تمهيد

عُرفت المملكة الأردنية النبطية بإزدهارها صناعيا ويعزى سبب ازدهار الإنتاج الصناعي فيها إلى تـوفر المواد الخام والخبرة الكافية والضرورية لاستغلال المصادر وتلبية الحاجات، ويبدو أن هناك صـناعات معينة طورت بشكل لافت على أيدي الأردنيين الأنباط حتى أن الممارسين لها كانوا قادرين على تزويـد حاجـات المجتمع المحلي وكذلك تصدير البضائع إلى العالم الخارجي، وكانت هذه حالة صـناعة القار وصناعات أخرى رائدة.

إنتاج القار عند الأردنيين الأنباط

 يبدو أن المملكة الأردنية النبطية كانت أكثر شهرة وانتشارا في استخراجها وصناعتها وتصديرها للقار دونا عن باقي المنتجات والسلع، وكانت هذه السلع جميعها تنقل بواسطة الطرق البرية والبحرية عبر الأراضي والمنافذ البحرية لمملكة الأردنيين الأنباط التي كانت مجهزة بالأبنية لخدمة حاجات القوافل والسفن.
ويعد البحر الميت المصدر الأساسي والمهم في إنتاج مادة القار (الإسفلت) في الشرق، فقد ذكر ديودور أن الأردنيين الأنباط كانوا يأخذونه من البحر بكميات كبيرة تتراوح ما بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف قدم مكعب في السنة، وقد صُدّر القار من الأردن إلى مصر تحديدا في فترة مبكرة بين عام (3900 – 200 ق.م) وذلك قبل إستعمال القار في التحنيط.

ومن المشهور أن البحر الميت يتحلّى بخصائص شديدة الغرابة من بينها إطلاق (‏الاسفلت)‏ الذي تطفو كتل منه على السطح من وقت الى آخر؛ ففي سنة ١٩٠٥،‏ افادت المجلة الدورية عالَم الكتاب المقدس‏ (‏بالانكليزية)‏ أن البحر الميت لفظ على الشاطئ عام ١٨٣٤ قطعة من الحُمر تزن حوالي ٧٠٠‏,٢ كلغ.‏ وهذه المادة هي «أول منتَج نفطي استخدمه البشر»،‏ حسبما تذكر مجلة عالم ارامكو السعودية في عددها الصادر في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏/‏كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٨٤.‏

وقد ساد اعتقاد عند البعض ان القار ( الاسفلت ) يطفو على السطح بفعل الزلازل التي تتسبب بانفصال قطع كبيرة منه عن قعر البحر.‏ ولكن المرجّح الآن أن الاسفلت ينفذ من الطيات الاختراقية أو الصدوع ويصل إلى قعر البحر حيث يلتصق بالصخور المكوَّنة من ترسبات ملحية.‏ وعند ذوبان هذه الصخور،‏ تطفو كتل الإسفلت على سطح المياه.‏

فيما تشكل القار في البحر الميت كنتيجة لترسب المواد العضوية على طول الحواف القارية في الشرق الأدنى القديم، واستخدم بشكل واسع منذ الألفية الرابعة ق.م.

ويبدو أن براعة الأردنيين الأنباط في استخراج القار منذ القرن الرابع ق.م، والفوائد الاقتصادية العائدة عليهم من استخراجه وتصديره قد جلبت لهم العداء وفتحت شهوة الكثيرين للسيطرة على هذا المنتج ومصادره، ويتضح ذلك من خلال الحرب التي حصلت بين الأردنيين الأنباط والسلوقيين. عندما حاول السلوقيون إنتزاع السيطرة من الأردنيين الأنباط على إستغلال القار أثناء حملة ديميتروس الفاشلة ضد الأردنيين الأنباط، حيث عاد ديميتروس السلوقي من إحدى جولاته إلى انتيغونوس وأخبره عن البحر الميت وعن القار وعن عوائده الاقتصادية والتجارية المهمة التي يحقهها الأردنيون الأنباط من خلاله، وحينها أمر انتيغونوس على الفور بتجهيز القوارب ومهاجمة المملكة الأردنية النبطية  في ذلك المكان وجمع القار وتركه في مكان خاص. وعند وصول الأخبار للقيادة الأردنية النبطية أبحر حوالي 6000 من الجنود الأنباط لملاقاة الجنود السلوقيين وقتلوا معظمهم وهرب انتيغونوس .

يشيرهذا الحدث بالضرورة إلى أهمية القار عند الأردنيين الأنباط وتمسكهم بالحفاظ على سيادتهم على مصادر انتاجه، وتكاد تكون هذه الحرب، الحرب البحرية الوحيدة المذكورة في تاريخ المملكة الأردنية النبطية.

طريقة استخراج القار من البحر الميت 

وصف ديودورس البحر الميت، بأنه بحيرة ضخمة، كانت تنتج القار بوفرة، ومن هذا القار كان الأردنيون الأنباط يحصلون على أموال طائلة نظير انتاجه وتصديره . وكان طول هذه البحيرة حوالي 500 ستاد والاستاد هو وحدة قياس رومانية قديمة تساوي 6.7 قدم إنجليزي وعرضه 60 استاد والمياه فيه ذات رائحة كريهة وطعمه مر ولا تعيش فيه الأسماك.

كما ذكر سترابو في كتابه الجغرافيا، أن البحر الميت كان به وفرة من القار، والتي تبدو علـى شكل فقاعات كالماء الذي يغلي من وسط الجزء الأعمق به، بالإضافة إلى ذلك فإن القـار كان يصعد بكميات كبيرة من البخار القائم غير المرئي للعين والذي يلوث النحاس والفضة وكل شيء لامع حتى الذهـب.

labrea_tarbubble
فقاعات القار

بينما يذكر ديودورس بأن القار كان ينبثق من مركز البحر الميت كل عام عبر كتلة ضخمة منه تمتد على مسافة أكثر من 3 بلثرات وهو مقياس قديم أيضا، وعندما يحدث هذا فإن الأردنيين الأنباط عادة ما يسمون التدفق الضخم بالثور والتدفق الأصغر باسم العجل، وذلك لأن القار يطفوا على سطح البحيرة ومن ينظر إليه من مسافة بعيدة يراه على هذه الشاكلة.

من جهتهم يشير كل من بلـيني وتـاكتوس إلى استغلال القار من البحر الميت ويذكر تاكتوس في كتابه التاريخ، بحـيرة ضخمة في حجمها وفي موسم معين من السنة تقذف القار، والـذي اكتسـب السـكان المجاورون له خبرة في جمعه.

الواضح أيضا أن الأردنيين الأنباط كانوا يعرفون بانبثاق القـار قبل أن يحدث بعشرين يوماً، لأنه من مسافة استادات معينة حول البحيرة تكـون هناك رائحة تحملها الريح وتصل إليهم، وهذه الرائحة – أي رائحة القار – تجعل كل قطعة نحاس أو ذهب أو فضة في الموقع تفقد لمعانها الخاصة بها.

يقـول ديودورس إن الأنباط استعملوا الأطواف بدلاً من القوارب لجمع القار، وهذه الأطواف كانت تبنى من القصب على هذه الأطواف ثلاث رجال يبحرون فقط، إثنان يتولان التوجيه والقيادة مستخدمين المجاديف والثالث يحمل قوساً لحمايتهم من أي هجوم محتمل مـن الجهـة الأخرى للبحر، وعندما يصلون إلى القار فإنهم يقذفون عليه بالفؤوس كأنه صخرة رقيقـة يقطعونه إلى قطع ويحملونه على الأطواف ومن ثم  يبحرون عائدين. وكان الأردنيون الأنباط يبيعوا القار إلى المصريين الفراعنة الذين استخدموه في عملية التحنيط كما استُخدم في صناعة المنتجـات العطرية .

ويذكر جوسفيوس في كتابه الحرب اليهودية البحـر  الميت والقار، أن الإمبراطور الروماني أتى لاستكشافه، كما يذكر أن معظم أنحاء البحر الميت تلقي قطعا أو كتلاً سوداء من القار والتي تطفو على السـطح، وشـكلها  وحجمها تشبه الثيران مقطوعة الرؤوس. والعمال على البحيرة يقومون بالإمساك بالكتل وسحبها إلى القوارب ثم عندما يملؤونها، لا يكون من السهل أن يفكوا هذه الحمولة بسبب طبيعة القار الغروية واللزجة بحيث يتعلق بالقارب ويحتاج لأمر لعملية معقدة .

bitumen
انبثاق القار عبر الأرض

استعمالات  القار

استعمل القار منذ سـنة ٤٠٠٠ م .ق في مجالات مختلفة منها :

  • وصل الشفرات الصـوانية.
  • التحنيط .
  • صناعة الأدوية .
  • صقل أواني النحاس والبرونز لجعلها مقاومة للمياه.
  • منع تسرّب الماء الى القوارب وكمادة طاردة للحشرات.
  • في عملية البناء كبديل عن الإسمنت، حيث كان يستخدم مع الطوب المخبوز والحجارة الصغيرة، وكان يستخدم أيضاً في بـلاد الرافدين القديمة في بناء الطرق إلى مدى محدود خاصة في الطرق الـتي تصـل إلى المعابـد والقصور الملكية . وكان يسـتخدم كمـادة رابطـة بـين بلاطـات الأرصـفة لهـذه الطرق، واستخدم أيضا لسد شقوق السقوف.
  • في الزراعـة، اذ يحتوي القـار على مادة الكبريت.
  • في الطقـوس الدينيـة بحيث حوّل المصريون الفراعنة القار إلى تمائم توضع مع المومياء لغرض طرد العدو مـن القبر. وكذلك كان المصريون الفراعنة يستعملونه في صناعة المجوهرات التقليديـة وفي تلـوين المعادن، واستخدم في أغلاف الأكفان الجلدية.

يتضح لنا ختاما براعة العقل الاقتصادي عند الأردنيين الأنباط اذ استغلوا القـار بشكل أساسي وفعّال في ميزانهم التجاري ومنظمومتهم الاقتصادية وبما يخدم أغراضهم التجارية وعلاقات الجوار، ويلبي على وجه الخصوص ازدياد الطلب الاقليمي في حينه على القار واحتياجات الأسواق المصرية.

المراجع

  • الضلاعين ، مروان، الإنتاج الصناعي في مملكة الانباط ، بحث منشور.
  • ابوالحمام،عزام(2009)، الأنباط تاريخ وحضارة،(ط1)،عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع.
  • عباس، احسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط،(ط1)،عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.

استخراج القار عند الأردنيين الأنباط

تمهيد
كانت الحضارة الأردنية النبطية وما زالت علامة مضيئة في مسيرة الحضارة الإنسانية إذ قدمت أنموذجاً سباقًا بين الحضارات في العالم القديم يُحتذى به في شتى المجالات الحضارية في الميثولوجيا الدينية والثقافية وفنون العمارة، مكانة المرأة في المجتمع، والمنحوتات، واستنباط الماء، ونظم النقل التجارية، وإنشاء الموانئ البحرية، ولعل أبرز هذه المجالات اهتمام الأردنيين الأنباط وعنايتهم بتطوير النظم الاجتماعية لما له من انعكاس مباشر على تطوّر وتقدم باقي النظم المفصلية في المملكة النبطية الأردنية، وهذا ما يظهر بشكل جلي في مقدار الرفاه الإجتماعي الذي عاشه الأردنيون الأنباط ، ولذلك يسعى هذا البحث لقراءة أبرز ملامح الحياة الاجتماعية في المملكة النبطية الأردنية.

Untitled

الملامح الاجتماعية للحضارة الأردنية النبطية

حسب ما ذكرت المصادر بأن المجتمع النبطي الأردني  قد كان يتألف من مجموعة من القبائل، كما يُعتقد لدى بعض الباحثين بأن لفظ “الأنباط” يعطي مدلولا واسعا على عدد من العشائر والقبائل المتركزة في منطقة اقليمية واحدة اندمجت لتشكل شعباَ واحداَ، كما نجد تفسير آخر ذا منطق ديموغرافي على قيام المملكة الأردنية النبطية بحسب ذكر المؤرخ هاموند بأن كلمة “نبطو” تدل على إتحاد بين عدد من القبائل الأردنية المنطوية فيما بينها والذي بدوره شكل إتحاداَ قِبلياَ، فقد كان هذا الاتحاد القبلي نواة إزدهار المملكة النبطية الأردنية وبقائها، والذي بدوره خلق أخلاقيات التسامح والتعاون المشترك فيما بينها فضلاَ عن الانفتاح الحضاري بينهم وبين مختلف الشعوب المجاورة لهم .

 

 

الأنظمة الاجتماعية السياسية السائدة في المجتمع الأردني النبطي 

النظام القِبلي 

نظراِ لقيام المملكة الأردنية النبطية على أساس عشائري متحد مع بعضه، فقد كانت غالبا ما تستند إلى نظام المشيخة، إذ كانت الأحلاف العشائرية أساس قيام هذه الدولة قبل إرتقائها إلى الدولة الملكية، وكان شيخ المشايخ المسؤول عن استخدام القوة وتوجيهها وإختيار الأشخاص المخولين من بعده لأداء الوظائف العسكرية والتجارية، بالإضافة إلى مسؤوليته في حماية القوافل التجارية المارة ضمن حدود المملكة الناشئة وإصدار الأوامر وعقد الاتفاقيات والمعاهدات وإبرامها.

 2

ويُستنتج من ذلك أن النظام القبلي تكوّن من شيخ القبيلة الذي يُعتبر رأس السلطة ومركزها، وبالرغم من أنه كان قادراً على إتخاذ القرارات بمفرده إلا أنه كان يأخذ برأي مجلس الشورى المُكون من وجهاء القبيلة وزعاماتها .

انتقال الأردنيين الأنباط إلى النظام الملكي 

بعد قيام التحالفات بين القبائل الأردنية النبطية وزيادة وتيرة التقدم الإقتصادي والثقافي الاجتماعي  في الدولة النبطية الناشئة، دعت الحاجة أيضا إلى تطوير البنى والنظم السياسية داخل الدولة النبطية الأردنية، رافق ذلك توفر العوامل التي ساعدت على المضي قُدما بهذا النهج جنبا إلى جنب مع التطورات الديمغرافية والموقع الجيوسياسي الإستراتيجي الذي فرض نفسه على الخارطة السياسية باعتبار الدولة النبطية حديثة العهد تحولت لمنفذ بارز ومسيطر على الطرق التجارية بنوعيها البري والبحري .

بداً ظهور الأردنيين الأنباط على مسرح التاريخ السياسي في القرن الرابع قبل الميلاد، إثر إرسال أحد  خلفاء الإسكندر المقدوني لحملتين لغزو الدولة النبطية، وبعد فشل الحملتين في كسر عزيمة الأردنيين الأنباط والسيطرة على أراضي الدولة، فرض فشل الغزو ضرورة اللجوء للخيارات الدبلوماسية في التعامل مع الأردنيين الأنباط حيث أرسل خلفاء الاسكندر المقدوني الهدايا والقرابين لضمان طيب العلاقة بينهم وبين الأردنيين الأنباط.
ومن النظام السياسي القريب من الشعب الذي ولد عن النظام العشائري القديم، عاد الأردنيون الأنباط لنفس النظام العشائري مجددا بعد دخول البترا تحت الحكم الروماني في عام 106 ميلادية ووفاة الملك النبطي الأردني  رب إيل الثاني ، ولم يتغير الكثير على حياة الأردنيين الأنباط خصوصاً في النقب والجزء الجنوبي من بلاد الأنباط ، اذ لم يكن النظام السياسي الملكي وليد اللحظة، بل تحويراً واشتقاقا عن نظام كان وما زال موجوداً حينها فعاد الأردنيون الأنباط لنفس التنظيم السياسي القائم على المشيخة النبطية المشابهة لنظام الملكية الشعبية النبطية مما مكّن الأنباط من التكيف مع السيطرة الرومانية عبر نظامهم الإداري والسياسي المستقل.

حُكمت المملكة الأردنية النبطية من قبل 12 ملك نبطي أردني ومن المحتمل أن يكونوا أكثر من هذا العدد بحسب ما أفادت به بعض الدراسات نظرا لوجود بعض الفجوات التاريخية في السلم الزمني لهذا الترتيب، ولم يتم التوصل إلى الملوك الذين حكموا الأنباط في تلك الفترة.

