أمّ العمانيين، أنيسة شقير

( 1905- 2000)

تعود أصول قبيلة الشقير إلى قلب الجزيرة العربية قرب نجد، في المملكة السعودية اليوم، عند سفح جبل يدعى الشقير (تصغير كلمة الأشقر)  عام 1750 هاجرت القبيلة إلى الشمال واستقر أفرادها كتجار على طول منطقة خربة الوهادنة الخصبة والخضراء، التي تقع في عجلون شمال الأردن. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، هاجرت القبيلة مرة أخرى ولكن منقسمة إلى ثلاثة أقسام  الأول قصد الشمال فهاجر إلى سورية والثاني إلى الجنوب مهاجرا إلى الكرك أما الثالث فاستقر في مدينة نابلس في فلسطين عام 1870. ومن هنا استغل أفرادها مهاراتهم التجارية وحبهم للعلم على أتم وجه. وقد قيل بأن كل أطفال قبيلة الشقير يعرفون القراءة والكتابة ذكورا وإناثا وقد كان غير معهودا ي الوقت الذي انتشرت فيه الأمية بين النساء بشكل كبير.

في بدايات القرن العشرين اعتاد الناس على القول بأن “عمان هي بيت الشركس والشقيرية” قبل انهيار الاحتلال العثماني، أدى التواطؤ مع الروس عبر البحر الأسود إلى واحدة من أكبر الحركات السكانية في التاريخ الحديث. لقد تم نفي كل المحاربين المسلمين من منطقة القوقاز المستقلة عقب هزيمتهم، ففي عام 1864 طردوا بأعداد عائلة من موطنهم الأصلي وتوجهوا جنوبا إلى تركيا وسورية والأردن. بلغت موجة الهجرة الأولى قرابة ثلاثة آلاف شركسي لجأوا إلى الأردن واستقروا بسلام وتعايش إلى جانب جيرانهم من العشائر الأردنية وقد شكلوا قرية على أنقاض المملكة العمونية القديمة والتي سيكون لها أهمية استراتجية عظيمة فيما بعد.

عندما أعلن الأمير عبد الله الأول اتخاذ عمان عاصمته المستقبلية في أوائل العشرينات، تحولت القرية الصغيرة إلى مدينة صاخبة وشهدت وشكلت مركزا اقتصاديا جديدا للدولة الأردنية الحديثة. جذبت عمان التجار والمهندسين والمعلمين والبنائين وأصحاب الحرف من مختلف القطاعات والاتجاهات ومن جميع أنحاء الشرق الأوسط. من بين من جاؤوا إلى عمان كانوا أبناء الشقير من نابلس ودمشق وقد أسسوا منازلهم ومحلاتهم من شارع خرفان حتى شارع بسمان. كان والد أنيسة وزوجها وأخوالها من أوائل من استفادوا من الفرص الاقتصادية التي ولدت مع اتخاذ الأمير عبد الله الأول عمان عاصمة جديدة. وإحدى هذه الفرص بناؤهم لمصنع صغير (وحدة صناعية) لتصنيع البارود في قبو منزلهم خارج حدود المدينة على جبل عمان في منطقة الدوار الأول. لقد زودوا مدفع جبل القلعة بالبارود، وكان المدفع مخصصا لإعلان بدء وانتهاء شهر رمضان الفضيل كل سنة. عام 1949، انفجر المصنع في حادث أليم أدى لتدمير المبنى بأكمله.

أما قصة أنيسة فتتادخل مع كل ذلك، ففي عمان عام 1929 بدأت حياتها ترتسم وتتشكل وتتحدد معالمها أكثر. وبناء على طلب القائد الأردني الامير عبد الله صاحب الرؤية الطليعية، طلبت عمان من حكومة فلسطين استدعاء أنيسة وقد عينت أول قابلة  مدربة في عمان ولقبت حينها (أم العمانيين) ولكن هذا الإنجاز غطى حياة كانت مليئة بخيبات الأمل والأسى.

ولدت أنسة في مدينة نابلس الفلسطينية عام 1905، في وقت كانت روح القومية تتأجج بين العرب، نشأت في عائلة تقليدية ومحافظة تؤمن بفائدة التعليم  للفتاة مادام مقتصرا على المنزل. “كانت مهمتي الوحيدة هي تعلم كيفية إرضاء العائلة والزوج” قالت أنيسة في مقابلة عام 1988.

