عن الذهب السائل: الزيتون في عهد المملكة الغسانية الأردنية

مقدمة: نسب وإحصائيات

في الأردن أينما وليت وجهك ستجد شجرة الزيتون أمامك بكل بهائها. تحمل هذه الشجرة جذورا تاريخية ضاربة في القدم وتعد شاهدة على العصور المتعاقبة على أرض الأردن الخصبة فهي من الأشجار القليلة التي تعلم الإنسان زراعتها قبل حتى أن يخترع الكتابة. في هذه البقعة المقدسة، تطرح الزيتونة ثمارها، فتكون زيتا وقوتا ومصدرا لعطاء لا ينضب أبدا.

بين أغصان الزيتون الأردني

اهتم الأردن بالانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تعنى بالزيتون زيت الزيتون بوصفه بلدا يتميز بوفرة شجر الزيتون ومنتجاته المختلفة. كان آخر الاجتماعات الدولية التي عقدت في الأردن هو اجتماع جمعية (JOPEA) جمعية مصدري منتجات الزيتون الأردنيين الواحد والخمسين والذي عقد في إبريل الماضي. ويقدر حجم الاستثمار الأردني في الزيتون بأكثر من مئة مليون دينار حتى 2010 وذلك لأن أرض الأردن حاضنة لأقدم ممارسات الزراعة وخاصة زراعة الزيتون التي تعود في الأردن لأكثر من عشرة آلاف سنة. حرصت المؤسسات العلمية والمعاهد الآثارية في العالم وخصوصا الأكاديميين الفرنسيين بالتعاون مع أكاديمي الأردن عام 2008 على تأكيد هذه الفرضيات بمزيد من الأدلة كان آخرها اكتشاف أن وادي رم جنوب الأردن كان مزروعا بأكمله بأشجار الزيتون عام 5400 قبل الميلاد. [1]

ووفقا لدائرة الإحصاءات العامة فإن الزيتون ينتشر في منطقتين رئيسيتين في غرب الأردن وشمال شرق المملكة بواقع 12 مليون شجرة تغطي 24% من مجمل مساحة أراضي الأردن الصالحة للزراعة و 74% من مجمل الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة. حظيت زراعة شجرة الزيتون باهتمام الدولة الأردنية بدلالة ازدياد المساحات المزروعة حتى وصلت 640 دونما حتى نهاية عام 2016 وبواقع 151 ألف طن من إنتاج زيت الزيتون في آخر خمس سنوات. ويبين الرسم البياني أدناه متوسط إنتاج زيت زيتون والذي بلغ 23 ألف طن حتى عام 2017 بينما يوضح الرسم البياني الثاني متوسط  إنتاج زيتون المائدة الذي بلغ 27 ألف طن.

الرسم البياني الأول لإنتاج الزيتون وتصديره
الرسم البياني الثاني يوضح القفزة في الإنتاج

منذ عام 2000 ميلادي حقق الأردن اكتفاء ذاتيا من إنتاج زيت الزيتون وزيتون المائدة، حيث وصل إنتاج محصول الزيتون إلى 37 ألف طن يستهلك أغلبه وطنيا بواقع 2.5 كلغ للفرد سنويا، أما بقية الإنتاج فيصدره المنتجون إلى عدة دول حول العالم مثل الباكستان وقطر والكويت والإمارات، والسعودية وكازاخستان.

رسم بياني يوضح أهم الدول التي يصدر لها الأردن الزيتون

تعتبر الأردن بلدا متميزا في إنتاج زيت الزيتون البكر عالي الجودة، ومعظم أشجار الزيتون التي تزرع في أرض الأردن معدة للغرضين (إنتاج زيت الزيتون وزيتون المائدة) ويعود ذلك إلى أن زراعة الزيتون ومنتجاته إحدى الصناعات الأساسية في تاريخ الأردن لأكثر من عشر آلاف سنة  التي تتميز بلذة طعم زيتون المائدة. كمتوسط، يبلغ إنتاج الأردن من زيتون المائدة 27 ألف طن وفي عام 2010 بلغ الإنتاج ذروته ووصل 54 ألف طن. ونلحظ من الرسم البياني تنامي الإنتاج من 8 آلاف طن عام 1991 إلى 20 ألف طن عام 2016 ليبلغ استهلاك الفرد 3 كلغ من الزيتون سنويا.

