مقدمة

شهدت المملكة الأردنية الهاشمية في أواسط القرن العشرين نهوضًا نوعيًا في الفنون والموسيقى، كان من بين أبرز أسبابه أن وجد الأردنيون في افتتاح الإذاعة آنذاك، ثم التلفزيون، متنفّسًا لتطلّعاتهم الثقافيّة التي عادت تتصاعد عقب التحرر من نير الاحتلال العثماني، نحو شتّى المجالات الحضارية التي كانت قد أفلت في تلك الحقبة الظلاميّة، وظل الأردنيون طيلتها يحاولون استرجاع حضارتهم الإنسانية ذات الامتداد التاريخي العميق.

وعلى إثر تلك النهضة الموسيقيّة، برزت إلى الواجهة أسماءٌ أردنيّةً مميّزة، تركت بصمة لا تُنسى في الموسيقى الأردنية، وبذل أصحابها جهودًا تاريخيّة في صناعة ونشر الموسيقى الأردنية حتى وصلت إلى أبعد من الحدود الجغرافيّة وسافرت معهم إلى أهم المنابر في المنطقة والعالم، كان من بين هؤلاء الروّاد مغنّون وملحّنون وعازفون، صارت أسماؤهم تُذكر دومًا حين الرّجوعِ إلى الصفحات الهامّة في التاريخ الموسيقي الأردني المعاصر. ومن بينهم، أول عازف قانون أردني، الموسيقار إميل حدّاد.

نشأته ودراسته

وُلِد الموسيقار إميل حدّاد عام 1944 في مدينة إربد شمال الأردن، وكبر وترعرع في هذه المدينة التي ترك ريفها المميّز أثرًا في نفسه ووجدانه، كغيره من المبدعين الذين احتضنتهم الجغرافيا الأردنية بكل جماليّاتها وأثّرت في سلوكهم الإبداعي، فكبروا فيها معبّرين عن مكنوناتها الجماليّة بعد أن تركّزت فيهم تفاصيلها الساحرة.

في العاشرة من عمره، كان حدّاد يسكن مع عائلته بالقرب من مستشفى الأميرة بسمة، وكان أخوه الأكبر فريد يعمل ممرّضًا فيها، وصادفت أن أهدته إحدى زميلاته في التمريض آلة عود قديمة مستعملة، لم يكن إميل حدّاد الطفل يجرؤ على لمسها رغم أنها لفتت انتباهه منذ أول لحظة رآها فيها، ولكن احترامه لهذه الآلة وخوفه من أخيه كانا عائقًا أمام تجرّؤه على القرب من آلة العود. ولكن بطريقةٍ أو بأخرى، وبعد فترة من الزمن، استطاع إميل، وبموافقة أخيه فريد الذي اكتشف موهبة إميل، أن يُمسك بالعود للمرّة الأولى ويحاول أن يُخرج منه صوتًا.

نقرأ في قصّة إميل حدّاد الطفل، إصراره على أن يجعل الحلم حقيقة بدافع الموهبة الملحّة على حواسّه طيلة الوقت، فمنذ أن أمسك بالعود القديم (غير المدوزن)، وحاول أن يضبط دوزان أوتاره دون معرفةٍ مسبقةٍ له بالموسيقى وعلوم آلة العود، وجد نفسه يائسًا مرّات كثيرة في أن يُصدِر صوتًا مقبولاً من هذه الآلة، إلا أنه لم يفقد الرغبة في تحقيق ذلك، لأنه كان يندفع قهريًا تحت ضغط الشغف بالموهبة للمحاولة مرارًا وتكرارًا. خطر بباله أن يعزف أغنية “طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا” للفنان توفيق النمري، ضرب بريشته على الوتر السفلي، ثم الوتر الذي يعلوه مباشرة، وهما في حالة الوتر المطلق (1)، فنجح بأداء اللحن (طيّارة يمّا بتحوم) … بقي أن يُكمل (فوق حارتنا)، فلم يُجِد ذلك! كان هذا الطفل فرحًا بما استطاع أن يحققه من عزف نصف جملة موسيقية من مطلع أغنية توفيق النمري، ولم ترَ عينه النوم طيلة تلك الليلة، ولكنّه بقي يتساءل مع ذاته عن الطريقة التي سيتمكن فيها من إتمام عزف اللحن؟ وقبل أن يغلبه النعاس، راوده خاطر مفاجئ، فهرع مُسرعًا إلى العود وأمسك به ووضع يده اليسرى على أحد الأوتار وجعل يحاول حتى اكتمل اللحن (طيّارة يمّا بتحوم فوق حارتنا…)، وبقي هذا الطفل يحاول، ويجتهد وحيدًا مع عوده وحلمه، شهورًا طويلة، حتى استطاع أن يؤدي ألحان توفيق النمري وجميل العاص وفريد الأطرش وعبدالوهاب وغيرهم.