تزوجت عام 1916 بعمر الحادية عشر من ابن عم ثان بعمر العشرين. كان واجب أنيسة هو إنجاب الأطفال ولكنه أمر لم يتحقق لثلاثة عشر عاما لاحقة. دفعها إحساسا العميق بالفشل وحزنها لإيجاد السلوى والمتعة في عملها كقابلة.  وعلى امتداد نصف قرن، بدأ عملها مع أول حالة ولادة في الخليل عام 1928 وانتهى بتوليدها لحفيدها أنس الذي حملته أيديها إلى العالم في 18 تموز عام 1978.

بينما سعى زوجها لاستغلال الفرص الجديدة التي خلقتها مدينة عمان في بداية العشرينات، قضت أنيسة العشر سنوات التالية في بيت أهلها غارقة في يأسها بسبب ما اعتبرته زواجا فاشلا. لقد أدركت بأن العمل هو الطريقة الوحيدة كي تخرج من تعاستها، وهو الأمر الذي بدا مستحيلا في ذلك الوقت نظرا للقيود الثقافية التي تمنع الفتيات من مجاراة الرجال. عندما أصدر المجلس الإسلامي الأعلى في القدس فتوى عام 1925 شجع الفتيات على مواصلة دراستهن في القبالة كاستكمال لعمل الدايات (المولدات التقليديات) ، بدا الأمر وكأنه تدخل إلهي لأنيسة. أدركت الفرصة التي فتحت أمامها ومع موافقة والدها المترددة، سجلت أنيسة في واحد من مراكز تدريب المستشفيات في القدس وهي رحلة من 66 كلم. وبالنسبة للعائلة بأكملها، لم يكن هذا القرار ليمر مرور الكرام. ” أتذكر أني كنت مرتعبة من فكرة أني سأدرس في صف فيه رجال” تتذكر أنيسة، وتكمل” كنت أنوي إلغاء الأمر بأكمله إلا أن إدارة التدريب جعلت الأمر أسهل بالنسبة للفتيات عبر تحديد أعداد الرجال في الدرس” “كنت خائفة لأني نشأت في ثقافة لا تسمح للرجال والنساء أن يجلسوا معا حتى لأهم الأسباب” بعد تغلبها على تلك الشدائد وعلى خوفها الداخلي وكآبتها؛ اشتعلت الحماسة فيها.

لقد كانت أنيسة الفتاة المسلمة الوحيدة في الدورة الأولى التي امتدت لستة أشهر، رافقتها ست فتيات يهوديات من القدس وفتاة مسيحية واحدة من حلب. كانت ملكة اللغة التي وهبت لأنيسة قد ساعدتها على الاطلاع على المناهج التي تدرس بالعربية والإنجليزية والفرنسية- اللغات الثلاثة التي رافقتها طوال حياتها. تخرجت عام 1926، وعينت في وظيفتها الأولى في مستشفى الخليل وقد استطاعت أخيرا تجريب متعة توليد الطفل الأول.

دعاها منهجها المنهجي والحداثي للعمل في وزارة الصحة في نفس الوقت الذي لبّت فيه دعوة لتقديم المساعدة في جميع المجالات إلى فلسطين وسوريا من قائد الأردن، الأمير عبد الله. أعارتها الحكومة الفلسطينية عام 1929 وبعد فترة وجيزة من وفاة والدها المفاجئة، قصدت أنيسة وأمها وأختها عمان ليلتم شملها أخيرا مع زوجها.

عينتها أمانة عمان كقابلة المدينة الأولى، وجعلتها خبرتها العملية أن تدخل قلوب الجميع في عمان وما بعدها كما دخلت بيوتهم. متشبعة بإحساس الثقة الجديد بمهاراتها، بدأت نظاما رائعا من إعادة تثقيف وتحديث المعتقدات الشعبية التي تختص بالأمومة والطفولة والتي كانت سائدة في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن الولادة في وضعية القرفصاء هو أمر شائع في العالم حيث يؤمن الكثير بكون هذه الوضعية أسرع وأقل ألما من الاستلقاء. صرحت أنيسة لصحفي في وقت لاحق من حياتها “العديد من الناس يملكون معتقدات وأفكار خاطئة، منها أن على المرأة أن تلد وهي مقرفصة” وأكملت” كان من الصعب إقناع السيدات بضرورة الاستلقاء لولادة أكثر صحة. لم تكن السيدات يستخدمن الأدوات المعقمة أيضا، ولكني تمكنت من تغير بعض هذه الأفكار” كان التغيير على رأس الأولويات في كل مكان. أما ثقة أنيسة بحياتها العملية منحتها بعض السلام الداخلي. واستطاعت أخيرا أن تترك الماضي وأحزانه وراءها وبحلول نهاية العام كانت حاملا. كانت تضع النساء الحوامل وصحتهن على صحتها، ويوما ما وجدت نفسها في بيت إحدى المريضات التي أنجبت للتو طفلة عندما بدأ مخاض أنيسة نفسها. أنجبت طفلها البكر في منزل غريب. لم تطل فرحتها كثيرا فقط مات مولودها بعد ثلاثة أيام. خففت الصلاة من شعورها المر بالفقد، أصبحت أنيسة أكثر تدينا وازدادت ثقتها بالله ليلهمها في المصاعب التي تطرأ في الولادات التي تكون مسؤولة عنها وخاصة تلك التي قد تسبب الوفاة أو العيوب الخلقية. لم تثق النساء بالأطباء، لأنهم كانوا جميعا رجالا.