وكان الترتيب الأكثر شيوعا للملوك الأردنيين الأنباط يبدأ بالملك الحارث الأول الذي لم تكن بداية فترة تقلده للحكم معلومة وانتهت فترة حكمه في 169 ق.م، وصولا إلى رب إيل الثاني .

Untitled 3

  • الحارث الأول (169 ق.م -؟)
  • الملك زيد أيل (146 ق.م -؟)
  • الحارث الثاني (110 ق.م -95 ق.م )
  • عبادة الأول (95 ق.م -88ق.م )
  • رب ئيل الأول (88 ق.م -78 ق.م )
  • الحارث الثالث (78ق.م-62 ق.م)
  • عبادة الثاني (62 ق.م – 60 ق.م )
  • مالك الأول (60 ق.م – 30 ق.م)
  • عبادة الثالث (30 ق.م -9 ق.م )
  • الحارث الرابع (9 ق.م – 40 م)
  • مالك الثاني (40 م – 71 م)
  • رب إيل الثاني ( 71 م – 106 م)

Untitled 4

الطبقات الإجتماعية لدى الأردنيين الأنباط

كان لإنتقال الأردنيين الأنباط من الحياة شبه البدوية إلى الحياة المستقرة دوراً في استحداث عدة طبقات في المجتمع النبطي الأردني ، بالإضافة إلى وجودهم في مركز أهم الطرق التجارية البرية والبحرية في العالم القديم، والذي بدوره أدى إلى انفتاحهم على الحضارات المجاورة لهم من خلال القوافل التجارية المارة والذي خلق أنواعا جديدة من الطبقات الإجتماعية، إذ تباينت الطبقات الإجتماعية في الدولة الاردنية النبطية والذي بدوره كان أمراً لا بد منه في ظل اعتبارها دولة تجارية مؤثرة .

Untitled 61. الطبقة الأرستقراطية

سميت أيضاً بفئة الأشراف فقد كانت الطبقة الأرستقراطية تمتلك رأس المال التجاري بالإضافة إلى تحكمها في أمور الشعب، وتتكون هذا الطبقة من أصحاب المعابد “رجال الدين” وشيوخ القبائل والموظفين الكبار ونواب المملكة في المحطات التجارية، حيث اقتصرت هذه الطبقة على الحكام والكهنة والمشايخ فقد كانوا يمتلكون الإمتيازات الاقتصادية والسياسية إضافة لامتلاكم حصة كبيرة من الأراضي الواقعة ضمن الدولة الأردنية النبطية.

كانت الطبقة الارستقراطية هي الطبقة المشرفة على طرق المواصلات، بالإضافة إلى تحكمها في الأسعار واحتكارها لبعض السلع التجارية، ومسؤوليتها في إقراض الأموال كالذي فعلته السيدة رومي النجرانية حيث أنها أقرضت الدولة الاردنية النبطية مبلغاً من المال وتنازلت عن أرباحه .

في ضوء ذلك يمكننا تصور الإمكانية الاقتصادية والمالية لهذه الطبقة التي بلغ ثراها مسامع اليونان والرومان، حيث كانت هذه الفئة باقتصارها على قلة من الأشخاص ترسم سياسة الدولة تِبعاً لمصالحها الاقتصادية مما أدى إلى إخضاع الطبقات الأخرى لتنفيذ أوامرها .

2.  طبقة المواطنون الأحرار 

كانت هذه الطبقة تُشكل الشريحة الأكبر من المجتمع الأردني النبطي، فتكونت من الجند المسلحين لحفظ نظام الدولة وأمن القلاع وحراسة القوافل، والفلاحين، وزارعي الأراضي، والصناع، والتجار ذوي الدخل المتوسط، وبحسب ما ذُكر في المصادر أن الطبقة الأرستقراطية كانت تقوم بمنح طبقة المواطنين الأحرار بعض الإقطاعات الزراعية في سبيل إستغلالها وزراعتها لتسد بذلك حاجاتهم ، كما كانت هذه الفئة تخضع لفرض الضرائب.

3. طبقة الأجانب 

يًستنتج من وجود هذه الفئة ضمن ترتيب الطبقات الإجتماعية في الدولة الأردنية النبطية أنها كانت ذات أثر اقتصادي مهم، فقد كانت طبقة غير ثابتة العدد في المجتمع الأردني النبطي، فيما ذكر بعض المستشرقين أن أكثرهم من الجاليات الإغريقية والرومانية، تتبع زيادتهم ونقصانهم إلى أعداد القوافل التجارية الآتية والذاهبة من وإلى العاصمة الأردنية النبطية ( البترا )  والتي اعتُبرت مركزا أساسيا للتجارالأجانب والأوربيين ومدينة تجارية تتوسط مناطق الإنتاج والتصدير للسلع الأكثر طلبا في ذلك الوقت.

4. طبقة العبيد 

كانت هذه الفئة من فاقدي الحقوق الاقتصادية والسياسية، فقد كان العبيد تابعون للأرض غير أحرار بنفسهم، ويوكل لهم بعض المهام الحرفية ، وفي بعض الأوقات كانوا يُحررون من العبودية بسبب مهمة خاصة أو بطولة مهمة أو حتى بسبب كلمة حق تفوه بها العبد، أما بالنسبة للأردنيين الأنباط فقد عزفوا عموما عن امتلاك العبيد لسببين الأول هو الحفاظ على نقاء مجتمعهم والثاني للضرورات الأمنية كان أهمها التخوف من معرفتهم لمواضع المياه السرية في البترا والأراضي النبطية الصحراوية ومن الأسباب الأخرى التي تعود إلى الجانب الإجتماعي وأُسس الفكر النبطي؛ أن الأردنيين الأنباط كانوا يميلون لخدمة أنفسهم حتى أن تلك العادة اشتهرت عند ملوك الأنباط  حيث كان يُحتم على كافة أعضاء الأسرة القيام بالواجبات الحياتية اليومية حتى أنه كان يوكل للأطفال رعي المواشي والأنعام .

مكانة المرأة الاردنية النبطية في الحياة الإجتماعية 

كشفت العديد من النقوش عن الملامح الإجتماعية في المملكة الأردنية النبطية  عن مكانة المرأة الأردنية النبطية في المجتمع النبطي، فقد احتوت هذه النقوش على دورها كملكة وكعاملة، وكآلهة أيضا إضافة إلى إشارات حول حقوق المرأة الأردنية النبطية في الميراث فضلاً عن وجود عدة نقوش توضح مكانة المرأة في الحياة السياسية، ما منحها مكانة راقية في مجتمعها يندر وجود مثيل لها في الحضارات القديمة، والذي دل بدوره أيضا على مستوى التطور الذي وصلت إليه هذه الحضارة العريقة، فقد مُنحت المرأة النبطية موقعاً مميزاً وبارزاً في المجتمع، ومن الواضح أن النساء النبطيات قد امتلكن استقلالية قانونية وحرية التملك كاملة غير منتقصة شاملة الممتلكات المادية والثروات والأراضي، وهذا ما أكدته العديد من النقوش النبطية حيث أن كثير من النساء الأردنيات النبطيات نقشن أسماءهن على الصخور أو كلفن شخصاً ليكتب لهن.

وفيما يخُص الملكيات الفردية فقد حازت المرأة على خصوصيتها ضمن المدافن، ويظهر ذلك واضحا عبر القبور الخاصة بالنساء في البترا  وبعضاً من النقوش التي وُجدت في أم القطين حيث عُثر على عدة نقوش لنساء تؤرخ في النصف الأول من القرن الأول الميلادي، اذ حرصت المرأة الأردنية النبطية على تسجيل اسمها على شواهد القبور كالنقش الذي وُجد في “ذات رأس” بجنوب الأردن ” بما تم تفسيره بـ: (ﻟﺣﯾﺎة ﺑﻧت ﻋﻣرة ﺑن أﻧﺟﺳدﻣس ﺑن ﻋﻣرة )، كما تم العثور على بعض من المسكوكات النقدية التي تظهر فيها صور المرأة كأخت أو زوجة الملك ، إضافة إلى دورها السياسي المؤثر فعلى سبيل المثال كانت والدة (رب إيل الثاني)  الملكة شقيلة ” شقيلات ” الوصية على عرش إبنها إلى أن يبلغ السن القانونية للولاية والحكم بعد موت والده وذلك حتى وفاتها عام 75 ميلادية، وقد سُكت العملة التي تظهر فيها صورتها إلى جانب صورة إبنها، وقد ذكرت عدد من النساء في النقوش على أنهن شقيقات للملك وفي نقش وادي موسى ذُكرت فيه أسماء أفراد الأسرة الملكية من النساء وهن شقيلات وجميلة وهاجر .

تمثال الملكة الأردنية النبطية شقيلات Petra: Lost City of Stone, as seen at the American Museum of Natural History, 2004. Photo by Dennis Finnin, American Museum of Natural History
تمثال الملكة الأردنية النبطية شقيلات
Petra: Lost City of Stone, as seen at the American Museum of Natural History, 2004. Photo by Dennis Finnin, American Museum of Natural History

كما أشارت النقوش إلى حضور مميز للمرأة الأردنية النبطية في الميثولوجيا الدينية النبطية، فنجد عدداً من الآلهة المؤنثة واللاتي حملن صفات أنثوية، مثل اللات والعزى ومناة وعترغتيس، كما أشارت عدة نقوش إلى دور المرأة الأردنية النبطية الطقوس الدينية وممارستها في المعابد خصوصاً فيما يتعلق بالخصب أو من خلال مشاركتها في الولائم الجماعية كمغنية أو مرتلة، أو عازفة موسيقى، كما أنها لعبت دور الكاهنة في المعبد.

Untitled 8

وفي النصوص الجنائزية التي عُثر عليها في عدة مناطق نبطية، نجد من خلالها أن المرأة قد تساوت مع الرجل في أغلب حقوقها، فقد امتلكت حق عمل مدافن خاصة لها وحق التصرف المُطلق بالمدفن وكذلك حقها في وراثة المدفن مع الذكور، كما نجد عددا من النصوص التي أعلنت فيها ملكية المدافن كانت تمتلكها إناث فقط وقد ورد في أربعة نصوص نسبة البنت إلى أمها .

أما بالنسبة للتجارة فقد عُثر على عقود بيع في وادي حفير في منطقة البحر الميت لأمرأة تُدعى “ابيعدن بنت افتح” وقد باعت مزارع نخيل كانت تملكها في المنطقة حيث وجد اسمها في عدد من عقود البيع التي كانت هي أحد الأطراف فيه، إذ قامت بتوثيق جميع العقود والملكيات باسمها ومن ثم التوقيع على العقود بخط يدها مما يدل على حرية المرأة الاردنية النبطية بالبيع والشراء والتملك وأهليتها الواضحة فيما يتعلق بأمور التجارة ودورها المهم والفاعل والرائد في النظم الاجتماعية النبطية الأردنية .

Untitled 9

وثيقة تجارية نبطية لبيع مزارع لمرأة

المراجع

  • أبو حمام ، عزام ، الأنباط “تاريخ وحضارة” ، الطبعة الأولى ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، 2009 ، (عمان – الأردن).
  • الحموري ، خالد ، مملكة العرب الأنباط : دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية ،الطبعة الأولى ، البتراء:بيت الأنباط ، 2002 ، (عمان – الأردن).
  • المصري ، إياد ، عبد العزيز ، مهدي ، المدلولات الإجتماعية في النقوش النبطية ، معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث ، الجامعة الهاشمية ، (الزرقاء ، الاردن).
  • النصرات ، محمد إسماعيل (2007) . مملكة الأنباط التاريخ السياسي ، عمان ، ص254-261.
  • عباس ، إحسان ،  تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان).
  • عبدالعزيز ، مهدي ، القدرة ، حسين ، ﺍﻟﺘﺸﺭﻴﻊ ﺍﻟﻨﺒﻁﻲ: ﺃَﻋﺭﺍﻑ ﻤﺘﺩﺍﻭﻟﺔ ﺃﻡ ﻗﻭﺍﻨﻴﻥ متداولة ؟ ، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار ، ﺍﻟﻤﺠﻠد 3 ، العدد 2 ، 2009 م (عمان – الأردن).

 

الملامح الإجتماعية في الحضارة الأردنية النبطية

1

كان أجدادنا الأردنيين الأنباط من السباقين في شتى المجالات المتعارف عليها في زمانهم، اذ نجحوا بشق الصخر ونحته، استصلاح الأراضي وفلاحتها، تعلم لغات ودقة التجارة وأنشطتها وقادوا ثورات فكرية وعلمية على مختلف الأصعدة .

 آمن الأردنيون الأنباط بأن الماء هو عصب الحضارات والمجتمعات البشرية، فانعكست هذه المقولة على ديمومة حضارتهم، وظفروا بجلب المياه من أقاصي الجبال إلى أسفل الوديان باستخدام تقنيات مذهلة وبعضها ما زال عصيّا عن التفسير، كما استطاع الأردنيون الأنباط فهم الحاجة الدائمة لعمليات التوفير والتخزين للموارد المائية لضمان ديمومتها ومنها للحرمان منها حين الحاجة، فقاموا بتخزين المياه لغرض استهلاكها في مواسم الجفاف ما حفظ لهذه الحضارة استمراريتها وانتشارها وفعاليتها لزمن طويل في مواجهة صنوف الحروب والحصار من أعدائها.

علاقة الأردنيين الأنباط بالماء

لا يُمكن الحديث عن الأردنيين الأنباط دون الإشادة ببراعتهم في هندسة المخازن المائية، وعندما نعود للجذر اللغوي لكلمة الأنباط وهو : “نبط” وبحسب ما أتى به ابن منظور بأن النبط هو الماء المتواجد في البئر، أو ما يتم جلبه من الجبل بالعروق المتواجدة بالصخر ، فبهذا يكتمل المعنى ويدلّل بالضرورة على العبقرية الأردنية النبطية في هذا المجال لمعرفتهم المتطلبات الأساسية لتوفيرالمياه وتخزينها ونقلها .

2

ومنذ اطلاق شرارة النهضة النبطية في الأراضي الجنوبية من الأردن والتي عُرفت بشُح المياه وتذبذب المواسم المطرية على غرار الحضارات المواكبة التي تقطن عند مصادر المياه السطحية،  كرّس الأردنيون الأنباط جهودهم لتأمين احتياجاتهم وابتكارعدة وسائل لاختزان المياه وإدارة توزيعها، فضلا عن  توسع رقعة المملكة النبطية ما بين القرنين الأول والثاني الميلادي ، والزيادات السكانية الحاصلة فيها، ما فرض ضرورة المحافظة على مصادر المياه وإدارة كل نقطة ماء، ولذا أسس الأردنيون الأنباط أنظمة عديدة لحفظ المياه ما هي الآن إلا بقايا لشبكة متطورة مواكبة للشبكات المائية الحالية، فقد كانت هذه الأنظمة المجموعة كافية لسد رمق حضارة بأكملها ودوام نهضتها بالإضافة إلى العابرين من سبيلها .

نظرة في الظروف المناخية السائدة في المملكة النبطية الأردنية

كانت البترا عاصمة الأردنيين الأنباط تقع ضمن المنطقتين المتوسطة والصحراوية مما يفسر مقدار التباين في المناخ من وقت إلى آخر، بحيث تتراوح متوسط دراجات الحرارة بين 35 – 40 درجة مئوية بمعدل هطول 200 – 300 مليمتر سنويا، مع وجود تفاوت في نسبة الهطول المطري من سنة إلى أخرى، أما عن باقي المناطق النبطية الأردنية كخربة الذريح والسلع اللواتي يمتزن بمعدل هطول عالي بين 300 -600 مليمتر سنويا باعتبارها مناطق جبلية، أما عن الوديان كوادي الموجب ووادي الحسا فلا تتجاوز الأمطار معدل 215 مليمتر سنويا ، ويظهر التذبذب المطري في غور وادي عربة التي بالكاد تتجاوز 100 مليمترا سنويا مرورا بفينان التي لم تتجاوزالأمطار فيها حاجز 50 مليمتر سنويا بحيث يقع تصنيفها ضمن النطاق الصحراوي  .

