المقدمة

في حقبة ذهبية من تاريخ الأردن، تطل علينا مدن الديكابولس الأردنية الحرة وتقدم لنا نموذجا حضاريا قل مثيله. فهي مدن حرة ذات سيادة واستقلال يتناسب مع طبيعة الأردنيين الماضية منذ القدم نحو تأسيس كيانهم السياسي المستقل إضافة لكونها مراكز اقتصادية لامعة في العالم القديم. في هذا البحث سنستعرض مدينة كانثا (أم الجمال) التي زينت آثارها وفسيفساؤها البادية الأردنية الشمالية.

الموقع  والطبوغرافية

 تقع كانثا (أم الجمال) في شمال شرقي الأردن وتتبع إداريا لمحافظة المفرق حيث تبعد عنها 20 كيلو باتجاه الشرق وعلى الطريق الواصل إلى بغداد والمدينة الأثرية كانثا التي كانت كبيرة المساحة وتصل إلى جبل الدروز. ولكن المدينة تعرضت لكثير من الدمار ونقلت حجارتها واستعملت في أماكن أخرى (حداد: 1997)

تقع كانثا (أم الجمال) في البادية الشمالية الشرقية وبشكل أكثر تحديدا فهي تقع في المنطقة البازلتية الكبرى وهي منطقة تكونت في مراحل تطور القشرة الأرضية في العصور الجيولوجية القديمة وخاصة العصر الثالث والرابع 1-25 مليون سنة من عمر الأرض؛ وكانت نتيجة هذه العصور تدفق كميات هائلة من الحجر الناري الأسود من الشقوق الأرضية والبراكين المخروطية التي تنتشر في البادية وفي سهول حوران الأردنية المتاخمة (الحصان: 1999) ينعكس هذا التكوين الجيولوجي على المعمار في المدينة.

الحجارة البازلتية السوداء التي تتوافر بشكل طببعي في كانثا

التسمية

سميت المدينة (أم الجمال) نسبة إلى الحركة التجارية القوية التي شهدتها خصوصا في عهد الأردنيين الأنباط وعهد الأردنيين الغساسنة حيث استخدموا الجمال في القوافل التجارية لنقل البضائع.  وكما أسلفنا تقع المدينة في منطقة غنية بالحجر البازلتي ذي اللون الأسود ولهذا لقبت بالواحة السوداء.

أما كانثا فهو بحسب المعاجم العربية القديمة كمعجم لسان العرب لابن منظور الأنصاري فلها معان متعددة  الليث الكُنْثة نَوَرْدَجَة تُتَّخذ من آسٍ وأَغصانِ خِلافٍ، تُبْسَطُ وتُنَضَّدُ عليها الرياحينُ ثم تُطْوَى وإِعرابه كُنْثَجةٌ وبالنَّبَطيَّة كُنْثا” فاللفظة تعني الليث وتعني البساط الذي يصنع من الأعواد الجافة لتبسط عليه الرياحين.

ويقول الباحث الأردني الدكتور عبد القادر الحصان في آخر أبحاثه عن اسم أم الجمال القديم هو “بيت جامول” أي بيت الجمال. وقد اعتمد الدكتور على اكتشافه لخارطة قديمة من القرن التاسع عشر منقولة عن خارطة أقدم تعود للعصر الروماني. وكتب الاسم بأحرف لاتينية ولكنه يقرأ بالسريانية Bath Gamal  أي بيت الجمال. وهو رأي اقترحه عديد من الباحثين السابقين مثل جراهام Grahum وميرل Merril ودوتي Doughty بربطها مع مدينة Beth Gamul المذكورة في الكتاب المقدس (حداد: 1991)

إطلالة على جزء من مباني أم الجمال ونلحظ جمال الفن المعماري وتفرده

أما الباحث والمستكشف بتلر Butler فقد قال بأن اسمها “ثانتيا  thantia” وذلك بالاعتماد على الخرائط الرومانية القديمة التي تضع مدينة ثانتيا جنوب مدينة بصرى بحوالي عشرين كيلومترا وقد ظهر اسم ثيانثيا المشتق من ثانتيا في الخرائط الرومانية العسكرية أيضا. (حداد: 1991) فرضية أخرى بأن كانثا تسمية أطلقت نسبة لمدينة يونانية مشابهة ولكن حجارتها بيضاء.