ويترافق تنامي الإنتاج بتنامي حركة التصدير. ففي عام 2016 زادت نسبة التصدير 43% عن السنة السابقة. يمتلك الأردن 134 معصرة للزيتون توظف أحدث تقنيات العصر بالرغم من أن الزيتون لا يزال يجمع باليد عن الأشجار. يحرص مزارعو الأردن على إبقاء استخدام الكيماويات في الحد الأدنى وهناك توجه جدي وكبير نحو الزراعة العضوية.

ونلحظ في الأردن تعاونا رائعا بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية كوزارة الزراعة و جمعية مصدري منتجات الزيتون الأردنيين وجمعية أصحاب معاصر الزيتون وجميعهم يهدفون لتعزيز قطاع زراعة الزيتون ومنتجاته.

حرصا منا في إرث الأردن على توثيق إرثنا الغني سنقدم في هذا البحث عرضا لتاريخية شجرة الزيتون، توزعا وانتشارا، إضافة لمحور مهم وهو التسمية أشهر أنواع الزيتون زراعة في الأردن: الزيتون الرومي. الزيتون الذي زرع بأيد أردنية وتابع انتشاره في عهد المملكة الغسانية الأردنية

محافظات الأردن بحسب إنتاج الزيتون

تاريخية شجرة الزيتون

يسميها المزارعون الأردنيون “غرسة” إن كان عمرها لا يتجاوز الثلاث سنوات، و”شقيحة” إن كانت تبلغ من ثلاثة سنوات إلى عشر وبعد تمسكها في الأرض عشرة أعوام تستحق بعدها اسم “الشجرة”. (القطامين:2011)  واسمها العلمي Olea europaea وتنتمي لعائلة Oleaceae.

Eukaryotes – Nucleated Cells
Kingdom:Green Plants
Subkingdom:Tracheobionata – vascular plants
Superdivision:Spermatophyta – seed plants
Division:Magnoliophyta – flowering plants
Class:Magnoliopsida – Dicotyledons
SubClass:Asteridae
Order:Scrophulariales or Lamiales
Family:Oleaceae – ash, privet, lilac and olives
Genus:Olea
Species:Europa

أما زراعة الزيتون فتعود بشكل عام لستة آلاف عام على أقل تقدير إلا أن تواجده في الأردن قد سبق ذلك بكثير. حيث تشير الدراسات التي أجريت على المواقع النطوفية في الأردن وفلسطين إلى وجود الزيتون قبل عشرة آلاف عام تقريبا. بينما يؤرخ موقع تليلات الغسول في العصر النحاسي في الأردن إلى أقدم عملية توطين وزراعة لأشجار الزيتون بغرض الاستفادة منها بشكل أكبر. (Dautricourt: 2010) (Efe: 2011)

أما اليوم فهنالك حوالي أربعين نوعا من شجر الزيتون، وبحسب إحصائيات 1991 عام يقدر عدد أشجار الزيتون حول العالم ب805 مليون شجرة 98% منها في حوض المتوسط. (لاديسا وكلابريسي وبيرينو: 2010)

التوزع والانتشار

كما أسلفنا فإن الزيتون من أكثر المحاصيل انتشارا وزراعة على مدار التاريخ من العصر الحجري حتى الآن. في ورقة بحثية منشورة، يستعرض الباحثون لاديسا وكلابريسي وبيرينو من معهد باري للدراسات الزراعية أصل شجرة الزيتون وطريقة توزعها عبر التاريخ.

يرجح الباحثون بأن شجرة الزيتون كانت قد انتشرت في مناطق متعددة وبشكل منفصل وأن الشجرة الحالية التي نعصر ثمارها ما هي إلا نتاج التربية الطويلة والتهجين من ستة آلاف سنة حتى الآن. حيث كان المزارعون يكثرون شجر الزيتون الذي يحوي على زيت أكثر وأشواك أقل، فالزيتون البري (الشجرة الأصل) كانت بنسبة زيت أقل بكثير وبأشواك حادة وكانت غالبا تستعمل لأغراض الأكل والطقوس لعدم مناسبتها للعصر واستخراج الزيت.

من 3000-2000 قبل الميلاد بدأت شجرة الزيتون بالانتشار من المشرق إلى أوروبا. وكانت مزروعة بكثافة في الأردن وفلسطين وسوريا وصولا إلى قبرص. وبحلول القرن الألف قبل الميلاد حدثت “هجرة” أخرى انتقلت فيها شجرة الزيتون إلى تونس وما تلاها من البلدان.