ويتضح هنا أن شح الأمطار وقلة معدلات الهطول كانت من أكبر المعضلات عند الأردنيين الأنباط والتي سرعان ما وجدوا لها حلولا مميزة أثمرت بالنجاح، اذ أنشأ الأردنيون الأنباط نظام حصاد مائي ضخم كان يخدم القوافل المارة والسكان المحليين، وساهم إلى حد كبير في الحفاظ على معالم حضارتهم واستمراريتها وبناء المعالم العمرانية والحضارية لعاصمتهم البترا وماحولها.

أنظمة الحصاد المائي في الحضارة النبطية الأردنية

تميزت أنظمة الري عند الأردنيين الأنباط بالتكامل فقاموا بحماية مدينتهم من الفيضانات بإنشاء المدرجات الحجرية والترابية والسدود للتخفيف من حدة جريان المياه، وأنشؤوا القنوات والأنفاق لتحويل مسار جريان المياه، وقاموا بتصميم قنوات لتجميع المياه فوق الواجهات المنحوتة في صخور البتراء الرملية، وجدروا السفوح  ذات الانحدارات الشديدة لمنع الانجراف والذي يعد نموذجا على الزراعة الكنتورية، وصولا للخزانات التي قاموا بنحتها للحفاظ على المياه المتجمعة والاستفادة منها، تكشف هذه التقنيات جميعها براعة الأنباط الأردنيين بمعرفة كيفية التعامل مع بيئتهم، ويُعزى وصولهم لمثل هذه المراحل المتطورة إلى سيطرتهم على مياه الأمطار الموسمية والقليلة  فقد أدركوا أهمية الاستفادة منها لاستمرار حياتهم، بالإضافة إلى قدرتهم على استعمال المصادر الطبيعية المتوفرة وتحويلها لما يخدم مصلحتهم، ومن الجدير بالذكر هنا أن أغلب المنشآت المائية التي أنشأها الأردنيون الأنباط ما زالت تعمل إلى هذا الوقت  .

3

كما استحدث الأردنيون الأنباط نوعين من أنظمة الحصاد المائي أحدهما كان ضمن مرحلتين الأولى تضم تجميع المياه ونتنقيتها ثم توزيعها إلى المناطق التي تقع ضمن حدودهم، والمرحلة الثانية كانت تقتصرعلى تخزين المياه الزائدة لاستعمالها في أوقات الحاجة كمواسم الجفاف، أما النظام الآخر فهو ما عرف بنظام ( تليلات العنب ) الذي كان عبارة عن رجوم من الحجارة المصفوفة على سفوح التلال في نمط متداخل مع القنوات المائية حيث كان الجزء الأعظم من سفوح التلال في الأراضي الأردنية النبطية  مُغطى بالقنوات المصنوعة من الحجارة، والغرض من بناءها في المرتفعات الجبلية كان لتمكين المياه الزائدة من الانسياب إلى القنوات والأحواض الموجودة، فكانت نتيجة هذا الجهد أن المملكة الأردنية النبطية لم تعانِ قط من نقص في المياه   – كما ذكرنا سابقا –  كما كانت تُزود القوافل التجارية والمسافرين بالمياه .

4

منشآت الحصاد المائي في الحضارة الأردنية النبطية

نظرا لاتساع رقعة المملكة الأردنية النبطية تحديدا في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد والأول والثاني ميلادي، فضلا عن الزيادات السكنية الحاصلة في ذلك الوقت من الزمان وتعدد المحطات التجارية، ما دفعهم إلى التفكير في استحداث منشآت أخرى من شأنها أن تحميهم وتعوضهم عن شُح المياه، مع اعتماد الحضارة الأردنية النبطية الكامل على مياه الأمطار، ورغم أن تأسيس هذه المنظومات المائية كان يتطلب توفر الكثير من التقنيات والأدوات اللازمة فضلا عن المعرفة الدقيقة بطبيعة الأرض وكيفية التعامل معها والذي يستدعي – في وقتنا الحاضر – وجود متخصصين في هندسة الري والحصاد المائي، أما الأنباط الأردنيين فقد برعوا في ذلك باعتمادهم على الموارد المتاحة لديهم، وسنكتفي – في هذا البحث – بذكر معلومات موجزة عن المنظومات المائية لوجود أبحاث مفصلة لكل منظومة على حدا .

5

  • الآبار : عُرفت هذه الآبار أيضا باسم “نقور” لأنها تُنقر في الأرض ذات الطبيعة الكلسية حيث يتم حفر البئر بعمق أربعة أمتار متخذا عدة أشكال منها المربع والمستطيل والكمثري لضمان عدم تسرب المياه وللمحافظة على المياه لمدة طويلة ، وتكون أبوابها ذات أشكال دائرية ضيقة لتقليل عملية التبخر ، كانت تُستخدم هذه الآبار لأغراض الشرب كما استخدمت لأغراض عسكرية أخرى، وقد ذكر ثيودور الصقلي أن الأردنيين الأنباط كانوا يغلقون الآبار بالحجارة ويضعون عليها إشارات دالة مفهومة لديهم حتى لا يتمكن الأعداء من السيطرة عليها، ومن الأمثلة على مثل هذه المنظومة الآبار في قمة الدير وأيضا في وادي فرسا الغربي كما تتواجد أيضا في شمال البترا بالأخص في منطقة السيق البارد .

6

  • القنوات : عمد الأردنيون الأنباط إلى استغلال المياه على جميع الأصعدة سواء للشرب أو في مجال الري والزراعة ، وتنقسم القنوات إلى نوعين حسب نوعية المياه المنقولة فيها، فالنوع الأول يضم مرحلتين بحيث تتكون الأولى من القنوات المختصة بتجميع مياه الأمطار الموجودة على التلال الصخرية والجبال ثم توجيهها نحو الحقول والمصاطب والوحدات الزراعية، والمرحلة الثانية تتم بتصريف المياه الزائدة إلى البرك والسدود والآبار لغرض التخزين، أما النوع الثاني يندرج تحت اسم قنوات مياه العيون و يتطلب هذا النوع دراسات هندسية دقيقة لتخطي الحواجز والأودية، وبناء الجسور والجدران الاستنادية بسبب بُعد تلك القنوات عن التجمعات السكنية فضلا عن وعورة التضاريس التي تمر بها هذه القنوات، واستخدم في بناء هذا النوع من القنوات الحجارة الكلسية المنحوتة و يرجع استخدامهم لهذه الحجارة لضمان عدم تسرب المياه، كما تم نحت القناة بتجاويف ثُبتت بداخلها مواسير فخارية متقنة الصنع ارتبطت مع القناة الحجرية بطبقة من الجص وغطُيت القنوات بشكل مُحكم بالحجارة المنبسطة والجص، كما استُخدم هذا النوع من القنوات لغرض الشرب وقد دل على ذلك وجود المشارب على طول المسار المتكشف من الأقنية، ومن الأمثلة على مثل هذه النوعيات من الأقنية قناة عين حمام الواقعة في الجهة الشمالية الشرقية من منطقة الحميمة، ومن الملفت للنظر أن الأردنيين الأنباط قاموا بتغطية القنوات أو إخفاء آثارها التي تمر من أمام واجهات المباني السكنية و المقابر من خلال حفر الأخاديد العميقة و دفن أنابيب القنوات فيها ثم نشروا المصافي والمصارف على معظم معظم قنوات المياه لتنقيتها من الشوائب ومن الأمثلة على القنوات المصممة بتلك الأساليب تلك الموجودة في خربة الذريح.

7

8

  • الينابيع : كانت الينابيع قليلة الوجود لا سيما في العاصمة النبطية “البترا” ومن بينها نبع عين السيغ ولم يكن هذا النبع يؤدي الغرض المطلوب من تأمين حاجات المدينة بالمياه، وإنما تم تزويد البترا من خلال تجميع مياه الينابيع المنتشرة حولها كنبع عين وادي موسى، ونبع أم سراب ونبع بُراق ونبع دبدبة، فقد كانوا ينقلون هذه المياه باستخدام القنوات المبنية، بحيث كانت مياه هذه الينابيع تغطي جميع احتياجات المدينة من المياه، كما توفرت ثلاثة ينابيع في المنطقة والتي بدورها كانت تُغذى بواسطة قنوات المناطق السكنية والمعابد وقنوات الأراضي الزراعية كعين اللعبان وعين الذريح وعين الفضيح .
  • البرك : كانت برك المياه أكثر انتشارا من الآبار والسدود ، لإيمان الأردنيين الأنباط بقدرتهم على الاستفادة من أماكن التقاء السيول والمنحدرات الصخرية فأنشؤوا البرك والخزانات المائية، وكمعظم المنشآت المائية في الدولة النبطية الأردنية تم إنشاء البرك ضمن خطوات تدريجية متقنة، بحيث تم اختيار المواقع ووضع الخطط الأولية، ومن ثم البدء بنحت الصخور وتقسيمها إلا أن الطبيعة الصخرية جاءت غير متناسقة في بعض الأجزاء من الصخور ويُعزى ذلك إلى الانحدار الشديد أو انقطاع الطبقات الصخرية مما يُعيق عملية تخزين المياه، فأتموا هذه الأجزاء غير المتناسقة بترميمها بالمونة الاسمنتية حيث يتم سقفها ببلاطات لتسد الفجوات ولزيادة تماسك السقف وحمايته من التآكل، وبعد الإنتهاء من الحفر يتم بناء الأقواس التي تُغطي البركة، حيث يتم تغطيتها بالجبس، وقد صمم الأردنيين الأنباط العديد من البرك المكشوفة حيث عُثرعلى ما يقارب الخمسين بركة في الحميمة، شكل جزءا منها نظام ري متكامل للمدينة، كما عُثر على أحواض بجانب البرك استخدمت لسقاية المواشي .

9

  • الخزانات : تتواجد أعداد كبيرة من الخزانات في البترا، وتم تقسيمها إلى عدة أنواع بحسب أحجامها وطرق تزويدها بالمياه بالإضافة إلى وظائفها وتكون إما مرتبطة ببعضها أو على حِدة، حيث تواجدت في الحضارة النبطية الأردنية ثلاثة أنواع من الخزانات منها الخزانات التي تتزود من مياه العيون عن طريق القنوات التي ترد من العيون الكبيرة كعين موسى براق ودبدبة، اذ كانت تلعب دور موزع المياه الموصولة إليها كما هو الحال بالقرب من قبر قصر، أو كخزان وادي فرسا الذي يقع ضمن الشبكة الجنوبية الواقعة على مرتفع وسط المدينة لتزويد بعض النوافير أو الأحواض بالمياه، أما النوع الآخر فهو الخزانات التي تتزود من مياه الأمطار حيث يُقام هذا النوع من الخزانات على جوانب أو سفوح الحواجز الصخرية أو في وسط الهضاب الصخرية أو في الأغوار بالإضافة إلى المنخفضات الطبيعية، تصادف رؤية هذا النوع من المنشآت ضمن المجموعة الهيدرولوجية الواقعة شمال البترا تحديدا في قطاع البقعة وقطار الدير، أما النوع الأخير هو الخزانات الثانوية أو البيتية حيث تقع هذه الأنواع من الخزانات تحت تصرف مجموعة صغيرة من السكان المحليين كالخزانات الموجودة في وادي المطاحة على حافة الحاجز الشمالي الغربي للخبثة .

10

  • السدود : كان بناء السدود أحد أهم المظاهر الحضارية التي امتاز بها الأردنيون الأنباط فضلا عن مقدار الدقة والاتقان مما يدل على مدى التطور الذي وصل إليه العقل النبطي فيما يتعلق بمجال هندسة البناء، اعتمد الأردنيون الأنباط على الحجارة المتقطعة من الصخور التي تمت معالجتها ومن ثم وضعها فوق بعضها واستعمال مادة الجبس والحجارة الصغيرة لسد الفجوات والفراغات في البناء حيث أن الهدف من بناء هذه السدود في الحضارة النبطية الأردنية قد أتى لأسباب عدّة؛ منها السيطرة على مياه الأمطار، بالإضافة إلى وقاية المزارع  والقرى من السيول والاحتفاظ بمياهها تحسُباً لانقطاع الأمطار، مما أدى إلى ازدهار حياتهم وتطورها فقد نشروا السدود في أغلب حدود دولتهم. ومن أعظم السدود وأكثرها تعقيدا سد الكلخة في الجنوب الغربي من الحميمة  وسد أم درج أسفل جبل أبو خشيبة .

11

ميثولوجيا المياه عند الأردنيين الأنباط

يأتي المغزى من معرفة الآلهة النبطية في هذا السياق بغرض التعرف وفهم علاقة النشاط الديني والروحاني النبطي بجوانب حياة الاردنيين الأنباط اليومية وكيف تطورت الميثولوجيا النبطية لتشمل كافة جوانب حياتهم، ويظهر لنا بشكل جلي تأثر الأردنيين الأنباط بآلهتهم ومدى انعكاسها على فهم للبيئة والمحيط، فقد قاموا ببناء المعابد والأضرحة وتقديم القرابين وصولا للطقوس الخاصة بكل آله، ومن آلهة الماء كان “حوت” و “العُزى”  حيث ارتبطت هذه الآلهة بالماء والخضرة، كما أعتبرت “اللات” حارسة الخصب والمياه أيضا.

12

 خلاصة القول هنا أن الأردنيين الأنباط عملوا على استثمار كافة الموارد والأدوات المتوفرة لديهم وتوجيهها لخدمة مصلحة المملكة النبطية، ومن المعتقد بأن التطور الحاصل في حضارتهم كان بتظافر بين سلطة حاكمة ذات فِطنة وشعب حامل للمسؤولية فأتقنوا فن هندسة الحصاد المائي وبناء المنشآت التي كان لها دورها في استمرارية دولتهم نحو نهج التمدن، والتي كانت ذات يوم تُعاصر بتقدمها أكبر الامبراطوريات والدول .

المراجع :

الحموري ، خالد ، مملكة الأنباط : دراسة في الأحوال الإجتماعية والإقتصادية ، الطبعة الأولى ، 2002 ، بيت الأنباط ، (البتراء – الأردن).

المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، الطبعة الأولى ، 2004 ، وزارة الثقافة ، (عمان – الأردن ).

المحيسن ، زيدون ، هندسة المياه والري عند الأنباط العرب ، الطبعة الأولى ، 2002 ، بيت الأنباط ، (البتراء – الأردن).

عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ، الطبعة الأولى ، 1987 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، (عمان – الأردن).

أبو حمام ، عزام ، الأنباط تاريخ وحضارة ، الطبعة الأولى ، 2009 ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، (عمان – الأردن).

الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون) ، الطبعة الأولى ، 2012 ، دار النايا ، دار المحاكاة ، (سوريا- دمشق ) .

 

الحصاد المائي عند الأردنيين الأنباط

تمهيد

كان الموت ولا زال لغزَ البشر المحير. فمن اللحظة التي أعلن فيها الأردنيون الأوائل في “عين غزال” ارتباطهم في الأرض ودفنهم لموتاهم ومتعلقاتهم انطلقت شرارة كل الميثولوجيا الدينية وكل الطقوس. وصحيح أن البترا تسمى المدينة الوردية إلا أنها سميت أيضا بمدينة القبور فيوجد فيها وحدها 500 قبر.

تخبرنا القبور المهيبة التي نحتها الأردنيون الأنباط في الصخر لموتاهم أنهم قدسوا هذا السر وآمنوا بحياة أخرى يبعث فيها الميت من جديد. وعلى واجهات القبور والمعابد يظهر رمز نبطي مشهور وهو رمز “خطوة الغراب” ويكون على شكل ثلاث درجات للأعلى وثلاث درجات للأسفل دلالة على وجود عالمين سفلي وعلوي، عالم الحياة وعالم الموت.

عشرة قلائد ذهبية وتسع خرزات من المقتنيات المدفونة مع الأنباط ديفيد جونسون
عشرة قلائد وتسع خرزات من المقتنيات التي وجدت في إحدى القبور النبطية. حقوق الصورة للباحث ديفيد جونسون

لقد دفع إيمان الأردنيين الأنباط بحياة أخرى لدفن الميت مع أغراضه الشخصية ليستعملها في حياته القادمة. تباينت المتعلقات بين مجوهرات وسيراميك وأحذية وجلود وعملات وصدف وغيرها، على أن قرابة 77% من القبور النبطية البارزة كانت خالية تماما من المتعلقات ويرجح ذلك لحملات السلب والنهب التي كان يقوم بها اللصوص وقاطعو الطرق.