تاريخ البحث الأثري في المدينة

بدأ الاهتمام في  مدينة كانثا في القرن التاسع عشر حيث زارها المستكشف جراهم Grahum عام 1857 ونشر وصفا مختصرا لها. وعام 1960-1861 قام المستكشف وادينغتون Waddington  بزيارتها ونسخ النقوش التي وجدت فيها. (حداد: 1991)

توالت زيارات الباحثين والرحالة إليها، عام 1876 زارها دوتي Doughty وفي السنة نفسها زارها ميرل Merril  القنصل الأمريكي في القدس. وفي السنة التالية زارها ثومبسون Thompson. بعد 13 سنة زارها باحثون آخرون مثل فراوبيرغر Frauberger وليز Lees. أما أولى المخططات المكتملة للمدينة فكانت من صنع شوماخر Schumacher . (حداد: 1991)

من نقوس أم الجمال التي وثقتها حملات البحث والتنقيب

وأول من قام بعملية بحث أثري مكثف كانت بعثة جامعة برنستون 1904-1905. أما أهم من درس أم الجمال فكان العالم والباحث بتلر Butler  ابتداء من عام 1909 حيث رسم مخططات مفصلة للمدينة إضافة لتوثيق نقوشها وخصص لها مجلدا من مجلداته للحديث عن تاريخها وآثارها وتعد دراساته من أهم الدراسات الشاملة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014)

ازدادت أهمية المدينة الأثرية فجذبت أنظار الباحثين أكثر، قام هورسفيلد Horsfield  بنشر بعض الصور الجوية للمنطقة والتي ساعدت في دراستها. وزارها المستكشف نلسون جلوك Glueck وبين أهميتها التجارية والتاريخية. درست الكنائس والبيوت الأثرية وبدأت البحوث العلمية التي تناولتها تنشر في مجلات عالمية مرموقة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014) ومنذ 1970- 2000 م.، تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والآثاريين للكشف عن المزيد من الآثار إضافة لتوثيق النقوش وترميم المباني.

التاريخ

مرت كانثا بثلاث مراحل تاريخية مهمة يمكن تقسيمها وفقا للحقب الكلاسيكية، فقد تأسست المدينة في عهد الأردنيين الأنباط ومن ثم دخلت في العهد الروماني ومن ثم البيزنطي وهنا خضعت للنفوذ الأردني الغساني.

الفترة النبطية (312ق.م. – 106م.) :

يرجع تأسيس المدينة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدا إلى الفترة النبطية حيث لا توجد أي دلائل على كون المدينة أقدم من ذلك (حداد: 1991) (الحصان: 1999) على الرغم من أن الأردنيين الأنباط قد انتشروا في  سهول حوران من القرن الثالث قبل الميلاد حيث ورد ذكرهم في بردية زينون [1]zeno عام 259 ق.م. (حداد: 1991)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أقام الأردنيون الأنباط مملكتهم على أرض الأردن وامتد نفوذهم إلى دمشق والبحر المتوسط ووصلت تجارتهم إلى كل بقاع العالم القديم. تتسم المملكة الأردنية النبطية بحضارة ثرية وقوية على جميع الأصعدة.  كان الأردنيون الأنباط تجارا محترفين، فبعدما قام الملك الأردني النبطي الحارث الثالث  بفرض نفوذه على دمشق عام 85 ق.م. فتحت أمام الأردنيين الأنباط أبواب تجارية أبعد، استحدثوا طريقا جديدا يمتد من وادي السرحان الأردني إلى سهول حوران وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض. فيصل بين الهند والصين وأوروبا مارا بالأردن. وعلى طول طريق وادي السرحان أنشئت المدن النبطية كمراكز تجارية وحاميات عسكرية في آن واحد خوفا من تكرر حملات غزو السلوقيين واليهود. (حداد: 1991) وكشفت المسوح الأثرية التي قام بها الباحثون على مدار سنوات عديدة أن الاستيطان البشري في الفترة النبطية كان ذو كثافة عالية جدا (مصطفى:2014)