الإمبراطورية الرومانية في أقصى اتساعها

وقد وثق المؤرخون الرومان القدماء أول مرة دخلت فيها شجرة الزيتون إلى الإمبراطورية في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد انتشرت ببطء إلى الغرب بفعل حركة التجارة على الموانئ ومن ضمنها الموانئ الأردنية النبطية والغسانية. وخلال فترة الولاية الرومانية على الأراضي الأردنية، تعززت زراعة الزيتون وانتشرت بشكل كبير وكانت أهم أهداف هذه الولاية تسهيل طرق التجارة وتأمينها- تلك المهمة التي أسندت بشكل رئيس على مدار أربعة قرون (من القرن الثاني إلى السادس تقريبا) للأردنيين الغساسنة.

في القرنين الثاني والثالث ميلادي بلغت زراعة الزيتون أوجها خصوصا في الأردن وسوريا وفلسطين بينما تراجعت في أوروبا وظلت في تراجع حتى القرون الوسطى.

الزيتون والأهمية الدينية

طعام الآلهة وعلية القوم و”الغذاء الروحي” للإنسان، الشجرة الخالدة التي تعيش ألف عام وأكثر وتظل تثمر وتثمر وتهب الإنسان زيتا وطعاما ونورا. من نقوش العصر الحجري وصولا إلى المقابر الفرعونية التي اعتبرت الآلهة أيزيس )والتي تقابلها الآلهة العزى( هي من منّت على البشر بنعمة شجرة الزيتون وعلمتهم كيفية زراعتها ولهذا كان الزيتون ملهما للكثير من الميثولوجيا والطقوس الدينية.

لما أدرك الإنسان عظمة هذه الشجرة، أشركها في سلسلة من الأساطير امتدت حتى الأديان الإبراهيمية الثلاثة.

رمزية شجرة الزيتون

انطلاقا من إحساس الإنسان بأهمية هذه الشجرة، منحها مقاما عاليا وجعلها رمزا يعتبر من أقدم الرمزيات في تاريخ الإنسان الحديث. فعندما بدأ الإنسان الأول في عين غزال طقوسه الدينية البدائية وعندما باشر البشر لأول مرة دفن موتاهم من إحساسهم العميق بوجود عالم ما ورائي خُلق الرمز وانبثقت الأسطورة.

شجرة الزيتون ثابتة وجذورها تضرب عميقا في الأرض وهذا ما كان يحتاجه الإنسان في بدايات تمسكه بالأرض وتأسيس مجتمعه الزراعي البدائي. كما رأي الإنسان عمر هذه الشجرة الطويل، فأسبغ عليها صفة الخلود، ورأي أيضا كيف تستخدم ثمارها في الطعام وإشعال القناديل وكيف يستخدم خشبها للتدفئة وكيف تستخدم بقايا ثمارها كجفت للتدفئة، وأن تكون شجرة واحدة صاحبة كل هذه الأفضال فهذا يرفعها لمرتبة قدسية ويجعلها شجرة سماوية وأهم هبات السماء للإنسان.

 في عصور لاحقة اتخذت الحضارة اليونانية التي امتدت إلى أرض الأردن وتفاعلت طقوسها مع طقوس الإنسان الأردني من الزيتون رمزا. تقول الأسطورة بأنه عقب معركة ترومبيل التي اقتحم الفرس على إثرها أثينا وأحرقوها كانت شجرة الزيتون هي الناجية الوحيدة من الدمار وأنبتت أغصان خضراء نضرة تواسيهم في حسرهم على مدينتهم المدمرة، ولاحقا استخدمت أغصانها لتكليل رؤوس المنتصرين في الحرب كما كانت أول شعلة لأول ألعاب أولمبية. وكما أسلفنا، ظلت شجرة الزيتون حاضرة في الأديان الإبراهيمية.