تنقش على واجهات القبور أدعية اللعن التي تلحق اللعنة بأي من تسول له نفسه نبش القبر وسرقة متعلقات الميت. وفي نقش وجد في البترا ويؤرخ إلى 17 م.  يذكر أولاد الميت بناءهم قبرا لوالدهم (أبناء “وهب اللاهي” أقاموا لأبيهم “بيت صلما” والتي تعني حرفيا “بيت للآخرة” بمعنى قبر أو ضريح).

هيكل نبطي (3-12 سنة) برفقة تمثال صغير. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء- حقوق الصورة لإبراهيم وجوردون
هيكل نبطي يعود لطفل من عمر ثلاث إلى اثني عشر سنة، برفقة تمثال صغير. الدفن على شكل فردي. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

عادات وطقوس الدفن: قداسة الموتى

كانت طقوس الدفن والجنائزيات إحدى أهم أعمدة الطقوس الدينية لدى الأردنيين الأنباط، ولا يعود هذا لقداسة الموت ورهبته فحسب، إنما لكون هذه الطقوس مَعبرا إلى الحياة الأخرى التي اعتقد الأردنيون الأنباط بوجودها. وجد الباحثون أن أجدادنا الأنباط قد استخدموا أكثر من طريقة للتعامل مع الموتى، فمنهم من دفن في مقابر حجرية ومنهم من دفن في توابيت خشبية وآخرون حرقت أجسادهم بطرق متباينة. كما شاعت عادات الدفن الفردي والدفن الجماعي إضافة للتحنيط.

يرجح العلماء أن الأردنيين الأنباط تأثروا في الحضارة الرومانية فيما يتعلق بدفن الموتى في التوابيت الخشبية. إن معظم التوابيت التي تم الكشف عنها كانت متحللة وتعود للعصرين الأوسط والمتأخر من الحضارة النبطية . وقد استخدم الأردنيون الأنباط طريقتين في تثبيت التوابيت الخشبية؛ المسامير وتعشيق الخشب وبطريقة ممتازة الصنع. وتتوزع طريقة الدفن هذه في الحميمة والبترا وفي الطرق المؤدية لميناء غزة الذي كان معبر التجارة النبطية الأردنية نحو العالم. وقد وجدت هذه الطريقة حصرا في القبور الرأسية واستدل العلماء عليها بوجود بقايا خشب إضافة لأجراس وأسرجه ومسامير.  وفي منطقة النقب التي كانت امتدادا للمملكة النبطية الأردنية فقد وجد العلماء مدافن حجرية ذات أرضية مربعة مثبتة بالطين ومغطاة بالحجارة وغالبا ما كانت الهياكل العظمية في هذه المدافن محفوظة وكانت التوابيت الخشبية مزركشة وقد توجد بعض آثار الأكاليل (المحيسن: 2009)

Renaissance Tomb- Courteny Ewert 2016
“قبور نبطية محفورة في الصخر من ضريح النهضة في البتراء. حقوق الصورة محفوظة للباحثة كورتني إيورت”

 أما حرق الموتى فيعد من أغرب تقاليد وطقوس الدفن عند الأردنيين الأنباط ورغم ذلك فقد تعددت صور هذه العادة فمن الحرق الجزئي إلى الكلي أو الحرق بالجير غير المطفأ.  وجد العلماء في مقبرة المعيصرة (قرية في محافظة حماة السورية حاليا- شمال المملكة النبطية الأردنية) على رماد لعظام بشرية وحيوانية إضافة لجماجم محروقة بشكل جزئي (الروابدة: 2008) أما الحرق الكلي والذي يسمى ” كولمباريوم” فلم يوجد إلا في مدينة البترا. حيث يكون المدفن كبيرا ومحتويا على فتحات وكوى في الجدار توضع فيها أوانٍ تحوي على رماد الجثث.

صورة أضرحة الرماد
أضرحة الرماد (أعشاش الحمام)  والحفر التي كان يوضع فيها رماد الميت. (الماجدي: 2012)

 أما استخدام الجير المطفأ فهو العادة التي انفرد بها الأردنيون الأنباط عن غيرهم. فقد وجد في مدفن ذو الشرى في البترا جماجم لثلاثة أطفال بجانب رماد لجثث أخرى وطبقة من الرمل الأسود الذي اكتشف لاحقا أنه الجير.  ويبقى سبب استخدام هذه الطريقة غامض حتى الآن على الرغم من أن بعض علماء الآثار يرجحون أنها طريقة ذكية استخدمها الأردنيون الأنباط للقضاء على الأوبئة حيث يقضي الجير على كل المواد العضوية.

لقد تأثر أجدادنا الأنباط بلا شك بالحضارة المصرية، فقد كانت علاقات التجارة بين الحضارتين قوية. يستخرج الأنباط القير(القار) من البحر الميت ويبيعونه للمصرين لأغراض التحنيط. وعلى الرغم من وجود العديد من الدلائل الملموسة على ممارسة التحنيط إلا أن الآثاريين لم يجدوا جثثا محنطة تحاكي الطريقة المصرية في تحنيط المومياوات.

وكان العلماء قد وجدوا في مقبرة خربة الذريح خصلات شعر وأجزاء جافة من الدماغ إضافة لأكفان جلدية مزركشة كما وجدت لفافات جلدية في محاجر العيون دلالة على أن إزالة العيون قبل هذه السلوكيات. وكل هذا يدل على خصوصية تعامل الأردنيين الأنباط مع الميت.

الدفن الفردي والجماعي

سادت عادة الدفن الفردي عند الأردنيين الأنباط، ففي المقبرة النبطية التي وجدت في منطقة مطار الملكة علياء كانت كل القبور فردية. استقبلت كل الجثث جهة الشرق وهي دلالة على وجود طقس جنائزي يحتفي بالشمس التي كانت تمثل الإلهين الرئيسين ذو الشرى واللات.

وعلى الرغم من شيوع الدفن الفردي إلا أن القبور الجماعية قد حضرت أيضا، ولكن بصورة تجعلها أشبه بتقليد خاص ينفذ بناء على رغبة الشخص نفسه. فقد وجدت الكثير من القبور التي خصصت لدفن فرد واحد على هيكلين يقابلان بعضهما أو موضوعان فوق بعضهما، والأرجح أن يكون هذا مقتصرا على الأزواج والعائلة. وفي البترا وجدت مدافن عديدة يحوي أحدها على رماد 30 جثة وآخر يحوي على سبع جماجم.

الجنازة النبطية: طقوس الانتقال إلى الحياة الأخرى  

يخطف الموت فردا من عائلة أردنية نبطية تسكن بيتا محفورا في الصخر. في تلك الأثناء تمسح عائلة الميت دموعها وتستعد لمنح روح الفقيد الراحة الأبدية. في المدفن، يجهز قبر محفور في الصخر بعمق 150 سم، يتلو الكاهن أدعية اللعنة على نابشي القبور، وإن كان الميت مميزا قد تلف جثته بأكفان جلدية مزخرفة وقد ترسم صورته على جدران القبر. تجمع العائلة أغراضه وجواهره ولا ينسون وضع قطع ذهبية في فمه إرضاء لصاحب العربة المسمى “شارون” والذي ينقل روح الميت من الحياة الدنيا إلى العالم الآخر، وتجر هذه العربة خيل وجمال أو حتى دلافين منقوشة على المقابر!

wadi Mataha, Petra Courteny Ewert
قبور نبطية، البتراء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

يتوجه الجميع بعد الدفن إلى المكان المتفق عليه، “المضافة الجنائزية” شتاء داخل المقبرة وصيفا خارجها، يجلسون على المقاعد التي حفرت في الصخر أيضا وربما في مشهد شبيه في بيوت العزاء الحالية، يستقبل أهل الميت المواساة في خسارتهم. داخل المضافة تجلس تماثيل الآلهة في كل زاوية، ويحرق البخور.

تتقدم جموع المعزين من الطقس الجنائزي التالي: الوجبة الجنائزية التي كانت تقدم على موائد صخرية ملحقة في المقبرة. يجلس الحاضرون على الأرضية الرملية ويبدأ تقديم الطعام فتخرج الأطباق والكؤوس الخزفية وربما يصل الأمر إلى كؤوس ذهبية إن كانت الوليمة على شرف الإله أو شرف الحاكم.  ويكمن الأمر المثير للاهتمام بأن عادة تقديم الطعام لا تزال حاضرة كجزء من بيوت العزاء في المجتمع الأردني.

نقش على قبر
نقش نبطي يؤرخ للعام 31/23 م. في مملكة الحجر إحدى الممالك النبطية جنوب العاصمة البتراء. ترجمة النقش: هذا القبر الذي بناه حسايكو ابن حُميدو لنفسه ولذريته ولغزيعات وسلامو أختيه، ابنتا حميدو ولذريتهما. ولا يملك أي أحد حق الكتابة على هذا القبر أو شرائه أو الدفن فيه غير أصحاب الحق من الورثة. ومن يفعل ذلك فلن يكون له حق شرعي فيه. في شهر أيار، السنة الأربعون من حكم الملك الحارث، ملك الأنباط المحبوب من شعبه. روما وعبد عبادة، البناؤون.

في النهاية، تتفرق جموع المعزين وترجع الحياة إلى المضي كسالف عهدها؛ ربما يقوم أهل الميت بإحياء ذكرى سنوية بإعادة طقوس الدعاء والموائد الجنائزية ليتذكروا فقيدهم وليمنحوه الراحة في العالم الآخر.لم يغفل الأردنيون الأنباط عن كتابة اسم المتوفى ومكان وفاته ولكن كان النصب التذكاري المسمى “النفش” أمرا منفصلا عن المقبرة وقد يوجد في مكان بعيد ومنفصل عن مكان الدفن.  ويعد النقش الذي وجد في أحد اودية البترا من أهم هذه النصب التذكارية (هذا نفش بتريوس ابن تربتوس  وهو مكرم لأنه مات في جرش وهو من سكان الرقيم) والرقيم هو الاسم القديم للبترا. إن هذا النقش يوضح أن الأردنيين الأنباط كانوا يعاملون القبر وشاهد القبر (النفش) معاملة منفصلة حيث يعنى الأول بدفن الجثة والثاني بتخليد ذكرى الميت.

الطقوس النبطية: صورة دينية كاملة

بهذا رسِمت الصورة الكاملة للتوليفة الدينية النبطية الساحرة. لم يكن الأردنيون الأنباط أصحاب حضارة عادية على الإطلاق، بل كانوا شعبا ثريا روحيا ومعنويا. تمنحنا الإطلالة على طقوس الأردنيين الأنباط الدينية معرفة أعمق بمدى استقرار المجتمع الأردني النبطي ومدى تعلقه بالأرض التي عاش عليها.

احتفل الأردنيون الأنباط بآلهتهم وانتصاراتهم وكان لهم كاهن وصلوات وأدعية كما كان لهم تعبيرهم الخاص عن رؤيتهم للحياة الأخرى وعبور الأرواح إليها. لم يؤد الأنباط أي طقس من طقوسهم سوى بكثير من الحب والرغبة في الخلود، ولقد كان لهم ذلك فمدنهم التي حفرت في الصخر لا زالت تحفر في قلوب كل من يزورها الدهشة.

المراجع:

  • الحموي، خالد. (2002) مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • غرايبة، هاشم. (2007)، العيد عند الأنباط، صحيفة الراي.
  • عطيوي، ف. و رشيد، ح. (2010)، الحياة الدينية عند الانباط قبل الإسلام، مجلة ديالي 45 (130-154)
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عباس، إحسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط (ط1)، عمان، دار الشروق.
  • عجلوني، أحمد(2003)، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط

 

 

References:

  • Allpas, Peter& Jhon (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University.
  • Alzoubi, M., Almasri, E. & Alajloiny, F. (2012), Woman in the Nabatean Society, Mediterranean Archeology and Archaeometry, 13, No. 1, p. 153-160
  • Perry, M. (2002), Life and death In Nabatea: the North ridge tombs and the burial practices, Near East Archeology 265-270
  • Ewert, C. (2017), Nabatean Subadult Mortuary Practices. MA thesis, Brigham Young University

الطقوس النبطية : الحياة والموت

تمهيد

كانت الحياة الدينية للنبطي الأردني على قدر مثير من الغنى. فبداية من الآلهة المتنوعة التي عبدها ومن رموزها المستقاة من احتكاكه بالطبيعة الأردنية والحضارات المجاورة والتي مكنتنا من فهم مخاوفه وآماله. لقد كان أجدادنا الأردنيين الأنباط على قدر رهيب من الوعي الروحي واستطاعوا أن يصلوا لتوليفة دينية شديدة التميز تلبي جميع احتياجاتهم العميقة.

عاش الأردنيون الأنباط في مدن كالمعابد كان كل ركن منها يحوي إشارة للإله، ولكن هذا الغنى لم يقتصر على المعابد والأضرحة فحسب إنما تعدى إلى أن ينظم الأردنيون الأنباط حياتهم وفقا لطقوس تضمن لهم حب وقرب الآلهة وتبعد عنهم السخط والغضب.

وبداية من الاحتفالات الدينية والشعبية والطقوس التعبدية وصولا إلى الجنائزيات وعادات الدفن كانت الطقوس الدينية النبطية تحتل موقعا مهما انعكس على جميع جوانب الحضارة النبطية الأردنية من معمار وتجارة وزراعة وغيرها.

دائرة الأبراج النبطية والأعياد

ساهمت آثار خربة التنور في فهمنا لطبيعة التقويم لدى الأردنيين الأنباط. فقد وجد علماء الآثار عدة رموز استخدمت كدائرة الأبراج zodiac. تعبر الأبراج عن دورة الوقت عدا عن ارتباطها الوثيق بالآلهة، فالآلهة النبطية كانت مستقاة بشكل رئيس من أمرين هما السماء والدورة الزراعية. فنرى اللات شمسًا وآلهة خصب وقمح، ونرى مناة قمرا وآلهة موت وذبول ويكون ذو الشرى “آلهة الكروم”. ولهذا، كان الأردنيون الأنباط يحتفلون في مواسم معينة وفقا لما تحدده هذه الأبراج.

كانت الأبراج أمرا شهيرا وشائعا في الحضارة الرومانية، فتزدان الكنائس والقصور برسوم ونقوش لرموز الأبراج ولكن الأبراج الرومانية عكس عقارب الساعة (الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، العذراء) ومن ثم (الميزان، عقرب، قوس، جدي، دلو) على أن الأردنيين الأنباط لم يأخذوا الأبراج الرومانية على هيئتها تلك إنما كانت الأبراج النبطية مع عقارب الساعة إضافة لحملها رموز الآلهة النبطية الخاصة.

zodiac2
تمثال الأبراج النبطية في خربة التنور وتظهر نايكي ( تايكي ) آلهة الحظ والرعاية تحمل اللات وتطوقها دائرة الأبراج (Nabatean.net)

وجد علماء الآثار في موقع خربة التنور تمثالا يوضح ماهية الأبراج النبطية، فربة الحظ والرعاية “نايكي/ تايكي” المجنحة والتي يرجح أنها ذات الآلهة مناة تحمل اللات آلهة الشمس والخصب على يمينها سيف أو حربة كما ترتدي اللات إكليلا.

تختلف بعض تصاوير الأبراج أيضا في الدائرة النبطية، فصوّر الأردنيون الأنباط برج القوس برامٍ شاب وفتي يحمل قوسا أو رمحا ويرجح أن هذا يرمز للآلهة الكتبا- الكتباي آلهة الكتابة والتجارة. كما صور الأردنيون الأنباط برج الجدي على شكل تمثال نصفي للإنسان على عكس التصوير التقليدي عند الرومان بسمكة أو جدي.

zodiac
(Nabatean.net)   صورة مقربة لدائرة الأبراج النبطية

 

وتتباين احتفالات الأردنيين الأنباط وفقا لهذا التقويم، فبها تحدد الأشهر الحرم ومواقيت الحج وطقوس القرابين والدعاء ولم

تقتصر على ذلك بل استخدمت أيضا للدلالة على مواعيد الحصاد والبذار.

