلية، وبشكل عام كانت تحتوي المنازل على غرفة واحدة واسعة ذات سقف مستند على أقواس كبيرة، وتجري النشاطات العائلية في اغلب الأوقات على مصطبة كبيرة بنيت فوق حظيرة الحيوانات للإستفادة في الشتاء من الحرارة الناجمة عن وجود الحيوانات في الطابق السفلي.

تغيرات كثافة السكان بين 1596 و 1880:

وبمقارنة الوضع الديموغرافي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، فإننا نجد تبايناً كبيراً: حيث انخفضت الكثافة السكانية بشدة، وتراجعت حدود المساحة المزروعة باتجاه الغرب أمام تقّدم القبائل الرحل، كما قّل عدد سّكان القرى في اغلب المناطق، بينما ازداد عدد الّرحل فيها. ويعود أسباب هذا التراجع إلى: التدهور التدريجي للنظام الإداري والضريبي للدولة العثمانية ابتداءً من نهاية القرن السادس عشر، وإدخال نظام جديد لجباية الضرئب (التزام) الذي أدّى إلى آثار سلبية على الريف الأردني، بالإضافة إلى انخفاض قيمة العملة في نهاية القرن السادس عشر، وما تبع ذلك من تدنّي دخل الأفراد الذين كانت تُدفع رواتبهم نقداً. اختلفت نسبة هجرة الريف تبعاً للمناطق، ففي حين تشهد الهضاب وجبال عجلون ظروفاً مستقرة نسبياً تقل نسبة الهجرة فيها عن 20%، نرى المناطق القريبة من حدود الرحل كمنطقة منحدر وادي الأردن وقطاعات صغيرة جنوب عجلون تعاني هجراً كلياً بنسبة 50%، بينما تظهر المنطقة الجنوبية القليلة السكان أقل تأثراً بهذه الظاهرة. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر تبدأ العودة الديموغرافية مع استعادة الأراضي المهجورة في القرون السابقة.

ويوضح الشكل المرفق تراجع عدد السكان خلال الفترة من 1516- 1880 لأسباب استعرضناها مسبقاً وتتعلق بالضرائب العثمانية :

تغير كثافة السكان خلال الفترة 1516 -1880
تغير كثافة السكان خلال الفترة 1516 -1880

 

تأثير الضرائب العثمانية على خفض الوجود السكاني في الأردن
تأثير الضرائب العثمانية على خفض الوجود السكاني في الأردن

 

أسباب الأطماع العثمانية في الكورة وجبل عجلون:

اعتبر العثمانيون ، جبل عجلون والكورة من المناطق الحيوية المهمة بالنسبة لهم ولمصالحهم ، للحصول على غاياتهم الأساسية وهي الضرائب والجنود ، من ناحية الكثافة السكانية في المنطقة ، إضافة للأهمية الاقتصادية لغابات عجلون والكورة وخصوصا مناطق برقش التي تعتبر أكبر محمية طبيعية بيئية في الشرق الأوسط ، كانت تشكل مصدر طاقة ودفء لهم شتاءّ ، واستخدمت أخشاب هذه الغابات وقوداً لتسيير الفراقين (ويرجح ان يكون معناها مقطورات القطار العسكري / البابور، حيث يذكرها شاعر الاردن البطل عبد الله العكشه في إحدى قصائده في ذات السياق) التي كانت تستعمل آنذاك ـ أضف لذلك الحمامات المعدنية في الجزء الشمالي الغربي من جبل عجلون والتي كانت من وسائل العلاج الناجح لسكان المنطقة ومن خارجها ، وظل الوضع قائماً على ما هو عليه، ولم يتحسن الوضع الاجتماعي للفلاحين الأردنيين بمرور الزمن في المنطقة ، بل على العكس ظل الفلاحون الأردنيون بلا حيلة عرضة للنهب والضربِ .

غابات برقش ، من أكبر المحميات الطبيعية والغابات المتوسطية في المنطقة
غابات برقش ، من أكبر المحميات الطبيعية والغابات المتوسطية في المنطقة

الكورة خلال حكم محمد علي باشا:

 بعد انقلاب الوالي العثماني محمد علي الكبير على العثمانيين في اسطنبول، حدث أن سيطر على الحجاز بعد انتصاره على الوهابيين في نجد وبيّت النية لاحتلال سوريا وانتزاعها من سلطة السلطان العثماني، فقام في 2/11/1831 بإصدار الأوامر للتحرك في حملتين إحداهما برية والأخرى بحرية وكانت سوريا والأردن ولبنان وفلسطين هدفا لهما. رحلت أربعة آليات من المشاة ومثلها من الفرسان برا من الصالحية شمال القاهرة إلى يافا عن طريق العريش وكان القائد العام لهذا الآليات من المشاة إبراهيم باشا ويكون ابن أخت محمد علي الكبير، أما القائد العام لآليات الفرسان فكان عباس باشا حفيد محمد علي الكبير، أما إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير فكان على رأس أسطول رهيب يتكون من ستة عشر سفينة قتال، وسبعة عشر ناقلة تحمل على متنها هيئة ضباطه بالإضافة الى أربعين مدفعا صغيرا وعدد من مدافع الحصار وهكذا وصل عدد القوات البرية والبحرية الى ثلاثين ألف رجل.

استقبل الأهالي في المنطقة هذه الجيوش بترحاب وتهليل ظناً منهم أن الجيوش قد قدمت عونا ومساعدة لهم ولتخليصهم من ظلم الدولة العثمانية التي دعمتها الدول الأوروبية ( بريطانيا – فرنسا – روسيا )  في ذلك الوقت  خوفاً من تمرد محمد علي باشا، ولذلك نرى أن هذه الجيوش لم تلق مقاومة تذكر في البداية وسارت من نصر إلى نصر بسرعة فائقة حتى أنها وصلت الى كوتاهيه في الأناضول عام 1833 م – 1249 هـ ، وهناك تم عقد صلح بينهما وبين الدولة العثمانية في 8/ابريل 1833 م. بعد تهديد القوى الغربية بقصف قوات محمد علي باشا الذي اكتفى واقتنع بإعطاءه وبسط نفوذه على ما سيطرت أساطيله عليه وصولاً لشمال سوريا مقابل التوقف عن زحفه باتجاه عاصمة العثمانيين الذي كان منهم وانقلب عليهم كعادة الولاة والحكام العثمانيين المليئ سجلهم بالخيانات في ذلك الزمان. وكانت الاتفاقية التي ابرمت تنص على أن الدولة العثمانية توافق على تثبيت حكم محمد علي باشا على مصر وكريت (جزيرة يونانية في البحر المتوسط) والحجاز وراثيا على أن يجلو جيشه عن باقي بلاد الاناضول، وأن تبقى المناطق التي دخلتها الجيوش في الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين تحت حكم إبراهيم باشا لمدة أربعة سنوات شريطة بقاء محمد علي تابعا للسلطان.

والواقع أن سكان المنطقة ما لبثوا أن اكتشفوا أن ما حدث لهم كان كمن يستجير من الرمضاء بالنار، أو كما يقول المثل الشعبي “خرج من تحت الدلف لتحت المزراب” واكتشفوا أن لا عثماني أفضل من آخر مهما تبدلت الاسماء والرايات ، فكانت الأوضاع من سيء إلى أسوأ وسرعان ما تدهورت الأمور وازدادت الأحوال صعوبة وعسراً ، فالضرائب ارتفعت ، وتجاوزات عسكر محمد علي باشا وقادته كانت تستفز مشاعر الأردنيين في الكورة الذين رفضوا كغيرهم من أبناء الأردن في المناطق الأخرى تاريخياً كل محاولات الحكم الخارجي لهم وكانت نتيجة هذا الرفض مجموعة من الثورات الصغرى ، وما لبثت الثورات أن انفجرت في المنطقة في وجه القادم الجديد لتعم الأردن (سواء عجلون والكورة أو في البلقاء والكرك) و في دمشق  ولبنان وفي اللجاه وجبل الدروز و فلسطين، واستنزفت هذه الثورات الكثير من الجهد والمال والأنفس البشرية مما أثر سلباً على إبراهيم باشا وجيوشه.

533px-Sultan_mohemmed_ali
محمد علي باشا الكبير

 

ثورة الكورة عام 1834 :

كانت ثورة محلية بقيادة رباع الثاني بن شريدة بن رباع، الذي أصبح زعيما وشيخا للكورة بعد أن أعدم العثمانيون والده شريده بن رباع في المزيريب، وكان شريدة هذا قد أعدم لأنه قتل أكثر من والي وحاكم من أتباع العثمانيين وانتصر على جيش أحمد باشا الجزار بقيادة الونّي (أحد قادة احمد باشا الجزار ، ورد اسمه في عدة مراجع منها د. أحمد عويدي العبادي ولكن لا معلومات واضحة عن اسمه الأول) في معركة وادي الغفر التي انتصرت فيها العشائر الأردنية على القوات العثمانية في ذلك الوقت، وتفيد بعض الروايات الشعبية أنه قتل بعد المعركة بسنوات انتقاماً وغدراً وظلماً كما جرت العادة من قبل العثمانيين في المزيريب وكان هذا عام 1831 م. وقد استلم رباع الثاني الزعامة والشيخة وقام بثورته سنه 1834 بمساعدة بعض وجوه لواء الطيبة الشمالية فقاموا بالهجوم على معسكرات ابراهيم باشا في اربد واستولوا على كثير من المؤن والعتاد والخيول، وقفلوا راجعين مرشدين. ونرى هنا أن هذه الثورة حصلت وكان ابراهيم باشا لا يزال بعز قوته وعنفوانه.

ففي عام 1834 هاجم ابراهيم باشا الشيخ رباع الثاني في تبنة ونزل فيها ولكن لم يستطع أن يحقق شيئا يذكر، وذلك لطبيعة تبنة الوعرة ومسالكها الصعبة باعتراف قادته، وبعد أن يأس ابراهيم باشا من أن يصل إلى رباع لجأ للحيلة والمكر، واستطاع بهذا الاسلوب أن يعتقل رباع الثاني وأخذه معه إلى سوف حيث كان يعسكر هناك جيشه بقيادة أحد قادته ويدعى خفتان أو قفطان وأعدمه في سوف عام 1834 م.

ومع ذلك لم تهدأ الكورة ولا جبل عجلون فقاموا بثورة ثانية عام 1839م ، ساهمت في إنهاء سيطرة قوات محمد علي باشا على المنطقة ، سنستعرضها في بحث مخصص لها لاحقاً.

