عثماليكس – الجزء 5 : معارك معان وفق مذكرات ضابط تركي

 

image1

 

تناولنا في نهاية (الجزء السابق) عن معارك معان وفقا لما كتبه مدير شعبة الاستخبارات في القوة التي كانت تحتل مدينة معان في رسالة وصف بها المعارك التي دارت حول تلك المدينة بين قوات الثورة من جهة والأتراك مع من ساندهم من الألمان والنمساويين من جهة أخرى ، و نستمر في هذا الجزء بوصف المعارك التي جرت حول معان وذلك من خلال وثيقة جديدة هي عبارة عن مذكرات ضابط تركي ،  يظهر فيها اعترافات الأتراك ببسالة قوّات الثورة و فرسان العشائر الأردنية وشجاعتهم واقترابهم الكبير من تحقيق الانتصار وتحرير المدينة في ظل ضعف القوات التركية امامهم ثم الانسحاب التكتيكي المفاجئ للثوار بعد ذلك :

يقول الضابط في مذكراته :

“علمنا في أول شباط ١٩١٨ من أقوال عيوننا وأرصادنا أن  قوات الثورة تعد العدة للهجوم على معان، وأنها قررت نسف الخطوط الحديدية شمالاً وجنوباً وتدمير الجسور بالديناميت ليحول دون وصول الذخيرة والعتاد الى القوات التركية في الجنوب بحيث يحملها على الاستسلام وأرسل محمد جمال باشا في طلب الإمدادات والنجدات لأنه اعترف بعجزه عن المقاومة وكان اليأس قد  سرى إلى نفسه أن يذهب بنفسه الى دمشق ليتصل برجال القيادة ويفاوضهم ويطلعهم على الحالة ويسعى لاستقدام قوات جديدة.

لكن سعيه جاء بعد أوانه فلم يكد يغادر معان حتى أخذت قوات الثورة بمضايقتنا، ودارت معارك بيننا وبينهم حول محطات السكة خلال شهري آذار ونيسان وكان النصر فيها سجالاً، فيوم لنا ويوم لهم وربما كان أعظمها شأناً معركة المدورة فقد التحم فيها الفريقان بالسلاح الأبيض وكان الثوّار يظهرون بسالة خارقة” .

133
قوات الثورة تصعد إحدى المرتفعات الجبلية في طريقها إلى معان لتطهيرها من الحامية التركية فيها

 

معلومات سرية ومخاوف وقرارات متأخرة

يتحدث الضابط عن المخاوف التركية مما وردهم من انباء عن طريق جواسيسهم ، حول تقدم الثوار باتجاه معان ونيتهم تحريرها ، وان قوات الثورة أعدت عدتها ووضعت خطتها الرامية لعزل القوات العثمانية الموجودة في معان عن الإمدادات العسكرية في الشمال والجنوب ، كما يتحدث عن تأخر وصول الإمدادات نتيجة لعدم أخذ القيادة العثمانية والألمانية لنداءات الاستغاثة على محمل الجد (كما جاء في الجزء الثالث  ووصفها من قبل القائد الالماني للقوات العثمانية بأنها من قبيل المبالغة العثمانية المألوفة) ، مما دفع قائد قوات الاحتلال العثمانية في معان محمد علي باشا للذهاب بنفسه الى دمشق، والتفاوض مع الضباط والقيادات هناك ، إلا أن ذلك حدث بعد فوات الاوان ، فمع مغادرته وصل الثوار وفرسان العشائر الأردنية لمشارف معان وبدأت معارك التحرير ، فكانت الحرب سجالاً ، ونلاحظ إشادة الضابط في مذكراته ببسالة الثوار وامتداحه شجاعتهم، وهذا شهادة حق من ضابط في الطرف المقابل.

346
قوات العشائر الأردنية قرب إحدى المرتفعات الجبلية في طريقها إلى معان لتطهيرها من الحامية التركية فيه

يستكمل الضابط في مذكراته :

“ولا أذكر جيدا تاريخ اليوم الذي ابتدأ فيه هجوم قوات الثورة على معان، وإنما أظنه وقع بين 5– 6  نيسان، فقد أخذت مدافعهم تطلق نيرانها بشدة على جبال سمنة وهو خطنا الأمامي وبينما كان جيشهم يدخله في المساء سمعنا أصوات الديناميت تقصف كالرعد من شمال وجنوب، ورأينا القضبان الحديدية تتطاير فأدركنا خطورة الموقف وعرفنا أننا اصبحنا في عزلة عن العالم، واستأنف جيش الثورة القتال في الغداة فأمطر خطوطنا الأمامية نيراناً حامية ثم هجوم المشاة تشد أزرها القبائل الأردنية فاستولوا بعد مقاومة طفيفة على المرتفعات القائمة بين معان وسمنة والمرتفعات الواقعة جنوبي المحطة ومركز القيادة التركية وكان نصرهم عظيماً في ذلك اليوم فقد صارت معان وسمنة تحت رحمة مدافعهم التي نصبوها في جبل سمنة كان رصاصهم يصل أيضا إلينا، فتراجعنا على إثر ذلك إلى الخنادق المجاورة وحشدنا قواتنا في خط الدفاع الأخير من المحطة وأقمنا في الخنادق الشرقية والأرض هناك منبسطة نحو 300 جندي للدفاع اذا حصل وهاجمتنا قوات الثورة من هذه الناحية مع مدفع واحد.

42
إحدى عمليات تفجير سكك خط القطار العسكري العثماني أثناء العمليات العسكرية لتعطيله و وقف استخدامه لتموين الحاميات التركية المتحصنة في معان و الأزرق

وكانت قواتنا في معان منقسمة إلى قسمين : قسم البلاد وقسم المحطة، وتتألف القوة الأولى من فوج مشاة لديها ٤ رشاشات ومدفعان نمساويان سريعا الطلقات يشد أزرهم فرسان العشائر المتطوعين من البلد وقد انضموا مع نسائهم للجيش وعددهم 300.

وتتألف قوة المحطة – وتبعد نحو نصف ساعة من البلدة – من فوج مشاة و ٨ رشاشات مع مدفعين نمساويين ومدفعي صحراء وآخر من الطراز القديم وقد نصبوها في الجبال المطلة على المحطة وفي الهضاب الممتدة على طريق معان وشرقيها ( المحطة ) وجنوبها وشمالها ويقود هذه القوة القائم مقام علي وهبي بك، وأصبحنا في اليوم الثالث ونحن أمام قوات الثورة وجهاً إلى وجه – يروننا ونراهم على مسافة 200 – 300 متر، وكانت قنابلهم تتساقط علينا كالمطر ونحن في الخنادق فلا نستطيع أن نرفع رؤوسنا مخافة ان يصيينا طلق ناري، واستنجد قائدنا بدمشق والمدينة أيضا طالباً إمدادات سريعة فأجابه فخري باشا من المدينة بأن امداده له هو الدعاء إلى الله بنصره وقالت القيادة العثمانية في دمشق يجب أن لا تستسلموا للعدو إلاّ جثثا هامدة، وبدأت قوات الثورة في صباح اليوم الرابع بهجوم على جميع المناطق من الميدان وكانت مشاتها تتقدم ببطء، وقد بلغ بعضها خنادق الترك ولكنها ما كانت تثبت في الميدان لعجزها عن مجاراة النظاميين فتراجعوا أمام نيران الترك ولا سيما رشاشاتهم فكانت تصليهم نارا شديدة – رغم تساقط قنابل مدفعية الثورة عليها.

134
خط سكة الحديد – محطة معان و يظهر منزل المهندس الألماني مايزنر – مهندس السكة – مع العلمين التركي و الألماني مرفوعين بجانب المحطة

واستولت قوات الثورة بعد نضال عنيف على آخر هضبة بجوار المحطة وأصبحوا يسيطرون على الساحة وكانت حالتنا سيئة جدا في اليومين الخامس والسادس فقد قلت مسيرتنا وكنا نوزع قطعة من الخبز المجفف مع قليل من الزيتون على الجند كما صدر أمر الى المدفعيين والمشاة بالاقتصاد في انفاق القنابل والرصاص لنفاذ المدخر لدينا.