الزيتون في المسيحية والإسلام

كانت البداية من الطوفان العظيم، عندما فار التنور وطافت سفينة نوح حاملة المؤمنين وأزواج الحيوانات، أطلق  سيدنا النبي نوح عليه السلام حمامة ليعرف إن انتهى الطوفان، وعادت له الحمامة تحمل غصن زيتون كبشرى. وقد ذكرت في سفر التكوين:” فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ «عادت الحمامة إلى نوح  ببشري السلام والأمل والرجاء ممثلة في ورقه زيتون خضراء، أتت بها من الأرض التي انقشعت عنها مياه الطوفان، إشارة بأن الحياة قد بدأت تعود مرة أخري علي الأرض .. وبهذا تكون شجرة الزيتون هي أول شجرة تنبت بعد الطوفان .. “

في الإسلام، تعتبر شجرة الزيتون شجرة مباركة أقسم الله بها في القرآن الكريم ((والتين والزيتون))  وضرب بها مثلا للنور الإلهي الذي يضيء دون أن تمسسه نار. كما بارك الأنبياء ومن ضمنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيدنا إبراهيم عليه السلام زيت الزيتون وجعلوه “دهنا” مباركا شفاء من الأمراض وفيما بعد اتخذ الادهان بالزيت رمزيات أخرى لدى النساء خصوصا، فإن اختلط بالعطر كان دلالة فرح وبهجة وإن لم يختلط كان دلالة حزن.

صورة دينية يظهر فيها غصن الزيتون

أما في المسيحية فقد صلب سيدنا المسيح على خشب الزيتون، وتعتبر شجرة مباركة. يذكر الدكتور إسحق عجبان أن للزيتون أهمية كبيرة في التاريخ الديني المسيحي. ” ورد “الزيتون” في الكتاب المقدس 62 مرة”  وفي قصة أخرى في سفر القضاة: “وترمز شجرة الزيتون أيضاً للحكمة لأنه ورد في مثل قديم في سفر القضاة (9: 8 – 15) أن الأشجار عندما أرادت أن تنتخب ملكا عليها اختارت شجرة الزيتون، ولكنها رفضت قائلة: لن أترك زيتي الذي باركه الرب من أجل أن أحكم الأشجار.. “

المسيح على جبل الزيتون

 

ويمكننا أن نرى إلى اليوم أهمية الزيتون الدينية في نفوس الأردنيين مسلمين أو مسيحيين، فهي شجرة تحظى بمكانة مرموقة وترمز فوق كل شيء إلى الارتباط العميق بالأرض، وبالتالي بالتمسك بمبدئي الحياة والعطاء.

الزيتون الرومي: زيته سيال ولقاطه بهدي البال

تتعد أنواع الزيتون التي تزرع في الأردن ونذكر منها الركبي والبثلي والزراعي والرومي. أما محور الفصل بين تلك الأنواع فهو نسبة الزيت في الثمرة. فكلما ارتفعت نسبة الزيت كانت الشجرة ذا قيمة أعلى، أما الشجر ذي النسبة الأقل فكان يستخدم لأغراض أخرى كالأكل والطقوس والخشب وأغلب الأشجار المزروعة في الأردن هي من الأنواع التي تناسب الغرضين. وقد مدح مزارعو الأردن الزيتون الرومي كثير الزيت سهل القطاف وثبت ذلك في أمثالهم الشعبية.

قارورة زيت تعود للحقبة الكلاسيكية

تذكر المصادر المعتمدة على المسح الميداني[2] الزيتون الرومي بكونه زيتونا أثريا يمتاز بغزارة الزيت وكبر حجم الشجرة وعرض اتساع قطرها الذي قد يصل للمترين أحيانا حيث يتم حساب عمر الشجرة عن طريق الحلقات الموجود في الساق. يتجاوز عمر الزيتون الرومي المتواجد في مزارع الطفيلة الألف عام، حيث تمثل كل حلقة في الساق 10-15 سنة وبعض الأشجار تحوي سيقانها على أكثر من 100 حلقة!  ومن شدة قدم هذه الأشجار نجد أن طبقات اللحاء قد تراكمت فوق بعضها البعض ومن بينها فراغات تسمى “طابون الشجرة” أما تجمع الأغصان على بعضها فيسمى “بيت الشجرة” (القطامين:2011)

زيتون عنجرة في عجلون

بدأت زراعة الزيتون إذن من المشرق لكنها ما لبثت أن انتقلت إلى اليونان ومن ثم أوروبا، فالأرجح أن الزيتون الرومي ما هو إلا نتاج الزراعة الانتقائية التي مارسها مزارعو المشرق في الأردن وفلسطين في تكثير الزيتون ذو الجودة العالية.