لم يكن والد الموسيقار إميل حداد راضيًا عن فكرة أن يكون ابنه موسيقيًا، رغم أنه، أي الوالد، كان مولعًا بالطرب والموسيقى، لكنّ خوفه على مستقبل ابنه دفعه في إحدى المرّات إلى كسر العود أمام عيني إميل، فما كان من الأخير إلا أن ذهب بالعود إلى أحد النجّارين لإصلاحه ومواصلة تمارينه الموسيقيّة. وفي أحد الأيام، كان قائد المنطقة العسكرية في إربد، المرحوم عصر المجالي، قد سمع بموهبة إميل بالعزف على العود، فأرسل دورية شرطة إلى بيته لتحضره من أجل إحياء حفلٍ وطنيٍّ كبيرٍ سيُقام في المدينة، ولكن إميل لم يكن موجودًا وبعد ذهاب الشرطة وعودة إميل إلى البيت، استقبله والده بالأسئلة القاسية عن سبب مجيء الشرطة، وفي هذه الأثناء عاد ضابط من الشرطة مجددًا إلى البيت وأصر أن يأخذ إميل معه موضّحًا السبب، وهو الحفل الوطني، فلحق إميل ووالده بالضابط إلى الحفل، وكانت تلك المرّة الأولى التي يعزف بها أمام العامة، وبحضور والده، الذي تغيّرت نظرته إلى ولده وشعر باحترام كبير له ولفنّه.

وعلى إثر ذلك، استطاع إميل أن يحقق المزيد من المكاسب التي تمثّلت بموافقة والده على الذهاب لدراسة الثانوية العامة في القاهرة، ثم الالتحاق بالمعهد العالي للفنون هناك ودراسة الموسيقى، وهذا ما حصل بالفعل، وكان إميل حداد أول طالب أردني يدرس الموسيقى وآلة العود في القاهرة، وحصل أن كان خلال سنة الدراسة الأولى جالسًا في ردهة داخل المعهد، يعزف على آلة العود، وصدف أن مرّ الموسيقار المصري الكبير محمّد القصبجي، الذي كان يعزف في فرقة السيّدة أم كلثوم ولحّن مجموعة من أغانيها، فتوقّف مصغيًا إلى عزف إميل، واقترب منه وقال له “إنت منين يا ابني؟” فأجابه “من الأردن”، فقال له “سيكون لك مستقبل جيّد، ولكن عليك أن تخفف من الضغط على ريشتك أثناء العزف”، فقال له إميل “ولكن أنا يا أستاذ عازف قانون”، فقال له القصبجي “ستكون عازف قانون ممتازًا”. وكانت تلك الكلمات مصدر وحيٍّ وإلهام للطالب الأردني الوحيد في ذلك المعهد الذي وقف أمامه واحد من بين قلّة من ألمع نجوم الموسيقى في مصر.

المشوار الفنّي والمهني

لم يتأخّر إميل حدّاد عن موعده مع التلحين، فقد لحّن أول عملٍ له وهو طالب في القاهرة عام 1965، وانغمس بعدها في الألحان حتى نسي أن له صوتٌ جميلٌ ويمكنه الغناء، فصار يحاول البحث دائمًا عن أصواتٍ جديدةٍ ليكتشفها، ومن بين أولى الأصوات التي تعامل معها حدّاد، الفنانة الشهيرة سهام الصفدي، التي لحّن لها حدّاد أولى أغانيها التي اشتهرت عام 1968 وكانت بعنوان “سهم الهوى”. قام بعدها إميل حدّاد بتلحين أغنية، تُعتَبرُ واحدة من أقرب الأغاني الوطنية إلى الوجدان الأردني، وهي “وضّاءٌ وجهكَ يا بلدي” التي غنّاها الفنان الراحل اسماعيل خضر. وكان لقاؤه بالشاعر الكبير حسني فريز نقطة فارقة في مسيرته الفنية، حيث لحّن من كلماته أغنية “يا حلو طمّني عنّك” التي غنّتها سهام الصفدي.