وقد كنا في حالة يرثى لها لفقد القوة الأدبية ( المعنوية ) وصرنا عاجزين عن القيام بأقل حركة أمام قوات الثورة الزاحفة وأنهكنا التعب داخل خنادق لم تكن مبنية على الطراز الحديث . 

الحامية العثمانية تختبئ في الخنادق تحت وابل نيران  قوات الثورة

يصف الضابط مجرى الأحداث وكيف دارت المعارك، وعن هجوم قوات الثورة العربية الكبرى ومشاركة العشائر الأردنية فيها واصفا الدور الكبير للعشائر بأنها كانت تشد أزر الثوار ، وذلك خلال معارك تحرير معان من الاحتلال العثماني ، حيث يصف أدق التفاصيل المتعلقة بالمعركة ابتداء من تطاير قضبان السكة الحديدية، ووصولا لتعداد الأسلحة والمدافع الالمانية والنمساوية وعدد القوات التي تهاوت واختبأت في الخنادق المعدة المبنية بطريقة سيئة، نتيجة للضغط والكثافة النارية التي كان تحارب بها قوات الثورة، مما استدعى العثمانيين للانسحاب للخطوط الخلفية واتخاذ اوضاع دفاعية.

طلب النجدة من القيادة العثمانية والرد : لا نملك لكم سوى الدعاء

يصف أيضاً عجز القيادة العثمانية الألمانية عن إرسال أي دعم يذكر لقواتهم المحاصرة والمتهالكة تحت قنابل وصليات قوات الثورة، رغم محاولات الإغاثة واستجداء النجدة المتكررة من قبل قائد الحامية، إلاّ أن محاولاته كلها باءت بالفشل، بل يأتيه الجواب من فخري باشا المحاصر كذلك هو وقواته في المدينة المنورة في صيغة لا تخلوا من التهكّم ، بأنه لا يملك له من مساعدة سوى الدعاء،  ومن دمشق لم تصلهم إلا الأوامر بعدم الاستسلام والموت جثثا هامدة في صيغة لا تخلوا من اليأس ومعرفة اقتراب المصير، وهو ما تسبب بانهيار المعنويات في صفوف القوات العثمانية في معان، التي أنهكها التعب داخل الخنادق ، وأخذوا يتقشفون ويرشّدون استهلاك الغذاء والسلاح.

يكمل الضابط :

“واشتدت مضايقة الثوّار لنا حتى أصبحوا على بضع خطوات منا وكانوا يصلونا نارا حامية من مدافعهم ورشاشاتهم وكان رصاصهم يتطاير من الشبابيك والنوافذ فيدخل الغرف، كما تسلل بعضهم الى داخل المحطة، فاستدعينا القوة التي كانت في الجبل حينما رأينا اشتداد الحال فجاءت وطردت مقاتلي العشائر من حول المحطة، ولولا وصولهم لاستولوا عليها ولزادوا قوانا الأدبية وهناً على وهن.

ولإنعاش هذه القوى وتنشيطها أذعنا بلاغا قلنا فيه إنّ الفيلق الثامن الذي يتقدم من القطرانة لانجاد معان صار قريباً وأنه سيدخلها ليلاً.

وصل هذا البلاغ جنودنا في الخنادق وأنعشهم وظهرت عليهم علائم السرور واخذ بعضهم ينبيء بعضاً : إنّ النجدات تاخرت لأسباب قاهرة وفي اليوم السابع أخذنا إشارة لاسلكية من القيادة أنها أرسلت فوجاً مع عتاد وميرة ومدفعي صحراء لإنجادنا وأن قوات الفيلق الثاني بقيادة الأمير آلاي دلي شوكت أرسلت الى محطة القطرانة لتعزيز قوات المحطات بين القطرانة ومعان ولصيانة طريق المواصلات ولمنازلة قوات الثورة وقد بدأت كتائبها تهاجم المحطات بعد احتلال الطفيلة.

وفي ذلك اليوم وقبل وصول برقية القيادة المنشورة آنفاً أرسل علي وهبي بك الى الناصرة (مقر القيادة العليا للجيش التركي في بلاد العرب يومئذ) وإلى دمشق يقول فيها :

أن الذخيرة نفذت من مستودعات الجيش حتى لم يبق للجنود سوى خمس رصاصات وللمدافع سوى عشرين طلقة، وودع القيادة بعبارة مؤثرة “إنّ هذه آخر برقية أرسلها” وفعلا أمـر بإنزال عمود اللاسلكي، فأنزل، وأمر بإعداد المعدات في المحطة لنسفها ونسف المحطة في الصباح حتى لا يستلمها العرب حين دخولهم، وأبلغ الجند بأن يستعدوا المقاومة في السلاح الأبيض وأمر بدفن مال القيادة وكان لديها كميات من الذهب في حفرة يؤشر عليها إشارة سرية بعد دفنها، كما قرر حرق علم القيادة فلا يغنمه العدو.

وأشرقت شمس اليوم الثامن والثوّار يمطرونا نارا حامية شديدة كما كانت فقلنا أنها مقدمة هجوم عام على معان و أن انتصاره مؤكد وقد قررنا المقاومة بالسلاح الأبيض وعشنا في تلك الليلة أكثر من ساعتين أو ثلاث خوفاً من هجومهم وكنا ننتظر الدقيقة الرهيبة دقيقة المعركة الفاصلة حيث اشترك الجيشان بالسلاح الأبيض ولكن نيران العرب خمدت بعده”.

135
أحد المخافر التركية التي تم تدميرها من قبل قوات الثورة بعد تطهيرها من الحامية التركية في إحدى المناطق جنوب معان

الدعاية العثمانية الكاذبة

يصف الضابط اشتداد المعركة واقتراب المقاتلين العرب الشديد من القوات التركية المختبئة داخل المحطة ، وتطاير الزجاج عبر النوافذ ودخوله الغرف  وحالة الرعب التي كانت بها الجنود العثمانيين وقد كاد العرب يسيطرون على المحطة ويزيدون من انهيار معنويات الجيش العثماني لولا تدخل فرقة عثمانية كانت متمركزة على جبل مجاور.

كما يعترف باستخدامهم الأكاذيب لبث روح معنوية في جنودهم اليائسين، من خلال إذاعة بيان كاذب عن اقتراب وصول الامدادات، وهو ما لبث أن انتشر بين الجنود الذين اخذوا يتداولونه ويقاتلون بشكل أفضل مما سبق هذا البيان ، وتزامن هذا البيان في ذلك الوقت مع ارسال القائد العثماني لحامية معان علي وهبه بك برقية عاطفية يعلن فيها نهاية المعركة ونفاذ الذخيرة وأنها ستكون آخر برقياته ، تلا ذلك بعدها تجهيز معدات الإذاعة والمحطة و راية القيادة العثمانية للنسف والتدمير و الحرق لعدم افادة الثوّار منها في حال انتصروا ، وذلك يبرهن على شدة الوهن والضعف الذي كانت تمر به القوات العثمانية المحاصرة في معان في ذلك الوقت ، وشعورهم المؤكد بدنو أجلهم.

اخفاء المنهوبات

كذلك يتطرق الضابط بشكل غير مباشر لنقطة مهمة، وهو أن ذلك الوضع دفعهم كذلك لدفن المصاغات الذهبية والأموال التي كان يتم مصادرتها و نهبها وسلبها من البيوت الأردنية ومن التجار والمزارعين، حيث سارع مئات المرتزقة العثمانيين في دفن هذه الغنائم التي كانوا يسرقونها بغير وجه حق، ووضع العلامات التي تدل عليها أملاً في العودة لها لاحقا، وهو ما لم يتحقق ، وما كانت هذه الدفائن والكنوز في الحقيقة سوى حصاد تعب سنوات لمواطن أردني كان يرعى أو يزرع طول العام ، ليأتي ضابط عثماني يسلبه ما حصده.