وبحلول القرن العشرين، كانت عمان مجرد قرية نائية خاضعة للاحتلال العثماني. أعاد اللاجئون الشركس وأبناء العشائر الأردنية بناء عمان. بنى  الوافدون الجدد  وبيوتهم من الحجر والطوب على طول مجرى نهر عمان ، في (الوديان) من سبعة تلال، وعلى أنقاض مباني عمان القديمة التي أقامت بأمان لآلاف السنين.

لحسن حظ أنيسة كانت معظم البيوت يمكن الوصول إليها سيرا على الأقدام. ولكن بعد قدوم العمال في مختلف المجالات كالجارة والحرف والبناء، من فلسطين وسوريا والعراق، تحولت القرية الهادئة إلى مدينة صاخبة، وبدأت البيوت تنتشر على التلال السبعة في عمان. اضطرت أنيسة لاسئجار تاكسي محلي يوصلها إلى أي مكان تريده مقابل أجرة معينة تدفعها نهاية كل شهر. وكان عدد مريضاتها يزداد مع اتساع شهرتها. في بداية الثلاثينات، بدأ زوجها ببناء منزل جديد للعائلة في شارع الهاشمي المطل على المدرج الروماني ولكن للقدر كلمة أخرى. توفي زوجها عام 1935، تاركا أنيسة مع ثلاثة أطفال صغار، ابنتها نفيسة التي ولدت عام 1929، وابنها معاوية الذي ولد عام 1931 وابنها معاذ الذي ولد عام 1933 أصبحت المباعدة بين الولادت (تنظيم النسل) شعار أنيسة، إضافة لرفضها العنيد لأي مساعدة مادية من الأقارب عقب وفاة زوجها. ولكنها قبلت بعرض المعلم الذائع الصيت حسن أبو غنيمة لاستكمال بناء المنزل مقابل العيش فيه ستة سنوات بلا إيجار.

يستذكر معاذ والدته بأنها كانت متسامحة مع آراء الآخرين، ومتدينة لا بالمفهوم الإسلامي ولكن بطريقة سخية وناكرة للذات “على غرار الأم تيريزا” علمت أطفالها عبر القدوة وحكاية القصص التقليدية التي تسلط الضوء على حرية الاختيار والمسؤولية الاجتماعية. علمتهم أيضا أن الدين هو طريقة ووسيلة لجعل الحياة أفضل. لقد حرصت على أن يتلقى أطفالها التعليم الصحيح وأفضل عناية صحية ممكنة، مولت دراستهم في مصر ولبنان وأمريكا كما كانت خير داعم لهم في كل قرارتهم التي اتخذوها. يمتلك أطفالها ذكريات قليلة عن والدهم. لم تزر أنيسة قبره أبدا لأنها آمنت بأنه حالما مات المرء، فالأمر المهم تذكره هو قيامة روحه نفسها، ولهذا لم تكن لتهتم بالعظام التي دفنت تحت الأرض، وهو اعتقاد شائع في الإسلام وبالأخص في السعودية، المكان الذي يحمل ذكرى خاصة عندها.

باعت أنيسة مجوهراتها في الثلاثينات لتذهب للحج في المرة الأولى لها، ولكن كان ذلك الجزء السهل فالوصول إلى مكة كان أمرا مختلفا تماما.  كانت أول رحلة لها في شاقة جدا استغرقت خمسة أيام برا من عمان إلى اللد، ومن ثم  بالقطار إلى السويس،  وبعدها عن طريق العبارة إلى جدة وعلى ظهر الجمل إلى المدينة المنورة حيث وجدت سلواها. قامت أنيسة بتلك الرحلة لأكثر من ثلاثين مرة خلال حياتها.