في العام 1971 انتقل الموسيقار إميل حدّاد إلى المملكة العربية السعوديّة ليعمل في إذاعة الرياض ثم إذاعة جدّة لمدّة 14 عامًا، قدّم خلالها الكثير من الجهود في هاتين الإذاعتين الناشئتين آنذاك اللتين استفادتا من خبراته وقدراته الموسيقيّة، واستفاد منها عددٌ من العازفين السعوديين آنذاك بطبيعة الحال. وكان الفنان الكبير محمد عبده من جملة أصدقاء الموسيقار إميل حداد خلال إقامته هناك، رافقه في كل رحلاته الفنيّة.

عاد حدّاد عام 1985 إلى الأردن إثر وفاة أخيه، وبقي لمدة عامين في حالة أشبه بالعزلة، حتى أقنعه صديقه وزميله في الدراسة الملحّن الكبير روحي شاهين الذي كان يعمل رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، بالعودة إلى نشاطه، فعاد مجددًا للتلحين، ولحّن لفارس عوض مجموعة أغاني هامة ظلّت في الذاكرة الأردنية حتى اليوم، أبرزها “عمّان يا دار المعزّة” من كلمات الشاعر الأردني الكبير علي عبيد السّاعي. ومنذ العام 1985 وحتى 1998 عمل الموسيقار إميل حدّاد محاضرًا غير متفرّغ في قسم الموسيقى/ جامعة اليرموك.

عام 1991 عُيِّن رئيسًا لقسم الموسيقى في الإذاعة الأردنية، والتقى لاحقًا بالشاعر الكبير حبيب الزيودي في أول تعاون جمعهما بأغنية “عمّان أرض النّدى” التي غنّتها الفنانة سميرة العسلي، وبناءً على هذا التعاون نشأت صداقة مميّزة بين الملحّن والشّاعر الذين تركا بصمة في مسيرة الأغنية الأردنية، تمثّلت بسلسلة من الأعمال منها (هلا يا عين أبونا) التي يستذكرها الأردنيون بصفتها الأغنية الأكثر شهرةً في أول أيام تسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين سلطاته الدستوريّة عام 1999، إلى جانب غيرها من الأغاني (هذي بلدنا، والطيب طيبك…).

لم ينقطع نشاط الموسيقار إميل حداد الموسيقي حتى بعد مغادرته الإذاعة الأردنية، فلقد انضم إلى فرقة جيل الروّاد التي تؤدي أسبوعيًا حفلاتٍ فنيّة يغنّي ويعزف فيها كبار هذا الجيل الذي أعاد صنع أغنية أردنيّة تحترمها كل المنابر العربيّة والعالميّة، وتسافر مع الأجيال عبر الزمان، لتحكي قصّة أردنّ النهضة والبناء، والشمس والحريّة.

الموسيقاران إميل حدّاد وعامر ماضي

تأثيره على الأغنية الأردنية

كان للموسيقار إميل حدّاد، بصمةً موسيقيّة مميّزة في الأغنية الأردنية، صنع من خلالها زاويةً هامّة في الوجدان السّمعي للأردنيين بألحانه التي توسّطت بين مزاج الرّيف والبادية، فعبّرت بعفويةٍ وانسيابٍ تلقائيٍّ عن الرّوح الحقيقيّة للمكان والإنسان الأردنييَّن، وعن جوهر الشخصيّة الأردنية. ولم يكن الموسيقار حدّاد لينجح بهذه التجربة لولا أنه كان متعلّقًا بجماليّات الإرث الموسيقي، دون قيود أو تبعيّة عمياء، ومتطلّعٌ بشغف إلى آفاق سمعيّة جديدة، يخلق في فضاءاتها الجملة الموسيقيّة التي يجد فيها الأردنيّ نفسه أصيلاً ومعاصِرًا في آنٍ معًا.