العملة التي سكها الملك الحارث الرابع و تحمل صورته و صورة الملكة شقيلات مما يدل على مدى التطور الحضاري التي وصل إليه الأنباط

كانت كانثا من ضمن عدة مدن أنشأها الأردنيون الأنباط (بصرى وأم الجمال وخربة السمرا وغيرها) (حداد: 1991) ترك الأردنيون الأنباط بصمتهم في مدينة كانثا سواء في العمران المتطور الذي أقاموه أو في المعابد والمعتقدات أو في حركة التجارة المزدهرة التي ضمنت لكانثا موقعا متميزا في خارطة العالم القديم.

 الفترة الرومانية (312-106م.):

عام 63-64 ق.م. قام الإمبراطور بومبي بفرض الولاية الرومانية ولكن من ناحية عسكرية وتجارية تضمن للإمبراطورية أمان قوافلها. وفي تلك الفترة، ظلت كانثا مدينة نبطية بامتياز ولكن التفاعل التجاري  بين الأردنيين الأنباط والإمبراطورية الرومانية ازداد. وقد اعتمد بومبي نظام مدن الديكابولس الحرة وهو نظام يجعل المدن أشبه بالدول المستقلة ذات السيادة ولكن مع الإبقاء على الطرق التجارية والصلات وثيقة فيما بينها وبين الإمبراطورية وهو ما يعني إقامة مناطق عازلة بين النفوذ الروماني والأردني النبطي عبر إقامة دويلات موالية سياسيا للإمبراطورية الرومانية.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

 بعد مدة جاء الإمبراطور تراجان  في منتصف القرن الثاني الميلادي وغير طرق التجارة من البترا إلى تدمر ولم تتأثر الحركة التجارية في كانثا حيث أنها ظلت مدينة ديكابولس حرة وذات طابع نبطي. ازدادت أهمية سهول حوران الأردنية في حركة التجارة في العالم القديم منذ تأسيس طريق تراجان الجديد عام 111 م. (حداد:1991)

 انهارت معالم نفوذ وسيطرة المملكة الأردنية النبطية عام 106 بعد الحصار الاقتصادي الذي مورس عليها لسنوات من قبل الرومان. وهنا صعد نجم الأردنيين الغساسنة الذي استغلوا فكرة حلف الديكابولس ووحدوا صفوف الأردنيين وشكلوا حكومة مركزية تجمع  مدن الديكابولس الأردنية الثمانية إضافة لتلك غير الأردنية.

عمل الأردنيون الغساسنة على تمكين مدن الديكابولس الأردنية وتقوية اقتصادها عبر استحداث شبكة تجارة قوية وعن طريق حماية القوافل من قطاع الطرق. ازدهرت المملكة الغسانية لمدة الخمسة قرون تقريبا  (2-7 ميلادي) تقريبا وقد نالت كانثا اهتماما كأخواتها من مدن الديكابولس الأردنية.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

في حقبة الأردنيين الغساسنة تم تحصين المدينة بأسوار منيعة لكي لا تتعرض لحملات الغزو التي كان المناذرة والفرس يشنونها. بنيت في هذه الحقبة عدة مبان رئيسة في كانثا كبوابة كومودوس التي بنيت في الفترة (176-180م).

واجهة بوابة كومودوس التي بنيت في القرن الثاني الميلادي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

الفترة البيزنطية (324- 636م):

بدأت الحقبة البيزنطية عندما قام الإمبراطور قسطنطين باعتبار الدين المسيحي دينا للدولة ونقل عاصمة الإمبراطورية إلى بيزنطة (القسطنطينية) الواقعة على مضيق البسفور. وحينها قسمت الإمبراطورية الرومانية إلى رومانية (غربية) ورومانية(شرقية) سميت الشرقية بالبيزنطية ابتداء من العام 324م.