قامت أمانة عمان بتثبيت لافتة على جدار منزلها تحمل اسمها” الحاجة أنيسة شقير” ليعرف الناس مكان سكنها في حالة الطورائ.  كما تم تخصيص خط هاتفي لها، وهو واحد من أول مائة مثبتة في تبادل التلغراف، رقم 73.

وبعد عملها لخمسة وعشرين عاما في العمل الحكومي براتب بدأ بخمسة دنانير وانتهى بخمسين دينارا، نقلها عملها من المساكن المتواضعة إلى الأكثر فخامة شيئا فشيئا. كان من الشائع لدى النساء أن يتم إعفاؤهن من مهام المنزل، إن كن يستطعن تحمل تكاليف ذلك، قد يكون ذلك مرتين أسبوعيا أو خلال فترة الحمل والولادة بأكملها. ولذلك كان من الطبيعي أن ترعى الأميرة زين الشرف، زوجة الملك طلال ابن الأمير عبد الله، خلال حملها الأول عام 1935. وقبل بضعة أسابيع من ولادة الأمير حسين – ملك الأردن المستقبلي- دخل الامير عبد الله الغرفة وقال “إن كانت أنيسة تعتني بزين، من يعتني إذن بنساء عمان؟” ولها عين طبيب آخر للأميرة زين ليرعاها فيما تبقى من حملها. تابعت أنيسة عملها الكثير والمضني والذي تضمن الاعتناء بدفاتر الولادة الهائلة التي احتفظت بها في المنزل. ولا عجب بأنها حصدت لقب “أم العمانيين” كانت القبالة والأمومة جل اهتماماتها، فلم تولي الموضة والأزياء والملابس التي بدأت وقتها تنتشر أي اهتمام، وقد رفضت تغيير المجوهرات التي باعتها في الثلاثينات.

امتد إحساسها العميق بالالتزام تجاه مريضاتها وحبها للأطفال الذين تولدهم وكأنهم أولادها إلى توليد النساء في السجن، وفي تلك الحالة كان ينبغي عليها قضاء الليل معهن. ولكونها القابلة المدربة الوحيدة حتى الأربعينيات أخذت على عاتقها تخريج فوج من القابلات المدربات، كن بالمجمل ثمانية قابلات. بعدما تركت العمل الحكومي عام 1948، عينت كرئيسة قسم التمريض في مستشفى ملحس الخاص الجديد الذي بني في منطقة الدوار الأول الحديثة في جبل عمان. احترمها الأطباء وقدروا خبرتها وقدرتها على ردم الهوة بين ما هو تقليدي وما هو حديث مع الحساسية الثقافية التي تغلف تلك الأمور.

بحلول عام 1953، انتقلت مرة أخرى ولكن إلى السعودية حيث عينتها الحكومة السعودية في مستشفى حديث الافتتاح في المدينة المنورة قرب قبر الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وهناك قضت أسعد أيام حياتها. وبعيدا عن العامل الديني الذي عزز سعادتها في الحياة في السعودية، كانت سعادتها في كون السعوديين لا يفرقون بين ولادة أنثى أو ذكر فقد كانت صحة المولود هي المهمة، على عكس الحال في عمان.

عادت أنيسة إلى الأردن عام 1958 واستمرت في العمل في القطاع الخاص حتى أقعدها المرض عن العمل عام 1975. توفيت الحاجة أنيسة بسلام عام 2000 جدة فخورة لعشرين حفيدا أشرفت على ولادتهم بنفسها وكأنهم “الامل بالحياة، وأجمل هدية يمكن أن يحصل عليها المرء” حصلت أنيسة شقير على عملها الدؤوب على عدة جوائز:جائزة الإنجاز مدى الحياة من الممرضات والقابلات القانونيات في عام 1975. الدرع الأردني للمرأة الريادية في 1982؛ وجائزة من مستشفى ملحس في عام 1995 بمناسبة اليوبيل الذهبي للمستشفى.

وللأسف لا نملك الكثير من الصور لها، حيث أنها أتلفت كل الصور في نهاية حياتها لأسباب غير معلومة. أصبح اسمها رديفا للأمومة في أيام عمان الأولى، ولا عجب أنها وجدت ذاتها في مدينة منحت لامان والملجأ للكثيرين، وقد وهبت الحياة لأبناء دولة الأردن الحديثة.

Scroll to top