 قداسة الأماكن العالية: حج وأعياد وقرابين

 كانت الصلاة بالنسبة للأردنيين الأنباط فعل ارتقاء حقيقي وروحي في آن واحد. فقد دفعهم تقديسهم للأماكن العالية إلى بناء أدراج تتكون من مئات الدرجات التي ترقى إلى قمم جبال جنوب الأردن؛ ومدينة البترا الوردية التي تلفها الجبال من كل جانب هي خير دليل.

في دراسة أجريت على الأماكن المقدسة في المنطقة وجد الباحثون أن 70% من هذه الأماكن قد بني على مكان مرتفع. ويعد موقع خربة التنور إضافة لخربة الذريح من أهم المعابد النبطية الأردنية التي بنيت في مكان عال والتي كان الأردنيون الأنباط من مختلف أرجاء المملكة يحجون إليها.

عرفت الأماكن العالية المقدسة عند الأردنيين الأنباط بالمعلايات. فالمعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. وقد وضع الأنباط داخل هذه المعلايات ما سموه “نصب” أو “مصبا” وكانت هذه الأنصاب تجسيدا للآلهة وعندها تتم طقوس الحج والعيد والقربان.  كما وضعوا قطعا صخريا مستطيلة الشكل وأكثر انتظاما سميت بالمسلات ولها أيضا دلالات دينية كالتي عند الأنصاب.

أدراج المعلية
الأدرج المؤدية إلى المعلية تشق طريقها رغم وعورة الجبل – Nabatean.net

في طقس احتفالي، يتقدم الكاهن الجموع ويصعد الدرج تاليا دعواته وطائفا حول النصب في شعيرة أشبه “بالحج”.  يجر النبطي الأردني قربانه المقدس، وعند الوصول إلى أرض “المعلية” المنبسطة يقوم الكاهن بذبح القربان وتسييل دمه على الأدراج وفي المجاري المخصصة لذلك. منذ فجر الإنسانية، كان الدم رمزا للحياة والقوة، وبه دعا الإنسان إلهه بأن يمنحه إرادة الحياة والقربان وسيلة أيضا للاعتراف بالمنة والفضل لآلهة الخصب التي ترعى الحملان كي تتكاثر. لقد كان الإنسان النبطي الأردني يقدر نِعَم إلهه وهو ككل البشر الباقين كان طامعا في رضا الرب وخاشيا من عذابه وسخطه.

AttufShrine
صورة توضح المعلية على  قمة جبل عطوف في البتراء وتظهر الأنصاب المقدسة في منتصف المعلية حيث كانت تقام طقوس الحج والقربان المقدس – موقع WonderMondo

احتفل الأردنيون الأنباط في ذلك الطقس بالآلهة اللات ربة الخصب. فأثناء موسم تكاثر الحملان يعلن الأردنيون الأنباط بدء الربيع فيكون العيد احتفالا بهبة الآلهة وبمعجزة الخلق التي يشهدونها في موسم التكاثر.  وفي هذا الصدد، كتب الأديب والكاتب الأردني هاشم غرايبة عن طقوس العيد النبطي: ” يبدأ الاستعداد للعيد عندما يهل هلال شهر العيد، وتستمر الطقوس على مدى أسبوعين. أي لحين اكتمال القمر بدرا. طقوس الاستعداد للعيد تبدأ بإعداد القربان المقدس وتنتهي بذبحه أي التضحية به “، ولكن طقوس العيد النبطي لا تقتصر على الاستعداد وتجهيز القربان والحج إلى المعلية، إنما تتعدى ذلك إلى فترة يستغلها النبطي الأردني لتطهير روحه ليبدأ في تطبيق برنامج صارم للزهد والابتعاد عن ملذات الحياة اليومية. يتابع هاشم غرايبة وصفه لطقوس التقشف النبطية الأردنية:

وخلال هذين الأسبوعين يتوقف روتين العمل اليومي، ويلتزم الناس بطقس تقشف قوامه الممنوعات: ممنوع الصيد، ممنوع إراقة أي دم. ممنوع قتل أي كائن ولو كان حشرة. ممنوع شرب الخمور أو التعاطي مع العطور. ممنوع إقامة علاقات جنسية من أي نوع، ممنوع النوم وقت طلوع الشمس ووقت غروب الشمس. ممنوع أي تماس جسدي مع أي شخص آخر، ممنوع غسل الوجه واليدين، ممنوع قص الشعر وحك الرأس، ممنوع الغناء ورفع الصوت حتى من قبل أطفال يلعبون. ممنوع الخروج للبحث عن ضآلتك فالماشية الشاردة تعد ملكا لمن يعثر عليها، خلال هذين الأسبوعين يتم إعداد القربان حيث التضحية بالقربان المقدس هي ذروة العيد وخاتمته. وبعدها تراق الخمور وتغني القيان، ويرقص الناس بالشوارع، ويصير الممنوع مباحا

ويذكر الباحثان عطيوي ورشيد (2010) أن طقوس القربان المقدس لم تكن تقتصر على الذبح أو تلاوة الصلوات إنما ” كان الأنباط يقيمون ولائم مقدسة لأكل لحوم الأضاحي إذا يشارك في أكلها موظفو المعبد والعباد في غرف خاصة. وكانت الوجبة التعبدية هي المشاركة بين الإله وعابديه في المؤاكلة”

كان لذو الشرى، الإله الأكبر، نصيب كبير من طقوس الحج النبطية الأردنية. اذ سمي نصب ذو الشرى بـ “كعبو” وكان صخرة سوداء يحج الأردنيون الأنباط إليها في الخامس والعشرين من كانون الأول، أي في يوم الانقلاب الشتوي. حيث يطوف الحجاج ومن ثم يقدمون القرابين ويحتفلون. وقد ألحقت بمعابد  ذي الشرى أرض تسمى “حمى” لأنها في حماية الآلهة فيحرم فيها قطع الأشجار أو الصيد، وقد وردت لفظة “الحرم” في كتابة نبطية في مدينة البترا حيث تقول العبارة ” حرم ذي الشرى … الإله ربنا” (رشيد وعطيوي 2010)

Dushara
تمثال للإله ذو الشرى

أما قرابين  ذو الشرى فكانت تمزج بالحليب أو الماء في بداية عبادة الأردنيين الأنباط لهذا الإله، لكنه نتيجة للتأثر بالحضارة الهلنستية وامتزاج صفاته بصفات إله الخمر ديونيسوس صارت القرابين تمزج بالخمر. كما قدمت للإله ذو الشرى القرابين من الفخار والبرونز والفضة والتي تصاغ على شكل حيوانات وجمال، أما القرابين الحية فيرجح الباحثون أنها كانت تحرق. (الروابدة : 2008)

ورغم ورود بعض النقوش التي تؤرخ لطقوس الأردنيين الأنباط، تبقى أغلبها لغزا غامضا ومحل جدل بين الباحثين، خصوصا عند المقارنة بين المعابد أو المعلايات المختلفة. فبعض الأماكن المقدسة احتوت تماثيلا أو وجوه الآلهة منقوشة على إحدى الجهات بينما لم تفعل أخرى وقد رأى آخرون أن المعليات أماكن لتقديم أعطيات المعبد لا القربان. ولذلك أدى هذا الجدل عند بعض الباحثين لاقتراح وجود فرق وطوائف دينية مختلفة لدى الأردنيين الأنباط.

وللأردنيين الأنباط أيضا مجالس ومضافات لها طقوس محددة يذكرها المؤرخ اليوناني سترابو، حيث يذكر أنهم كانوا يجتمعون في حلقات مؤلفة من ثلاثة عشر شخصا، إضافة للموسيقيين، بينما للملك قاعة كبيرة يقيم فيها الولائم وخلالها لا يشرب كل مدعو أكثر من 11 كأسًا من النبيذ، وكان الملك يشارك الناس والعامة ويقوم على خدمة الآخرين في المعبد (المزراح) ونذكر حتى اليوم المثل القائل (كبير القوم خادمهم) المستقى من هذا الطقس، وعقب هذه الطقوس تم تأليه هذا الملك وسمي “رب مرزحا” أي سيد المعبد. (زيدون: 2009)

 لقد كانت الأماكن المقدسة محل توقير كبير لدى الأردنيين الانباط، فلم تكن شاهدة فحسب على طقوس القربان والاحتفالات إنما كانت مسرحا رهيبا لتمثيل رؤيتهم للآلهة والعالم.

أعياد واحتفالات شعبية

إن كانت الأعياد الدينية تحظى بسلسلة من المحرمات وطقوس التقشف فإن الاحتفالات الشعبية على العكس تماما. تبدأ طقوس الاحتفالات بالموسيقى الرقص وكل مظاهر الابتهاج وتذكر المصادر التاريخية أن الأردنيين الأنباط احتفلوا بعيد يسمى (pentaeterigine) وكان هذا العيد يقام كل أربع سنوات ويحتفل فيه الأردنيون الأنباط المقيمون في شبه جزيرة سيناء.

كما خلد الأردنيون الأنباط ذكرى حروبهم وانتصاراتهم على جيوش كليوبترا المصرية في معركة “اكتيوم” البحرية التي حدثت في عام 31 ق.م. وكان الاحتفال بهذا الانتصار يجري في شهر أغسطس ترافقه ألعاب القوى والجري والقفز وألعاب الرهان وغيرها من مظاهر الفرح.

ويذكر المؤرخون أن الأردنيين الأنباط في مرحلة متأخرة من حضارتهم كانوا يقيمون حفلات شرب عالية المستوى، بحيث تنص الطقوس الخاصة بهذه الحفلات على شرب النبيذ على شرف الإله ذو الشرى بكؤوس ذهبية تتجدد في كل مرة من المرات الإحدى عشر المسموحة.

الصلاة والتراتيل والكهنة

لم يصلنا الكثير عن طريقة صلوات الأردنيين الأنباط أيضا، على أن الباحثين كانوا قد وجدوا نقشا في مدينة الحِجر، إحدى الممالك النبطية الأردنية، كان يحمل تصاويرا لأشخاص فسرها الباحثون على أنها أوضاع تعبدية كالركوع والدعاء برفع الأيدي. إضافة لوجود الكثير من النقوش التي تحوي كلمات “بركته” أو “بربك” دلالة على طلب البركة والعون.

وقد رافق هذا الحاجة للاغتسال والطهارة الدائمين. لقد فرضت طبيعة الآلهة على الأردنيين الأنباط ممارسات الطهارة بشكل كبير، فقد كانت الآلهتان اللات والعزى مرتبطتان بالينابيع والمياه الجارية وقد كانت اللات، إضافة لذلك، زوجة ذو الشرى؛ فنرى في المعابد المخصصة لذي الشرى أحواضا صخرية ومجار مائية على المداخل لغرض الاغتسال.

عرف الأردنيون الأنباط أيضا الدعاء، فقد خصصت أدعية لجلب الرزق ودرء السيول وحفظ الصحة والحماية من الفقر. كما عرفوا “أدعية اللعن” وهي أدعية للعن من ينبش القبور. ومؤخرا، تم العثور على بردية نبطية في بئر السبع تؤرخ بحوالي مئة سنة قبل الميلاد وهي عبارة عن تميمة لحفظ رجل ما من سيطرة امرأة وبها يتوسل بالآلهة لحمايته (الماجدي: 2012)

في سياق الحديث عن الطقوس الدينية النبطية لا بد لنا أن نتطرق لشخصية الكاهن التي لعبت دورا مهما في حياة الأنباط الدينية. أطلق الأردنيون الأنباط العديد من الأسماء على الكاهن وفقا للمهمة التي يقوم بها  فتذكر المصادر عددا من أسماء الكاهن النبطي الأردني ووظائفه؛ فيسمى الكاهن النبطي “أفكل” وتعني السادن الحكيم، وهي مقتبسة عن البابلية “أفكلو” وعن السومرية من قبلها والتي كانت تسمي الكاهن “أبكالو” وقد بحث البعض في أصل كلمة “أفكل” ووجدها متقاربة لجذر “فلك” في العربية؛ وربما كان هذا عائدا لما كان الكاهن يقوم به من تنجيم.

كان للكاهن وظائف متعددة كقراءة الفأل والتنبؤ وتفسير الأحلام وسمي عند ذلك ” كمرا” أو “فتورا” أما الكاهن المسؤول عن الطقوس الدينية وتنظيمها فهو “المرزح” وهنالك الكاهن “المبقر” والذي يكون مسؤولا عن بقر بطن القرابين وقراءة أكبادها لأغراض تنبؤية، كما سمي الكاهن المسؤول عن تقديم الأعطيات وحرق البخور “أقطيرا” استخدمت كلمتي “كهن” و “كهنا” للدلالة على الكاهن بصورة عامة. (الماجدي:2012)

منحوتة لكاهن نبطي يرتدي العمامة
منحوتة لكاهن نبطي يرتدي العمامة (الماجدي:2012)


التبرك بالغابة المقدسة

اعتقدت العديد من الحضارات القديمة بأن الأشجار مقدسة، وأن روح الرب قد تحل فيها. وقد اتخذ الأنباط حزمة القمح رمزا للآلهة اللات كما قدموا الحبوب والقرابين النباتية للإله شيع القوم.

تذكر بعض المصادر أن الأردنيين الأنباط كانوا يحجون إلى غابة نخيل مقدسة قرب البحر الأحمر. وكان في هذه الغابة معبد له كهنة وكاهنات. يحجون إليها كل خمس سنين فيتعبدون ويذبحون القرابين ومن ثم يجلبون المياه منها للبركة والعافية. وقيل إن الحج إلى الغابة كان مرتين في السنة. شهر واحد أول السنة وشهرين بداية الصيف وتكون هذه الأشهر أشهر حرم يمنع فيها الصيد أو القتال (رشيد وعطيوي: 2010)

المرأة وقداسة المعبد  

 حضرت الأنثى وبقوة كمعبودة وراعية وجالبة للحظ، متحكمة بالخصب والموت والقدر؛ حتى أن الأردنيين الأنباط نحتوا وصوروا آلهتهم الأنثى على شكل المرأة الحسناء، فقد صوّرت اللات مثلا كامرأة جميلة جزؤها العلوي مكشوف، كما ركزت التماثيل على أماكن الخصوبة كالثديين والأرداف وقد صور بعضها المرأة-الآلهة تقوم بإرضاع وليدها أو حتى إنجابه! لم يكن جسد المرأة سوى كيان مقدس، يرى النبطي فيه فتنة وعظمة إعادة الخلق وهبة الحياة.

 كذلك كانت المرأة النبطية الأردنية على قدم المساواة في الطقوس الدينية النبطية.  يذكر المؤرخ Glueck جلوك  أن المرأة النبطية شاركت بكل الطقوس التعبدية، فكانت تشارك في احتفالات الخصب وتقدم القرابين والأعطيات. كما كانت تشارك الرجال في العزف أثناء الاحتفالات الدينية ربما كمتعبدة أو كراهبة في المعبد. وقد ترك لنا أجدادنا الأردنيين الأنباط تماثيل فخارية تصور فرقة موسيقية مكونة من امرأتين ورجل.

تمثال المرأة العازفة
تمثال فخاري نبطي لفرقة موسيقية تتكون من امرأتين ورجل

وكشفت التنقيبات عن وجود نقوش للآلهة النبطية “العزى” وهي حزينة بسبب زوجها، حيث كانت من إحدى الآلهة التي وجدت نقوشها وتماثيلها على واجهات المعابد النبطية، وقد يلمح هذا لنا بقدسية رباط الزواج وبقدسية الأنثى كذلك، فربما اعتبر الأنباط أن حزن الأنثى من زوجها هو حزن للآلهة ذاتها.

تابعوا الجزء الثاني من البحث ( الطقوس النبطية : لغز الموت والحياة ).