بعد ذلك يتحدث عن وصول برقية تنبأهم حقيقة أن القيادة قد أرسلت لهم بعض الامدادات لمساندتهم، وكذلك عن تولي الفيلق الثاني لمهمة حراسة وصيانة السكة الحديدية العسكرية بين القطرانة ومعان والتي كانت قوات الثورة العربية الكبرى قد نسفتها لعزل القوات العثمانية المحاصرة في معان عن أي نجدات أو دعم قد يصلها.

يعيد الضابط التأكيد من جديد على الحالة النفسية الصعبة التي كان يمر بها أفراد الحامية العثمانية المحاصرة في محطة معان ، وأنهم كانوا يعدون اللحظات المتبقية لهم ، حتى اشتبك الطرفان بالسلاح الأبيض وتوقف الرصاص بعد ذلك.

يكمل الضابط العثماني وثيقة مذكراته حول معركة معان بهذه الأسطر :

“ودقّ جرس التلفون وأنا أنزل إلى مقر القيادة العامة تحت الأرض لأتلقى أخبار معان فبشروني أن العدو انسحب من الخطوط الأمامية وأنه يواصل تراجعه فأبلغت هذه البشرى إلى علي وهبي بك فدهش وكان لا يصدقها، ثم صعد إلى سطح الأرض ووجه منظاره نحو قوّات الثورة فوجده يغادر الهضبة والأكمات المحيطة بالمحطة فأدركنا حينئذ أن العدو لم يشدد نيرانه إلاّ ستاراً لانسحابه، وما هي إلاّ دقائق معدودة حتى انتشر الخبر بين الجند فأخذوا يطلقون النار عليهم.

ولكن قائدنا أصدر أمراً إلى الجند بالرجوع الى أماكنهم خوفاً من أن تكون هناك مباغتة وعند الظهر رأينا مدفعية قوات الثورة تطلق مدافعها من جبل سمنة وقد اختلفت الآراء في سبب هذا الانسحاب وفي تعليله خصوصاً وقد كانت معان على وشك التسليم بعدما فقدت ذخيرتها وميرتها، ولو هجم الثوّار علينا يوم انسحابهم لدخلوها دون عناء ولعل أقرب تعليل للحقيقة هو التعليل الأتي :

لما رأى القائد العام لقوات الثورة أن الهجوم على معان طال أسبوعاً ولم يقترن بنتيجة، أمر جنوده بالانسحاب خوفا من تضعضع القوة الأدبية ولئلا يؤثر ذلك في نفوس فرسان العشائر، وشرعنا بعد ذلك في العمل فأصلحنا سكة الحديد وأنشأنا الجسر الذي نسفوه بين معان والجردونة، ووصلتنا النجدات والميرة والذخيرة وسيرنا قطاراً إلى دمشق ارسلنا فيه الجرحى والمرضى كما عززنا الدفاع عن معان وبثينا الألغام حولها، ولما شعرت قوات الثورة بوصول النجدات ورجوع الترك الى نشاطهم بدأوا بمهاجمة ( الجردونة ) ونسف قضبان السكة الحديدية بين محطات الجردونة وعنيزة والحسا وجرف الدراويش، ولا بد لنا من الاعتراف بأن بقاء جيش الثورة في ( جبل سمنة ) المطل على معان أزعجنا، فقد كان يصب نيران مدفعيته في الصباح والمساء دون انقطاع على مراكزنا ولذلك قررت القيادة استرداد هذا الجبل، فقمنا بحركة سريعة وما كدنا نستولي عليه حتى فاجأتنا قوات الثورة فانسحبنا منه.

وقد انحصرت الأعمال الحربية في خلال شهري نيسان وأيار وحزيران بمناوشات بسيطة واتجهت عناية جيش الثورة في الحركة نحو الشمال واشتبك مع الفيلق الثاني التركي بمعارك هائلة في جبهات الحسا، واستبسل الفريقان واحتفظ الأتراك بموقعهم وانتقل مقر الفيلق الثاني من القطرانة إلى عمان بعد استقرار الحالة في تلك المناطق ووجه وجهه نحو جبل الدروز وحوران لمقاومة الحركة العربية الثورية بعد أن بلغ دعاتها تلك الأنحاء “.

342
زوبعة رملية تمر بأحد الاودية قرب معان أثناء العمليات العسكرية للثورة

 

مفاجأة لم يتوقعها أحد ، انسحاب عربي تكتيكي

يدور الحديث في الأسطر الأخيرة من الوثيقة عن المفاجأة التي حدثت في اللحظة الأخيرة من المعركة والتي لم تكن تخطر في بال أحد حيث كانت معان على وشك أن تتحرر،  لولا الانسحاب التكتيكي العربي الذي كان صادماً ومفاجئاً للعثمانيين الذين كانوا ينتظرون لحظاتهم الأخيرة، وهو ما لم يصدقه القائد العثماني علي وهبه بك حتى تأكد من ذلك باستخدام منظاره، الذي لم يتخلّ عن مخاوفه حتى رغم انسحاب قوات الثورة فهاهو يأمر جنوده بعدم اطلاق النار على قوات الثورة خوفاً من أن تكون هناك خطة هجوم ارتدادي.

ويعزو الضابط في تحليله ما حدث أنه بسبب ما يعتقد أنه قرار قائد القوات الثورة العربية الكبرى المهاجمة بالانسحاب خشية تأثر الروح المعنوية للمقاتلين الثوار و فرسان العشائر الأردنية ، في ظل استمرار المعركة لمدة اسبوع دون نتيجة ظاهرة ، لكن في الواقع أن النتائج المخبأة والمفاجأة كانت أكبر.

ويتضح هنا أن الثوار رغم إرادتهم وعزيمتهم وإيمانهم بهدفهم الكبير إلا أن ذلك لا يكفي، في ظل الافتقار لخبرة عسكرية في القتال الطويل الأمد، كما أنهم لم يدركوا وهن القوات التركية ولم يديموا زخم هجومهم في اللحظات القاتلة التي أوشك فيها العدو على الاستسلام، إضافة إلى قدوم الإمداد العسكري العثماني ما دعا قوات الثورة إلى رفع النار عن القوات التركية والتراجع فانقلب الموقف.

الحلفاء لا يرغبون بتفوق عسكري حاسم لقوات الثورة

ويقول الدكتور بكر خازر المجالي في تعليقه على هذه الوثيقة في كتابه التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية :

“وأي كان فإن الوثيقة لم تتطرق الى قوات الثورة العربية الكبرى وكيفية تنظيمها لهجومها وتنفيذه واعتمادها على القصف والإسناد المدفعي، هذا الذي قطعه ( بيزاني ) القائد الفرنسي عندما أوشكت قوات الثورة على تحرير معان، والتعليل في ذلك أن الحلفاء لم يرغبوا في أن يشاهدوا قوات الثورة تحقق نصراً حاسماً فأوقفوا الاسناد المدفعي وأتاحوا للأتراك استخدام أسلحتهم، فأضعف ذلك من معنويات قوات الثورة خاصة وأنهم تقاتل منذ ثمانية أيام وهي في هذه الحالة أحوج ما تكون إلى ما يدفعها للأمام وليس إلى ما يثبط من هجومها فيوقف زحفها أو على الأقل يوقفها عند المناطق الواقعة التي حررتها و استولت عليها.

ويضيف:  قد اعترف التقرير ببسالة الثوّار وقدرتهم على التعامل مع العدو، واعتراف بالحصار الذي ضايقهم، وليس ذلك فحسب فقد أدرك الأتراك أنهم بمعزل عن العالم بعدما شاهدوا قضبان سكة الحديد تتطاير، لكن هذه الأمور تزول بعد الانسحاب ويتمكن الأتراك من تسيير قطار إلى دمشق لنقل الجرحى والمرضى واستقدام المؤن وغيرها.

وأوضح التقرير أن الفرق بين النظاميين وغير النظاميين قد ظهر واضحاً بين قوات الثورة وهذا أثّر على سير المعركة واستفاد الأتراك من هذا التباين خاصة وأن المتطوعين من مقاتلي العشائر الأردنية لم يكونوا خبراء في التعامل مع التحصينات الدفاعية والاستحكامات التي كان العثمانيون وحلفائهم الألمان والنمساويون أكثر معرفة بها.