من فسيفساء كنائس أم الجمال

استمر حكم الأردنيين الغساسنة حتى بدايات القرن السابع. وقد شهدت كاثنا نهضة عمرانية كبيرة خصوصا في العمارة الدينية.

كما أسلفنا، أسس الأردنيون الأنباط مدينة كانثا في قلب الصحراء الأردنية الشرقية، وسكنوها لقرون امتدت حتى بعد انهيار الدولة النبطية ككيان سياسي. شارك الأردنيون الأنباط كمكون سكاني فاعل في التغيرات السياسية والثقافية التي حصلت في أرض الأردن عقب تولي الأردنيين الغساسنة زمام الأمور السياسية وبنائهم للمملكة الأردنية الغسانية عن طريق تشكيل حكومة مركزية تجمع بين مدن الديكابولس الأردنية، وهكذا ظلت كانثا محتفظة بجوهرها النبطي الأصيل رغم تفاعلها مع الثقافات المحيطة لمدن الديكابولس الأخرى.

الزراعة ومصادر المياه

تعاني مدينة كانثا من نقص في مصادر المياه وذلك لطبيعتها حيث يطول فصل الجفاف. الاعتماد الرئيسي على مياه الأمطار المتساقطة على جبل الدروز جعل من الأردنيين على مدار التاريخ يهتمون أكثر بكيفية استدامة هذا المصدر وبكيفية الحد من هدره بكل الوسائل الممكنة. ولهذا أنشأ الأردنيون عددا كبيرا من السدود على الأودية ونظام شبكات مائي معقد وقد أتاحت هذه الوسائل للقطاع الزراعي بأن يزدهر. (خوير: 1990)

أم الجمال كما تبدو من الأفق

شمال المدينة وعلى مجرى وادي اللص اكتشف سدان كبيران مصنوعان من الحجارة البازلتية ولم يكن المستكشفون والرحالة قبل القرن العشرين قد ذكروهما. إن التقنية العالية التي تم بناء السدين بها مثيرة للانتباه حيث أن السد الأول يجمع المياه بينما تندفع نحو السد الثاني الذي يحول ويغير مجراها كي لا تهدر (خوير: 1990)  وفي نهاية وادي اللص أقيم سد ثالث يحجز المياه القادمة من واد آخر يسمى العاقب، عند تقاطع السدين الثاني والثالث اكتشفت منطقة دائرية مكونة من حجارة بازلتية متراكمة تستخدم كمحبس حجري ضخم يتحكم بتصريف المياه المجمعة إلى الأراضي الزراعية داخل المدينة. وعند توسع المدينة لغي السد الثاني واستعيض عنه بالثالث  (خوير: 1990)

بجانب السدود كان هناك قنوات الماء الضخمة فمن السد الثاني تنطلق قناة رئيسة بطول 4 كلم تفرع منها عدة قنوات أخرى. وما يميز هذه القنوات أنها تدخل إلى داخل المباني الأثرية (خوير: 1990) لقد نقل الأردنيون الأنباط خبرتهم في نظام شبكات الري والحصاد المائي في عاصمتهم البترا إلى كانثا. ففي عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع (9-40 ق.م) بلغت المملكة النبطية أشد حالات ازدهارها التجاري والزراعي وأسفر هذا الازدهار عن بناء البركة النبطية (حداد: 1991)

 انتشرت الأحواض المائية والصهاريج (حداد: 1991) إضافة لشبكة قنوات مائية وجدران استنادية علاوة على المجاريش والمطاحن التي استخدمت لطحن الحبوب وإسطبلات الحيوانات التي تدل على كثافة التدجين (الحصان: 1999) والجدير بالذكر بأن الأردنيين الأنباط قد نقلوا التربة الحمراء الخصبة من سهول حوران إلى المدينة (الحصان: 1999) بمعنى آخر لقد استزرعوا الأراضي الأقرب للطبيعة الصحراوية.

