دورة حياة صوت ال (ق) في الأردن: قراءة في دراسة علمية

مقدمة

هل فكرت يوما كيف تتكلم؟ لا أعني كيف يدخل الهواء لرئتيك وبين دخوله وخروجه وبمساعدة فمك وشفتيك تنطق الأصوات التي تكون كلمات وبلحظات ولا وعي تكون جملا تعبر فيها عن حاجاتك ورغباتك ومشاعرك، إنها اللغة! المعجزة التي نقلت البشر إلى مرحلتهم الأكثر تقدما وتحضرا. واللهجة هي اللغة الأم التي يتلقنها الفرد من أمه وهي تهدهده قبل النوم، تلك التي تنطق بها دون جهد يذكر.
قد نظن بأن اللهجة هي أمر لا تحكمه الطبيعة، ولا يخضع لقواعد كقواعد النحو والصرف في اللغة العربية الفصحى؛ ولكن الأبحاث العلمية في اللغويات (علم يبحث في اللغة عند استخدامها) تثبت لنا عكس ذلك. هذه المعجزة التي يمتلكها الجميع دون استثناء تمتلك قواعدها الخاصة. ترصد لنا أبحاث اللغويات أيضا التغيرات التي تلمّ باللهجة.
كان الأردن وما زال ثروة لغوية صب الباحثون اهتمامهم عليها، منذ عشرات العقود والأبحاث المتخصصة تدرس الصفات اللغوية للهجة الأردنية، تربطها بالعوامل المجتمعية، تقارن مراحلها وتطورها وتجيب على أسئلتنا الملحة عن إرثنا اللغوي الغني.
استكمالا لرسالة إرث الأردن، سنقدم قراءة في واحد من أهم البحوث التي تناولت تطور اللهجة الأردنية الحديثة في القرن العشرين. تقدم الباحثة الأردنية إنعام الور المحاضرة في جامعة إسكس البريطانية بالتعاون مع الباحث هيرن برونو استقصاء مثيرا للاهتمام عن “دورة حياة صوت (ق) في الأردن”
ينطق (ج – جيم غير معطشة ) حينا و (أ) حينا آخر وبما قد سمعنا هذا الصوت وهو ينطق (ق) أو (ك). تتعدد طرق نطق هذا الصوت بحسب المنطقة وهذا ما يجعله مميزا جدا كعلامة فارقة لتمييز اللهجات المناطقية. يعد هذا الصوت من أكثر الأصوات دراسة في اللهجات العربية وقد أولاه الباحثون اهتماما خاصا ولكن دراسته في الأردن خاصة لا زالت تعاني من فجوات، فكيف احتلت ال(أ) مكان ال(ج) في اللهجة الأردنية؟ هذا التغير الملحوظ جدا يعزا لعوامل اجتماعية عدة سنناقشها في هذا البحث.
في الفصول القادمة سنستعرض أهم محاور دراسة الور وبرونو بالتركيز على صوت (ق) في لهجة عمان الحديثة ولهجات الأدن الشعبية.

صوت (ق) وحالاته

كما أسلفنا يتميز هذا الصوت بتقلبه وتعدد حالات فتارة يلفظ كهمزة وتارة أخرى يلفظ (ج) أو (ك). ويستخدم هذا الصوت كمميز صارخ وواضح بين اللهجات المشرقية. فاللبنانية والسورية تلفظانه همزة بينما يلفظ (ج) جنوب سورية والأردن وجنوب فلسطين. أما الضفة الغربية فيلفظه الفلسطينيون همزة أو كافا بحسب السكنى (ريفية أو مدنية). في حالات أخرى يستعير المتكلمون ألفاظا تحمل صوتا (ق) مختلفا عن الصوت الأصلي في لهجتهم لدواع عدة. في تلك الحالات لا يكون الصوت متغيرا، حيث يلتزم المتحدثون بنطق الصوت كما هو في لهجتهم وهذا ما لا ينطبق في الحالة التي شهدتها اللهجة الأردنية في القرن العشرين.
لو أصغينا جيدا لوجدنا أن صوت (ق) أمر مختلف بالنسبة للهجة الأردنية فهو ينطق (ج) مثل (gلاية، gلتلك، gميص) وينطق همزة مثل (ألاية وألتلك، أميص) والجدير بالذكر بأن نطق (ق) كالكاف كان موجودا أيضا بحسب دراسة الباحث عبد الجواد للهجة الأردنية عام 1981، فكان القادمون من الضفة الغربية ينطقونها ولكنها سرعان ما تراجعت واختفت على حساب اللفظين الشائعين اليوم (الهمزة و ج).