المراجع :

  • أطلس الأردن ، الفصل 4 – العصران الإسلامي والعثماني (629 ق.م. – 1918) ، المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى عدنان البخيت ، جان-بول باسكوال
  • فريدريك بك، تاريخ شرق الأردن وقبائلها، تعريب بهاء الدين طوقان ، الدار الأهلية .
  • دراسات وثائقية لجبل عجلون والكوره من خلال المحفوظات الملكية المصرية 1255هـ 1839 هـ / أيمن الشريدة
  • قول اللزوم في تصويب بعض ما جاء في دراسة بني مخزوم ، عبد العزيز كليب الشريدة ، دائرة المكتبة الوطنية 2008
  • سليمان الموسى، رحلات في الأردن وفلسطين، المجموعة الثانية ط1، منشورات دائرة الثقافة والفنون، عمان 1987 م
  • بيركهارت، رحلة بيركهارت في جنوب سوريا، ترجمة انور عرفات، المطبعة الأردنية، 1969
  • كتاب أرابيلا مدينة الثقافة عبر العصور ، د.عاطف محمد سعيد الشيـَّـاب (بحث هند ابو الشعر قصبة اربد في العهد العثماني ص48-ص67)
  • هند أبو الشعر: تاريخ شرق الأردن في العهد العثماني.
  • مخطوط ثريات الذهب وبعض الذي جادت به قرائح العرب (مذكرات صالح مصطفى التل) ، عبد العزيز الشريدة
  • مقابلة مع عبد الله كليب شريدة ، أحمد الدباس – الدستور 6 ايار 1987
  • مقابلة مع عبد الله كليب شريدة ، محمد الخشمان – الرأي 6 نيسان 1980
  • لواء الكورة الأرض والإنسان والتاريخ ، عارف أبو كركي ، ومحمد بني يونس 1991 ، منشورات وزارة الثقافة الأردنية
  • كتاب دراسات وثائقية لثورة جبل عجلون والكورة ، للباحث أيمن الشريدة المنشور في العام 1995 الجامعة الأردنية
  • مقالة في جريدة الدستور الاردنية بتاريخ 19أيار 2011 بعنوان ، ( محطـَّـات .. إربداوية : قبل 172 عاما.. أهالي إربد يثورون ضدَّ حاكم مصر محمد علي الكبير)
  • كتاب خالد بن الوليد ، عبد العزيز الشريدة .
  • كتاب كليب الشريدة احد رجالات الشمال ، عبد العزيز الشريدة ، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 2000 .
  • بحث قصة دير أبي سعيد ، الباحثان عمر صالح العمري* محمد أحمد بني يونس ، مجلة المنارة العلمية آل البيت 2013

ثورة الكورة الأولى 1834م

%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ba%d8%b1%d9%89

مقدمة

تعد بلدة عراق الكرك من أعظم فصول البطولة الأردنية في حقبة الثورات الصغرى التي خاضها أجدادنا ضد الاحتلال العثماني، هذا الاحتلال البغيض الذي مارس أبشع صنوف الخسة والغدر والمجازر الجماعية على مدار أربعمائة عام من النهب والتدمير الممنهج لكل ما ينبض بالحياة أو يشير لوجودها على الأرض الأردنية، وقد خاض أبناء عراق الكرك معركة الوجود الأردني الأزلي ودفعوا ثمن استقلال كل شبر من تراب أرضنا الأردنية بدمائهم ولم يتزحزحوا قيد أنملة عن حق وجودهم على الرغم من الابادة العرقية التي تعرضوا لها إبان ثورة الكرك عام (1910)، حيث تفنن المحتل العثماني بممارسة كل صنوف الفتك الهمجي في تنفيذها.

وفي السياق التاريخي  فقد أصدر الاحتلال العثماني عام 1864  قانوناً مأخوذًا عن التنظيم الإداري الفرنسي عرف بقانون الولايات؛ وأتى هذا القانون بعد استفاقة للاهمال والاجحاف بحق العديد من المناطق ومن ضمنها الأردن، فأتى ببعض الايجابيات كالسماح ببناء دور العبادة والمدارس والمستشفيات فعلى سبيل المثال بني أول مسجد بالأردن بعهد “الخلافة” عام 1862 بالسلط. وبموجب هذا القانون أيضاً، قسمت مناطق الاحتلال إلى ولايات والولايات إلى ألوية (سناجق) والألوية إلى أقضية (قائمقاميات) والأقضية إلى نواحي والنواحي إلى قرى ومزارع. وتشكلت الكرك حينها من سنجق هي الكرك ومتصرفية الشوبك ومتصرفية العراق، وكان المرجعية لأبناء عشيرة المواجدة خصوصاً وسكان عراق الكرك عموماً هو الفارس الشيخ مسلّم المواجدة والذي كان أحد أهم رموز الحركة الوطنية الأردنية وأهم فرسانها بتلك الحقبة.

متصرف اللواء مع مجموعة من الضباط الأتراك أمام مبنى الحاكم في الكرك إبان الثورة

عدد سكان العراق في عام 1910

في سلسلة حصر النفوس والتي كانت مقدمة لثورة الكرك، نجد فيها أعداد السكان في بلدة العراق في مدينة الكرك حيث تواجد عشائر المواجدة كتجمع رئيسي بالإضافة إلى عشائر الحطيبات والخطبة والتيمة والجماعات والموانيس والحرازنة والمرابحة والطبور.

فتظهر احصائات العثمانيين أن عدد المسلحين يفوق (80) فارس لدى عشيرة المواجدة، إضافة لتجمع بيوت حجرية  يقارب ( 30 ) بيت ويصل عدد أفراد العشيرة إلى (480) فرد، ونجد أيضا أن عشيرة الحطيبات لديها ( 40 ) فارس مسلح وما يقارب (15) بيت بينما يصل عدد أفراد العشيرة إلى (240) فرد، أما عشيرة الخطبة فلديها (45) فارس مسلح وما يقارب (16) بيت بينما يبلغ عدد أفراد العشيرة (270)، ويذكر الحصر أن عشيرة التيمة لديها أيضا (45) فارس مسلح وما يقارب (14) بيت، بينما يصل عدد أفراد العشيرة إلى (270).

15658055_10155573767218066_1866159814_o
إطلالة عامة على عراق الكرك في العصر الحديث

الحالة السياسية والاجتماعية التي سبقت عملية الإبادة العرقية لأهالي عراق الكرك على يد المحتل العثماني

قاد أبناء بلدة العراق عهد التنوير مع أشقائهم من فرسان العشائر الأردنية ليمولوا على نفقتهم الخاصة انشاء مدرسة رشدية في مواجهة أربعة قرون من تفشي الجهل والأمية على يد المحتل العثماني بعد أن كانت الأردن موطن العلوم حتى عهد خلافة الأيوبيين والمماليك، حيث تم تأسيس المدرسة في متصرفية العراق عام 1897.

لم تكن العلاقة مع المحتل التركي في عراق الكرك تنفصل عن مثيلتها من أشكال العلاقة لباقي المدن الأردنية مع نظام محتل أخرج الأردن من سياقه التاريخي الممتد لآلاف السنين ليدخل الوطن الضارب بالمجد بدوامة من عصور الظلام  التي امتدت لأربع قرون تحت ستار الدين، ومن خلف هذا الباب تم افقار المجتمع الأردني وسرقة تاريخه ونهب مقدراته وإعادته إلى عصور البربرية فدخلت الأردن قرون التيه العثمانية الأربع التي خاض خلالها أجدادنا عددا كبيرا من الثورات الصغرى في درب الاستقلال الطويل الذي توج بالثورة العربية الكبرى.

وبالعودة إلى الإبادة العرقية في مدينة عراق الكرك فيمكن اجمالها بمرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى (1907): وقعة عين ترعين

 وقع أول صدام بين أهالي عراق الكرك وقوات الاحتلال العثماني التركي عند عين مياه ترعين حيث خالف الأتراك الاتفاق بعدم ورود الماء من قبل قوات الاحتلال إلاّ بأوقات محددة فقام العثمانيون بكسر الاتفاق وتواجدوا بوقت ورود نساء البلدة اليه، فهاجم فرسان عشيرة المواجدة قوات الاحتلال التركي العثماني وقتلوا ثلاثة من الجنود العثمانيين قبل أن يفر البقية، فيما ارتقى شهيدين من أبناء المواجدة دفاعا عن كرامة المرأة الأردنية ومنظومة القيم التي تلعب فيها المرأة الأردنية دوراً محورياً في كل مناحي الحياة لكن محفوظة الكرامة بعيداً عن أخلاق المحتل الخسيسة.

ضابط من الجيش العثماني متسلحا أمام أحد بيوت الكرك عام 1908

المرحلة الثانية (ثورة الكرك 1910- الهية)

كان حراك أبناء العراق مقدمة من ضمن كتلة من الرفض والمجابهة للمحتل العثماني التي توّجت بثورة الأردنيين 1910 والتي عرفت لاحقاً ب”هية الكرك” حيث اشتعال شرارتها الأولى، وهي الثورة التي امتدت من أقصى شمال شرق الأردن حيث قبائل السرحان وبني خالد وحتى العقبة جنوباً كما قدمنا وبالوثائق في بحث ثورة الكرك.

وتعد ثورة الكرك عام 1910 ضد الاحتلال العثماني من الحركات التحررية التي شهدها مطلع القرن العشرين، حيث تمثل مقدمات وارهاصات لثورة العرب الكبرى، بعد تزايد طغيان واستبداد الاحتلال العثماني الذي مارس جملة من السياسات تصدرتها سياسة نقل طريق التجارة والحج من موقعه السابق الى خط السكة اليوم بعام 1519، بالاضافة لسياسات التتريك والتهميش التنموي وفرض الضرائب بلا خدمات والتجنيد الإجباري على مدى قرون ولم يكن آخرها بناء القطار العسكري العثماني بالسخرة على أكتاف الأردنيين وعلى حساب ثروتهم الحرجية.

 لم تكن ثورة الكرك حالة ترف سياسي وإنما ضرورة سبقتها دلائل، فالواقع أن مؤشرات الثورة كانت موجودة واختارت إدارة الاحتلال العثماني القمع والتطهير العرقي لأبناء الأردن كعادتها في سياستها المبنية على الإبادة منذ تمددها إلى الأراضي الأردنية، ويورد هنا الرحالة النمساوي “موزيل” توقعه  للثورة ضد الأتراك بذات التوقيت ولكن في معان وليس الكرك وفي كتابه ” شمال الحجاز” مرّ بمعان يوم 10 ـ 7 ـ 1910،  وقال موزيل: “بأن كل شيء في معان يوحي بالثورة وإنها واقعة لا محالة إما في معان أو بين الحويطات الذين سأل عنهم فأخبروه أنهم توجهوا غربا ويستعدون للثورة.”

في ذات السياق كانت أخبار العشائر وتحركاتها التي توردها الصحف في ذلك الوقت وبخاصة جريدة المقتبس تدل على تذمر العشائر الأردنية وعدم قبولها للأوضاع الإدارية العثمانية؛ فكانت الثورة في الكرك التي أطلق عليها عدة تسميات بحسب ما ورد في سجل محكمة شرعية الكرك 1912.

ويعدُّ تعداد السكان أو ما عرف بحصر الأنفس العثماني شرارة الثورة الأردنية حيث بدأ المحتل العثماني بحصر الشباب وعدّهم تمهيداً لتجنيدهم في حروب العثمانيين الاستعمارية التي لم تقدم سوى الموت لأبناء الأردن والذين رفضوا بدورهم الخضوع لنظام السخرة القائم على العبودية والسادية.

وبالإضافة إلى نظام السخرة وفرض الضرائب تحول الأردني إلى مجرد رقم في قطار السفربرلك حيث حروب الجنون والدم بلا جدوى فيرسلون أجدادنا في قطار الموت إلى المناطق النائية كالقرم والرومللي والأناضول وثلوج أرضروم وجبال القفقاس وغيرها حيث يموتون من الجوع والبرد في الصفوف الأمامية بينما السلطان بين الغلمان والجواري في حرملك الأسيتانة.

%d9%82%d9%84%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%b1%d9%83-%d8%b9%d8%a7%d9%85-1900-400x299
قلعة الكرك إبان انطلاق ثورة الكرك مطلع القرن العشرين

ولحظة إعلان الثورة انطلق فرسان المواجدة على صيحة (الشوامخ) وهي نخوة المواجدة متجهين الى الحامية العثمانية ليخوضوا معهم مواجهة الفرسان والسيف ليرتقي من الأردنيين المواجدة (12) شهيدًا، فيما تكبد العدو العثماني المحتل (65) قتيل وكان من بين الفارين أحد العاملين مع المفرزة العثمانية من مدينة عربية غير أردنية واسمه (محمد قاسمية) الذي هرب واستجار بالسيدة الفاضلة زوجة الشيخ الفارس (مسلم المواجدة) الذي كان مع بقية وجهاء الكرك يشرفون على إدارة عمليات الثورة، فهرب عامل المحتل العثماني (محمد قاسمية) مذعوراً بعد أن شاهد بأم عينيه تساقط عناصر المفرزة العسكرية العثمانية التي يحتمي بها وأعضاء لجنة الإحصاء، غير قادر على جرّ ساقيه، فصرخ عند مدخل منزل الشيخ مسلم المواجدة حيث كانت الفاضلة زوجة الشيخ مسلم المواجدة : (أنا بوجهك يا طويلة العمر.. أنا بوجه الشيخ مسلم)، وكان فرسان القرية يلاحقونه للقبض عليه، فرقّ قلبها عليه وقبلت استجارته، ومنعت الشبان من النيل منه، وقالت لهم: أنتم في منزل الشيخ مسلم وطريدكم دخل المنزل مستجيراً، فهل تقبلوا قتل المستجير، وأنتم أهل نخوة ؟؟، فرجع الفرسان. وما أن غادر مضارب المواجدة آمناً حتى اتجه للحامية العثمانية مبلغاً عما جرى غادرا بمن أجاروه.