المراجع :

  • الحموي، خالد. (2002) مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • غرايبة، هاشم. (2007)، العيد عند الأنباط، صحيفة الراي.
  • عطيوي، ف. و رشيد، ح. (2010)، الحياة الدينية عند الانباط قبل الإسلام، مجلة ديالي 45 (130-154)
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عباس، إحسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط (ط1)، عمان، دار الشروق.
  • عجلوني، أحمد(2003)، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط

References:

  • Allpas, Peter& Jhon (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University.
  • Alzoubi, M., Almasri, E. & Alajloiny, F. (2012), Woman in the Nabatean Society, Mediterranean Archeology and Archaeometry, 13, No. 1, p. 153-160
  • Perry, M. (2002), Life and death In Nabatea: the North ridge tombs and the burial practices, Near East Archeology 265-270
  • Ewert, C. (2017), Nabatean Subadult Mortuary Practices. MA thesis, Brigham Young University

الطقوس النبطية : توليفة دينية ساحرة

حملت تجارة الأردنيين الأنباط معالم الإبداع الاقتصادي الذي نتج عن العديد من العوامل منها موقع الأردنيين الأنباط الجغرافي و السياسي بين حضارات العالم القديم بل وطبيعة المنطقة التي حكمها الأردنيون الأنباط، اذ اهتم الأردنيون الأنباط بطريقة النقل إسوة بإهتمامهم بطرق النقل فاهتموا بالجمال وتوفير ما تحتاجه من المسكن و التزود بكل ما يمكن على توضيب البضائع على ظهر الجمال وترتيبها وتصنيفها عدا عن تجهيز ما يلزم للموانئ لبناء السفن وتخزين البضائع ونقلها وتحميلها وتنزيلها .

ولم يكن الإنتاج النبطي الأردني بطبيعة الحال أيضا قائماً على الاكتفاء الذاتي فحسب بل قاموا بإنتاج ما تحتاجه الشعوب الاخرى واحتاج هذا الامر إلى مخازن بنوها خارج المدن في البارد في البترا (1) .

كانت الطرق البرية للأردنيين الأنباط قد اخترقت النقب شمالاً و غرباً و كانت لهم طرق رئيسية لذلك و طرق فرعية أيضاً و عبروا الأردن و سيطروا على الطريق السلطاني الممتد بين شمال حوران الأردنية والبحر الأحمر ؛ أما جنوباً فقد عبروا الحِجر الذي مكنهم من الوصول إلى الطرق الرئيسية في معظم الجزيرة العربية وامتلاكهم لزمام التجارة عبر مدينة الحوراء على الساحل الشرقي للبحر الاحمر للوصول إلى الهند حتى انهم سيطروا على النقل البري الآتي من ميناء الجرها على الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية ، كان لامتداد طرق تجارتهم عبر النقب الأثر الواسع لانفتاح طرقهم التجارية إلى غزة والعريش وسيطرتهم على موانئها مما فتح لهم الطريق إلى مصر عبر سيناء (2).

كانت جميع هذه الطرق تحت نطاق حكمهم ، فبراعة الأردنيين الأنباط في التجارة و جودة قوافلهم وأساليب نقلهم مكّنتهم من السيطرة على أكثر الطرق التجارية القديمة و تعزيزها ، ففي الجزيرة كان هناك الطريق المار باليمن بمكة  وتيماء مروراً بالعلا فأيلة العقبة، وفي الشرق كان الخليج فتيماء فوادي السرحان، و إلى الغرب كانت الاسكندرية فالعريش و غزة فالنقب و من ثم عصيون جابر فالعقبة ، وإلى الشمال فالبترا ومن ثم طريق تراجان المعروف بالسلطاني فبصرى أو طريق الملوك عبر مدن الديكابوليس فجرش من ثم بصرى؛ أما على الصعيد البحري فميناء العقبة كان يصدّر ويستورد من وإلى اليمن وإلى الهند جنوباً وإلى مصر ومن ميناء غزة إلى روما والغرب (3) .

NabateensRoutes_ar

هذا الموقع المميّز مكّن الأردنيين الأنباط من احتلال مركز الصدارة في التجارة في المنطقة فكان اليمنيون يسلمون بضاعتهم إلى تجار النقل النبطي الأردني ليصار نقلها إلى الشمال أو الغرب، أما الى بلاد الرافدين فكان الأردنيون الأنباط يتبعون طريق حائل- بابل لتجنب مصاعب الصحراء قدر الامكان؛ و من الجدير بالذكر هنا أن الأردنيين الأنباط كانوا قد استخدموا الكتبة بنظام أشبه ما يكون بالجمارك اليوم لتحصيل نسبة مناسبة من عائدات النقل والتمرير حتى على القوافل غير النبطية .

وقد عثر على آثار تجارتهم في مناطق مثل سلوقية و الاسكندرية و رودس و مليتوس و ديلوس و موانئ سورية و مصب الفرات حتى، و كان محصلة هذه الرفعة والتقدّم الاقتصادي في الفترة بين 100ق.م و 100 ب.م ؛ أن الأردنيين الأنباط اهتموا بتوفير المياه على طول الطرق التجارية والأمان الموفّر و المرشدين و الأدلاء ومزودي الأعلاف و الغذاء و الخدمات الأخرى على الطرق التجارية مما أدى إلى تفضيل التجار عموما للتعامل مع الأردنيين الانباط بدلاً من غيرهم من شعوب المنطقة . (4)

وبالرغم من التنوع الصناعي و الزراعي لدى الأردنيين الأنباط إلا أن موردهم الأساسي ودخلهم الرئيسي كان يتمثل في تأمين القوافل التجارية وغيرها من الخدمات، ففي بعض الأحيان كانت تصل قيمة ما يعود عليهم من رسوم إلى ما يقرب ربع قيمة البضائع، و هذا ما أثّر على شكل انتشار الأردنيين الأنباط وتوسعهم السياسي – التجاري فسيطروا على ما بين البحر الأحمر وشمال حوران الأردنية و البحر الأبيض عبر بئر السبع و غزة جنوباً .

أما بحريا، فقد كان الأردنيون الأنباط كباقي الشعوب المطلة على السواحل والبحار ؛ ذات إرتباط بالبحر لوجود عدة مسطحات مائية تحيط بهم فلم يكن من الجديد او الغريب ركوب البحر عندهم، فكان لهم موانئ متعددة مثل أيلة، ولوكي كومي، وأكرا كومي، أو الموانئ الأخرى الواقعة على ساحل البحر المتوسط، مثل غزة، ورفح، والعريش أو الجرها على الخليج العربي. وشارك الأردنيون الأنباط، مثلهم مثل التجار الإغريق والرومان، في نقل التجارة من الموانئ الشمالية إلى الموانئ الجنوبية في البحر الأحمر، ليتم نقلها من هناك بوساطة التجار المحليين إلى المناطق البعيدة، مثل شرق أفريقيا والخليج العربي والهند والصين  ، وبالرغم من قرب الموانئ الواقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط للمملكة النبطية الأردنية إلا أن الأردنيين الأنباط لم تكن لديهم سيطرة مباشرة على هذه الموانئ القريبة إلا لفترات متقطعة إذ أن تسيير الشؤون التجارية للأردنيين الأنباط كان يسير بأطر دبلوماسية أكثر من الحاجة للجوء للخيار العسكري ما حقّق نفوذا تجاريا نبطيا واسعا (5) .

أما ميناء أيلة العقبة فقد تأسس في القرن الرابع لما قبل الميلاد ، حيث كانت العقبة مدينة تجارية نبطية فاعلة وقد اهتم الأردنيون الأنباط بتخطيط الميناء و بناء المستودعات حتى كان أفضل من الموانئ الرومانية حينها (6) ، إلا أنه لم يكن الميناء الرئيس للأردنيين الأنباط على البحر الأحمر بالرغم من أهميته ، اذ غلبه في الأهمية لاحقا ميناء لوكي كومي بالقرب من وادي عينونة في شمال شبه الجزيرة الأكثر أهمية حينها ، فقد كان يتسع  لـ 200 سفينة و محوّط بالجبال و كان الميناء يشكل نقطة تفرع بين المضي بحراً إلى الاسكندرية و برا إلى البترا بشكل كبير كأنها حركة جيوش ضخمة اذ أن حركة النقل التجاري كانت تصل إلى 7-10 آلاف جمل في السنة ، من ثلاث جهات كما أن الأردنيين الأنباط كانوا قد أجروا المياه العذبة إلى الساحل لبناء ما عرف بالـ”مدينة البيضاء” بسبب طلاء مبانيها بالجبس الابيض (7) .

لم تكن هذه الموانئ هي الوحيدة على ساحل البحر الاحمر فقد كان هناك ميناء ثالث يسمى اكرا كومي جنوب من مدينة الوجه- شمال شبه الجزيرة –  بـ 45 كيلو متر ، و كان مجهزاً بكل ما تحتاجه السفن حتى أنه كان مزوداً بطرق معبدة (8)، و كان للنيل المصري حصته من الاهتمام فقد كان يزخر بالنقوش النبطية التي وجدت هناك أكثر من أي مكان آخر بل ووجد معبد نبطي كان يشرف عليه كاهن نبطي بالقرب من تل الشقافية في منطقة شرق الدلتا كدلالة على كثرة استخدام الأردنيين الأنباط للنيل و عمق تواجدهم التجاري في مصر (9) .

red sea

أما البحر المتوسط فيمثل أفضل نموذج يمكن من خلاله توثيق صلات الأردنيين الأنباط البحرية بمناطق شرق البحر المتوسط وآسيا الصغرى؛ وذلك لتوافر الأدلة المتعدّدة من آسيا الصغرى أو من المناطق النبطية. فقد عثر في خربة الذريح وفي المدن النبطية، مثل البترا وعبدة، على العديد من البضائع المستوردة من آسيا الصغرى، التي تعود الى فترة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى الأول الميلادي، كما عثر على الرخام وكسر الفخار المزجج والسرج الفخارية من مدينتي أفسوس وإسكندرونة (10) ، في مدن آسيا الصغرى والجزر المقابلة لها، مثل ميلتوس  Miletus  وكوس Cos ورودس Rhodes  وديلوس Delos ،وغيرها من المدن والجزر على عدد من النقوش التذكارية النبطية التي كان الأردنيون الأنباط يشكرون فيها آلهتهم على الأغلب (11) .

mid sea

وبالإضافة إلى الإمتداد شرقي المتوسط فقد ترك الأنباط مجموعة من النقوش ومعبداً للإله ذي الشرى في ميناء بوتيولي Puteoli ، ونقشان باللغة اللاتينية في روما، و قد عثر على المعبد النبطي في المنطقة المعروفة باسم Lartidianus vicus ،وهي الحي السكني الخاص بالتجار والمسافرين الأجانب ويقبع تحت الماء حالياً. وربما شكل ميناء بوتولي ، أكبر مستوطنة تجارية نبطية أردنية في البحر المتوسط ، و يعتقد أن المعبد لم يكن قاصراً على العبادة فقط، بل كان مقراً لاجتماع الجالية النبطية الأردنية وعقد الصفقات، مثل معابد الجاليات الأخرى . (12)

  • المصادر و المراجع :
  1. عباس ، إحسان (1987) ، تاريخ دولة الانباط ، ط 1، عمان : دار الشروق للنشر و التوزيع ، ص 107-108 .
  2. المطور ، عزام ابو الحمام (2009) ، الأنباط تاريخ و حضارة ، ط1 ، عمان : دار أسامة للنشر و التوزيع ، ص 167-170 .
  3. المصدر السابق نفسه
  4. المصدر السابق نفسه
  5. العبدالجبار ، عبداالله بن عبدالرحمن (2011) ، تجارة الأنباط البحرية بين القرنين الرابع قبل الميلاد والثاني الميلادي . المجلة الاردنية للتاريخ و الاثار ، المجلد 5 (العدد 3) .
  6. Strabo, OP.Cit., pp16, 4, 18 ;Diodorus, OP.Cit.,pp 3, 43, 3, Alexandra Retzleff, “Nabataean and Roman Domestic Area at the Red Sea Port of Aila,” Bulletin of the American Schools of Oriental Research, 331 (2003) p. 45.
  7. المصدر السابق نفسه , p44
  8. .علي إبراهيم الغبان، “معطيات أثرية جديدة حول تحقيق موقع مينائي أكراكومي ولوكي كومي ومستوطنة أمبلوني في ساحل البحر الأحمر بالمملكة العربية السعودية،” الندوة العالمية لعلاقات الجزيرة العربية بالعالمين اليوناني والبيزنطي، .م٢٠١٠/١٢/٩-٦ الرياض
  9. عبدالمنعم عبدالحليم سيد، “النشاط البحري للعرب القدماء خارج الجزيرة العربية،” ندوة طرق التجارة العالمية عبر العالم العربي على مر عصور التاريخ، القاهرة ٢٠٠٠م
  10. Retzleff, “Nabataean and Roman Domestic Area,” pp. 61-62, Parker, “THE ROMAN AQABA PROJECT,” p. 391, Negev, Nabatean Archaeology Today, p. 93.
  1. David Hanson, NABATAEAN TRADE: INTENSIFICATION AND CULTURE CHANGE, PhD Dissertation University of Utah 1987, pp. 127
  2. العبد الجبار ، المصدر نفسه.

الطرق البرية و البحرية عند الأردنيين الأنباط

 مقدمة تاريخية

   يقال في اللغة: نَبْطُ العلم أي بثه ونشره، ونَبَطُ الماء أي أخرجه والنّبِطُ أول ما يخرج من ماء البئر، ونَبَطَ الأرض أي نقّب فيها وأخرج المعدن ولا يوجد ما يصف حضارة عظيمة كحضارة الأردنيين الأنباط أكثر من هذه الخصائص الثلاثة: العلم والماء والمعدن. ورد ذكر الأردنيين الأنباط في الكتاب المقدس بقوله “أهل الجنوب” كما ورد ذكرهم في النقوش الآشورية العائدة إلى القرن السابع قبل الميلاد.

 ارتحل الأردنيين الأنباط في الصحراء الأردنية وتنقلوا فيها وتجذرت في نفوسهم حياة البداوة على أن هذا لم يمنعهم أبدا من استيعاب الحياة الزراعية واستيعاب الحضارات الأخرى رومانية وهلنستية ومصرية، حتى وصلوا وبشكل مدهش إلى التفوق على هذه الحضارات في بعض المجالات. إن المميز في حياة البداوة النبطية التي عاشها هذا الشعب هو انفتاحهم على التجارة فكانوا رغم حياتهم البدوية يجهزون القوافل التجارية ولم يتوقفوا عند ذلك بل طوروا أساليب لاستخراج القار[1] من البحر الميت وبيعه للمصريين آنذاك، وكان كل ذلك في المرحلة الأولى الممهدة لقيام حضارتهم.

بعد الاستقرار النبطي وتحوله عن التنظيم البدوي ومزاحمتهم للأردنيين الأدوميين في التجارة والزراعة سادوا المنطقة وأخذوا بالتوسع ومد نفوذهم أكثر وأكثر وطوروا أساليب بديعة في الري والعمارة والتي لا زلنا نرى أمثلة عليها من أول خطوة نخطوها في السيق نحو مدينة البترا، عاصمة الدولة النبطية الأردنية. تلا هذه المرحلة استقرار أكبر وتنظيم مدني حيث ظهرت الملَكية وأخذت المدن النبطية الأردنية معالمها الحضارية من تطور صناعي وزراعي وثقافي يشمل الفنون والدين والخط وامتدت ممالكها من العراق (مملكة ميشان) والأردن (البترا) وصولا إلى شمال الجزيرة العربية (الحِجر).

بدأت الحضارة النبطية الأردنية بعد شدة الاتساع تثير مطامع الممالك والإمبراطوريات المجاورة، فطوال تاريخها عانت كثيرا من محاولات الغزو والاحتلال. اذ كانت مستهدفة من قبل السلوقيين والبطالمة والرومان والإغريق وصولا إلى اليهود المكابيين الذين نازعوا الأنباط الأردنيين على تجارتهم مع المصريين. ولكن حضارة الأنباط صمدت قرابة الأربعة قرون أمام كل هذه المحاولات مرسخة حب الحرية والاستقلال في نفوس أبناء هذه الأرض، وعقب زوال المملكة النبطية بدأت القبائل النبطية الأردنية بالاختلاط مع الشعوب المجاورة. وقد خلّف الأردنيون الأنباط بعد زوال مملكتهم الآثار المعمارية العظيمة والخالدة إضافة للخط واللغة النبطية، وكذلك الآلهة النبطية التي قدستها قبائل الجزيرة العربية واقتبستها عنهم إضافة لما أخذوه عنهم من مظاهر حياة سياسية واجتماعية واقتصادية أخرى.