سلط 1900 اطلالة خلابة على عراقة مدينة السلط الأردنية وتفوق سكانها على الظروف الجائرة

عبر احتكاك الأردنيين مع اللاجئين والنازحين من الضفة الغربية ممن ينطقون صوت ال (ق) همزة دخل هذا اللفظ إلى اللهجة الأردنية في عمان تحديدا بوصفه متغيرا جديدا. وبحسب الدراسات فإن انتشار صوت الهمزة كان أفقيا وعاموديا حيث تبناه العديد من الأردنيين وتشير الدراسات التي أجررتها الور عام 2002 على اللهجة الأردنية بأن التحول التام من الجيم غير المعطشة إلى الهمزة قد اكتمل تماما عند الشابات الأردنيات اللاتي تربين في بيئة ناطقة بال (ج) حيث يستعملن الهمزة بشكل مستمر. إذن، كيف نتج هذا الوضع اللغوي؟ ما هي أسبابه وما هي محدداته؟

صوت (ق) في اللهجات الأردنية الشعبية

لقد صنفت السجلات اللغوية (أطلس بيرغستراسر 1915) الأردنيين كناطقين ل (ج – جيم غير معطشة) وقد دعمت هذه السجلات أبحاث أخرى أجريت عام 1987 على السلط وعجلون والكرك وبعض المشاركين في هذه الدراسة كانوا من مواليد عام 1897! ولهذا يمكننا بكل ثقة أن نؤكد حقيقة أن اللهجة الأردنية هي لهجة تنطق صوت (ق) (ج) حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي مع عدد قليل ( ثلاثة نساء من أصل 40) نطقن صوت (ق) كهمزة في السلط وهذا التغير في حديث النساء يؤكد فكرة أن التغير في لفظ صوت (ق) في اللهجة الأردنية قد دشنته النساء.

الأمر المثير الآخر هو أن بدايات هذا التغير كان بعيدا عن عمان، في السلط وفي عجلون. أما الجنوب (الكرك) فلم تكن الهمزة خيارا مطروحا. إن هذه الفكرة تتوافق وتاريخ مدينة عمان، ففي ثلاثينات القرن الماضي لم يكن تعداد سكان مدينة عمان يتجاوز العشر آلاف نسمة بينما سكان السلط كانوا قد بلغوا ثلاثة أضعاف هذا الرقم. وكانت التركيبة السكانية لمدينة عمان تتكون الشراكسة الذين يبلغون نصف التعداد ( وكانوا يتحدثون بلغتهم الأصلية الأديغية) والباقي خليط من الأردنيين القادمين من السلط والمدن الأردنية الأخرى ومن نابلس ومن سورية.

عمان 1922 سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

تضاعف عدد سكان مدينة عمان في الأربعينات عقب النكبة عام 1948 وعاود التضاعف عقب النكسة عام 1967. ومنذ تلك الفترة حتى اندلاع حرب الخليج في بداية التسعينات كانت المدينة تعيش جوا من الاستقرار السكاني. استقبلت عمان لاجئين جدد من الكويت والعراق.
في دراسة أجرتها الباحثة إنعام الور عام 1997 على تطور لهجة السلط، أخذت عينات من الشباب السلطي في العشرينات من عمرهم، بواقع أربعة أفراد من الإناث وأربعة من الذكور. لم يتغير لفظ (ق) عند الذكور وأظهروا استمرارية في نطق هذا الصوت كما هو في اللهجة المحلية الأردنية. أما الإناث الأربع فقد أظهرن تغيرا في نطق هذا الصوت إلى الهمزة وهذا ما يدل على انتشار هذا النطق في عموم المجتمع.
أما آخر بحث في هذا الخصوص فكان الذي بدأه الباحث برونو عام 2005 على لهجة كبار السلط والفحيص (الأقرب إلى عمان) وقد هدفت الدراسة لوضع وصف للهجة المحلية الأصلية للمدينة. ولم تجد الدراسة أي تغير في لفظ صوت (ق) حيث نطقها الجميع في 15 ساعة من التسجيل (ج) كما هي في اللهجة المحلية. وهذا يثبت بأن ظاهرة التغير هي حديثة نسبيا ناتجة عن تفاعل فئات المجتمع الأردني بغيرهم.