صناعة الزجاج

تشتهر مدينة كانثا بالزجاج الذي وجد فيها. لقد بدأت صناعة الزجاج في الشرق الأدنى (الأردن وسوريا وفلسطين) منذ 7 آلاف سنة قبل الميلاد. (مصطفى: 2014) في القرن الأول قبل الميلاد أي في الحقبة الرومانية، تطورت تقنية صناعة الزجاج عبر النفخ وعبر قالب الصب والجدير بالذكر أن صناعة الزجاج بالقالب قد تطورت من سهول حوران الأردنية منذ 1500 عام قبل الميلاد. (مصطفى: 2014)

تتطلب هذه الصناعة حرفية عالية فقد استطاع الأردنيون أن يولدوا حرارة تفوق 1000 درجة تستطيع صهر الرمال والسيليكا لصنع الزجاج كما استطاعوا استخراج مركبات كيميائية معقدة كأكاسيد الحديد والنحاس لصبغ الزجاج وقد وصلوا أيضا لكيفية جعل الزجاج معتما عن طريق خلطه بعدة مواد كيميائية (مصطفى: 2014).

عينات زجاج من مواقع أثرية في أم الجمال. حقوق الصورة محفوظة للباحثة شذى مصطفى

ازدادت أهمية صناعة الزجاج بعدما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية وبعدها البيزنطية. لقد كان الزجاج المصنع في مدن الديكابولس على نمط صناعة الفخار فهو مجوف مزين بزخارف نباتية وحيوانية. بعدما انتشرت الكنائس تعززت هذه الصناعة وانتشرت عن طريق طرق التجارة التي مهد لها ورعاها الأردنيون الغساسنة. لدرجة أن الأباطرة الرومان قد دعوا صناعا محليين من مدن الديكابولس كي يصنعوا الزجاج الملون والمزخرف في الكنائس والقصور الرومانية. (مصطفى: 2014)

ولارتباط هذه الصناعة بشكل أساسي بالكنائس انتشرت زخارف معينة كالحمامة والسفينة (رمز الكنيسة) والصليب والأسماك والأيقونات. (مصطفى: 2014) وتتنوع العينات التي وجدها الباحثون في مواقع مختلفة من كانثا بين الأوعية الزجاجية وزجاجات العطر والكؤوس والنوافذ. والمثير للانتباه مدى التباين اللوني في العينات المكتشفة حيث وجدت بألوان أساسية كالأحمر والأزرق والأصفر وألوان ممزوجة كالأخضر المزرق والفيروزي والبنفسجي محمر وأصفر مخضر وغيرها. (مصطفى: 2014)

الدين

 مرت كانثا حالها حال كل مدن الديكابولس الأردنية بتجربتين دينيتين: الأولى هي الوثنية والثانية هي المسيحية. بكونها واحدة من المدن الأردنية النبطية شاعت عبادة الآلهة النبطية فيها كذو الشرى، أهم إله نبطي. وقد ترك الأردنيون الأنباط لنا من هذه الحقبة معبدا نبطيا جنوب غرب المدينة، وإلى شماله بقايا منازل وجدت فيها نقوش تمجد الإله ذو الشرى “دوشرا” باللغتين اليونانية والنبطية (حداد: 1991) كما وجدت أساسات  وأعمدة لمعبد نبطي آخر شمال شرق المدينة. (حداد: 1991)

واجهة المعبد النبطي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

أما المسيحية فقد بدأت كديانة سرية منذ القرن الأول الميلادي وقد تعرض معتنقوها للكثير من حملات التعذيب والاضطهاد. (حداد: 1991)  قدم الأردن الكثير من الشهداء والقديسين الذين رفضوا الخضوع لجبروت الإمبراطورية الرومانية كالقديسين زينوس وزينان وجراسيموس الأردني وإليان العماني وغيرهم. حتى عام 324م وإعلان الإمبراطور قسطنطين التحول إلى المسيحية، ظلت ديانة مضطهدة ولكنها سرعان ما أمست دافعا نحو تشكيل حضارة وثقافة لا مثيل لها.