بلغت ثورة الكرك كل مناطق الأردن فالتحم الأردنيون وعادوا بعث الروح الوطنية وسجلت مراسلات العثمانيين أن كل تاريخهم بات على المحك إن لم توقف الثورة الأردنية، فحشد المحتل كل آلته العسكرية ووجهها صوب الأردن عبر قوة عسكرية لقمع الثورة، وأبرقت الإدارة العثمانية إلى سامي الفاروقي قائد الجيش العثماني في دمشق ومنحته الصلاحيات باستخدام كل الإجراءات القمعية الممكنة تجاه العشائر الأردنية الثائرة، فجهز آلاف الجنود شملت ستة طوابير من الفرسان والمشاة وبطارية مدفع بقيادة ( البيكباشي صلاح بك ) رئيس أركان حرب الحملة الحورانية، وتوجهت القوة إلى محطة القطرانة بواسطة القطار العسكري ووصلت بتاريخ 11 كانون اول 1910 وبدأت بالزحف نحو قصبة الكرك عن طريق اللجون.

صعد فرسان الهية لملاقاة الجيش الجرار ولكنها كانت محاولات ” كف يناطح مخرزا ” فالجيش التركي الزاحف بقيادة سامي الفاروقي كان ألوفا مؤلفة لا قِبَل للثائرين به وبالسلاح والمدفعية التي تؤازره فمارست القوة المسلحة بالمدافع وبالعتاد والعدة سياسات البطش والتنكيل بالأهالي وبدأت سلسلة من جرائم الحرب شملت الإعدامات وإلقاء الناس من أعلى أسوار قلعة الكرك إلى الوادي السحيق لتتناثر أشلاؤهم.

وفي سلسلة جرائم الحرب العثمانية كانت بطولة أهل العراق إحدى أولويات الانتقام العثماني، فكيف لمجموعة من الفرسان الذين لا يملكون العتاد والعدة أن يواجهوا حامية عثمانية مكونة من (65) عسكري تركي مدرب عدا عن أن ينتصر فيها فرسان عراق الكرك؟ لقد كانت لطمة المواجدة للعثمانيين محل حنق وحقد؛ فوجهت قوة مخصصة لإبادة العراق وأهلها عن وجه الأرض.

وكعادتهم بالخبث والخسة، تظاهر العثمانيون بأنهم بدخلون العراق بسلام رافعين الرايات البيض بعد بذلك توطئة من قبل بعد أعوانهم من الناطقين بالعربية. دخل المحتل العثماني واتخذوا من الأطفال والنساء دروعاً بشرية داخل احدى المضافات وذلك لإرغام الفرسان على تسليم أنفسهم وهذا ما كان، ليقوموا بعدها بجمع فرسان عشيرة المواجدة بالاضافة لكل ذكر متواجد من عشيرة المواجدة وبعضهم أطفال في أسلوب همجي بدون أي محاكمة مدنية أو عسكرية والتي تعرفه الأمم المتحدة على أنه ابادة عرقية أو تطهير عرقي، وبعد جمعهم تم ربطهم إلى بعضهم وقتلهم بطريقة تفيض بالخسة والغدر والقاء جثثهم في كهف لا زال قائما لليوم شاهدا على افتقاد هذا المحتل لأدنى قيم الإنسانية إذ لم يقم ولم يسمح حتى بدفن جثامينهم بشكل لائق يحفظ لهم كرامتهم بعد إعدامهم. هذا وقد استشهدت النشمية خضرا القرالة لتضاف لسجل الشرف بقائمة نساء الثورة من الشهيدات والبطلات.

2-2
رفات شهداء المواجدة في أحد الكهوف في قرية العراق- المصدر : موسوعة بوح القرى لـلباحث مفلح العدوان
3-3
رفات شهداء المواجدة في أحد الكهوف في قرية العراق- المصدر : موسوعة بوح القرى لـلباحث مفلح العدوان

ارتقت أسراب الشهداء من الأردنيين وفاضت أرواحهم في درب طويل رسمه الأجداد الأردنيون نحو الاستقلال ولعودة الأردن إلى مسارها التاريخي  ومستقبلها التنموي والحضاري.

استشهاد الشيخ مسلم المواجدة

بقي الشيخ البطل مسلم المواجدة مطلوباَ لسلطات الاحتلال العثماني حتى ألقي القبض عليه بمكيدة في صباح يوم 10/1/1911 وسيق الشيخ إلى قلعة الكرك وأجريت له محاكمة صورية كان يرافقه فيها 14 فارس من المواجدة.

وقد حاول العثمانيون دفعه لطلب الاسترحام فرفض الشيخ البطل وآثر الموت شهيداً على أن يعيش ذليلاً تحت الاحتلال العثماني، فتم القاؤه من الجهة الغربية للقلعة، وكان العثمانيون يقيدون كل اثنين من فرسان المواجدة معا ويلقوهم أو يربطون رقابهم إلى حجر كبير ويلقونهم من أعلى أسوار القلعة.

حاول فرسان عشيرة الشمايلة جمع رفاة الشهداء لمدة أربعة ليالي تحت إطلاق النيران من العثمانيين، حتى نجحوا بالحصول على رفاة الأبطال الشهداء وتم دفنهم بالقرب من قرية الشهابية إحدى قرى الكرك.

عدد شهداء الثورة

اختلفت المصادر في حصر عدد شهداء بلدة عراق الكرك أثناء الثورة ولكن جميعها اتفقت على عظم المجزرة التي ارتكبها الاحتلال العثماني والذي يصنف بالإبادة الجماعية.

ويذكر ( الزركلي ) في وصف المرحلة الثالثة من الصدام بين أبناء عراق الكرك والاحتلال العثماني أن شهداء أبناء عراق الكرك يفوق السبعين شهيدًا.

  1. الصدام الأول كما ذكرنا كان عام 1907 وقضى فيه شهيدين أردنيين على عين ماء ترعين.
  2. الصدام الثاني حيث الوقعة الكبيرة في ثورة الكرك عام 1910 وتقسم الى ثلاث مراحل من ارتقاء الشهداء من ابناء عراق الكرك:
  • المرحلة الأولى وتحدد بتاريخ 24/12/1910 حين اشتعال ثورة الكرك واقتحم فيها فرسان عشائر المواجدة مقرّ الحامية العثمانية واستشهد 12 فارسًا أردنيًا من المواجدة وقتل 65 ضابطا وجنديا عثمانيا.
  • المرحلة الثانية وتحدد بتاريخ 10/1/1911 حيث تم القبض على الشيخ مسلم المواجدة ويرافقه 14 فارسًا من المواجدة وتم تنفيذ الإعدام بإلقاء الأبطال من الجهة الغربية للقلعة من أعلى أسوار قلعة الكرك.
  • المرحلة الثالثة بتاريخ 16/1/1911 حيث دخلت كتيبتين من الجيش العثماني المحتل بقيادة وحيد بيك وانطلق الطابورين وحاصروا مدينة العراق ليومين وجمعوا من السكان 70 شخصًا بعضهم من الأطفال كما تظهر هياكلهم العظمية في كهف العراق الشاهد على الابادة العرقية وأعدموهم طعنا وهم مقيدين أو رميًا بالرصاص وهم مقيدين أيضا.
5-5
حمد بن سليمان المواجدة ؛ من مواليد 1898 ، شاهد عيان على مذبحة العراق حينما كان عمره 12 سنة ، و شقيق أحد شهدائها البطل ( محمد بن سليمان بن موسى المواجدة) – المصدر : موسوعة بوح القرى لـلباحث مفلح العدوان

يقول الراحل حمد بن سليمان المواجدة شاهد العيان على مذبحة العراق وأحد الناجين القلائل من هذه الإبادة العرقية في شهادته التي سجلها الباحث خالد المواجدة عام 1981؛ أنه بعد أن طوّق العثمانيون البلدة من جميع الجهات كانوا يمسكون أي شخص يمشي في الطريق فيربطونه ويكتفونه وينزلون به ضربا مبرحا بخيزراناتهم وبطريقة مذلة، ومن ثم قاموا بجمع 84 رجلا من رجال المدينة ووضعوهم في مضافة الوجيه موسى بن عيسى المواجدة، حينها بدؤوا بجمع كل خيول أهل المدينة المشهورة جدا بأصالتها وسرعتها ورشاقتها، ومن ثم نهبوا كل المؤن الموجودة في بيوت المدينة من سمن ولبن وقمح وطحين، وأخرجوا كل الأثاث والفراش وأحرقوه مرة واحدة مشعلين ناراً عظيمة.

يقول الراحل حمد المواجدة في روايته أنه حينما تم جمع الرجال في المضافة كان يجلس في حضن أخيه الشهيد محمد سليمان المواجدة احد شهداء المذبحة، حيث قام جنود الاحتلال العثماني بربط كل رجلين من الرجال مع بعضهم ووجوههم إلى الخارج، فالتقطه أحد الجنود وهو في حضن أخيه وبدأ بضربه ضربا موجعا ومن ثم قذف به كما يرمى الفراش إلى خارج المضافة فمضى باكيا موجوعا حافظا لتفاصيل وجوه القتلة و المجرمين.

ويقول الراحل بعيني الطفل المصدوم من هول الفاجعة أن جنود الاحتلال العثماني أخذوا يدخلون رجال المواجدة رجلين رجلين إلى السراي العثماني كما ربطوهم تماما ويتقابلون عليهم بحراب البنادق (السنجة) فيأخذون بأجسادهم طعنا وهم مربوطين لا حول لهم ولا قوة ومن لم يمت من فورها يطلقون عليه النار حتى لم يبق منهم رجلّ واحد حي، وبعد أن فرغ الجنود العثمانيون من مجزرتهم في السراي خرجوا منها فقابلتهم امرأة تصرخ بهم وتوبخهم على ما فعلوه وتبكي على من فقدته من أقاربها وهي الشهيدة ( خضرا بنت حريثان القرالة ) فأطلقوا عليها النار وغرزوا حرابهم في جسدها الطاهر في دلالة على غريزة الانتقام الحيواني التي تملكت جنود الاحتلال العثماني تجاه الأردنيين وثوراتهم للخلاص من هذا المحتل.

ينهي الراحل حمد بن سليمان المواجدة روايته بالقول ( لقد فقدنا في ساعة واحدة ثمانين لحية وشارب ) كناية عن حديثي السن والشباب الصغار وكبار السن أيضا، ولم يبق من رجال العشيرة إلاّ ( صربة – سربة ) رجال قليلين بينهم الشيخ مسلّم الذي أعدم لاحقا، وعاش من تبقى من المواجدة كأسرة واحدة صغيرة نتضامن ونضمد جراح بعضنا البعض.

ونجد أن مجموع الشهداء يفوق المئة وبذلك يكونون 20,8% من مجموع عدد أبناء عشيرة المواجدة الأربعمائة وثمانون. واذا قمنا بافتراض 5% زيادة سنوية للسكان منذ عام 1910 وحتى 2016 فإن ذرية الشهداء المئة ستتجاوز السبعة عشر ألف اليوم. على صعيد متصل فقد قامت سلطات الاحتلال العثماني بمصادرة جميع خيول المواجدة وباعت أراضيهم لحاشيتها والمتعاونين معها من الخون مما ضرب مصادر عيش العشيرة وناحية العراق في طريقة أخرى للعقاب الجماعي التي تعاقب عليه الأمم المتحدة وكافة المواثيق العالمية اليوم.