مجتمع مدينة عمان واللهجة

على عكس السلط، فإن مجتمع عمان مختلف عن المجتمع المتماسك في السلط والذي أبقى على لهجته متوارثة إلى حد ما. عمان أو ربة عمون عاصمة العمونيين أو فيلادلفيا المدينة الرومانية، هجرت لفترة كبيرة بين القرنين السابع إلى العشرين تقريبا. وعندما أعلنت المدينة كعاصمة لإمارة شرق الأردن كان يسكنها الشراكسة القادمون من القوقاز عام 1876 والذين ظلوا يتحدثون لغتهم الأديغية إلى عقود لاحقة. ولم تؤثر لغتهم الأديغية أو إرثهم الثقافي على تكوين اللهجة الحديثة في عمان.
من المهم معرفة المكونات السكانية وخلفياتهم الثقافية، إن هذا يشبه معرفه الأنهار الصغيرة والجداول التي تصب في النهر الأم. يمكننا إذن تقسيم سكان مدينة عمان الحديثة بحسب المنطقة إلى مجموعتين: الأردنيون القادمون من القرى والبلدات الأردنية الصغيرة والذين يتحدثون اللهجة الأردنية. والمجموعة الثانية هم القادمون من فلسطين. وتقسم المجموعة الثانية إلى مجموعتين. الأولى هي الذين سكنوا الأردن في أوائل القرن العشرين وربما قبله والثانية هم اللاجئون والنازحون القادمون عقب الحروب العربية الإسرائيلية. تظهر اللهجة الفلسطينية فرقا كبيرا بين اللهجة البدوية واللهجة الريفية (الفلاحية) واللهجة المدنية ونستطيع إيجاد الثلاث لهجات في عمان اليوم.

بيوت الشركس ف عمان في القرن التاسع عشر

بغياب مجتمع ثابت في عمان، لم يكن للمدينة لهجة أم وحتى الثمانينات اتصفت لهجة عمان بافتقارها للهجة متسقة. عام 1998 أجرت الباحثة الور بحثا على ثلاثة عشر خصيصة لغوية وأظهرت النتائج بأن اللهجة بدأت أكثر تركيزا. خلق التلاقح بين اللهجة الأردنية واللهجة المدنية الفلسطينية.

البحث في لهجة عمان

لدراسة اللهجة المتشكلة حديثا في عمان أجرت الباحثة إنعام الور بحثا تضمن الأجيال الثلاثة في عمان من أربعة عائلات، اثنتان منهما تعود أصولهما إلى السلط والأخيرتان من نابلس. حيث تشكل المدينتين 97% من أصول سكان مدينة عمان. وسنستعرض فيما يلي بشكل أكثر تفصيلا هذا البحث وعينة الدراسة.
الجيل الأول:
تكونت العينة في الجيل الأول من ثمانية متحدثين. هذا الجيل كان قد وصل لمدينة عمان كبالغين وأظهرت نتائج تحليل حديثهم لالتزامهم بلهجتهم الأم كما أظهروا ميلا للrudimentary levelling وهي ظاهرة تعني استيعاب ودمج وخلط لهجات معينة.
الجيل الثاني:
تكونت عينة الجيل الثاني من ثمانية متحدثين. وهذا الجيل إما ولد في المدينة أو وصل إليها طفلا صغيرا. وأظهرت نتائج التحليل لهجة مختلطة غير ممنهجة واختلافات كثيرة نتيجة خليط المدخلات من اللهجتين الأردنية والفلسطينية المدنية.

الجيل الثالث:
تكونت هذه العينة من أربعة عشر متحدثا، لقد تقلص الاختلاط الذي وجد في حديث الجيل الثاني. وكانت لهجتهم منظمة في نسق لغوي متسق.