جزء من الكاتدرائية وهي أكبر الكنائس في أم الجمال ويلاحظ الصليب المنقوش على العمود

كانت مدن الديكابولس الأردنية حاضنة للمسيحية الأولى، ورغم الخلافات المذهبية التي صعدت إلى السطح في مناطق النفوذ البيزنطي بحلول القرنين الثالث والرابع الميلادي، كان الأردنيون الغساسنة مدافعين شرسين عن معتقداتهم الدينية ومذهبهم المونوفيزي المسيحي الذي تعرض أيضا لاضطهاد الإمبراطورية البيزنطية.

دخلت كانثا النبطية في المسيحية، وقد أسفر هذا عن إنشاء عدد كبير من الكنائس بلغ عدد المكتشف منها 15 كنيسة حتى الآن. وقد جعل هذا بعض الباحثين يرجحون كونها مدينة دينية متكاملة أكثر من كونها مدينة عادية.

الآثار

تتكون المدينة الأثرية كانثا من عدد من المباني التي تعود إلى الحقب الثلاث (النبطية، الرومانية والبيزنطية) والتي تتوزع على مساحة لا تزيد عن 800 دونم. (حداد: 1991) ولا تتبع المدينة التخطيط التقليدي لمدن الديكابولس الأردنية (الشارعان المتقاطعان الكاردو والديكمانوس) وربما يعود هذا للطابع النبطي الأردني المتأصل في المدينة.

قناطر وأقواس أم الجمال

تتميز المباني والمرافق جميعها بعدد من الصفات التي لم يجدها الباحثون في مدن أثرية أخرى، فمثلا تمتاز المنازل والكنائس على احتوائها على مغاسل متصلة بالجدران عند المداخل ( الحصان: 1999) ومن المؤكد أن هذه المغاسل قد اتصلت بشبكات صغيرة متفرعة عن الشبكة الرئيسة في المدينة.

وتدلنا طريقة بناء الجدران والقصارة على ذكاء الإنسان الأردني وعلى تفاعله القوي مع الطبيعة المحيطة به إضافة إلى التطور العالي في تقنيات المعمار. في كانثا، استخدم الحجر البازلتي المحلي والمتوافر بكثرة في المنطقة. أما بناء الجدران فكان عن طريق وضع صفين من الحجارة حيث يكون للجدار وجهان خارجي وداخلي وبينهما فراغ بسيط يتم حشوه بالطين والقطع البازلتية الصغيرة. ينعم الوجه الخارجي من الجدار أي يسنفر. تساعد هذه الطريقة على إبقاء المنزل دافئا شتاء وباردا صيفا (الحصان: 1999)

ومن الأمور التي تثير الانتباه أيضا والتي كشفت عنها التنقيبات الأخيرة هو أن كل الجدارن كان مقصورة من الداخل والخارج. وكان الأردنيون في كانثا قد طوروا طرقا لصبغ القصارة وجعلها كالدهان وكان من الألوان التي اكتشفتها التنقيبات اللونين الأحمر والخمري ويعتقد بأنه اختيار هذين اللونين كان لتمييز المدينة عن بعد. (الحصان: 1999)

 المنازل الأثرية:

في كانثا عدد لا بأس به من البيوت الأثرية التي وجدت في مواقعها الكثير من الجرار الفخارية واللقى الأثرية الأخرى. ومن هذه البيوت استدل الباحثون على كيفية البناء وطريقة القصارة وغيرها.

الكنائس:

بلغ عدد الكنائس في كانثا 15 كنيسة وهو عدد كبير مقارنة بغيرها من المدن. لقد تحولت المدينة النبطية الوثنية إلى المسيحية بشكل كامل وقد اقترح الباحثون أن هذا العدد لا بد أن ينم عن مكانة دينية مرموقة كانت المدينة تمثلها في وقت سابق.