وتم حصر أسماء 85 شهيد بالوثائق الرسمية نوردهم في الجدول التالي :

قائمة الشرف من شهداء مدينة عراق الكرك اثناء مقاومة الاحتلال العثماني

اسم الشهيد/ة

الرقم
الشيخ مسلّم بن موسى بن عبدالكريم المواجدة 1
عبدالله بن جمعة بن أحمد المواجدة 2
الياس بن جمعة بن أحمد المواجدة 3
محمد بن سليمان بن موسى المواجدة 4
محسن بن محمد بن حمدان المواجدة 5
مقبل بن عنيزان بن أحمد المواجدة 6
محمود بن عنيزان بن أحمد المواجدة 7
ارشود بن صبيح بن جبرائيل المواجدة 8
مقبل بن عوده بن مقبل المواجدة 9
سلام بن سليمان المواجدة 10
سالم بن علي المواجدة 11
حسين بن علي بن خليل المواجدة 12
محسن بن علي المواجدة 13
حسن بن علي المواجدة 14
خلف بن خليفة المواجدة 15
خليف بن خليفة المواجدة 16
عبدالله بن اعوض المواجدة 17
عودةالله بن اعوض المواجدة 18
ماجد بن محمد المواجدة 19
ثنيان بن محمد المواجدة 20
خلف بن محمد المواجدة 21
ارشود بن محمد المواجدة 22
عفنان بن محمد المواجدة 23
محسن بن محمد بن فلاح المواجدة 24
عقله بن محمد بن فلاح المواجدة 25
سلامه بن سليمان المواجدة 26
أحمد بن قبلان المواجدة 27
أحمد بن عيسى المواجدة 28
طعمة بن مريحيل المواجدة 29
حسين بن علي المواجدة 30
عبدربه بن محمد المواجدة 31
عبدالرحمن بن محمد المواجدة 32
سليمان بن عبدالرحمن المواجدة 33
شحاده بن سلمان المواجدة 34
عبدالله بن ابراهيم المواجدة 35
حميده بن حمدان المواجدة 36
حمود بن حمدان المواجدة 37
حسين بن خليل المواجدة 38
موسى بن دعمس المواجدة 39
محمود بن ابراهيم المواجدة 40
عودةالله بن ضيف الله المواجدة 41
سالم بن عبالهادي المواجدة 42
خليفة بن عبدالرحمن المواجدة 43
خلف بن جبريل المواجدة 44
سالم بن ابراهيم المواجدة 45
مسلم بن فلاح بن اعوض المواجدة 46
عبدالقادر بن فلاح بن اعوض المواجدة 47
سلامه بن علي بن خليل المواجدة 48
حميدان بن ضيف الله المواجدة 49
محمود بن حمدان المواجدة 50
محمد بن أحمد المواجدة 51
سالم بن طعمه المواجدة 52
علي بن حسين المواجدة 53
اسماعيل بن ابراهيم المواجدة 54
محمد بن حمدان المواجدة 55
ابراهيم بن صبح المواجدة 56
سلمان بن سليمان المواجدة 57
ذياب بن خلف المواجدة 58
عوض بن اعوض المواجدة 59
عوض بن عبدالقادر المواجدة 60
مطير بن جمعه المواجدة 61
طالب بن جمعة المواجدة 62
يوسف بن خليل المواجدة 63
حمد بن حمدان المواجدة 64
عرار بن سرحان المواجدة 65
عبطان بن سرحان المواجدة 66
فرهود بن ابراهيم المواجدة 67
مرار بن ابراهيم المواجدة 68
فهد بن اعطيوي المواجدة 69
رشيد بن تركي المواجدة 70
عطوي بن فرحان المواجدة 71
سليمان بن عبدالرحمن المواجدة 72
سلام بن عوده المواجدة 73
ياسين بن علي المواجدة 74
اعطوي بن خليل المواجدة 75
توفيق بن يوسف المواجدة 76
عبدالعزيز بن خلف المواجدة 77
عطوان بن خلف المواجدة 78
عبدالرحمن بن محسن المواجدة 79
محيميد بن حمدان المواجدة 80
حمد بن سالم المرابحة 81
لافي بن شحاده الحرازنة 82
غريب الخطبا 83
خضرا بنت حريثان القرالة 84
سعيد الدرارجة الخرشة 85
11070135_10155353979475585_2112803176069787806_n
رفع العلم الأردني على باب كهف الابادة العرقية لعراق الكرك كرمز تذكاري لأرواح الشهداء من قبل فريق عمل إرث الأردن

أهازيج ما بعد الجريمة

توالت أعوام الوجع على الفقد العظيم لكتلة من نخبة فرسان الأردن ورجالها بعد مجزرة الإبادة العرقية الذي مارسها المحتل العثماني، فكانت الأهازيج الكركية تنادي ( بزمزمة الفنجان ) أي بمنع القهوة في إشارة لتوقف كل مظاهر راحة البال والكيف حداداً على عظيم المصاب واستمرار النزف للجرح الذي لن يبرأ، وكان أهل عراق الكرك يسمون أسماء الشهداء وينادونهم بأهازيجهم توجداً في ترويد يحمل كل أوصاف الفجيعة، ويتموُّن الأهازيج بفضح من تواطأ مع المحتل العثماني بالصياح على حامل القهوة بأن ( لا تصبها لفلان ) وفلان هو بالذاكرة الجمعية يمثل كل من تواطأ بالغدر بأهله وعمل مع المحتل العثماني أثناء ثورات تحرير الأردن من عصور الظلام.

وينص مقطع من الترويدة على ما يلي:

” زمزم الفنجان يا بي يا الولد زمزم الفنجان…

ولا تصبوا لفلان يا وجه القشل لا تصبوا لفلان… “

قائمة المراجع

  1. نوفان رجا السوارية و محمد سالم الطراونة ،اضاءات جديدة على ثورة الكرك (1328هـ/1910م)، ط1 ،الأردن، الكرك، دار رند للنشر والتوزيع، 2000 ، ص1
  2. د.سعد ابو دية ،ثورة الكرك 1910 “الهية”.
  3. سجل محكمة شرعية الكرك(1) ، حجة 13،13 جمادى الثاني هـ/ 1912 م،ص 35-36.
  4. الريس،منير الريس،الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي،ط1 1969،ص32
  5. المقتبس، ع649(12 نيسان 1911)م
  6. البشير ع2006 (2شباط 1911م) ص3
  7. مقابلة فريق ارث الأردن مع كل من : الدكتور خالد المواجدة ، الباحث مصطفى المواجدة، عبدالصمد المواجدة، المؤرخ حامد النوايسة، المؤرخ فرّاس دميثان المجالي 9/2016م ، مدينة الكرك.
  8. موسوعة القرية الاردنية ( بوح القرى )، مفلح العدوان، مركز الرأي للدراسات ، عمان ، 2008.

الابادة العرقية لعشيرة المواجدة 1910\11

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا واضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى (ثورة الأردنيين عام 1670 )، في هذا البحث نستكمل مسيرة توثيقنا واستعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ثورة الزعيم الأردني كليب الفواز ومعركة الجابية.

السياق الاقتصادي السياسي

 كانت الأردن تعيش حالة من الحكم الذاتي المستقل لأغلب الحقبة الاسلامية المتوسطة (الأيوبية المملوكية) وعند خيانة ولاة المماليك وتسليمهم الولايات للعثمانيين التي كانوا يحكمونها مما أدى لتبلور الخيانة في معركة مرج دابق، وجد العثمانيين رفضاً لحكمهم بالأردن وما عرف بثورة 1519 التي نشرنا تفاصيلها سابقاً، فما كان من العثمانيين الا أن نقلوا طريق الحج من الطريق الملوكي الى الشرق منه في خطة تهدف لكسر البنية الاقتصادية الحاضنة للنزعة الاستقلالية الرافضة للهيمنة الخارجية. وبالتفاصيل فان الخط القديم كان يحوي على محطات خدمات للحجاج كل 50 كيلو متراً (وهي مقدار المسافة التي تسيرها الابل في يوم واحد) على الخط، فكان الحجاج والتجار والرحالة يستأجرون الابل ويطعمونها ويبيتون في هذه المحطات التي كانت تسمى مفردةً بالخان، وكان الأمن مستتباً في ظل توازن واستقرار المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية والتاريخية بين الأردنيين على طول الطريق الملوكي. أما خطة العثمانيين فكانت تهدف لأن يتم تقليل عدد هذه الخانات من  فتتحارب العشائر الأردنية فيما بينها على الفرق ويضيع الأمن وتسخر الثروة في الحروب البينية. لكن خطة العثمانيين بائت بالفشل الى حد كبير حيث أن الزعامات الأردنية كانت تخرج بعد كل فتنة كان يخلقها العثمانيون فتقوم هذه الزعامة على عمل تحالف عشائري تضمن زعامة محلية وتوزيع عادل للاقتصاد بين المناطق.

لكن هذا النموذج من ريادة الأعمال والاستقلالية الاقتصادية لا يتماشى مع عقلية الباب العالي حيث كانت الاستراتيجية تتلخص بالنقاط التالية:

– تحويل بؤر الانتاج الخدمية على طريق الحج والتجارة الى مراكز تحصيل ضريبة جائرة تجبر الأردنيين على انتظار المعونة من وزير الحج لتعويض النقص. ومن ثم  تحويل الأردنيين من مقدمي خدمات الحجاج الى موفرين للأمن من أردنيين آخرين خسروا مهنتهم المتوارثة على طريق الملوك قبل نقله وتقليص عدد مراكزه عام 1519 وهذا ما عرف لاحقاً بنظام “الصرة”

  • خلق حالة نزاع دائمة بين عشائر وصلت لتفاهمات على مراكز خدمات الحجاج لآلاف السنين.

– تفتيت التمثيل من تمثيل كامل مناطق الأردن لتمثيل منطقة محددة أو قبيلة بعينها بحيث يسهل الاستفراد بها.

  • الضرائب الجائرة والتي تبتدأ ب25% على الدخل و10% على المبيعات في خانات الحج

ولكن وما إن تستقر هذه الزعامة حتى يعمل العثمانيين على تدميرها لأن استقرار الأمور كان يعني نمو قوة الأردنيين وقدرتهم على الاستقلال. وبالتالي تتكرر الفتن والثورات المناوئة على طول الأربعمائة عام من الاحتلال العثماني المباشر وبالوكالة للأردن وكما حصل غير مرة مع زعامة الفواز للثورات الأردنية الصغرى.

ثورة الزعيم كليب الفواز ومعركة الجابية

بعد سلسلة الثورات الصغرى التي استعرضناها سلفا جاء الشيخ كليب بن حمد بن إرشيد الفواز خلفا لوالده الشيخ حمد، واعتبر الشيخ كليب كواحد من أقوى الزعامات الأردنية التاريخية، من حيث قوة شخصيته وقوة جيشه وزعامته ومكانته، ويعود أول ظهور له  في المراجع لعام 1690.

استمرت زعامته لعشيرة السردية وتحالفها مع باقي العشائر الأردنية حتى عام 1709، حيث امتدت زعامته لتحالف العشائر الأردنية من المزيريب شمال درعا وصولاً للمناطق الشمالية من المدينة المنورة ومن الجوف شرقاً وحتى الشريعة (نهر الأردن) غرباً، وقد امتلك كليب الفواز كافة أسباب المنعة والقوة من جيش قوي وشخصية مهابة وتحالفات قوية، وهو جزء مما ورثه عن والده حمد الذي قتله الوالي العثماني، وجده ارشيد الذي عرف أنه أشهر من قام بالتحالفات العشائرية الأردنية في ذلك الوقت، كل هذه الأسباب جعلت منه خصماً ونداُ قوياً للعثمانيين ومصدر قلق ورعب وإزعاج لولاتهم وسلاطينهم.