المراجع: 

  1. مجلة الحرب العالمية العظمى
  2. التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع. 1995

عثماليكس – الجزء 5 : معارك معان وفق مذكرات ضابط تركي

عثمان ليكس – الجزء 4 : معارك معان وفقا لمدير شعبة الاستخبارات العثمانية هناك

image1

تناولنا في نهاية (الجزء السابق) حديث الجنرال الألماني أوتو ليمان فون ساندرس قائد الجيوش العثمانية والألمانية في سوريا والأردن وفلسطين وسيناء خلال الحرب العالمية الأولى التي تزامنت مع الثورة العربية الكبرى وما ذكره عن دور معارك معان في الأحداث، ونستكمل في هذا الجزء الحديث عن معارك معان وفقا لما كتبه مدير شعبة الاستخبارات في القوة التي كانت تحتل مدينة معان في رسالة وصف بها المعارك التي دارت حول تلك المدينة بين العرب من جهة والأتراك مع من ساندهم من الألمان والنمساويين من جهة أخرى ، حيث جاء فيها :

image10 

“على اثر إعلان الثورة العربية في الحجاز أصدر أنور باشا أمره إلى محمد جمال باشا قائد قلاع أزمير بالسفر إلى سوريا ليكون تحت إمرة جمال باشا ويساعده في إخمادها كما أرسلت القيادة العليا إلى الحجاز قوات جديدة من المشاة وخيالة ومدفعية لا يقل عددها عن 20 ألف جندي.

و وصل محمد جمال باشا إلى دمشق ثم سافر إلى الحجاز فأنيط به مهمة الدفاع عن المنطقة الممتدة من محطة الهدية قرب المدينة المنورة حتى محطة المدورة في جنوب الأردن ويبلغ طولها 650  كلم وكان مقره في مدينة العلا أول الأمر.

وعرفنا في العلا أن علي حيدر باشا فشل في المهمة التي انتدب لها رغماً عن الهدايا والأموال التي وضعت تحت تصرفه ولم يوفق إلى استمالة قبيلة واحدة من القبائل العديدة، ولذلك أعيد إلى دمشق بقطار خاص يحرسه عدد كبير من الجنود الأتراك ومعهم مدفعين ورشاشات وللمرة الأولى رأينا جنداً عرباً منظمون بقيادة مولود باشا مخلص يقتحم محطة المغنم الواقعة في المنطقة التابعة لسيطرة محمد جمال باشا قرب مدائن صالح، وقد أبدت هذه القوات بسالة خارقة في مهاجمة الحامية العثمانية التي نصبت مدافعها الست على أسطحه مقابل المحطة، واستبسل الفريقان وتقدمت قوات الثورة حتى أبواب المحطة وكانت النيران تحصدهم حصداً و وصلت في المساء قوات من الخيالة الترك بقيادة ميرزا بك الشركسي فطاردهم وردهم إلى مسافة بعيدة “

انطلاقة الثورة وتعزيزات عسكرية

يبدأ مدير شعبة الاستخبارات في معان رسالته بوصف انطلاقة الثورة العربية الكبرى وما دبته من رعب في القيادة العثمانية التي ما لبثت ترسل التعزيزات والضباط لمناطق سوريا والأردن وفلسطين التي كانوا يتوقعون ويخشون انضمامها  للثورة وهو ما حدث بالفعل بحكم الظلم الذي كان يمارس بحق سكان هذه المناطق وهو يوضح بشكل جلي خشية الجاني من انتقام الضحية واعتراف ضمني بظلمه، حيث يتحدث عن إرسال المزيد من القوات العثمانية لتعزيز قدرات القوات المتواجدة هناك ، وعن اختيار محمد جمال باشا لقيادة العمليات العسكرية للاحتلال العثماني في المنطقة الممتدة من المدينة المنورة جنوباً وصولاً للمدورة على الحدود السعودية الأردنية.

فشل في استمالة العشائر وشراءها  بالهدايا والعطايا

يذكر الضابط العثماني أن مندوب العثمانيين حيدر علي باشا لم ينجح في شراء العشائر العربية رغم الهدايا والعطايا، وهو ما يؤكد أن العشائر حسمت موقفها الرافض للاحتلال العثماني ورفضت كافة الإغراءات التي قدمها العثمانيون للزعماء والمشايخ من أموال ووعود بمناصب وألقاب فخرية، بدليل التمسك بمبادئهم ورفضهم للظلم والاحتلال ورفضت المساومة على هذه المبادئ، وهو ما تسبب بإعادة حيدر علي باشا الى دمشق نتيجة فشله الذريع في تحقيق المهمة الموكولة إليه، كما يتحدث عن مشاهدتهم لقوات وجيوش عربية منظمة ومدربة وهو ما يدل على المفاجأة والصدمة التي أوقعها ذلك في نفوس الترك، كما يشيد ببسالة هؤلاء المحاربين واستبسالهم وصمودهم رغم أن رصاص الاحتلال العثماني كان يحصدهم حصداً، وهو ما يؤكد مرة أخرى على أن العرب لم يثوروا في سبيل المال او المنصب كما يحاول العثمانيين والعثمانيين الجدد وصفهم ، وهو ما  يفعله الضابط هذا نفسه في جزء لاحق من الوثيقة.

 

يكمل ضابط الاستخبارات العثماني رسالته :

 

“وكانت الحركات الحربية في أول الأمر قاصرة على مناوشات بسيطة تحدث بيننا وبين العرب على طول السكة وكنا قبل وصولهم إلى إحدى المحطات لمهاجمتها نتخذ التدابير للدفاع عنها، كنا نعرف كل شيء من جواسيسنا وتغيرت الحالة بعد وصول الأمير فيصل إلى الوجه بثلاثة أشهر، فصاروا ينسفون الخطوط الحديدية بالديناميت بعد أن يعطلوا أسلاك البرق، فعمدت القيادة التركية إلى اتخاذ تدابير شديدة فكنا نرسل دوريات عسكرية لمعاينة السكة قبل مرور القطارات وكانت معظم هذه الدوريات تخرج عادة بين كل محطتين فتلتقي في وسط الطريق بقوة عربية تتمكن من أسر أفرادها، ولما شاهد محمد جمال باشا ذلك طلب قوات كافية وهدد بالاستقالة والانسحاب فأرسلوا له فوجين من المشاة من أتراك مقدونيا.

واتسع نطاق الثورة حتى شمل تبوك وسقطت قمة البدايع فضيقت القيادة منطقة محمد جمال باشا وأضافت قسماً كبيراً منها إلى بصري باشا وتزايدت الطلبات من القيادة العليا لإرسال نجدات جديدة خوفا من تسرب الثورة إلى جميع أنحاء البلاد، وأرسلنا قائداً ألمانياً كبيراً إلى محطة “الحفير” واجتمع بفخري باشا وباحثه في الجلاء فأجابه هذا أنه لا يخرج من المدينة وفيه عرق ينبض وأنه يقاوم فكرة الجلاء كل المقاومة، وكانت المناوشات تتزايد يوماً بعد يوم على طول السكة وكان العرب يواصلون نسف القطارات وتعطيل الخطوط رغم يقظة الأتراك فقد نسفوا قطارات ذهب فيها كثيرون، ولما سيطر جيش الثورة على العقبة صدر الأمر إلى محمد جمال باشا بأن يذهب إلى معان وجاء الجواسيس واخبرونا أن القيادة العربية قررت نسف القطار الذي سيقلهم وأنهم يودون القبض على محمد جمال باشا، فأخذنا التدابير اللازمة وسرنا في القطار كأننا في ميدان حرب والجنود واقفون على أهبة الاستعداد برشاشاتهم وبنادقهم وكان جمال الصغير قد سبق محمد جمال باشا إلى معان وبدأ في تنظيم القوات العسكرية فتسلم هذا القيادة منه وكان فيها آلاي عدد كبير وبطارية مدفعية سريعة الطلقات وعدة رشاشات وبطاريتان من المدافع النمساوية وكانت هذه تحمي منطقة تمتد 70 كيلو مترا جنوبا حتى محطة المدورة و ١٣٢ كلم شمالا حتى محطة القطرانة”.