  • كنيسة جوليانوس
  • كنيسة ماسيخوس
  • الكنيسة الشمالية الغربية
  • كنيسة القديسة مريم
  • الكنيسة الشمالية
  • الكنيسة الشمالية الشرقية
  • الكنيسة المزدوجة
  • الكنيسة الجنوبية الشرقية
  • الكنيسة الجنوبية الغربية
  • الكنيسة الغربية
  • كنيسة كلاوديانوس
  • كنيسة نورماريانوس
  • الكتدرائية
  • الدير البيزنطي المتصل بالثكنة العسكرية.
  • الكنيسة خارج الجدار الشرقي
من حملة ترميم سابقة للكاتدرائية

من المميز في كنائس كانثا أنها قد بنيت على نظام الطابقين وقد استدل الباحثون بالحجارة التي تحمل علامات شبائح حجرية تثبت بعضها على بعض. (الحصان: 1999)

يمكن تقسيم كنائس كانثا بحسب موقعها إلى كنائس مستقلة وكنائس ملحقة. ولكن التقسيم الأكثر شيوعا هو التقسيم حسب الطراز المعماري: البازليكا (الكنيسة المستطيلة) وذات القاعة الواحدة. (حداد: 1991)

واجهة الكنيسة الغربية، حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

رغم البحث المكثف الذي خضعت له المدينة الأثرية في كانثا إلا أن 3 فقط من أصل 15 من الكنائس تم تحديد عمرها بدقة: كنيسة جوليانوس م345 والكاتدرائية 557م والكنيسة الشمالية الشرقية 460م. ويرجح أن أغلب الكنائس قد بنيت في الحقبة البيزنطية المتأخرة. و سميت الكنائس وفقا للمعماري  أو القديس الذي وردت اسمه في نقوش الكنيسة وهناك كنائس أخرى لم يتم الكشف عن اسمها فسميت وفقا لموقعها (حداد: 1991)

الاستراحة النبطية:

الاستراحة النبطية أو ما يعرف بالخان وهو مبنى معد لاستقبال التجار المرتحلين مع مرافق كالإسطبلات للخيول والإبل. أثناء التنقيب عثر على عدد من المكتشفات القيمة كالمغسلة البازلتية المغروسة في الجدار والتي تتصل بقناة ماء فخارية داخل الجدار نفسه. وقد عثر فيه على مذبح بازلتي توضع فيه تماثيل الآلهة والتي من المرجح أن يكون ذوالشرى المذكور في نقوش المدينة.(الحصان: 1999)

مقر الحاكم الإداري (البورتوريوم):

بني هذا المبنى في القرن الرابع ليكون مقرا لحاكم المدينة وهو مبنى متكامل وبحالة جيدة حتى اليوم. يتكون من عدة غرف وقاعات يتوسطها قاعة سماوية مسقوفة بالشبائح الحجرية. وللمبنى سور يحيط بع من ثلاث جهات شرقا وجنوبا وغربا. كما عثر على خزان مياه متصل بقناة المياه الرئيسة. وللمبنى ساحة كبيرة استخدمت كإسطبل. ومن المرافق المهمة في هذا المبنى “قاعة العرش” أو “القاعة الأميرية” وهي غرفة واسعة مزينة بالأقواس وبوابتان مميزتان وكانت مخصصة لجلوس الحاكم.  وهناك “الساحة السماوية ذات الأعمدة” هي غرفة لها بوابة جنوبية رئيسية تعلوها طاقة كاشفة للمراقبة في حالة الحرب. أعيد استخدام هذا المبنى في العهد الأموي واستعمل كقصربعد إضافة الحمامات وإعادة رصف الأرض وقصر الجدران وإضفاء بعض الزخارف على المعمار الداخلي (الحصان: 1999)

الخاتمة

 لا تزال كانثا ماثلة أمامنا كواحة سوداء جميلة، رغم تهدم معالم المدينة بفعل العوامل الطبيعية وبفعل الإهمال الذي عانته عقب نقل مركز الدولة العباسية إلى بغداد، فهي لا تزال من أروع المدن الأردنية التي بناها أجدادنا الأنباط وتابع رعايتها الأردنيون الغساسنة.

المراجع

[1]

زينون كان مسئولا عن التجارة في زمن “أبولونيوس”؛ وزير الاقتصاد في عهد بطلميوس الثاني (284-246 ق.م.)

مدن الديكابولس الأردنية: كانثا الواحة السوداء

Scroll to top