وكما ناقشنا في الفصل السابق من البحث عن توزع وانتشار الزيتون، فمن غير المعلوم سبب اكتساب الزيتون الرومي لاسمه، وقد يرجح هذا لمحاولات الإمبراطورية الرومانية فرض ثقافتها. تشابه حالة الزيتون الرومي آثار الأردن في الحقبة الرومانية، فالمدرجات وسبل الحوريات والكنائس وشوارع الأعمدة الممتدة على طول خط مدن الديكابوليس بنيت بأياد أردنية من قبل المراكز المدنية المحلية التي كانت تتصل فيما بعضها بعلاقات اقتصادية وثقافية.

عملات رومانية يظهر فيها غصن الزيتون

 وتعمد الإمبراطوريات العظمى لفرض التعامل بعملتها ولغتها، بينما تصك مدن التحالف عملاتها المحلية وتبني مبانيها على طراز روماني مع الإبقاء على خصائص  ثقافية محلية أصيلة. وليس غريبا بأن الزيتون بوصفه أهم المحاصيل الزراعية، وأهم الروافد الاقتصادية في المشرق لا بل العالم ، أن تركز الإمبراطورية الرومانية على تأكيد شرعيتها فيه  كأن يجعل الإمبراطور الروماني هدريان غصن الزيتون شعارا للإمبرطورية. رغم أن قناديل روما كانت عبر القرون تضاء بزيت مستخلص من زيتون مد الديكابولس الأردنية كمدينة حرثا التي كانت تلقب بقنديل روما.

آثار قويلبة في حرثا شمال الأردن

المملكة الغسانية: موجز

كان عصر الإمبراطوريات يقتضي بوجود دول كبرى قارية (ممتدة على أكثر من قارة) كالإمبراطورية الرومانية والفارسية. أما الحال في الأردن فقد كانت علاقة السكان بالإمبراطورية الرومانية علاقة تصادمية تكللت بالكثير من الثورات والحروب كحرب الملكة الأردنية ماوية التي شكلت تحالفا من القبائل البدوية في الصحراء الأردنية الشرقية. وفي الفصل التالي من هذا البحث سنقدم موجزا للمملكة الأردنية الغسانية التي ظهرت في بواكير القرن الثاني من مركزها الأول في البلقاء.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

تعد المملكة الغسانية الأردنية ثالث الكيانات السياسية التي شهدها المجتمع الأردني منذ القرون ما قبل الميلادية. دعت الحاجة الماسة لتنظيم وتوحيد قوة العشائر الأردنية البدوية إضافة للنبطية الأردنية وغيرهم من المكونات السكانية إلى انتخاب حكومة مركزية تكون حلقة وصل بينها وبين الإمبراطورية الرومانية التي حاولت مرارا فرض ولايتها بالقوة. ومن هنا كانت بداية المملكة الغسانية التي أسسها الأردنيون الغساسنة في القرن الثاني تقريبا. استمرت هذه المملكة بحكم الأردن وفلسطين وسوريا وصولا أجزاء واسعة من صحراء الجزيرة العربية، متخذة من نظام دول التحالف والمراكز الاقتصادية (الديكابولس) وسيلة تنظيمية مثلى تلبي احتياجات طبيعة المجتمع الأردني.

استعرضنا في سلسلة قدمتها إرث الأردن لأول مرة للمحتوى الإلكتروني عن الأردنيين الغساسنة تاريخ هذه المملكة، ملوكها وعلاقاتها الخارجية، إضافة للاقتصاد والدين والثقافة والعمارة ومختلف نواحي الحياة الاجتماعية الأخرى. تركت المملكة الأردنية الغسانية بصمتها في التاريخ الأردني على وجه الخصوص وتاريخ المشرق، أما على التراب الأردني الخصب، فلا زال يحتفى بالغراس المباركة التي زرعت بأياد أردنية وتمت رعايتها بالحكمة الغسانية التي تؤمن بالأرض الأردنية.

مدن الديكابوليس: نظرة عامة

تعود  فكرة حلف الديكابوليس للعهد اليوناني وتبنتها الإمبراطورية الرومانية للحفاظ على أمن حدودها من الإمبراطورية الفارسية وضمان سلامة قوافلها على الخط التجاري، في ذات الوقت يضمن الرومان ألا يشتبكوا مع القبائل الأردنية التي – بعد عدة حروب فاشلة معها- أدركوا أنها لن تنضوي تحت مظلتهم بالصورة التي يرغبون بها.