أول المناوشات والثورة تكبر وتتوسع

يتحدث ضابط الاستخبارات العثماني هنا عن أوائل المعارك والعمليات التي بدأ الثوار العرب بتنفيذها بنسق متصاعد  حيث اعتمدوا على أسلوب عدم الدخول في صدام مباشر مع الأتراك  في البداية وإنما لجؤوا إلى عمليات تكتيكية محددة الأهداف ، فكانوا يتصيدون دوريات الأتراك ويهجمون على المواقع المنعزلة وخطوط السكة الحديدية وأحدثوا بذلك تأثيرا عظيماً في صفوف الترك في كل هذه المواقع، مما أجبر الأتراك على  الاستمرار في طلب النجدات والإمدادات ، وتغيير سياستهم الدفاعية في المنطقة والمحاولة بشتى الطرق للتعامل مع الموضوع ، حيث وصلت بهم الأمور لإضافة مناطق جديدة إلى بعض القيادات وسلخوا مناطق عن قيادات أخرى وهو ما ارتبط بمقدار نجاح أو فشل هذه القيادات ونجاحها أو عدمه في قمع الثوار والمناطق الخاضعة لهم.

كما يتحدث عن تزايد تأثير العمليات العسكرية وزيادة حجم وفعالية العمليات بعد أن أصبحت قوات الثورة العربية تنظم نفسها في إطار جيش نظامي  بعد أن تم فتح باب التسجيل والتدريب والتسليح للمتطوعين من الفرسان والمحاربين أبناء العشائر، ويكشف ما ورد على لسان الضابط وجود اختراقات إستخباراتية متبادلة بين الطرفين ، فالوثيقة تذكر أن الثوار العرب قرروا نسف القطار الذي سيقل محمد جمال باشا  بعد معرفتهم بأنه سيتواجد به ، مما يعني ان الثوّار و فرسان العشائر الأردنية نجحوا في اختراق  منظومة الاحتلال العثماني والتغلغل بداخلها ومعرفة التحركات والخطط قبل تنفيذها وهو ما أعطاهم الأفضلية ، بعكس ما يحاول الضابط ادعاءه في وثيقته  فقد كان الأجدر بالاستخبارات العثمانية أن تحمي خطة وموعد انتقال قيادتها من التسريب بدلاً من استعراض انها كشفت خطة الاستهداف.

 

يكمل مدير الاستخبارات رسالته بهذه الفقرات تحت عنوان :  “جيش عربي عظيم” :

“ورأينا حول معان جيشاً عربياً منظماً يملك معدات حربية ورشاشات يديرها جنود يمنيون عدا عن الرشاشات في كل فوج وكتائب فنية للبرق والديناميت والاستحكام وكان الجيش العربي يضم الفنيين، وفيه ضباط يقودهم الأمير فيصل ومعه الأمير زيد والشريف ناصر وجعفر العسكري ونوري السعيد وراسم سردست…

image10 - Copy

وكانت خطوطنا الحربية في منطقة معان أوائل سنة ١٩١٨ تشمل القويرة وأبو اللسن وعين وهيدة وعين بسطة وتبعد عن مدينة معان 15-20 كلم، وكانت الطفيلة و وادي موسى بأيدينا وكانت تدور بيننا وبين الجيش العربي مناوشات بسيطة، وبينما كان محمد جمال باشا يفتش الخطوط الأمامية في يوم من الأيام في تشرين الثاني ١٩١٧، طلبه جمال باشا الكبير إلى التليغراف لمخاطبته مباشرة ولما أبُلغ انه غائب أرسل إليه برقية إلى الخطوط الأمامية طلب فيها إرسال آلاي الرماحة مع مدفعية ورشاشاته وآلاي المشاة وآلاي النقليات من معان والأماكن القريبة منها على جناح السرعة، وأرسل مثل هذا الطلب إلى بصري باشا أيضا وأرسلت القوات على الفور لصد الحلفاء وتعزيز السيطرة على القدس فوصلت الخيالة ولا يقل عددهم عن الألفين وهي بحالة يرثى لها من الضنك والتعب و لأنها لم تقف في الطريق بل سارت مسرعة واشتركت على الفور في معارك القدم ففقدت معظم رجالها”. (انتهت الوثيقة)

 جيش عربي عظيم ومنظم

يذكر كاتب الرسالة انطباعه ومن معه أثناء مرافقة محمد جمال باشا في القطار المدجج بالأسلحة خوفاً من التهديدات التي وردتهم عن استهداف القطار، ويذكر ما لاحظوه من انتقال الثوار لمرحلة تشكيل الجيش العربي كقوة نظامية مكونة من فرسان العشائر الأردنية والعربية  ، وتقسيماته الإدارية وتنظيمه العالي ، حيث يذكر وجود كتائب مشاة مسلحة بالرشاشات والآليات ، وكتائب للاتصالات (البرق)، وأخرى  للمتفجرات (الديناميت) ، وكذلك للاستحكام ، اضافة للفنيين ، وهذه الجيش كله منظم ومقسم لأفواج لكل منه ضابط يقوده  وهذه الأفواج تنطوي تحت قيادة الأمير فيصل ومعه الأمير زيد والشريف ناصر وكل من القادة الميدانيين العسكريين جعفر العسكري ونوري السعيد وراسم سردست وهم ضباط عراقيين انشقوا في وقت سابق عن الخدمة في جيش الاحتلال العثماني لما رأوه من ظلم تجاه أبناء وطنهم وعروبتهم ، وهو ما يجسد البعد العربي والإقليمي للقضية من خلال تواجد مقاتلين يمنيين وضباط عراقيين وعشائر أردنية اجتمعوا كلهم على قلب رجل واحد رفضا للظلم.

العرب أكثر إنسانية من الترك فيما يخص معاملة الأسرى

وتذكر الرسالة قدرة قيادة جيش الثورة العربية الكبرى على النجاح في ضبط بعض الحالات الفردية المخالفة للأعراف الإنسانية والدينية والعربية بخصوص معاملة الأسير ، والتي كان يقوم بها البعض بدافع الثأر والانتقام لأقاربه في الغالب من بطش الأتراك بهم، وهو الأمر الذي فشلت به الدولة العثمانية التي لم يسلم من بطش عسكرها أسير حرب ولا حتى المعتقلين المدنيين، فالإعدامات الجماعية وصناعة المذابح والموت بأسوء طرق التعذيب ، الصلب على الخازوق والإلقاء بالأسرى من المناطق المرتفعة على سبيل المثال لا الحصر، كان  أكثر ما اشتهر به العثمانيين.

تشتت وارتباك في صفوف القوات العثمانية

كما نلمس من الرسالة تشتت القوات العثمانية نتيجة اتساع رقعة الأحداث وكثرة التنقلات مما تسبب في إرباكها وإنهاكها ، حيث تزايدت الحاجة الماسة لهذه القوات في بعض المناطق وكثرة نداءات الاستغاثة وطلب الدعم والإمداد ، ونتيجة لعمليات فرسان ومحاربي الثورة العربية التي كانت تستهدف هذه القوات أثناء انتقالها عبر سكة القطار العسكري ، الى جانب عامل بعد المسافة، فقد كانت هذه القوات تصل  منهكة ولا تستطيع الصمود في المعارك.

عثمانليكس – الجزء 4 : معارك معان وفقا لمدير شعبة الاستخبارات العثمانية

عثمان ليكس – الجزء 3 : معركة الأردن الثانية

image1

يستعرض الجنرال ليمان فون ساندرس في هذه الوثيقة التي نشرت كمقالة باللغة الألمانية إبان الحرب العالمية الأولى، المزيد من المعارك والأحداث التي جرت خلال شهر آذار عام 1918 ، أبرزها ، معركة الأردن الثانية التي استمرت لعدة أيام ، وإحدى المعارك الليلية ، وكذلك ما يتعلق بهجوم الثوار العرب على محطة السكة الحديدية العسكرية في معان.