منذ خطواتنا الأولى في السيق وحينما تبرز لنا الخزنة من بين الشقين الجبليين الهائلين تتراءى لنا عظمة الإنسان النبطي الأردني وغنى مخيلته ووجدانه، ولا يتوقف الأمر عند بناء الخزنة إنما يمتد للمسلات والأضرحة والمذابح والنقوش؛ فكل زاوية تقع عيون الناظر عليها كانت ذات دلالة عميقة للنبطي الأردني آنذاك. فإنسان تلك الفترة كان إنسانا عطشا للروحانيات ولهذا صارت الديانة والمعبودات والطقوس معبره نحو إشباع هذه الرغبة. في خضم التفاعل الحضاري الذي ساد المنطقة آنذاك، صاغ الأردنيين الأنباط قيمهم الدينية ومعبوداتهم ورموزهم الخاصة التي وبلا شك تأثرت وأثرت في ميثولوجيا المنطقة عامة.

Petra_,_Al-Khazneh_2
الخزنة في البترا

الآلهة الأنثى  

Uzza, Manat, Latt
(صورة توضيحية تمثل اللات والعزى ومناة إضافة لرموزهن من الكواكب –الشمس، الزهرة، القمر- ورموزهن الأرضية حزمة القمح- السيف والقطة- كأس البخور- من اليسار إلى اليمين)

العزى  ( ذات القناع )

 اختلف الباحثون في أصل اسم هذه الآلهة الأنثى فقيل أنها آلهة سريانية (هن- عزى) أي ذات العزة وقيل أنها من أصل سينائي (عبدت في سيناء/ النقب) ورأى  آخرون أنها من أصل سومري وتعني (العارف بالماء) وكان يطلق على الطبيب، وارتباط العزى بالماء والخضرة حاضر في الأذهان (الماجدي:2012) وقيل أيضا أنها عبدت في مدينة العز (الخلصة حاليا في النقب). تم تمثيل العزى بامرأة جميلة ووراءها أشجار وخضرة وتمسك في يديها سيفين وأمامها قطة أو أسد. ولهذا قيل إنها قد تمثل آلهة الحرب.

يرمز لهذه الآلهة بالقمر وبنجمة الصباح أي كوكب الزهرة. وهي آلهة للقوة والخصب وتقابل في صفاتها الآلهة الرافدية عشتار والآلهة السورية أرتاقتس وآلهة الجمال اليونانية أفروديت. وسميت العزى في البترا الآلهة (ذات القناع) ولها منحوتات ونقوش عديدة داخل المدينة الأثرية.

That Al Qenaa
منحوتة للآلهة العزى (ذات القناع) في البترا

اللات

عُدّت اللات أكبر الآلهة الأنثوية والذكورية على حد سواء أي أنها “أم الأرباب” وكانت من أهم المعبودات في المنطقة وذكرت في كثير من نقوش وأدبيات الحضارات الأخرى كالبابلية والفينيقية واليونانية وبتسميات شبيهة باسمها “اللات”. ويدور الجدل فيما إذا كانت الأم العذراء للرب الأكبر “ذو الشرى” أم كانت حبيبته وزوجته.

يُرمز للات بصخرة مربعة بيضاء مزينة بالزخارف وتلقب “كعبو” وربما تكون هذه الكلمة أصل الكلمة العربية ” كاعب” وهي وصف للمرأة الحسناء التي ربما ما كانت سوى الآلهة اللات. أما إذا صارت الصخرة سوداء فترمز حينها للإله ذو الشرى نفسه. كما يرمز لها بالشمس وبحزمة القمح كذلك وبالماء الجاري والينابيع. أما في تدمر فقد رمز لها بأسد يقف بين قائمتيه غزال.

Al lat lion
الأسد الذي كان يزين معبد اللات

بالنسبة للأردنيين الأنباط، كانت اللات من أهم معبوداتهم فقد بنى “الملك رب أيل الثاني” معبدا في وادي رم وسماه “معبد اللات”. كما بني لهذه الآلهة معبد في تدمر سمي بمعبد الشمس ووجد على مدخله كتابة تفيد بأنه بني بأموال الربة اللات، وفي عام 1957 وجد تمثال من المرمر للآلهة اللات كما وجد لاحقا تمثال لأسد على قائمتين في مدخل المعبد.

Tadmor temple
بقايا معبد الشمس في تدمر  1900- 1920 من مجموعة صور مكتبة الكونغرس الأمريكية

مناة

إن كانت العزى هي آلهة الخصب والعطاء والولادة الجديدة فإن مناة هي وجهها الأسود. تعتبر الآلهة مناة آلهة الموت وقد عبدت على نطاق واسع جنوب المملكة النبطية الأردنية وتحديدا في الحِجر. سماها الأردنيون الأنباط “مناتو أو مناواة” وهي ترمز للموت أو القدر، فمن ناحية لغوية اسمها مشتق من كلمة “منية” والتي تعني الموت، وقد اقترح بعض العلماء أن اسمها مرتبط بالحظ والأماني أي أنها “آلهة الحظ والرعاية” لدى الأردنيين الأنباط. تتحكم مناة بالأرواح والعالم السفلي وغالبا ما يرمز لها بالقمر وبكأس بخور ويقترن ذكرها بذو الشرى. ويرجح علماء الآثار أن تكون الخزنة المنحوتة في الصخر بيتا للآلهة مناة بصفتها حامية وراعية العاصمة النبطية الأردنية ( البترا ). كما يذكر أنها ارتبطت بالاستمطار والسحب والمطر.

لقد أرخ الباحثون لهذا “الثالوث الأنثوي” الذي ظل مقدسا حتى عهد طويل. إن هذا الثالوث يفصح لنا عن مدى قدسية الأنثى وارتباطها بالسماويات عبر جعل كل آلهة ذات رمز كواكبي يعكس معناها. لقد عبد الإنسان النبطي الأردني آلهة أنثى أغنت حياته الدينية وجانبه الروحاني وصبغت جميع جوانب حياته بالموسيقى والفن والنقش والعمارة.

الوجه الذكوري من الآلهة

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه النبطي الأردني فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطا بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

اختلف الباحثون عن سبب تسمية ذو الشرى باسمه، فبعضهم قال إنه يعود لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، ويقترح أحد الباحثين أن اسم “شرى”  لا يرتبط بجبال الشراه بل  يُعنى بالزراعة الكثيفة ، ويرى آخرون أنها قد تكون مشتقة من العبرية بمعنى “سعير”.  وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

 رُمز لذي الشرى بعدة رموز أهمها الشمس وهي ذاتها رمز زوجته أو أمه اللات وهي دلالة الخير عند الأردنيين الأنباط ولهذا اتجهت أنصابه نحو الشرق دوما، إضافة لعدة رموز أخرى كالصقر والأسد والثور والأفعى وكروم العنب. كما رمز له بكتل صخرية عالية الارتفاع وأنصاب سوداء على سطوح المنازل يحرق لها البخور وأخرى سوداء مربعة بارتفاع أربعة أقدام. كان ذو الشرى مرتبطا بكل ما هو طاهر بدلالة أن بجانب كل معبد من معابده مكان للاغتسال والطهارة قبل أداء الصلوات.

والناظر لطبيعة المدينة النبطية الصخرية  يجد أن كل جزء منها هو جزء من جسد الإله ذو الشرى واللات (التي رمز لها بالماء) تجري في عروق هذه الكتل الصخرية كما يجري الدم في جسد الإله ذو الشرى. إن هذا يعطي بعدا “طبيعيا” للميثولوجيا الدينية النبطية فلم تكن تستمد المعابد والهياكل قيمتها من ذاتها إنما من الطبيعة المنحوتة منها  (الماجدي: 2012).

Dushara
تمثال للإله ذو الشرى

أما عن مصير هذا الإله فقد ارتبط بعد مجيء الرومان بالإله ديونيوس (إله الخمر) وفيما بعد ارتبط بالإله زيوس الإغريقي ومن ثم أخذه العرب عقب انهيار الدولة النبطية وقدسوه حتى جاءت المسيحية ومن ثم الإسلام.

 

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

 

 

الكتبا

 كان الإله الكتبا راعيا للعلوم والكتابة والتجارة النبطية الأردنية. ورغم أهميته الكبيرة إلا أن المعلومات تتضارب بخصوصه، فبعض الباحثين يرجح أنه أنثى وأنه اسم آخر للعزى. وآخرون يرجحون أنه ذكر أو أنه في أحسن الأحوال الوجه الذكوري للآلهة العزى.

لقد تم الكشف عن هذا الإله لأول مرة على يد العالم ج. ستراغنل عام 1959 باكتشافه نقشا يحمل اسم “الكتبا” إضافة لاسم “العزى” على جبل في وادي رم. وجدت نقوش أخرى في مدن نبطية كمدينة جايا وكان النقش يقول “الكتبا.. الرب الذي في جايا” كذلك ذكر الإله في نقش في وادي صياغ وكان النقش يقول ” في حضرة الكتبا.. الإله ربنا”

ويرجح أن الأردنيين الأنباط قد نقلوا عبادة الكتبا إلى مصر القديمة في سياق علاقتهم التجارية القوية والممتدة آنذاك؛ فقد تم الكشف عن معبدين نبطيين في منطقة قصر الغيط وقد نقش على أحد المعبدين “من هاويرو ابن جيرام إلى الكتبا” يحاكي المعبدان معبد الأسود المجنحة ومعبد خربة التنور وغيرها من المعابد النبطية الرئيسة إلى حد كبير.

لقد وجد تمثال في نبع عين الشلالات في البترا وكان بطول 15-30 سم. وقد حفظ في كوى في الحائط. إن تمثال الكتبا خال من أي نحت لمعالم الوجه فيما عدا محجر العينين والذي غالبا ما تم حشوه بأحجار كريمة. فيما بعد، تأثر الكتبا بالحضارة الهلنستية واتصل بالإله هرمس-مركوري الذي وجدت له عدة آثار في خربة التنور.

آلهة الخصب النبطية

بعدما استقر المجتمع النبطي الأردني ودخل مرحلته الزراعية، شهد تطورا كبيرا في أساليب الزراعة والري. ولكن تلك الأساليب لم تقتصر على الجانب العملي إنما كان لها خلفيتها الميثولوجية القوية. فعندما ينحبس المطر وتتأخر المواسم كان الإله حدد  أو هدد هو سيد طقس الاستمطار ويوازي اليوناني جوبيتر وزيوس ويتشارك الثلاثة بقدرتهم على التحكم بالعواصف والبرق.  تبعا لأهمية هذا الإله سمي الملك الأدومي حدد بن بدد باسمه، ولقد ذكر في الكتاب المقدس[2] وفي تفسير القرآن[3].

حدد هو إله من أصل آرامي كنعاني قديم، تم تقديسه في شمال المملكة النبطية الأردنية (سوريا حاليا- حلب  وبصرى وحوران الأردنية على وجه التحديد) وقد كان الجامع الأموي معبدا للإله حدد قبل أن يصير كنيسة ومن ثم مسجدا. لقد لعب الإله حدد دورا مهما في الحياة الزراعية النبطية، وكان يرمز له بصاحب عرش مجنح بالثيران (الماجدي: 2012) أما الإله قيس أو قوس أو قيسو فهو إله من أصل أدومي مرتبط بقوس قزح وقد كان إضافة لحدد إلها تقدم له القرابين النباتية والنبيذ وعبد في منطقة التنور.

الإله حدد 2

(إذا سرق الحاكم ثيران الشعب وأخفاها أو عاث بحقولهم وزرعهم أو أعطاها إلى الأجنبي فإن أدّاد (حدد ) سيكون له بالمرصاد، وإذا استولى على غنمهم فإن أداد ( حدد ) ساقي الأرض والسماء سيبيد ماشيته في مراعيها وسيجعلها طعامًا للشمس ) نقش طيني على أحد معابد الإله حدد.    (الصورة للإله حدد من موقع pinterest)

في مرحلة لاحقة انسجمت صفات حدد وقيس وتداخلت مع ذو الشرى الإله الأكبر. كما تداخلت الآلهة “أترعتا” زوجة الإله حدد مع صفات اللات والعزى لتحولهما من آلهة صحراوية الطباع إلى آلهة زراعية خصيبة.

تأليه الملوك

لقد كانت عادة تأليه الملوك عادة شائعة في الحضارات القديمة. فكان الملك يؤله وترتبط صفاته بصفات الإله الجديد. فيذكر لنا الباحث زيدون المحيسن أن أحد الملوك كانت له مضافة وكان يجمع الناس ويقيم لهم الولائم ويشرف على خدمتهم بنفسه، كانت تلك المضافات تسمى “مرزحا” أي المعبد أو المجلس، ويذكر أن الأنباط قد ألهوا هذا الملك وسموه “رب مرزحا” أي سيد المرزاح.

إلا أن الأردنيين الأنباط عرفوا شكل أكبر وأعمق من تقديس الملك فحسب. فحسب الأدلة الكتابية عبد الأردنيين الأنباط الملك “عبادة ” (7 ق.م -125 ق.م.) وقدسوه بعد موته، ويرى الباحثون أنه قدم شيئا مميزا لشعبه جعلهم يقدسونه ويستعينون بذكره على المصاعب التي قد تلحق بسلالته الحاكمة؛ حتى وجدت بعض النقوش التي تحمل تسميات مثل “عبد عبادة ” وتشير النقوش في مدينة عبدة جنوب فلسطين إلى أن عبادة هذا الإله قد استمرت حتى 193 ق.م بدلالة وجود نقش على واجه المعبد يربط اسم الملك باسم الإله زيوس. وتقول بعض النقوش الأخرى التي وجدت في المعابد النبطية “ذكرى طيبة لمن يقرأ أمام عبادة الإله”.

كما قدس الأردنيون الأنباط ملوك آخرين على الرغم من كون عبادة أهمهم. فقد كان اسم الملك الحارث الرابع تتقدمه كلمة “عبد – الحارث” للدلالة على التبرك. كما عبدوا الإله مالك ( ا ل ه م  ل ك و)، يقول الباحثون بأن تعظيم وتقدير الأبطال وحبهم هو ما دفع بالأردنيين الأنباط لعبادة الملوك والأسلاف بحيث جُعل الملك البطل رمزا تحتذي به سلالته من بعده.

المدينة المعبد

عبد الأردنيون الأنباط هؤلاء الآلهة وكان لهم معبودات أخرى ثانوية الأهمية، فقد ذكرت النقوش العديد من الآلهة مثل هبلو وربة هيرابولس ولكنها لم تكن بأهمية الآلهة الرئيسة السابق ذكرها، كما أنها وفدت من حضارات أخرى كالرومانية والإغريقية في وقت متأخر نسبيا من تاريخ المملكة النبطية.

 ارتبط بعض هذه الآلهة الثانوية بالزراعة وبعضها بالعلم وآخر بقضاء الحاجات. وخضعت الديانة النبطية الأردنية لتحولات عديدة وفقا لتأثيرات البيئة المحيطة بها من محاولات الغزو والاحتلال والتلاقح الحضاري الحاصل بسبب اتساع النفوذ والتجارة.

كانت الميثولوجيا النبطية الأردنية بداية تفجر طاقات الإنسان النبطي فمنها استلهم النحت في الصخر، فجعل ذو الشرى الصخري يعانق اللات المائية عبر نظام مائي/صخري متفرد لا يتكرر، ومنها نرى أدراجا عملاقة للرقي لآلهة السماء ومذابح وقصور وأضرحة وتماثيل وكأن المدينة النبطية بأكملها معبد مقدس فأينما أقبلوا كان الإله حاضرا. وبهذا ترسم لنا كل زاوية من زوايا المدينة النبطية ملامح الحياة التي عاشها أجدادنا عامرةً بالفن والجمال والتدين.

المراجع

  • راسكين، س. (2009) المدن المنسية في بلاد العرب، ترجمة عبد الله الملاح، (ط1). أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • معبد اللات في تدمر، موقع اكتشف سورية.

English References 

 Allpas, Peter& John (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University

Nabatean Pantheon. Nabatean.net

 

الهوامش

[1] الزفت أو الأسفلت أو القير أو الحُمًر مادة نفطية ذات لزوجة عالية ولون أسود

[2] (سفر أخبار الأيام الأول 1: 46) وَمَاتَ حُوشَامُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ هَدَدُ بْنُ بَدَدَ الَّذِي كَسَّرَ مِدْيَانَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ، وَاسْمُ مَدِينَتِهِ عَوِيتُ.