حاول الفواز عام 1700 المضي بنموذج العثمانيين الاقتصادي المعتمد على توفير الأمن بعيداً عن دور الأردنيين التاريخي بتقديم خدمات النقل والمبيت فجهز قوة كبيرة من العشائر الأردنية واختار خيار السلم مع العثمانيين على أن تبقى الأردن تحكم محلياً وتورد منها الضرائب بالوكالة بحسب تقدير أبنائها. لكن مخطط العثمانيين كان يهدف بالدرجة الأولى لتفتيت قوة المنطقة ولذلك وحتى عندما قبل الأردنيين بدفع الضرائب الجائرة  والتحول لدور توفير الأمن منه للانتاج الزراعي والاقتصادي الخدمي، تخلف العثمانيون عن الوفاء بجزئتهم من الاتفاق ولم يرسلوا “الصرة” للفواز لينفقها على كوادر الأمن من فرسان العشائر الأردنية فما كان من الفواز الا تعليق الاتفاق واعلان الطريق عبر الأردن غير نافذ. وقد كان اغلاق الطريق وسيلة احتجاجية ناجعة حيث أنها غير مكلفة، وتوقف دفع الضرائب، وتستدعي رداً عسكرياً أو مالياً مكلفاً للخصم العثماني المعتمد على الاتجار بالدين لتخدير الشعوب عن المطالبة بحقوقهم الاقتصادية والسياسية. .

 وفي عام 1701 اقتنع العثمانيون بأن صف الأردنيين كان مرصوص ولا مجال لاختراقهم بفتنة، وأن قوة الأردنيين بزعامة الفواز لا يمكن هزيمتها عسكرياً، فأرسلوا بطلب الفواز وهادنوه وتم صرف المستحقات المالية لكوادر الأمن وخيلهم وعتادهم فخرج الفواز على رأس قوافل الحجاج عام 1702 وعاد بها سالمة، كما استطاع تخليص جردة الحج عندما تعرضت للهجوم في ذاك العام[1] ، وفي العام التالي 1703 عادت قوافل الحج سالمة بفضل كليب الفوّاز الذي تكفل هو والعشائر المتحالفة معه بحماية الحج. وفي عام 1704، أتت سنة محل على المناطق الأردنية المتخمة بالضرائب الجائرة والتي أضعفت بها قطاعات الاقتصاد الخدمية التي خلقت استدامة بالسنوات العجاف زراعياً فحاول الشيخ كليب الفواز تخفيف العبئ الضريبي الذي تم تحميله للأردنيين لتلك السنة خاصة وأن الضرائب كانت بمقدار 25% على الدخل و10% على خانات الحج. لكن العثمانيين تعنتوا وحاولوا ارسال حملة عسكرية لجلب الضرائب بالقوة، لكنها لم تستطع دخول حدود الزعامة الأردنية على حدود درعا. وعند وصول الخبر للسلطان تبدى له أنه يستطيع تعيين حاكم للمنطقة من خارجها واعلان الشيخ كليب الفواز “باغي على شرع الله وحكمه” لترويج أحقاده من خلال الستار الديني. وعلى اثر ذلك أعلن الشيخ الفواز نهاية الاتفاق السابق وبدأ الثورة. وقد تم الوصول لـ 23 وثيقة عثمانية تعود لعام 1704 يكتب فيها السلطان العثماني بكامل “قوته وعظمته”، ويوجه جميع الحكام والقادة الموجودين في المنطقة الممتدة من شمال حلب وصولاً لغزة، يناشدهم فيها القضاء على ما وصفه بـ “الباغي كليب”.

kleeb0001

kleeb0002

kleeb0004

kleeb0003

جانب من الوثائق الـ 23 التي وجهها السلطان العثماني في حينه الى الولاة في مختلف المناطق المجاورة تنص معظمها على :

“أمير أمراء الشام محمد دام إقباله مأمور بهذه الخدمة الجلية، ولقد أمرت والي الرقة وزيري يوسف باشا بأن يودع أمر ونظام ولايته لكتخداه ويتوجه هو مع كامل رجال قصره الى مناطق جنوب الشام لدفع شر الباغي كليب، الذي كان شيخاً لها، وسلك طرق العصيان والتمرد مع أشرار العشائر الذين هم على هواه وشاكلته، ويسعى الآن للإضرار بقواتنا في المنطقة، وليقوم الوزير المشار اليه بحماية مناطق الشام، كما أمرنا والي صيدا بيروت وزير محمد باشا بارسال خمسمائة من الرجال، وأمرنا مصطفى متصرف نابلس على وجه التخصيص التوجه بنفسه مع أعداد وفيرة من رجالك الى حيث يوجد الوزير المشار اليه وتكون من جردته لتبذل كل ما في وسعك لتحقيق خدماتي العلية وفق رأيه الصائب في دفع شر كليب والبغاة، ولتبذل كل جهدك لتحقيق خدمتي العلية على أحسن وجه، وهذا أمري عالي الشان في كل ذلك”

 

معركة الجابية : الأردنيون يقتلون الوالي العثماني

وفي 1705 كان الوالي العثماني على دمشق وهو حسين باشا الفراري مصراً على القضاء على الأردنيين، رغم نصح مستشاريه له بأن يتخلى عن استخدام القوة ضد الشيخ كليب وجيشه من فرسان العشائر الأردنية أحفاد القوات المقاتلة التي أذاقت المماليك الويلات سابقاً. قام الشيخ كليب الفواز بارسال كلمته المشهورة ان ” احقنوا دماء أهالي المنطقة” لخطباء المساجد ليحثوا أبناء دمشق وجوارها على أن لا يلتحقوا بالحرب على جيرانهم الأردنيين منبهاً أن هذه الحرب هي مع الأتراك العثمانيين وأعوانهم فقط، وقد كان لدى كليب من الحكمة اللازمة لأخذ المبادرة في ذلك، وهو يواجه السلطة العثمانية الراغبة بكسر قوة العشائر الأردنية في المنطقة المتمثلة في كليب والملتفة حوله في ذلك الوقت. حشد كليب جيشاً من العشائر الأردنية المساندة له كان قوامه 20 ألف مقاتل من فرسان العشائر الأردنية بينهم 4000 فارس على خيول، منهم 700 فارس من أرباب الدروع المصفحين، وسار لملاقاة جيش الاحتلال العثماني الذي وصل تعداده لـ 30 ألف مقاتل، عندها أرسل الوالي العثماني إلى أمير الجردة حسين باشا بن القواس الذي كان مخيماً بالقرب من قرية شقحب ومعه حوالي عشرين بيرقاً لمعاونته على قتال كليب، لكنه بقي مكانه لأنه كان قد تعاهد مع كليب على حقن دماء أبناء المنطقة، وكان كليب يتقدم كل يوم نحو معسكر الوالي العثماني وقواته، وبنفس الوقت يرسل إليهم من يناشدهم حقن دماء الناس، فكان الوالي يقوم بسجن رسل كليب وزجهم في قفص حديدي، وكان الجميع في دمشق ينصح الوالي بالصلح، إلا أنه رفض ذلك غير آبه بمصير الآلاف من جيشه وما تم جمعه من مرتزقة لمعاونته . [2]

وقد طلب كليب من قاضي دمشق التوسط بحل هذه القضية وبقي ينتظر رده فلم يرد له جواب، وكان مضمون رسالة كليب لهم: “إن قتالي كان على وجه شرعي لأني أطالب بحقوق شعبي، وإني سوف أقاتلهم، أرجوا أن تبينوا لي فأنتم علماء وأهل فتوى، أو اسعوا في الصلح لحقن دماء أهل المنطقة”.[3]

وقد كان كل هذا في إطار المحاولات الدبلوماسية لتدارك الأمور قبل أن تصل لحد القتال وقد قام علماء دمشق وقاضيها بعرض هذه الدعوة للصلح على الباشا فلم يوافق عليها وكان قاضي دمشق يميل للصلح وأرسل جماعته ليرسلوا له عرضاً مكتوباً في صلح كليب، وقالوا : “نريد اجراء الصلح وحقن الدماء” وكان كليب ينتظر الجواب الا أن أتاه رد الوالي العثماني بأن خيول جيش العثمانيين ستعود لاستنبول وبأرجلها رؤوس جيش كليب. فما كان من جيش الأردنيين أمام هذه العجرفة المعتدة بالعدد وسواد الخنوع في مناطق أخرى الا أن تزحف باتجاه معسكرات الجيش العثماني، حيث أرسل كليب نذره إلى الوالي يتوعده في الصباح. وكان بعض مرافقي الوالي أشاروا عليه بمهاجمة كليب قبل أن يقوم بمهاجمتهم، إلا أنه رفض. وفي الصباح أرسل كليب ثلاثة آلاف جندي الى معسكر الوالي المتخم بثلاثين ألف فقاموا بالهجوم على عسكر الوالي وأخذوا أحمالا لهم فقام العسكر والوالي باللحاق بهم، فلما وصلوا إلى جبل خرج عليهم كليب وقواته من بين ثنايا الوديان، فقتلوا منهم الآلاف وأسروا الكثير بحثاً عن الوالي الذي توعد الأردنيين بجر رؤوسهم بأرجل الخيل الى استنبول. كان الوالي في المؤخرة، فتم الهجوم عليه وقتله ورميه أرضاً ووضعه برجل جمل، وتعرض العسكر العثماني إلى قتل شديد وتم تجريدهم من كل شيء معهم، فلم يرجعوا إلى دمشق بشيء من الجمال والخيول والدواب، وبقيت جثة الوالي معلقة بقدم أحد الجمال لمدة ثلاثة أيام بالقرب من قرية الجابية وهي منطقة قرب درعا شمال حوران الأردنية دون أن يتمكن أحد من الجنود العثمانيين من أخذها، فقد فر معظمهم مشياً على اقدامهم لدمشق وقد كان ذلك رداً على توعد الأردنيين بالاذلال وربط رؤوس قادتهم بحواف الخيل. صعق السلطان العثماني من نبأ قتل واليه وأغلب جيشه ووصل حقد العثمانيين على العشائر الأردنية وعلى كليب الفواز خاصة الى حدود غير مسبوقة حيث أن خبر كسر هيمنة السلطان بدأ يثير طموحات الشعوب المحتلة الأخرى على الثورة.

غضب عثماني وانتقام من حلفاء كليب

ونلاحظ مما سبق أن كليب حاول حل الموضوع دبلوماسياً خلال كافة المراحل التي سبقت القتال وقد استمرت المناوشات لمدة ثلاثة أيام، وحتى مع بداية القتال نفسه، فقد أرسل الرسل قبل وصوله، وأرسل الرسل ليلة المعركة، وإمكانية تدارك ذلك إلا أن الوالي العثماني أخذه الغرور والتعنت ولم يرتدع وقرر جعل الأردنيين عبرة لمن يفكر بالثورة على الاحتلال العثماني، وكان ما كان من نصر لكليب والأردنيين، نتيجة للحنكة العسكرية الواضحة في إدارة المعركة، بل حتى في الاستعداد الاعلامي الاستراتيجي لها، فما كان لأحد أن يجمع هذا العدد من الجيش لو لم يمتلك الأسباب العادلة والكافية لذلك، وهي التي دفعت معظم عشائر الأردن للتحالف معه بالاضافة لتمكنه من استمالة العلماء والتجار في دمشق. وبعد الهزيمة النكراء حاول العثمانيون الانتقام من المتحالفين مع كليب ومن لم يتحالفوا معهم ضد كليب، فقد قاموا بنهب قرية “شقحب” والتنكيل بأهل القرية الموالية لابن قواس جزاء رفضه المشاركة في محاربة العثمانيين للأردنيين، بينما المفارقة أن كليب المنتصر قام بالعفو عن من خانه وتحالف مع العثمانيين، فقد خرج حاكم القدس لمساندة قوات حسين باشا، وتحصن في مكان يسمى الخربة، بها عمارة وعليها حصن وفيها بئر ماء فتحصنوا بها، وأخذت قواته تضرب قوات الشيخ كليب التي كانت تحاصرهم، وقد حاول هؤلاء المحاصرين طلب الإمدادات من العثمانيين، فلما وصلتهم الأنباء أن الوالي العثماني قتل، عرضوا على كليب أن يطلق سراحهم ففعل على أن يتعهدوا بعدم موالاة أي غازي عثماني على الأردن، ذلك لأن رجولته وملامح شخصيته الأردنية لم تكن لتسمح له بالاستقواء على المهزوم فاتخذ العفو بدلا عن سياسة التنكيل العثماني.