يوضح هذا الجزء من المقال الأهمية العسكرية للسلط وما حولها من المناطق الأردنية واستماتة كافة أطراف الحرب العالمية للسيطرة عليها، وهو ما عاد على أهل المدينة بالمصائب والويلات من مجازر وتهجير ومشانق معلقة وقصف بالطيران من جانبي الحرب، وقد كان بالإمكان تجنب كل ذلك لو أن العثمانيين تركوا أهل المدينة وشأنهم يزرعون حقولهم، ويتاجرون في أسواقهم، ويبدعون في صناعاتهم، بدلاً من جر المنطقة بكافة مدنها ومكوناتها لحرب ليست حربهم ، واستخدام شبابها كوقود لهذه الحرب سواء بشكل مباشر من حيث التجنيد، أو بشكل غير مباشر من خلال استخدامهم في السخرة ، من خلال تقطيع الغطاء النباتي واستخدامه وقودا للقطار العسكري.

image7

يوضح هذا الجزء أيضاً ترهل القوات العثمانية وتقهقرها مع دخول القوات البريطانية وتأخرهم في تنفيذ الأوامر وضربات موجعة وإصابات في صفوف القيادة العثمانية، كما تبرز اعترافات فون ساندرس هذه  الدور المؤثر الذي لعبته قوات الثورة حتى من خلال بعض العمليات المحدودة التي كنا قد نشرنا عنها في أبحاث سابقة (مسارات التحرير) والتي تمثلت بقطع خطوط الاتصال الهاتفية ، وما كان له من أثر في مفاجأة قوات الاحتلال العثماني وتساقط الحاميات تباعاً.

نيران صديقة . . الأتراك يشتبكون مع الألمان عن طريق الخطأ !

ونظراً لما أسلفناه في (الجزء الأول من عثمانليكس) حول تركيبة أجزاء من جيش الاحتلال العثماني من مجندين إجباريين ومرتزقة لم يكن لهم الدراية بتكتيكات الحرب ، أو الحنكة العسكرية ، فتذكر الوثيقة أن السائق التركي لسيارة الجنرال الالماني صاح مرتعباً في إحدى الجولات الميدانية عند مشاهدته لمجموعة من الفرسان معتقداً أنهم من قوات الحلفاء، مخبراً سيده الألماني أنهم فرسان انجليز ، لمجرد ارتدائهم زي عسكري وقبعات قبل ان يلمح فون ساندرس بينهم زميله الألماني من قادة أركان الحرب  !

ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل تعداه لاشتباك بالرصاص ما بين الجنود الأتراك القادمين من الجبال ، والجنود الألمان باللباس الكاكي  وقبعة المستعمرات أثناء انتقالهم ما بين المناطق الشفا غورية قرب نهر الأردن.

وتوضح تفاصيل المعارك والاشتباكات التي توردها الوثيقة ضعف قدرة قوات وجيوش العثمانيين والألمان والإنجليز على الحسم، ويبرهن على ذلك العمليات المحدودة واستمرار الاشتباكات عدة أيام للسيطرة على موقع معين، وعدم القدرة حتى على ملاحقة القوات المنسحبة المهزومة ومحاصرتها، رغم رجاء وأمنيات القيادات العثمانية والألمانية للقادة الميدانيين لفعل ذلك.

image8

كما يذكر فون ساندرس أن القوات العثمانية والألمانية لم يكن لديها ما يكفي من العتاد لإحراز النصر ، وكذلك فيما يتعلق بأفراد قوات الاحتياط، وهو ما جعل المعارك تدور في مجال محدد دون إحراز تقدم حتى مع تقهقر الطرف الآخر، كما يوضح دور سلاح الجو والطيران الألماني في حسم المعارك في ظل غياب فعالية القوات الأرضية، وهو ما يعني اعتراف صحيح باستخدام الطيران لقصف مدينة السلط في محاولات السيطرة عليها، وهو ما تؤكده بعض الصور والبيوت التي ما زالت قائمة حتى الآن وتشهد حجارتها على مآسي الحرب والصراع على النفوذ.

يتحدث فون ساندرس هنا عن استئناف فرسان ومحاربين الثورة العربية الكبرى من العشائر الأردنية معاركهم لتحرير معان من الاحتلال العثماني، واستهدافهم المتواصل لمحطات السكة الحديدية العسكرية وقيامهم بنسف جسورها بشكل مستمر ، معيداً ما أورده في أكثر من مناسبة عن تأثير هذه العمليات ومضايقتها للقوات الألمانية والعثمانية، بحكم اعتمادهم على السكة في نقل الإمدادات والجنود ، لا سيما مع نفاذ المعدات والأدوات التي تلزم لإصلاح هذه الخطوط المدمرة وإنشاء جسور بدل تلك التي يتم نسفها وهدمه.

فون ساندرس يصف المبالغة التركية المألوفة :

يربط فون ساندرس ما بين العمليات والمعارك التي يقودها الثوار العرب ضد السكة الحديدية ومحطاتها في معان ، وتأثيرها على المعارك في السلط وحول نهر الأردن ، وليس ذلك فحسب،  بل تعداه لمخاوف من تأثير ذلك وما قد يؤدي له من تحرير المدينة المنورة التي تم تهجير أهلها في “السفربرلك” وحولها القائد العثماني فخر الدين باشا وعصاباته الى ثكنة عسكرية وتحصنوا فيها ، إلا أن ساندرس يتحدث عن وجود موارد كافية لتأمين معيشة جنود فخر الدين، ولكنه كان شديد التذمر والمبالغة من خلال البرقيات المتكررة التي يستجدي فيها المساعدة والإغاثة وهو ما وصفه ساندرس بأنه لم يكن يتعدى سوى كونه من قبيل المبالغة التركية المألوفة، وهو ما أثبته الواقع ما بعد انتهاء الحرب واستسلام العثمانيين وحلفائهم وتوقيعهم على الهدنة.

image9 - Copy

بدايات البروباغندا . . محطة “عثمانية” تبث أخبار معارك الأردن للعالم باللغة الالمانية :

توضح وثائق فون ساندرس أصول البروباغندا الإعلامية التي ما زالت تنتهجها الإيديلوجيات ذات البعد العثماني ، من خلال استخدام وسائل الإعلام للتحريف و التهويل وإضافة الأساطير والبعد العاطفي والخيالي على الأحداث، فيذكر احتجاجه على ما كانت تقوم به المحطة اللاسلكية “العثمانية” من بث بيانات وبلاغات القيادة التركية حول معارك الأردن بشكل محشو بالأخطاء ومليء بالأكاذيب.

 

الألمان يسيطرون على أهم شؤون الجيش العثماني

في سياق رفضه لتوجهات القيادة الألمانية لنقل الكتائب الألمانية المقاتلة وخصوصا كتيبة القناصة  لمناطق جبلية أكثر برودة وملائمة للصحة، وهو ما استغربه فون ساندرس وأبلغ قيادته باستحالته بحكم تواجد القوات الألمانية على احتكاك مباشر مع العدو ومسكها بزمام الأمور من طيران ومدفعية وصحة في ظل ضعف الكفاءات العثمانية، مما يشير لضعف الثقة  بالأداء العثماني الهزيل.

عثمان ليكس – الجزء 3 : معركة الأردن الثانية

عثمانليكس – الجزء 2 : معركة الأردن الأولى

تقديم :

كنا قد تعرفنا في (الجزء الاول من عثمانليكس) على الجنرال الألماني اوتوليمان فون ساندرس الذي يقود القوات العثمانية ويرتكب المجازر ضد العرب والأرمن واليونانيين ، والذي تتم محاكمته كمجرم حرب بعد القبض عليه وسقوطه أسيراً مع نهاية الحرب العالمية الاولى ونستعرض في هذا الجزء أحد المقالات التي كتبها الجنرال أوتوليمان فون ساندرس والمنشورة في مجلة الحرب العظمى التي كانت تصدر خلال فترة الحرب العالمية الأولى ، وتعبر المقالة عن رأي فون ساندرس بالأمير فيصل (القائد العام لجيوش الثورة في الأردن وسوريا)، و النقد الذي وجهه للسياسة التركية السيئة التي تسببت بثورة العرب ضدهم، كما يتطرق فون ساندرس لأهمية سكة الحديد العسكرية التي قام العثمانيين باستغلال المشاعر الدينية لبنائها بينما كانت الغاية الوحيدة منها عسكرية وتم إجبار الأردنيين واستخدامهم بالسخرة لبنائها.