[3] في تفسير الآية الكريمة :وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا”  واختلف في اسم هذا الملك فقيل : هدد بن بدد/ تفسير القرطبي

آلهة الأردنيين الأنباط والمدينة المعبد

1

عاش الأردنيين الأنباط في بيئة يغلب عليها الطابع الصحراوي جنوب الأردن، فقد كانوا في بداياتهم يعيشون حياة البداوة المبينة على الرعي والتنظيم البدوي البحت ، بعد ذلك و نظرا لأعداد السكان التي كانت بتزايد عال، فقد تنامت حاجتهم لوجود مصدر آخر لتلبية احتياجاتهم فقد عقدوا العزم على تطوير الأراضي الواقعة ضمن حدود دولتهم ليتمكنوا من القيام بأعمال الفلاحة فأصبحت من أهم أعمالهم و مصدرا رئيسيا للحصول على طعامهم و تأمينه و بذلك كانت المملكة النبطية الأردنية مركزا متقدما يجمع الأنماط الزراعية السائدة في ذلك الوقت وتلك المتقدمة عن الأمم التي عاصروها.

وبالرغم من أن معظم الأراضي الواقعة ضمن حكم الأردنيين الأنباط كانت غير صالحة للزراعة وتحتاج لحلول مبتكرة لتطويرها زراعيا فضلا عن قلة الأمطار أيضا ، إلا أنهم تمكنوا من حل العديد من المشاكل التي واجهتهم في ذلك فقد نجحوا بخلق وسائل زراعية مبتكرة فعمدوا إلى الزراعة في الجبال و التلال و اعتمدوا لها أنظمة تتلائم و طبوغرافيتها فضلا عن وسائل منع التربة من الإنجراف فقد أسسوا الأسيجة الحجرية و الجدران الاستنادية، وبذلك قام الأردنيين الأنباط بتوسيع مدى زراعتهم في الصحراء وتحولوا ليكونوا أكبر منتجي القمح و الشعير و أنواعا أخرى من الحبوب في المنطقة بالإضافة إلى زراعة الزيتون و البلسم و الكروم و كان ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد، اذ أطعم الأردنيون الأنباط شعوب الشرق القديم من مزروعاتهم، ولم تقتصر البترا العاصمة على كونها مدينة تجارية لاستقبال القوافل من الشرق الأدنى بل تميزت بكونها مركزا للأنماط الزراعية المتقدمة، وهذا ما أوضحته العديد من الوثائق التي أورثها لنا أجدادنا الأردنيين الأنباط فيما يتعلق بالوسائل التي تم اعتمادها لتوسيع الرقعة الزراعية في الأراضي الصحراوية

و لعل التوسعات التجارية التي خاضها الأردنيين الأنباط هي من دعت إلى ظهور التوجه الوطني الذي دعا إلى قيامها بإتقان الزراعة وتطوير أدواتها في عهد الملك الحارث الرابع (9 ق.م – 40 م) أو كما يُلقب باسم “المحب لشعبه”  فقد شهدت فترة حكمه ازدهارا زراعيا على كافة الأصعدة .

2

و من باب انسجام الأردنيين الأنباط مع الحياة الزراعية، وانسجام ثقافتهم مع كون الزراعة نمطا حياتيا ليدهم، فقد تم اكتشاف مخربشة جدارية في إحدى المدن النبطية المعروفة بالحجر و التي كانت مأهولة آنذاك و تم قرآتها بـ ” السلام ، أكور بن يقوم ” حيث ظهر الاسم ” أكور ” من الفعل ” أكر ” و يعني ” زرع ” باللغة السريانية و قد اُختلف على دلالة هذا الاسم إلا أنه يشير عموما إلى وجود نشاط زراعة و فلاحة أو أن صاحب الاسم ينتمي إلى عائلة تعمل في الزراعة .

تمهيد الأراضي الزراعية عند الأنباط

شرع الأردنيين الأنباط في استصلاح الأراضي و تنظيف التربة من الزوائد  قبل غرس الأشجار وقذف البذور فيها، وقد استحدثت عدة طرق لتتماشى وطبيعة الأراضي التي سيُزرع فيها فقد استعمل الأردنيين الأنباط أساليب التمديد والحرث البدائية في الأراضي ذات المساحات الصغيرة كـ ( المعوَل ) الذي استخدم لتكسير الحجارة، و( المسحاة ) التي يُعمل بها في حراثة الأراض الطينية (المشبعة بالماء) و( المعزقة ) أو كما هو متعارف عليها باسم ( الفأس ) ، و من الأساليب التي استُخدمت لحراثة الأراضي ذات المساحات الواسعة كانت تلك الآلآت التي تجرها الحيوانات كـ ( الفدان ) و هي آلة الحراثة التي يجرها ثوران أو كالكراب الذي يستخدم أيضا للحراثة و تجره بقرة .

و بعد حراثة الأرض ينشغل الفلاح النبطي بنثر الحبوب بطريقة متساوية ومنتظمة ويستخدم لأجل ذلك بعض الآلآت كـ ” المالق” أو ” المملقة” وهي خشبة عرضية يجترها ثور أو ثوران لتملس التربة المزروعة  أو “المجز” و لعل شكلها كان كالأسنان و تنعقد من الأعلى بثوران فيجراها ثم تنغرس أسنانها في الأرض إلى أن تصل إلى قاع الأرض المحروثة و تقلب التربة على الحب لتضمن دفنه و طمره.

وقد استخدم الأنباط السماد لتقوية الأرض وإستعادة حيويتها حيث استخدموا فضلات الحيوانات و الزبل أو تدبيل الأرض باستخدام السرقين أو السرجين.

الأنماط الزراعية عند الأردنيين الأنباط

استخدم الأردنيون الأنباط نظام المدرجات أو المصاطب لزراعة الأشجار في المرتفعات الجبلية وعملوا على إسناد جوانبها بالصخور والحجارة تجنبا لإنجراف التربة وانهيار المزروعات فيها وتنبع أهمية هذا النظام  بأنه يعمل على إبطاء جريان المياه مما يساعد في ترسيب أكبر كمية من المياه والمواد العضوية في التربة المزروعة  فقد قاموا بزراعة العديد من المزروعات التي تقوم بامتصاص الرطوبة ككروم العنب وهذه الأنماط لا تزال ظاهرة للعيان في منطقة الجي و براق و عيلمون بالقرب من البترا و من الجدير بالذكر أن الأنباط كانوا يقومون بزراعة الأشجار من النوع الغير صالح للأكل أو السام على هذه المدرجات من أجل ترتيب التربة وتثبيتها وتقليل جريان المياه.

و قد كان نظام “تليلات العنب” أو ما يعرف بـ “أكوام الكروم” و هو أحد الأنماط الزراعية المتطورة التي استخدمها الأردنيون الأنباط للتحكم بالمياه واستصلاح الزراعة في سفوح التلال فقد كانت على شكل أكوام من الحجارة مرتبة هندسيا وقد ظهرت عدة نظريات تفسر الغاية من وضع الأكوام الحجرية فقد كانت النظرية الأولى تتحدث عن التقليل من عملية التبخر في التربة ولأجل تجميع قطرات الندى أما النظرية الأخرى فكانت تتحدث عن أن هذه الحجارة كانت قد أزيلت عن الارض لتنظيم عمليات التعرية و جعل الوديان أكثر خصوبة .

المزروعات والمحاصيل النبطية و مواطنها

 

تعد عمليات التبادل التجاري عاملا أساسيا في ازدهار الزراعات النبطية ولاعتبار الزراعة أيضا منحى من مناحي اقتصاد الدولة النبطية الأردنية ولهذا عُدت عملية استصلاح الأرض بما يتماشى مع نوعية المحاصيل وطبيعة التربة أحد أهم الخطوات التي تسبق الزراعة، و بذلك قاموا باستغلال ما يمكن استغلاله من الأراضي التي كان من المجدي استصلاحها، فكانت منطقة جبال الشراه موطنا لزراعة الفواكة كالكرمة و الرمان بالإضافة إلى الزبيب ومنقوعه اللذان كانا يعتبران مادة مناسبة لاستهلاك المهاجرين والتجار كما كانت هذه المنتوجات أحد عناصر صناعة الخمور في الحضارة النبطية باعتبارها أحد الطقوس الدينية والاجتماعية عدا عن أهميته كمنتج تجاري مهم في ميزان الصادرات النبطي، فقد تم اكتشاف معصرة للعنب في خربة ذريح إلى الجنوب الشرقي من المعبد، كما توسع الأنباط في زراعة الفاكهة كالتين الذي يعد من المنتجات المناسبة صيفا و شتاءا فضلا عن تصديره للتجار بعد تجفيفه.

اعتبرت زراعة البلسم من أكثر الزراعات الأهمية لمكانته الاستراتيجية في التجارة و البلسم هو أحد أنواع الصمغ الذي يستخرج من شجرة البلسان أو البيلسان و يعتقد أن زراعة البلسم قد توطنت في المناطق الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر الأردن.

و قد توسع الأردنيون الأنباط في زراعة الحبوب تبعا للزيادة السكانية الحاصلة فقد توسعوا في سهول حوران الأردنية الشمالية وصولا إلى جنوب دمشق وأجزاءا من سهول مؤاب بالإضافة إلى الصحراء النبطية المحيطة بجبال الشراه فزراعة الحنطة تمت بالتحديد في منطقة الحميمة و منطقة عبده لتوفر المياه والتربة الخصبة فيها بالإضافة إلى زراعة الشعير فضلا عن اتباع الأساليب الزراعية ذاتها في كلا المنتجين.

و تجدر الإشارة إلى إلى أن الأنباط كانوا يصدرون الزيت المستخرج من السمسم (زيت السيرج) باعتباره بديلا مهما وأكثر رواجا من زيت الزيتون .

و من المحاصيل الزراعية التي اهتم الأردنيون الأنباط بزراعتها شجر الزيتون حيث أنها كانت أنسب المزروعات التي تتم على الجبال بالإضافة إلى أنها لا تحتاج للرعاية والري الدائم  فعلى الجهة الجنوبية الغربية من المعبد بنيت معاصر الزيتون، و يعد وجود مصنع النبيذ و معصرة الزيتون أحد أهم الدلائل على تقدم الأردنيين الأنباط في مجال الانتاج الزراعي و قد ذكر بعض المؤرخين ومنهم  “بليني” و “سترابو” أن بداية العمل في المعصرة كانت في نهاية القرن الأول قبل الميلاد و قد ثار الجدل بين  بعض الباحثين على تاريخ عصر الزيتون عند الأردنيين الأنباط لوجود أكثر من معصرة داخل حدود الأنباط  بالأخص في جبال الشراه النبطية و وادي موسى.

ونتيجة للانفتاح النبطي الأردني على الحضارات والممالك المجاورة، وامتدادا لعمليات التبادل التجاري البينية مع هذه الحضارات فقد جلب التجار القادمين من بلاد الرافدين إلى المملكة النبطية شجر النخيل الذي زُرع في المناطق الغورية لتناسب زراعته مع مناخ الغور الاردني .

ويعتقد بعض الباحثين بأن شجرة الصنوبر كانت ذات قيمة رمزية مهمة للأردنيين الأنباط وذلك لقداسة الشجرة في طقوسهم الدينية فزينوا منحوتة الإله Eros بثمار نبتة الصنوبر.

كما قام الأنباط بزراعة الأصطفرك – وهو نبات معمر يستخدم لتثبيت العطور – والزعفران و نبتة “costas” المعطرة بالإضافة إلى زراعة الفلفل الأخضر.

الميثولوجيا الزراعية عند الأنباط

انفتحت الآفاق الروحانية لدى الأنباط بما يخص العبادات والطقوس الروحانية على كافة المجالات الحياتية فقد اندمج الأردنيون الأنباط مع مجامع الحضارات التي كانت متواجدة في تلك الحقبة ليصيغوا من هذا الخليط آلهة متعددة  عكست جمالية الطقوس الدينية وحولت انجازات الأردنيين الأنباط وتقدّمهم إلى رموز دينية، و على أثر هذا الانخراط الحضاري الحاصل، تشبّع الأنباط بالعقائد الدينية الزراعية مما حفّزهم على إنشاء المعابد و تقديم القرابين النباتية وتقديس الكروم باعتبارها رمزا للإله ذو الشرى ولقد تعددت مسميات الآلهة وارتباطاتها الزراعية كالآله “بعل” وهو امتداد للآله  “حدد” والذي يرمز له بإله المطر والصواعق، وتقول الميثولوجيا بأن الأنباط استطاعوا أن يضفوا عليه طابعا وتقديسا زراعيا ليتماشى مع حياة الأردنيين الأنباط و زراعتهم الصحراوية.

الإله حدد 2
الإله حدد

و من الآلهة النبطية المرتبطة بالزراعة أيضا الإله “قوس” أو “قيس” أو “قيسو” أو كما وجد على خربة تنور بـ “قس إله حورا” قد عُرف ارتباط هذا الإله بالمطر و قوس قزح، و قد أدى ارتباط الآلهين “حدد ” و “قيس” إلى التحامهما بإله ” ذو الشرى”  وإعطاءه طابعا زراعيا. ويقترح أحد الباحثين أن اسم “شرى”  لا يرتبط بجبال الشراه بل يُعنى بالزراعة الكثيفة. في المرحلة المتأخرة من الحضارة النبطية وتأثره بالحضارة اليونانية  أصبح ذو الشرى يوازي الأله “زيوس” في اعتباره إلها للخمر والكروم وانتشرت فيما بعد عادات تقديس الكرمة وعادة إراقة الخمر على القرابين إضافة إلى ما تذكره المصادر من أن الأنباط كانوا يحجون إلى غابة ويتبركون بمائها وأشجارها.

Dushara
الإله ذو الشرى حاملا قطف العنب

أما الآلهة الأنثوية النبطية فلم تعبد إلا بوصفها آلهة للخصب، فاللات والعزى ذوات رموز زراعية كحزمة القمح والخلفية شديدة الخضرة وأعيادهما مرتبطة بمواعيد الحصاد والبذر وتكاثر الحملان. كما وجدت الآلهة “اترعتا” أو “اتر- تا” حيث كانت زوجة الإله “حدد” فقد كان عرشها مجنحا بالأسود على غرار عرش زوجها المجنح بالثيران.

و على ضوء هذا كان الأردنيون الأنباط سباقين لاستصلاح الأراضي فضلا عن تحسين التربة والمحافظة على المياه لأغراض الزراعة في بقاع عديدة من دولتهم لا سيما في وادي عربة الذي كان القسم الخصب للزراعات النبطية، إضافة إلى منطقة مؤاب في جنوب الاردن التي كانت موردا زراعيا لا مثيل له للملكة النبطية الأردنية لقرنين من الزمان.

لقد مرت الحضارة النبطية بمرحلتي البداوة والترحال إضافة لمرحلة ازدهرت فيها الزراعة ازدهارا عظيما. لقد أدى هذا الانتقال إلى ثورة نبطية في النظم المائية رافقتها ثورة أخرى على صعيد الميثيولوجيا والعبادات. كانت حياة أجدادنا الأنباط عبارة عن نظم رائعة متداخلة أفضت إلى حضارة في غاية التعقيد والجمال.

 

المراجع :

عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان)

المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، وزارة الثقافة ، الطبعة الأولى ، 2009 ، (عمان – الأردن)

الحموري ، خالد ، مملكة الأنباط : دراسة في الأحوال الإجتماعية والإقتصادية ، الطبعة الأولى ، 2002 ، بيت الأنباط ، (البتراء – الأردن)

سورية الجنوبية (حوران) ، بحوث أثرية في العهدين الهلليني و الروماني ، ترجمة أحمد عبد الكريم ميشيل عيسى سالم العيسى ،1988 ، – كتاب مترجم عن الفرنسية –

حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، أحمد العجلوني ، الاردن ، 2003

الفلاحة النبطية لابن وحشية ، ترجمة أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الكسداني ، القرن العاشر الميلادي

الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون) ، الطبعة الأولى ، 2012 ، دار النايا و دار المحاكاة للدراسات والنشر والتوزيع ، (سوريا- دمشق )

الأنباط : تاريخ و حضارة ، عزام أبو الحمام ، 2009، عمان

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (الجزء السابع) ، جواد علي ، ط 2 ، 1993 ، بغداد

تاريخ سورية و لبنان و فلسطين ، فيليب حتي ، ط 3 ، 1957 ، بيروت

أنظمة الزراعة عند الأردنيين الأنباط

Scroll to top