صوت (ق) في عمان

كما أوضحنا آنفا فإن الصوتين الرئيسيين والمتغيرين في لهجة عمان هما الهمزة وال (ج)، تتميز الهمزة بكونها مشتركة وشائعة في كثير من المناطق المشرقية فهي منطوقة في لبنان وسوريا وفلسطين ومقارنة مع ال (ج) في أقل شيوعا وتعد محلية أكثر.
لقد حافظ الجيل الأول في الدراسة التي استعرضناها على اللهجة الأم. فلم يتأثر لفظه لصوت القاف إلى حد ما ولكن ترافق حفاظه على وجود بعض المفردات التي تخالف اللهجة الأصلية. فقد نطق الرجال الفلسطينيون (الذين تنطق لهجتهم الأم بالهمزة) ال (ج ) فقالوا (جالو ولاجينا gallo / lagena ) والاختلاف الآخر وجد لدى النساء الأردنيات اللواتي لفظن بعض الكلمات بالهمزة ( بتسوءي- ئيمي)
أكد تحليل الجيل الثاني على ما كان في الجيل الأول. فقد استمر الجيل بالنطق كما في اللهجة الأصلية على أن الرجال الفلسطينيين والنساء الأردنيات تابعوا تغيير لهجتهم. صار الرجال الفلسطينيون ينطقون أكثر بال (ج) والنساء الأردنيات ينطقن أكثر بالهمزة.
أما الجيل الثالث فقد ظهرت عوامل أخرى على السطح وهي التأثير الاثني والمخاطب. ولخصت الدراسة هذه التأثيرات والعوامل فيما يلي:

• تتحدث الإناث جميعهن بغض النظر عن خلفياتهن بالهمزة، وهذا دلالة على استمرار التغير والتلاقح الحاصل بين اللهجتين في أجيال سابقة.

• أما الذكور فقد أظهروا أنماطا أكثر تعقيدا. فعندما يتحدث الذكر إلى أشخاص من نفس مجموعته الأثنية فإنه سيلتزم بلهجة مجموعته الإثنية. أما عند الحديث مع الإناث فرادى أو مجموعات فإنهم جميعا يستخدمون الهمزة. أما عند الحديث مع مجموعة (كلها ذكور) من خلفيات مختلفة فإنهم جميعا يتحدثون بال (ج)
ومن خلال هذا التحليل نستنتج بأن هنالك عوامل أخرى نظمت هذا التلاقح بين اللهجتين وهي اللهجة الأم للمتحدث، الجنس والسياق.

تحليل النتائج

اعتمادا على النتائج التي خلصت إليها الدراسات العديدة وآخرها دراسة الباحثة إنعام الور والباحث هيرن برونو، تطرح عدة أسئلة نفسها. ما الذي أدى بالنساء إلى اعتماد الهمزة؟ وما الذي دفع بالذكور إلى اعتماد لفظ (ج) عبر الأجيال المتعددة؟
لقد ولدت نساء الجيل الثاني اللاتي أظهرن ميلا كبيرا إلى لفظ الهمزة بين 1938-1948 وكانت الأردن وقتها تعيش تأخرا نسبيا مقارنة بالدول العربية المجاورة. فلم تكن المعاهد والجامعات للاستكمال الدراسات العليا قد بنيت على عكس دمشق وبيروت والقاهرة وحيفا وكلها أماكن ناطقة بالهمزة. وقد شهدت هذه الفترة حركة ابتعاث الأردنيين والأردنيات لاستكمال الدراسات العليا في تلك الدول. من ناحية لغوية-اجتماعية ارتبطت الهمزة بالتمدن والتحضر والتقدم العلمي. فمن المفترض أن يجذب هذا الأسلوب في الحديث الرجال والنساء على حد سواء فلماذا نر النساء وحدهن من يمارسن هذا التغير من اللهجة الأم الناطقة بال (ج) إلى اللهجة الناطقة بالهمزة؟ يفسر الباحثان هذا بوضع المرأة في المجتمع في تلك الفترة، حيث كانت مشاركة المرأة الاقتصادية والسياسية معدومة كما كانت المرأة تعتبر في الوضع الأضعف مقارنة بالرجل. ومن هنا دعتها الحاجة إلى تمثل رموز القوة واللغة أهمها.
وتفسيرا لما سبق نقتبس من البحث العلمي المنشور للباحثين: “محرومة من القوة ومن المشاركة في الحياة العامة، اضطرت النساء في عمان لتمثل رموز القوة والتأثير عن طريق تبني طريقة حديث معينة. وعبر ارتباط الهمزة بالمدن الأكثر تحضرا ارتبطت أيضا بوصف متحدثيها مجموعة أكثر قوة وتأثيرا” وعند نطق النساء بازدياد للهمزة ارتبطت بالنعومة والأنوثة، بينما ارتبطت ال (ج) بالرجولة والقوة.

خاتمة

لهجة عمان المعقدة والغنية لا زالت تستقطب الكثير من الدارسين والباحثين بسبب حالتها الفريدة. إن اللهجة إرث لغوي قيم ولا يبدو سؤال كيف تتكلم سهلا الآن.

المصدر:

Al wer, E. Herin, B (2011) The lifecyrcle of Qaf in Jordan,language et societe n 138 -Dec

Scroll to top