ضم حلف الديكابوليس عشرة مدن من تأسيسه عام 64 ق. م. ثمان مدن منها مدن أردنية:

  • فيلادلفيا (عمان)
  • بيلا (طبقة فحل)
  • أرابيلا (إربد)
  • جراسا (جرش)
  • كانثا (أم الجمال)
  • جدارا (أم قيس)
  • دايون ( إيدون)
  • هيبوس (الحصن)
  • دمشق
  • سكيشوبوليس (بيسان)
خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة

انضم لهذا الحلف عدة مدن أخرى منها مدن أردنية  كابيتولياس وهي مدينة بيت راس. ، مدينة جادورا وهي السلط ومدينة أبيلا وهي القويلبة ( حرتا في إربد ) والتي لقبت بقنديل روما لأن زيتها كان يضيء قناديل روما آنذاك، إضافة لمدينتي درعا وبصرى.

تذكر المصادر التاريخية بأن المنحدرات والتلال كانت تنظف لغايات الزراعة، وتكثفت زراعة الزيتون والعنب إضافة لأساليب جمع المياه والري، حيث اعتمد المزارعون الأردنيون على تجمع مياه المطر في الأودية وحصرها على شكل سدود صغيرة، أما المنحدرات فقد تم تدعمها بسلاسل حجرية لا زلنا نراها حتى اليوم. وبسبب الطلب الكبير على صناعات الخشب والزيتون وغيرها كانت الغابات والأحراش تقص وتزرع الأشجار المثمرة (وأهمها الزيتون) وقد كان ذلك يتطلب كميات وافرة من المياه إضافة للأيدي العاملة التي كانت تتراجع بفعل الطاعون والزلازل ولهذا تراجعت زراعة الزيتون قليلا في أواخر العصر البيزنطي لتعود للازدهار بشكل لافت في عهد المماليك الذين عرفوا مقدار خصوبة هذه الأرض فاعتنوا فيها أشد الاعتناء واستوردوا المزيد من الأنواع النباتية وكثروها وكان أهمها قصب السكر. ورغم ما واجهته حركة الزراعة في الأردن في عهد المماليك في القرن الخام عشر من تحد وتراجع إلا أن مدن الديكابولس الأردنية استمرت بالازدهار الزراعي بسبب نظم جمع المياه والأساليب الزراعية التي كان الأردنيون قد طوروها. (Luke: 2008)

كانت وفرة المياه في مدن الديكابولس الأردنية حافزا رئيسا في الزراعة. فمثلا شكلت “عين القويلبة” في مدينة أبيلا (حرثا) الأردنية مركزا زراعيا، لنجد بأن المزارع تلتف حول مصدر الماء الوفير في المدينة. كذلك الأمر في فيلادلفيا مدينة المياه وباقي المدن الأردنية التي يبلغ عدد عيون الماء فيها بالمئات والآبار الأثرية  التي لا زالت بعضها تستخدم حتى يومنا هذا  فجرش على سبيل المثال، هي مدينة مكتفية ذاتيا من المياه وقد وجدت دراسة أجرتها جامعة أستراليا الغربية بأن جراسا بأكملها مدنية تعتمد بشكل كلي على الينابيع ذاتية التغذية (Boyer: 2015)

ولا ننس الإشارة إلى وجود نهر اليرموك وروافده ونهر الأردن وروافده وبحيرة طبريا وبعض البحيرات الصغيرة  كبحيرات العرائس في إربد. (Luke: 2011)

 لم يقتصر الأمر على عيون الماء الطبيعية والآبار الجوفية إنما امتد إلى حفر قناة بطول قناة مائية بطول 170 كلم تصل مدن حلف الديكابولس ببعضها البعض لتتفوق قناة جدارا على ثاني أطول قناة مائية تحت الأرض بتسعة أضعاف الطول!