أسباب ومبادئ تحالف الأردنيين وثوراتهم المتتالية ضد العثمانيين

تشكل معركة الجابية التي شارك بها الأردنيون تحت قيادة الزعيم كليب الفواز، إلى جانب غيرها من الثورات التي سبقت ذلك والثورات اللاحقة، حالة أخرى من النزعة الوطنية التاريخية نحو الاستقلال والتحرر من أي سلطة خارجية تحاول أن تمارس الوصاية على أسلوب الحياة الاقتصادي والاجتماعي، ورفض الاتجار بالدين لتسويق الظلم، الأمر الذي يدفع كل المكونات الاجتماعية للوقوف في صف واحد، سيما مع إهمال العثمانيين للمنطقة والتعامل معها كمزرعة لجمع الضرائب فقط.

وكانت العلاقة السائدة في تلك الفترة هي علاقة تحالفات، فطريق الحج الممتد من جنوب دمشق حتى أطراف المدينة يستحيل على قبيلة واحدة أن تشرف عليه بمفردها فقد كان عدد الحجاج في الموسم يتراوح ما بين 13-14 ألف حاج، كل منهم بحاجة لجمل أو اثنين مع المتاع، فعرفت عن العشائر الأردنية قدرتها الكبيرة على إقامة التحالفات لضمان مصالحها ووجدت عدة مراكز لإدارة وحماية طريق الحج أهمها عجلون، والسلط، والكرك، إلى جانب العقبة، وعملت على تأمين الجمال للحجاج الذين كانت تستلمهم قرب نبع ماء في منطقة المزيريب شمال درعا، وتضمن حماية قوافلهم وصولاً للمدينة المنورة، وتعدى ذلك لسن مواثيق وعهود تنظم عملية الإشراف على طريق الحج حتى أن توزيع الخانات بما تشمله من مرافق وأسواق كان منظماً بحيث يقام خان كل 50 كم وهي مسافة سير الجمل لمدة نهار كامل، وكان من ضمن تلك التحالفات قبائل أردنية أخرى منها على سبيل المثال لا الحصر : العمرو، وبني عطية وغيرها، وقد كان من أشهر الأمثلة على تلك التحالفات ما عرف بحلف الفحيلي الذي كان يتكون من السرحان والسردية والعيسى، ثم تشكل لاحقاً حلف جديد يضم العشائر المنطوية في حلف الفحيلي وصار يعرف بحلف أبناء الشمال بعد انضمام بني صخر، ونرى أثر هذه التحالفات في معركة الجابية، فيستحيل على كليب الفواز جمع 20 ألف مقاتل من قبيلة واحدة فذلك يعني أن عدد أفراد تلك القبيلة سيكون 100-200 ألف على أقل تقدير ولم تكن تتواجد قبيلة بهذا العدد في ذلك الوقت مما يثبت أن القوات المحاربة مع كليب الفواز كانت من أبناء كافة العشائر الأردنية المنضوية في الحلف ، حيث يذكر المؤرخون أن العشائر المتحالفة مع كليب كانت تسير باتجاهه ثلاثة أيام للوصول اليه والانضمام لقواته ودعمه في الوقوف بوجه العثمانيين في ذلك الحين[4].

 

 

الحقد العثماني على الأردنيين ما بعد ثورة الجابية :

لم ينسَ العثمانيون ثأرهم، وبقيت منطقة الأردن تعاني مزيداً من الإهمال والتهميش، بعد مقتل حسين باشا الفراري على يد كليب الفواز وقواته عام 1705 ، تم تعيين والي جديد هو سليمان باشا الذي عُرف عنه أنه رجل غير متطرف وليس قمعيا واستجاب لنصح مشايخ دمشق وعلمائها وأصدر عفواً عن كليب الفواز نتيجة حاجة العثمانيين لمن يستطيع ضمان حماية قوافل الحج والتجارة، فقد قام الوالي الجديد بزيارة كليب الذي كان قد تولى درك الحج (حمايته) في عدة مرات سابقا مقابل الحكم المحلي، وأرسل سليمان باشا عرضاً للحكومة بحسن حال كليب وأنه طاهر المجلس، وفي السادس عشر من ذي الحجة ورد فرمان بالعفو عن كليب، وذلك بعرض من والي الشام، فقد كان حماية طريق الحج مقياساً لنجاح الولاة أو فشلهم، ذلك أنه كان يضفي طابعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكانت الطريق على درجة عالية من الأهمية الاقتصادية، ذلك أن الكثير من أبناء المنطقة وتجارها، يعملون على توفير متطلبات هذه القافلة لمدة تزيد على شهرين، واجتماعياً حيث تعقد الأفراح عند عودة القوافل والحجاج المهملين بالهدايا والبضائع وغيرها، وسياسياً كانت المناصب والترفيعات تعلن بعد عودة القافلة، وعليه فقد كان هذا الفيصل في نجاح أو فشل الولاة والمناصب الأخرى.

لقد كان سليمان باشا من النوع الدبلوماسي وهو ما يبدو أنه كان سبباً في إنهاء خدماته خلال وقت قصير واستبداله بوالٍ آخر من النوع المتسلّط المفضل للعثمانيين وهو الوالي “نصوح باشا” كما صدرت الأوامر بأن يصبح  والي الشام هو أمير الحج وأن يترأس الحج الشامي الذي تمر طريقه بالأردن فعمل  نصوح هذا على استمالة “محمد الفواز” الابن الثاني لكليب الفواز وأغدق عليه من الهدايا والعطايا، واصطحبه معه في رحلات الحج.

كليب الفواز شهيداً برصاص الغدر العثماني بعد دعوته لخيمة الوالي

 وفي عام 1709 يوافق كليب الفواز على تلبية دعوة الوالي بإلحاح من ابنه محمد الذي تمكن من إقناعه، ويذهب برفقة 40 فارس من السردية، وفور دخوله خيمة الوالي يرديه شهيداً برصاص الغدر والخيانة، فنحروا عنقه وأرسلوا رأسه للقسطنطينية، ومن هنا جاء المثل الشعبي القائل : “جايب رأس كليب” و الدال بالطبع على القيمة العالية جدا لرأس كليب لدى العثمانيين وأهالي بالمنطقة مع اختلاف المشاعر بالطبع، وتقول الوثائق أن نصوح باشا لم يجرؤ على النظر نحو رأس كليب خشية النظر في عيناه، ولم يرد أي ذكر تاريخي لمحمد بن كليب الفواز بعد ذلك، وأغلب الظن كما تشير الروايات الشفوية أنه قضى غدراً إلى جانب والده في تلك الخيمة ذلك اليوم، فقد غدر به الوالي العثماني صديق الأمس وجز رقبته كما جز رقبة أبيه بعد أن غرّر به لاستقدام  والده الشيخ كليب الفواز.

عندما قام العثمانيون بتعيين نصوح باشا الوالي الجديد على بلاد الشام، حاول كليب تحريك حلفائه ضده، بل حاول قتل الوالي الجديد ، واستطاع دخول دمشق سراً وقابل حلفاءه التركمان، الذين لم يستطع نصوح باشا الحاق الأذى بهم مقابل تحالفهم هذا، خوفاً من بطش كليب ، إلا أنه نكل بهم وشتتهم وهدم بيوتهم بعد قتله لكليب عام 1709.

وقد انخدع محمد الكليب الفواز بالقناع الذي يرتديه الوالي العثماني بينما بقي الأب كليب الفواز يشعر بالمؤامرة التي يحيكها العثمانيون ضده للانتقام منه، وظل حذراً في التعامل معهم وكان على وشك القيام بثورة أخرى ضد نصوح باشا وقتله لولا أن ابنه أقنعه بأن الوالي لا يحمل ضده أي ضغينة، فقد عمل نصوح باشا على استمالة ابن كليب وضمه لحاشيته المقربة، وقد كانت هذه الخطة بداية لمقتل كليب، وقد دفع كليب حياته نتيجة لهذا، فقد تزامن هذا الكرم مع استصدار فرمان قبل ذلك بالعفو عن كليب من استنبول، وكانت هذه الخطوة الثانية التي انطلت على كليب واستبعاده لفكرة الغدر والخيانة من الوالي العثماني خاصة بعد صدور العفو، كما أن الأسباب التي دعت كليب  إلى الأمان تتعدى ابنه والعفو، فيضاف لها عامل ثالث هو طول المدة نسبيا بين معركة الجابية ومقتل الوالي العثماني عام 1705م، وبين استشهاد كليب وارسال رأسه إلى اسطنبول عام 1709م، وقد يضاف إليها شخصية كليب نفسه، ذلك أن قوته وكثرة جيشه قد أعطته الثقة بأن الوالي لن يقوم بالمخاطرة بمهاجمته وقتله، و لقد كان كليب الفواز مرهوب الجانب ونداً للعثمانيين بل أنه كان أقوى منهم بتحالفاته واستطاع هزيمتهم في معركة الجابية، بينما لم يقوَ العثمانيين على القضاء عليه إلا بالخيانة والغدر ولو كان في مواجهتهم وجهاً لوجه لاختلفت خاتمة المشهد.

نهاية نصوح باشا بنفس الطريقة التي اختارها لكليب

بقي نصوح باشا في مركزه والياً على دمشق عام 1714 حتى بلغه أنه قد سلبت منه مناصبه، وأن العساكر العثمانية قد وصلت لدمشق لقتاله، فهرب ولحق به العسكر، فقتلوه، ثم جزّوا رأسه، وسلخوه، وأرسلوه إلى أسيادهم، كما أرسل رأس كليب، مع الفارق أن كليب استشهد بطلاً، فقد قضى دفاعا عن الأردنيين وهمومهم ومعاناتهم تحت الاحتلال العثماني، بينما عاش نصوح باشا مجرماً وعميلاً لسلطة ظالمة وفُتك به وهو كذلك.

المراجع :

[1] ابن كنان ، يوميات ، ص 61

[2] ابن كنان  ، يوميات ، ص90-91

[3] ابن كنان ، يوميات ص 92-93

[4] ابن كنان ، يوميات ص 100

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص ( 161-179)، 2016.

الثورات الصغرى – معركة الجابية 1705

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع كبير وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى ( ثورة الأردنيين عام 1557- 1570)، في هذا البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ( ثورة الأردنيين عام 1670 ) .

 

تمهيد

لاحظ الاحتلال العثماني ومن أول عام أن طريق الحج مورد ثمين للأردنيين وقد مكنهم من انتزاع حكم محلي بالحقب الأيوبية والمملوكية ولذلك كانت أول قرارتهم نقل طريق الحج الذي كان مستقراً لآلاف السنين بمن يوفرون الخدمات عليه من تزويد ونقل شرقاً بحيث يتم التنازع على محطاته الأقل عدداً بين نفس عدد مشغلي المحطات، بالإضافة لانتزاع الجغرافية الدفاعية والكتل السكانية المعطية للأفضلية للأردنيين مقارنة مع الطريق المفتوح في الصحراء ومخافره المدججة بالسلاح والعسكر. لم يكن هذا ليمر مرور الكرام وخرجت عليه الثورة تلو الأخرى ابتداءًا من أول عام حاول فيها الاحتلال العثماني توسيع نفوذه على الأردنيين فرفضوا سلطته وتجهيله وضرائبه والعمل عنده بالسخرى إلى آخره مما حمله الاحتلال العثماني من ظلام على مدى أربع قرون.

حاول العثمانيون منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر التآمر على القوى العسكرية المحلية المتمردة ضدهم من أبناء عشائر الأردن والأعيان والوجهاء بدلاً من أن تعطيهم حكماً لا مركزياً من أبنائهم أو بالحد الأدنى تمثيلاً سياسياً في اسطنبول، وأن تستمر في الإشراف على تنظيم الحج لإضفاء الصبغة الدينية – عبر تجارة الدين – على حكمها، فقد كان الحج وسيلة اقتصادية ودينية لجمع المال والضرائب والتجارة، لذا كان لا بد للعثمانيين أن يخططوا لإخضاع قبائل المنطقة الممتدة على طريق الحج و التجارة، ولا سيما أولئك القائمين على طول طرق المواصلات الرئيسية إلى مصر، والديار المقدسة في الحجاز، إذ أن مهاجمتهم لقوافل المسافرين والتجار نظير مواقفهم السياسية التحررية والاستقلالية عن مظلة الخلافة المزعومة، كان يهز الحكم العثماني ويضعفه ويثير الأهالي والسكان ضده، لا سيما أن هذه الاعتداءات المتكررة كانت ردود فعل طبيعية على السياسة العثمانية المتبعة، وهي في غالبها تنطوي على مطالب عادلة ومشروعة، وتمثل وسيلة للاحتجاج والاعتراض على السلطة كما يحدث في الوقت الحالي من اغلاق طرق للاحتجاج على قرارات أو تصرفات أو لإيصال رسائل معينة للسلطة عندما لا يستطيع نقلها من ينوب عن المحتجين في المؤسسات المناطة بذلك، لا سيما وأن السلطة العثمانية لم تكن تؤمن بسياسة الاحتواء والحوار، بل فقط بسياسة دفع الضرائب وبيع التيمارات والمناصب كما تقدم أو التنكيل بالاستقلاليين كحل آخر.