رأي فون ساندرس بالأمير فيصل والسياسة العثمانية السيئة :

يستهل فون ساندرس مقالة كتبها بيده مبدياً رأيه بالأمير فيصل (القائد العام لجيوش الثورة في الأردن وسوريا)، حيث يوضح معرفته السابقة به أثناء فترة تواجده في عاصمة الاحتلال العثماني اسطنبول قبل اندلاع الثورة، كما يوجه نقداً مباشراً للسياسة التركية السيئة التي تسببت بثورة العرب ضدهم، ولهذا الانتقاد أهمية ووزناً كبيرين نظراً لكونه صادر عن قائد وحليف وصديق للعثمانيين في ذلك الوقت.

image4

كما يتطرق فون ساندرس لأهمية سكة الحديد العسكرية التي قام العثمانيين باستغلال المشاعر الدينية لبنائها بينما كانت الغاية الوحيدة منها عسكرية وتم إجبار الأردنيين واستخدامهم بالسخرة لبنائها، كما يصف الأذى الكبير الذي سببته قوات الثورة للعثمانيين في المعارك التي انتهت بهزيمة طابور فخر الدين باشا وانتهى الأمر به محاصراً في المدينة المنورة بعد طرد قواته لأهلها وتهجيرهم في ما يعرف بالسفربرلك ، حيث استمر الحصار لأشهر وبقيت القوات العثمانية معزولة عن الاتصال أو الإمدادات.

image5

ويعترف فون ساندرس بالحماقات العسكرية التي ارتكبها العثمانيون من خلال تشتيت جهودهم في محاولة السيطرة على مناطق في مساحات شاسعة كانت أوسع من مقدرة قوات الاحتلال العثماني على الدفاع عنها في ظل هجمات قوات الثورة العربية التي فتت وشتّتت الجيوش العثمانية، ويتمنى ولا يفيد التمني لو أن قوات العثمانيين احتفظت بالمناطق الدفاعية وتحصنت بها ، بدلاً من المحاولات البائسة للدفاع عن قضبان السكة الحديدية العسكرية.

 

تصلب الذهنية التركية والقوات المتقاعسة والمختبئة

يتحدث فون ساندرس في هذا الجزء من الوثيقة عن محاولاته لإقناع الأتراك بملاحظاته العسكرية، إلاّ أنه كان يواجه الكثير من التزمت في الرأي منهم وهو ما عزاه لتصلب الذهنية للقيادات التركية العثمانية التي عرف عنها المزاجية والانفعال بدون تفكير أو رؤيا تتجاوز أنوفهم ، كما يتحدث عن التحول للخطة الدفاعية واستخدام أسلوب التمويه لتضليل العدو، وعن الاختراقات المتبادلة للشيفرات العسكرية المستخدمة في تشفير الاتصالات أثناء العمليات الحربية، وعن دوره في اكتشاف قوات وكتائب عثمانية بأكملها مختبئة ولا تقاتل، ويعزى ذلك لغياب الهدف والقضية كما أسلفنا فشتّان بين من يدافع عن احتلال وحرب لا ناقة له فيها ولا جمل كما في حالة مرتزقة الاحتلال العثماني، وبين من يدافع عن أرضه وعرضه كما في حالة الثوار العرب.

يهود في الجيش العثماني ، وحساسيات بين العثمانيين وحلفائهم !

يتحدث هذا الجزء من الوثيقة عن وجود الحساسية التركية تجاه حلفائهم وخططهم وعن طبيعة العلاقة بين الألمان والترك في ذلك الوقت مما أوجد الارتباك والتخبط في العمل وبين ذلك من خلال تنقلات الضباط ، كما يتطرق لوجود مرتزقة من يهود أوروبا تقاتل في صفوف العثمانيين وحلفائهم الألمان، وهو ما يدحض وينسف الحجج والأكاذيب التي يروجها المدافعين عن الاحتلال العثماني، ومزاعمه في أنه كان يمثل الإسلام، ففي الواقع هو كان يرتكب المجازر باسم الدين، بينما هو مستعد للتحالف مع الشيطان من أجل مصالحه، تماما كما تفعل بعض الجماعات الإرهابية اليوم.

image6 - Copy

فشل عثماني ألماني من جهة وبريطاني من جهة أخرى ، والعرب يصنعون انتصاراتهم

ومن خلال بقية المقالة التي تتحدث عن معارك العثمانيين مع الألمان ضد قوات الحلفاء على الأرض الأردنية بعد أن جروا المنطقة للحرب وجعلوا المناطق الأردنية مسرحاً للعمليات العسكرية ، يبرز الجنرال فون ساندرس في الوثيقة أهمية السكة الحديدية العسكرية ويعترف بتأثير هجمات الثورة على سير الأحداث كما يعترف بالهزائم التركية في الطفيلة وأثرها على الموقف، وعن كثرة تسمية العثمانيين في ذلك الوقت لأبنائهم باسم “جمال” فيما يبدو أنه تيمناً بالسفاح المعروف جمال باشا.

لقد أشارت هذه الوثيقة إلى معركة الأردن الأولى التي فشل الإنجليز فيها في تحقيق أهدافهم بحكم عدم معرفتهم بطبيعة وظروف الأرض الأردنية ومناخها وما نتج عن ذلك من خسائر لكلا الطرفين بينما في ذات الوقت كان الثوار و فرسان العشائر الأردنية يصنعون انتصاراتهم والحاميات العثمانية تستسلم وتتساقط بين أيديهم تباعاً (تابع مسارات التحرير) ، وكقائد على مسرح العمليات أشار إلى قوات الثورة  باعتبارها قوات ذات أثر واضح في مسرح الأحداث هذا الاعتبار الذي حاولت بريطانيا وفرنسا التقليل منه حتى لا تصل قوات الثورة العربية الكبرى إلى مستوى الشريك الكامل في الحرب العالمية الأولى الذي يترتب عليه الإعتراف بحقوقهم وتحقيق مطالبهم الكاملة كشعوب منتصرة في الحرب.

يتبع . . . في الجزء القادم نقدم لكم وثائق كتبها فون ساندرس المزيد من المعارك والأحداث التي جرت خلال شهر آذار عام 1918 ، أبرزها ، معركة الأردن الثانية 

عثمانليكس – الجزء 2 : معركة الأردن الأولى

عثمانليكس – الجزء 1 : جنرال ألماني يقود القوات العثمانية ويساعدهم في ارتكاب المجازر ضد العرب والأرمن واليونانيين

عثمان ليكس 111111

تمهيد :

عند مراجعة الأحداث التاريخية ودراستها وتحليلها ، كثيراً ما يصطدم الباحث عادة بالقول المعروف أن التاريخ يكتبه المنتصر، ولأننا نؤمن بضرورة الاستماع للرواية المقابلة في الأحداث، ومقارنة الروايات ومطابقتها، يحرص فريق عمل مؤسسة ارث الأردن على البحث والاستقصاء وجمع خيوط وتفاصيل الأحداث من كافة الزوايا، للحصول على المشهد الكامل على مبدأ “وشهد شاهد من أهله”، وتزامناً مع ذكرى مئوية الثورة العربية الكبرى، نستعرض لكم في هذا البحث وثائق ومعلومات تنشر للمرة الأولى على المحتوى الرقمي العربي، تعود لفترة الحرب العالمية الأولى التي كانت الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني من أهم الأحداث وأكثرها تأثيرا على مجريات الحرب ، وتتناول الوثيقة التي سنناقشها في هذا البحث جزء من المعارك التي جرت في الأردن خلال شهر آذار من عام 1918م، وهي مقالة بقلم الجنرال الألماني أوتو ليمان فون ساندرس ، الذي كان قائداً للجيش العثماني الخامس.