أحد الباحثين في نفق جدارا المائي

 هذا المشروع العظيم الذي قاده أكاديميون أردنيون  من كلية الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة اليرموك حاصلين على دعم من صندوق السفراء الأمريكيين للحفاظ على التراث الثقافي رمموا فيها 140 كلم من القناة.   وأسفر هذا الاكتشاف حتى يومنا هذا عن 8 أبواب لهذه القناة في أم قيس وحدها. لقد أعاد هذا الاكتشاف العظيم فهمنا لطبيعة حلف مدن الديكابولس وأضاف لطبيعته السياسية طبيعة أخرى زراعية وبالتالي اقتصادية واجتماعية. (Luke: 2011) ولا بد بأن الأردنيين الغساسنة استفادوا من هذه القناة في الري والزراعة وتعزيز هذين القطاعين اللذان يرفدان أهم مصادر دخل الأردنيين الغساسنة: التجارة وحماية القوافل.

نفق جدارا المائي من الخارج
نفق جدارا المائي من الداخل

اكتشفت مجموعة انفاق مائية تقع في وسط جدارا على عمق عشرات الأمتار من مستوى الشارع الرئيس الذي كان يطلق عليه شارع الديكامونس الذي يقطع المدينة من الشرق إلى الغرب. ويلحظ بأن مدن الديكابولس تتشابه في التخطيط العام من حيث وجود شارع رئيس (كشارع الكاردو في جراسا مثلا) تحاذيه دكاكين ومحلات تجارية وكنائس وسبيل الحوريات. وتتشابك هذه الأنفاق لترفد المدينة بالمياه ولترفد المزارع المحاذية لوسط المدينة بمياه الري أيضا، ومن المثير أيضا عمق هذه الأنفاق فهي أنفاق يستطيع المرء المشي فيها، إضافة على احتوائها على محابس حجرية تتحكم بتوزيع وضخ المياه.

خاتمة

“إذا البيت فيه زيت صقفت وغنيت” و “البيت عمود البيت” يقول الأردنيون في أمثالهم الشعبية. هذه الشجرة التي تشبه روح الأردني في ارتباطها بالأرض والحياة. استعرضنا في فصول هذا البحث تاريخ شجرة الزيتون وتزعها وانتشارها إضافة لأحدث إحصائياتها في الأردن، كما ناقشنا تسمية أهم صنف من أصناف الزيتون في الأردن وهو الزيتون الرومي الذي كثرت زراعته في عهد المملكة الغسانية الأردنية ومدن الديكابوليس، سنتابع في سلسلة أبحاث الزيتون الأردني عبر التاريخ الحديث بشكل تفصيلي عن صناعة الزيتون ومعاصره وطرق عصره التقليدية.

 المراجع:

  • A 6.000- year harvest in Jordan, Dautriccourt (2010), everything about olive.
  • Gaetano Ladisa, Generosa Calabrese, Enrico Vito Perrino(2010) THE ORIGIN AND DISTRIBUTION OF OLIVE TREE AND OLIVE CROP, Mediterranean Agronomic Institute of Bari
  • the history of olive oil in imperial rome, a published article on www.sabor-artesano.com
  • B.Luke  (2008),soils and land in the Decapolis region
  • Luke, B. (2011) The dismiss of the Decapolis, Brandenburg university of technology
  • الموسوعة البريطانية https://www.britannica.com/plant/olive-plant
  • Abila of the Decapolis Excavations, June 30, 1991, Institut Francais du Proche-Orient
  • Boyer. D. Evidence of spring-fed irrigation in the hinterland of the Decapolis city of Gerasa (Jordan), University of Western Australia
  • Oliooficina website – World olive oil exhibition/Olive growing in Jordan
  • نتائج المسح الميداني المبني على المجتمع المحلي، محافظة الكرك،2013-2016، وزارة الثقافة الأردنية
  • القطامين،فيصل (2011) أشجار الزيتون الرومي: جذور ضاربة في التاريخ وقنديل لا ينطفئ، مقالة منشورة، صحيفة الغد
  • شجرة الزيتون حكاية الذهب السائل ورمز السلام في الدين والأدب- موقع ساسة بوست
  • د. إسحق إبراهيم غصبان، أغصان الزيتون في الفن القبطي، موقع بوابة الحضارات.
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • معالم أثرية جديدة في أم قيس- موقع خبرني الإعلامي
  • حرثا (قنديل روما)، أبحاث إرث الأردن المنشورة

[1] تقرير ICOMOS لمشروع منطقة وادي رم المحمية. رقم 1377

[2] نتائج المسح الميداني القائم على المجتمع المحلي: مشروع وطني أطلقته وزارة الثقافة يهدف لحصر التراث الثقافي غير المادي

Scroll to top