طريق الحج، وسيلة احتجاج على ظلم السلطة وأول تطبيق عملي على ضرائب العبور الحالية

ونتيجة لما تقدم فقد اتبع العثمانيون أساليب متنوعة في التعامل مع هذه الاحتجاجات والحركات التحررية المتمردة، فكانت تحاول مهادنة العشائر واسترضاءها واستمالتها، فتعين المناصب وتهبها لشيوخ العشائر، لتسهل عملية السيطرة على العشائر والسكان عن طريق جعل شيخ العشيرة ذا نفوذ ومحاولة استغلال نفوذه، وليكون صلة وصل بينها وبين تلك القبائل واختارت أن يكون اسم هذا المنصب “شيخ عربان الشام”، كما أنها سجلت تلك العشائر وحددت أماكنها، وفرضت على بعضها الضرائب إلا أنها بالمقابل عملت على أن تدفع قدراً من المال للقبائل المتنفذة المتحالفة معها والقائمة على طريق الحج بما يعرف بالصرّة، والهدف المعلن من ذلك هو تأمين سلامة الحجاج أثناء مرور قوافل الحج من أراضي تلك القبائل في ما يعرف بضريبة المرور والعبور الممارس في المنافذ الحدودية والجمارك والمطارات حالياً، إلى جانب مساعدة القوافل في معرفة الطريق، وفي ذات الوقت كانت تنتفع هذه القبائل مادياً بتقديمها الجمال لنقل الحجاج ، فكان الموضوع عبارة عن حركة اقتصادية هائلة يرافقها التجار للتجارة والكسب، الى جانب قيامهم بفريضة الحج أحياناً، وقد يتخيل القارئ للوهلة الأولى أن العثمانيين إنما كانوا يقومون بدفع ذلك في إطار حمايتهم لرحلة الحج المقدس أو حمايتهم للإسلام، إلا أن ذلك في حقيقة الأمر كان تغليفا رائجا للتجارة بالدين وأهم مصادر دخل الدولة العثمانية، فهي تجني الضرائب من العشائر ومن الحجاج بشكل مستمر بدون إنشاء طرق ملائمة أو حتى حماية القوافل التجارية وقوافل الحجاج بشكل فعلي، وبجزء من هذه الضرائب تقوم بدفع رسوم العبور للقبائل المسيطرة على طرق التنقل الرئيسية، بينما يخصص الجزء الأكبر للدولة، عدا عن الفساد الكبير في آلية جمع تلك الضرائب عبر مختلف المناصب في الدولة العثمانية، والضحية والخاسر الأكبر هم السكان في المناطق المهمشة.

ورغم كل ما تقدّم ذكره لم تنفك القبائل عن مهاجمة القوافل وأمراء الحج العثمانيين، ويرجع ذلك في الدرجة الأولى إلى أن أمراء الحج العثمانيين كانوا  يمتنعون في كثير من الأحيان عن دفع الصرر للقبائل نظير السماح بعبورهم ومساعدتهم في الطريق وتأجيرهم الجمال ويحتفظون بها لأنفسهم، فكانت العشائر تحاول الانتقام بالسيطرة على القوافل ومصادرتها لاسترداد حقوقهم المسلوبة، إضافة لاستمرار عملية تهميشها وعدم التعامل معها إلا كمزرعة لجني الضرائب من خلال الهجمات العثمانية عليها، فاستخدمت هذا الخيار كأفضل رد على سياسة الإقصاء العثمانية، وهذا كله تتحمل مسؤوليته الدولة العثمانية نتيجة لانعدام العدالة وعدم وجودها الفيزيائي كدولة بالمفهوم الحقيقي للكلمة، انما عبر منظومة حكم بالوكالة والتمييز، فتأخذ الضرائب من جهة وتدفعها لجهات أخرى لشراء ولائها ورضاها، بينما لا يحصل دافعو الضرائب إلاّ على المعاناة والشقاء، فتصبح الغلبة للأقوى، وهذه أشبه بالغابة من كونه دولة، وعدا عن مهاجمة القبائل بمبررات عدة ولمرات متعددة فإن الأداة المفضلة للعثمانيين كانت التحريض بين القبائل بعضها ببعضها و زرع الفتن بمبرّر أو بدونه، وحينما يشعروا أن قبيلة ما قد زادت قوتها عن قدرتهم على المواجهة، يلجأ العثمانيون للمهادنة والمصالحة معها واشغالها في حرب ضد قبيلة متمردة أخرى.

ظهور ارشيد بن سلامة الفواز وفترة التحالفات

ومع بداية القرن السابع عشر، ظهر ارشيد بن سلامة بن نعيم بن سلامة الفواز، وبدأت فترة حكمه عام 1600 وكانت هذه الفترة فترة تحالفات وصراعات للسيطرة على المنطقة بين عشائر المنطقة وكان العثمانيين في الأعلى ينظرون لهذه الصراعات ويحاولون تغذيتها وتأجيجها بين العشائر، فقد كان فخر الدين المعني ذو أطماع في منطقة عجلون التي كانت تحت إمارة الغزاوية، وكان الفواز في حوران الأردنية وإمارتها لهم، وينازعهم عليها الصقور، واستقرت الأمور للفواز في النهاية حيث سيطروا على إمارة حوران ومنافع طريق الحج وصولاً لبادية الأنباط الجنوبية قرب تبوك، وقد استطاع الفواز الاحتفاظ بسيطرتهم على طريق الحج بالتعاون مع تحالف من العشائر الأردنية بحيث تم وضع حد للفتن التي انتفع منها العثمانيون، إلا أن ذلك لم يرق للسلطان  فأصدر فرمانه في أواخر 1648 إلى والي الشام بعزل “شيخ الشام ابن رشيد” (وتلفظ على وزن فعيل) ومنعه من التدخل في الحج والحيلولة دون استمراره في السلطة.[1]

حمد بن رشيد وثورة 1670

وبعد وفاة الشيخ رشيد واستلام ابنه حمد، توترت العلاقات أكثر بين تحالف العشائر الأردنية والعثمانيين، حيث قام حمد بن رشيد أمير حوران في عام 1670 بتحضير جيش وإعلان مناطق نفوذه محرّمة على العثمانيين، لكن قافلة من القوافل العثمانية لم تظن أن تهديده كان حقيقيا وجاهزا للتنفيذ خاصة مع قرب قوات الاحتلال العثمانية في دمشق، فدخلت القافلة حوران في المكان المعروف بالصافي، فهاجمها الأردنيون بقيادة الشيخ حمد بن رشيد معلنينها ثورة مسلحة على الوجود العثماني بالأردن.

ظفر الأردنيون بالنصر في ذاك الاشتباك وصادروا الكثير من السلاح والذخيرة. في هذه الأثناء كان حاكم عجلون هو موسى بن محمد المعروف في ذاك الوقت بابن تركمان. ولتخفيف خسائرهم من التماس المباشر مع فرسان العشائر الأردنية لجأ الاحتلال لحيله المعهودة حيث نقل الصراع ليصبح بين ابن تركمان حاكم عجلون وقتها وبين الشيخ حمد بن رشيد بعد أن كان بينهما سابقاً مؤاخاة ومودة وعهود، فحرّض العثمانيون موسى على محاربة حمد بن رشيد، وبعد رفض فرسان عشائر عجلون المضي معه في حرب ضد أبناء عمومتهم من الأردنيين جمع العثمانيين له قوات من دمشق ونابلس والقدس والعديد من القوات المرتزقة من جنوب شرق اوروبا، وخرج الجيش العثماني وتقابل الطرفان في مكان قريب من نهر الزرقاء.

9.indd
نهر الزرقاء – 1900 م

فوقعت بينهما حرب عظيمة ودخل الأمير موسى في المعمعة يحث عساكره على القتال وقد قتل جماعة من مقاتلي حمد بن رشيد فطعنه أحدهم برمح أرداه به فوقع قتيلا عن جواده وكان الأمير حمد بن رشيد قريباً من موقع مقتله فلما رآه قد سقط بادر إليه يظن أنه لم يمت فلما رآه قد مات علم أن العسكر العثمانيين والمرتزقة المحاربين في صفوفهم لن تقوم لهم قائمة فولوا هاربين، فأمر قواته بالكف عنهم واشتغل الصديق بأمر صديقه السابق الذي خسره بسبب الفتنة العثمانية، وعظم مصابه به وأخذ يندبه ويبكيه، وقيل عنه أنه كان يقول: “إن حزني على موسى لا يذهب مني أبداً” ولقد قتل من جماعته أخوان وهرب بنوه وبقية أخوته وكان قتله في سنة 1670.

حققت الثورة النجاح لفترة وجيزة اذا بقيت الأردن محكومة محلياً من قبل الفواز لمدة تسعة أعوام لا يستطيع العثمانيين دخولها. وضع العثمانيون الجائزة تلو الأخرى لمن يرسل لهم رأسه، ولم يظفروا به حتى ساقته المقادير إلى أجله برحلة كان يقوم بها إلى نواحي بغداد فنزل عند رجل غدر به فتوفي في سنة 1679 ليعود العثمانيين الى سابق عهدهم بتهميش ونهب الأردن حتى ثورة أخرى. [2]

المراجع: 

[1] بيات ، الدولة ، ص99

[2] : rafeq, the province p55,56

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (112-160 )، 2016.

الثورات الصغرى – ثورة الأردنيين عام 1670

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى . 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى (معركة الجابية )، في هذ البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن معركة المزيريب الثانية عام 1760.

تمهيد

حتى نستطيع فهم هذه الثورة و أسبابها فإنه من المهم استعادة السياق التاريخي لها من خلال ايجاز ثورة الأردنيين السابقة لها عام 1705، حيث اجتمع الأردنيون مرة أخرى على زعامة الفواز لانتزاع حكم محلي يلبي طموحاتهم ويكون منهم، قريباً من احتياجاتهم، بعيداً عن اذلال الضرائب الجائرة تحت تهديد السلاح بلا أي مردود وبدون أي تمثيل سياسي. كان كليب بن حمد الفواز زعيماً حكيماً، ارتأى عدم الدخول بمعارك غير مدروسة وكان يرى بوضوح سياسة الاحتلال العثماني بإثارة الفتن بين زعامات العشائر المتحالفة وغير المتحالفة معه فأحبطها ووسّع من تحالفاته التي غطت الأردن التاريخي كاملاً من بادية الأنباط جنوباً وحتى حوران ومن نهر الشريعة (الأردن) إلى الجوف. وبعد أن اشتد بأسه وفاق جيشه العشرين ألف مقاتل من فرسان العشائر الأردنية سيَر جيشه المكون من 20 ألف فارس باتجاه منطقة الجابية شمال المزيريب في شمال حوران وذلك لترسية حدود الإمارة المأمول انشائها للأردنيين، وكان بين الجيش 4 آلاف جندي من حملة الدروع على ظهر خيولهم. قابله بمعركة الجابية الوالي العثماني في دمشق مع جيش جله من المرتزقة من جنوب شرق اوروبا عداده عشرة آلاف جندي من حملة الدروع، فتم الحاق الهزيمة بهم وقتل والي دمشق العثماني على يد أحد فرسان العشائر الأردنية. 