من هو الألماني الذي يقود العثمانيين ؟

ولد أوتو ليمان فون ساندرس (Otto Liman von Sanders) عام 1855 لأسرة ارستقراطية في مملكة بروسيا ، ودخل الجيش الألماني وتسلسل في الرتب حتى وصل إلى رتبة فريق عام 1913 ، حيث تم اختياره في حينه رئيساً للبعثة العسكرية الألمانية إلى الدولة العثمانية ، خلفاً لمن سبقوه من الضباط الألمان الآخرين مثل (فون مولتك ، كولمار فون دير غولتز) ، حيث كان الاهتمام العثماني خلال 80 سنة قبل ذلك ينصب على تطوير الجيش والقوات بشكل يوازي الجيوش الأوروبية، ووجدوا الفرصة في تحقيق ذلك من خلال فون ساندرس ومن سبقوه.

فون ساندرس يقوم بتنظيم القوات والجيوش العثمانية

ونظراً لأن الجيش العثماني كان يتكون من الكثير من الفرق والكتائب، والتي يشكل المجندين الإجباريين والمرتزقة جزءاً كبيراً من أفرادها حيث كان يتم اقتياد الشباب للخدمة العسكرية في أماكن بعيدة عن مناطقهم للاستفادة منهم كمقاتلين وتقليل فرصة الثورات وحركات التحرر التي كانت منتشرة في المدن والمناطق الواقعة تحت الاحتلال العثماني في ذلك الوقت، لذلك كانت ضرورة تنظيم هذا الجيش من المرتزقة واللامتفقين على هدف أو عقيدة واحدة أمر غاية في الصعوبة والأهمية وهي المهمة التي حاول القيام بها فون ساندرس إلا أن الواقع يثبت أنه لم يتمكن من ذلك، وهو ما أكده  لاحقاً  حجم الانشقاقات في صفوف الضباط العرب الذين انشقوا وخلعوا الرتب العثمانية و رموها أرضا في أول فرصة، وكذلك الضباط الأتراك الذين كانوا يعلنون الاستسلام قبل بداية المعارك في كثير من الأحيان وحين وصول أنباء التحضيرات للهجوم أحيانا أخرى.

13644043_920345374777258_652697009_n
الجنرال الالماني فون ساندرس مع ضباط القيادة العثمانية العليا خلال الحرب العالمية الأولى الصف الأول من اليسار الى اليمين : (كيفات باشا ، سليمان نعمان باشا ، عزت باشا ، الجنرال فون ساندرس ، وهيب باشا ،حسين رؤوف باشا)

العثمانيون يجرون أنفسهم والمنطقة للحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا :

image3

لم تكتفِ الدولة العثمانية بالظلم والاضطهاد الذي مارسته على المناطق الواقعة تحت سيطرتها طيلة فترة احتلالها من خلال المجازر والمذابح ضد العرب والأرمن والأكراد واليونانيين وغيرهم، بل تعدى ذلك لجر أبناء هذه المناطق ورميهم على جبهات الموت في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ففي 30 تموز عام 1914، أي بعد يومين فقط من اندلاع الحرب في أوروبا، وافق العثمانيون على تشكيل تحالف مع ألمانيا ضد روسيا، على الرغم من أن الوضع لم يكن يتطلب منهم القيام بعمل عسكري، وفي 31 أكتوبر عام 1914 دخل العثمانيون رسمياً في الحرب إلى جانب دول المحور، فأعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب عليها يوم 5 نوفمبر، وأعلن العثمانيين الجهاد (الحرب المقدسة) في وقت لاحق هذا الشهر لإضفاء الطابع الديني على الحرب، بينما في الواقع كان الموضوع صراع مصالح فقط لكن على الرغم من سوء هذا إلا أنه انفراج أزمة المضطهدين والمقهورين من الدولة العثمانية اذ كان القرار ذاته هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير ومع بداية الحرب العالمية الأولى كانت بداية نهاية عصر الظلام الذي شهدت فيه المنطقة تراجعاً على كافة المستويات العلمية والأدبية والفنية، وفيه ازدهرت تجارة الدين التي يعتبر رموزها في ذلك الوقت الآباء الروحيين للفكر المتطرف والطائفي الذي ما زلنا نعاني منه حتى الآن.

انتصاراته في معارك الشمال، وهزيمته في المنطقة العربية وسقوطه أسيراً

مما لا شك فيه وما لا يمكن إنكاره أن فون ساندرس كان قائداً عسكرياً بارعاً للجيش العثماني الخامس خلال الفترة من 1913-1917 ، فقد انتصر في العديد من المعارك في المناطق الشمالية ونجح في صد الكثير من محاولات قوات الحلفاء لاختراق المناطق والدول الواقعة تحت الاحتلال العثماني وأهمها المعارك التي تلت عملية إنزال شبه جزيرة غاليبولي الشهيرة والتي انتهت بتراجع قوات الحلفاء الذين قاتل عنهم في ذلك الوقت فرقة الأنزاك المكونة من الاستراليين والنيوزلنديين.

ومع بدايات 1918 وبعد تدهور الأمور على الجبهة الجنوبية  والخسائر المتتالية للعثمانيين على يد الثوار العرب من مقاتلين وفرسان مشاركين في الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني، ساهمت في تقهقر الجيوش العثمانية لا سيما في مصر التي كانت تشهد معارك حامية انتهت بهزيمة العثمانيين هناك مما استدعى تعيين فون ساندرس قائداً للقوات العثمانية في الأردن وفلسطين وسيناء ليحل محل الجنرال الألماني “إريك فون فالكنهاين” الذي كان قد هزم من قبل الجنرال البريطاني اللنبي في نهاية عام 1917، إلا أن الصعوبات التي واجهها فون ساندرس هناك كانت أصعب من أن يتم تجاوزها وحلها، والشق أكبر من الرقع. فقوات الثورة كانت تنخر جسد الجيش العثماني وتقطع نقاط الاتصال والإمدادات ما بين  أجزاءه وتحوله لمجموعة كتائب محاصرة، عدا عن انشقاقات الضباط والجنود العرب الذين تم إجبارهم على الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال العثماني قبل أن تتاح الفرصة لهم للإخلاص لأرضهم وقضيتهم والوقوف مع عشائرهم وبني جلدتهم ضد الاحتلال بكافة أشكاله، إلى جانب استسلام المئات بل الآلاف من القوات العثمانية في معارك كان النصر فيها لصالح مقاتلي الثورة حتى قبل أن تبدأ، كل هذا جعل فون ساندرس يعاني من انخفاض قوة و كفاءة الجيش العثماني، ولم يستطع ان يحقق أكثر من مجرد احتلال مواقع دفاعية وانتظار هجوم قوات الثورة وقوات التحالف ضده، وفي النهاية انهار الجيش العثماني وسقط فون ساندرس أسيراً، ثم أعيد القاء القبض عليه في مالطا بعد ذلك وتمت محاكمته كمجرم حرب نتيجة مسؤوليته المباشرة في قيادة الجيش العثماني ومشاركته للضباط العثمانيين في مجازر ومذابح وحملات تطهير عرقي ضد الأرمن واليونانيين على وجه التحديد.

(يتبع . . . في الجزء القادم نقدم لكم وثائق كتبها فون ساندرس بخط يده عن رأيه بالسياسة العثمانية ومعركة الأردن الأولى ورأيه بالأمير فيصل)

  • المراجع :
  1. “Diriliş – Çanakkale 1915”, Turgut Özakman, 2008, pp 230-250
  2. Jump up^Five years in Turkey Otto Viktor Karl Liman von Sanders. 326 pages. United States Naval Institute. 1927.
  3. Jump up^“Von Sanders Dies. Famous Marshal. German Commander Defended Gallipoli For Turks Against The British. Vanquished In Palestine. Began Reorganization Of Sultan’s Armies In 1913. Honored By Former Kaiser.”The New York TimesAssociated Press. August 25, 1929. Retrieved 2010-07-04. Field Marshal Otto K.B. Liman von Sanders, who directed operations against the British in Gallipoli during the World War, died on Thursday in Munich at the age of 74.

عثمانليكس – الجزء 1 : جنرال ألماني يقود القوات العثمانية ويساعدهم في ارتكاب المجازر

Scroll to top