وفي ظل توحد الأردنيين خلف استقلالية أرضهم، فشلت كل محاولات العثمانيين بإثارة الفتن بين العشائر وعقداء الخيل في جيش الفواز. فلجأ العثمانيون لحيلتهم المعهودة التالية وهي وضع جائزة لمن يحضر رأس كليب الفواز، وظلت الجائزة تزيد حتى وصلت الى ألف ألف آقجة ولكن حتى مع قيمة الجائزة المرتفعة جدا لم يخنه أحد من أبناء وطنه. لكن الاحتلال العثماني انحدر أكثر من ذلك فأرسل إلى ابن كليب الفواز مرسالاً مفاده أنه يريد مفاوضته على شروطه في حكمه المستجد، فذهب ابنه الى دمشق بالسر فقاموا باستغلال الدين ليبرووا ضرورة التفاهم مع أبيه كليب وذلك بأن تنسيقاً بشأن الحجاج يجب أن يحصل لمصلحة الحجاج. وهكذا وبعد غسل دماغ الإبن بالمتاجرة بالعواطف الدينية ذهب فأقنع أبيه بأن الوالي في دمشق رجل يغار على الدين والحجاج وأنه شخصياً حلف له بأمان الشيخ كليب خلال دخوله دمشق، لم يقتنع الشيخ كليب بذلك ولكنه أمام الحاح ولده قَبِل بأن يلتقي والي دمشق قرب الجابية سنة 1709، أي بعد أربعة أعوام من إمارته الناشئة. وكما كان كليب يعتقد فما أن دخل خيمة الوالي حتى وجد مئات الجنود يختبئون خلفها فقطعوا رأسه ورأس ابنه وأرسلوهم الى استنبول للتقرب للسلطان والحصول على المكافأة على رأسه. ومن هنا خرجت المقولة المؤرخة لمقدار الجائزة والقائلة “جايب راس كليب”.

الحقد العثماني لم يرتوِ من دماء نسل كليب الفواز

 كان اجماع الأردنيين على زعامة بني لام (أجداد المفارجة، أجداد السردية، أجداد الفواز) كحكام محليين من داخل الأردن مصدر قلق للعثمانيين الذين رأوا بالأردن أرضاً مكلفة لحكمها بالتواجد الفعلي ولكنها غنية بما يكفي أن يسيروا لها جباة الضرائب المحميين من العسكر لفترات قليلة التكلفة. وكما كل زعامة عشائرية أخرى حاولت انتزاع حياة كريمة من احتلال استعماري، جلب هذا لهم الاغتيال والقتل والتطهير العرقي.

فلم يكتفِ المحتل العثماني باغتيال كليب الفواز غدراً وخسةً في خيمة الوالي العثماني عام 1709، وبقي يحاول الانتقام من كل ما هو مرتبط به، فبعد انتقال الزعامة لإبنه الظاهر بن كليب الفواز ترك العثمانيين الأمر يبرد قليلاً ثم حاولوا شراء ولاءات العشائر المتحالفة مع الفواز وعندما فشلوا سيروا جيشاً كبيراً باتجاه المزيريب ليلاً لتتم عملية تطهير عرقي لعشائر السردية عامة والفواز خاصة (في ذلك الوقت كانوا يدعون بالكليب نسبة إلى كليب الأول والد ظاهر الذي قتل في هذه المعركة) والقضاء على زعامة الفواز عام 1718، ولم ينجُ من تلك المجزرة أحد من ذرية كليب الفواز، إلا حفيدين طفل سمي كليب (كليب بن ظاهر بن كليب) [1] وطفلة سميت برقا، وتم تهريبهما لنواحي المدينة المنورة بعيداً عن من يمكن أن يعرفه ويدل مرتزقة الاحتلال العثماني من صائدي الغنائم عليه.

الهروب بكليب الثاني (كليب الصغير إلى المدينة المنورة)

كما أسلفنا وبعد انتهاء المعركة لم ينجُ من نسل كليب الفواز سوى طفل صغير هو “كليب الثاني” وطفلة تفوقه سناً اسمها برقا، قام أقاربهم والمحيطون بهم بالهروب بهم نحو المدينة المنورة والاستجارة بأحد القبائل الشهيرة هناك والتي ما تزال قائمة في الحجاز حتى يومنا هذا، وكانت “برقا” تبلغ من العمر نحو 14-15 ربيعاً، وكان الهدف أن ينتظر الجميع إلى أن يكبر كليب الصغير وبرقا ويقوموا بتزويجهما للحفاظ على نسل العائلة.

 قامت القبيلة الحجازية المذكورة بإجارة كليب الصغير والمرافقين له الذين دخلوا عليهم، لكن الخذلان أتى لاحقاً، فقد استطاعت إحدى النساء المحيطات بشيخ تلك القبيلة الحجازية، أن تخلق فتنة وتفتح للشر بابًا، عندما وسوست له بالزواج من الفتاة الطفلة “برقا”، ضاربين بذلك كل مخططات العائلة التي تحاول الحفاظ على نسل زعيمها، فتقول المرأة للشيخ بأنها قد شاهدت مهرة لا تصلح لسواه، فيجيبها متسائلاً إن كانت هذه المهرة تأكل بيدها أم تأكل بفمها (للاستدلال ان كانت فتاة أو فرساً)، فتجيبه بأنها فتاة تأكل بيدها وأنها شديدة الجمال، فينادي الشيخ كبير قوم الشهيد كليب الفواز في ذاك الوقت ويعرف تاريخيا بـ “ابن شيبانة”، فيجيبه ابن شيبانة بحكمة ويخبره بأنهم قوم مكسوري الخاطر وأنهم ينتظرون عيد الأضحى للتضحية عن شهدائهم ومن فقدوهم في الإبادة العرقية التي تعرضوا لها، وعليه يطلب المهلة إلى ما بعد العيد  و “بعدها يصير خير”، وذهب ابن شيبانه لقوم كليب وأخبرهم أن من لا يملك منهم رحولاً (ناقة) فليشتري واحدة له، ومن لا يملك ماءاً فليصنع صملاً، لأنهم سيعودون لموطنهم في الأردن ففعلوا وأعدوا العدة، فلما جاء  العيد ذبحوا  وضحوا لأهل كليب وأهل برقا، فقال ابن شيبانة للسردية، ارحلوا فرحلوا لمسافة 3 أيام، وذهب ابن شيبانة على شيخ القبيلة، وبقي يسهر معه طوال الليلة التي تسبق موعد الزفاف بيوم، وبقيا في سهرهم هذا حتى الصباح، وكلما اقترب الشيخ من أن يغفى شاغله ابن شيبانة بالأحاديث، وعندما جاء الصباح ولم يستطع شيخ القبيلة الاحتمال على السهر أكثر وغلبه النوم، ركب ابن شيبانه فرسه “الطرما” وكان قد طلب من قومه أن يضعوا لها الماء والعلف على الطريق في نقاط محددة ومتفق عليها، واستطاع بذلك اللحاق بهم، وعندما استيقظ الشيخ العريس لم يجد سردية ولا عروسا ولا ابن شيبانة، فجمع قومه وجهز جيشه وحاول اللحاق بهم، ولكن دون جدوى، ونجح الجمع بالعودة للأردن وبعد سنوات تزوج كليب من برقا، وتجاوزا المحنة والظروف الصعبة التي مروا بها.

%d8%ac%d8%a7%d9%86%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ba%d8%b1%d9%89

 معركة المزيريب الثانية عام 1760

تعرضت جميع قيادات الأردنيين الثائرة ضد الاحتلال العثماني للقمع والإبادة كما اتضح لنا من سياقات الثورات الصغرى ومن ضمنهم نسل كليب الفواز من السردية الذين تعرضوا لعملية تطهير عرقي وإبادة جماعية عام 1718، عندما قام العثمانيون بمهاجمتهم ليلاً والقضاء على عائلة الفواز في معركة المزيريب الأولى ، ولم يبقَ من هذه العائلة إلاّ حفيد كليب، حيث تفرقت أعداد السردية بشكل أو بآخر، لكنهم بقوا أقوياء في حدود العشيرة ومرهوبي الجانب، بعد أن كانوا زعماء لتحالفات العشائر وتسيطر تحالفاتهم على طريق الحج بأكمله، وأخذت حينها العديد من القبائل تتنافس على زعامة المنطقة، وعلى مصادر القوة ومكسب المعيشة الوحيد المتوفر ألا وهو طريق الحج، في ظل عدم وجود دولة ونظام بالمعنى الحقيقي للكلمة.

لم ينسَ الأردنيون الثأر وذكرى الإبادة الجماعية التي تعرض لها أسلافهم و زعامة حلفهم الوطني، فأعادوا ترتيب الصفوف و تدريب المقاتلين و تنشئة الفتيان على الفنون القتالية و مبادئ الفروسية، واضعين نصب أعينهم اليوم الذي سيضعهم في مواجهة مع القوة العسكرية للاحتلال العثماني، وانشغل عقداء الخيل بتجهيز الفرسان وتسليحهم بعيدا عن أعين السلطة العثمانية، فأعدت الخطط واشتعل الإصرار في نفوس الفرسان على أن يكون الموقع المخضّب بدماء أجدادهم وآبائهم هو ذات موقع الثأر، والواضح حسب الوثائق أن التخطيط استمر لسنوات بهدوء و روية وكتمان، اذ لم تتوقع السلطة العثمانية أن حلف العشائر الأردنية والسردية خاصة قادرون على القيام مجددًا والتقاط أنفاسهم، فوضعت ملف هذا الحلف الأردني الذي كلفهم سنوات من المواجهة و الاسترضاء و سياسات الخدع و التحايل و من ثم نصب الكمائن و الغدر العشيرةح وضعته بصفحاته بعيدا في غياهب النسيان.
وبعيداً أيضا عن مراكز سلطة الاحتلال العثماني كانت الصحراء الشمالية الأردنية تشهد إعادة ترتيب للأوراق وعقد للأحلاف العشائرية الأردنية وفنجان الثأر من المحتل يدور على عقداء الخيل يشربونه واحداً تلو الآخر في بيوت شيوخ العشائر الأردنية التي أعادت الانضمام للحلف ذاته، وعلى حين غرّة وصلت أنباء حشود فرسان العشائر الأردنية بقيادة السردية للباب العالي ما شكّل حدثا صادما للإدارة العثمانية التي وجهت جحافلها العسكرية للمواجهة، واستباقا للموقف كان السردية قد قادوا مقاتلي الحلف واختاروا ذات موقع المجزرة ليكون موقع المواجهة، وحين اللقاء كانوا قد استطاعوا أن يقتصوا من العثمانيين في معركة المزيريب الثانية التي حدثت عام 1760، ولقنوا العثمانيين درسا قاسيا في فنون المواجهة المباشرة بلا غدر أو خيانة، وكانت الصدمة قاسية مع خسائر فادحة أرّقت مضاجع الوالي العثماني في دمشق، اذ استيقظ على نبأ مقتل أكثر 1500 جندي عثماني خلال معركة دامت لفترة قصيرة جدا كانت الروح الوطنية الاردنية صاحبة الغلبة فيها والانتصار.[2]

وعلى الرغم من أن هذه الثورة لم تستطع انتزاع حكم مركزي للأردنيين مجدداً، إلا أنها بقيت نقطة انتصار مضيئة في تاريخ مسيرة الاستقلال لدى الأردنيين، وتركت أثرها في نفوس العشائر الأردنية – حيث اشتعلت بعد سنوات قليلة ثورات البلقاء والكرك – والتي أكدت من خلالها على الطموح الجمعي المشترك لدى الأردنيين بالوصول للاستقلال النهائي والتام الذي تكلّل لاحقا بسيل جارف من الثورات الصغرى عبر الأرض الأردنية، كانت ذروة درب التحرير فيها انطلاق الثورة العربية الكبرى وتطهير الأرض الأردنية من براثن الاحتلال العثماني.

المراجع:

[1] ابن كنان ، يوميات ، ص 302 ، أبو الشعر ، تاريخ ، ص 94

[2] فريدريك بيك، تاريخ شرقي الأردن، ص 353

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (112-160 )، 2016.

الثورات الصغرى – ثورة 1760

Scroll to top