لم يقتصر دور الموسيقار حدّاد في النهوض بالموسيقى الأردنية على ألحانه التي أعطاها طيلة مشواره الفنّي وحسب، بل وعلى الصعيد الأكاديمي، وهو الذي نال درجة الدكتوراة في الموسيقى من إحدى الجامعات العالميّة في النمسا (وطن المؤلف الموسيقيّ الشهير موزارت)، فقد قدّم أطروحة جامعيّة حول الأغنية الأردنية المعاصرة، استعرض خلالها تطوّر الغناء في الأردن وقيمتها الثقافية.

المراجع :

  • حدّاد، إميل، الصدفة وحدها كانت السبب في تعلّمي آلة العود، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الزيّودي، حبيب، إميل حدّاد صانع الوجدان، 2005، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • ومضات ثقافيّة،وثائقي قصير، 2016، إنتاج وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.

الموسيقار إميل حداد : أول عازف قانون أردني

مقدمة

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عرف الإقليم الذي وجد به الأردن بالاضطرابات السياسية منذ فجر التاريخ، ومع أن الأردنيين الأوائل قطعوا شوطا طويلاً بالتطور، من مجتمعات الجمع والالتقاط، إلى الدولة الوطنية (دولة الأمة)، مروراً بالمجتمعات الريفية الزراعية البسيطة، ونظام الدولة المدينة، إلا أن الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، لم تنتزع وجودها بسهولة وبتطور سلس، إذ عانى أجدادنا الأردنيين الأوائل العديد من المصاعب، وتعرضوا للكثير من الانتكاسات، حتى استطاعوا حفر تاريخهم في ذاكرة العالم، بحروف خطت بالعرق والدماء.

المملكة الأردنية المؤابية – عنفوان البداية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية – جريدة الغد- محمد أبو غوش

كان الشعور الوطني لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين في ذلك الوقت، والذين كانوا نواة تشكل المملكة الأردنية المؤابية يدفعهم لاحتواء سكان البلاد، والقبائل البدوية المحيطة بهم، لدمجهم في مشروع دولة تستطيع النمو والتطور والدفاع عن نفسها في منطقة محط لأطماع العديد من الدول والشعوب المحيطة، وسرعان ما اصطدمت هذه الدولة الناشئة بأطماع المحيطين بها، فبدأ الصراع مع الشعوب المحيطة التي تريد فرض نفوذها على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فتصدوا لهذه الاعتداءات في نفس الوقت الذي شرعوا به ببناء الدولة، وتثبيت أركانها، وتطوير النشاط الاقتصادي، وكانت عملية بناء جبارة، في وجه طبيعة قاسية لا يملك القدرة على تطويعها سوا الأردنيين.

على هذه القاعدة بدأ أجدادنا الأردنيون المؤابيون تأسيس دولتهم، بعنفوان وعزيمة منقطعتي النظير، حيث بدؤوا عملية البناء جنبا إلى جنب مع عملية إثبات الوجود وترهيب كل الطامعين بالتغول على الأراضي الأردنية المؤابية.

استطاع الأردنيون المؤابيون، انتزاع أراض من القبائل الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وتثبيت حدودهم، وفرض الرهبة على الساكنين غرب البحر الميت، كما صدوا جميع الهجمات القادمة من القبائل الشرقية، وبنوا الحصون فأمنوا بذلك حدود مملكتهم.

الصدام المؤابي الأول مع القبائل العبرانية 

عند وصول القبائل العبرانية إلى الأردن قادمين من مصر، حاولوا بداية المرور عبر أراضي المملكة الأردنية الأدومية، إلى أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين رفضوا هذا الأمر، من ثم حاولت هذه القبائل العبور عبر أراضي المملكة الأردنية المؤابية، وقوبل طلبهم بالرفض والوعيد بقتالهم اذا ما حاولوا المرور عبر الأراضي الأردنية المؤابية.

منذ أن وقعت هذه الحادثة، ضمرت القبائل العبرانية العداء والحقد لأجدادنا الأردنيين الأوائل، في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، إلا أن الأردنيين المؤابيين، لم يستشعروا خطر القبائل العبرانية آنذاك، معتمدين على قوتهم وقناعة منهم أن لا أطماع لدى القبائل العبرانية في الأراضي الأردنية.

في هذه الأثناء استطاعت القبائل العبرانية هزيمة المملكة الأمورية شمال وادي الموجب (أرنون)، وبدت أطماعها واضحة في الأراضي المؤابية الأردنية، إلا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين لم يكترثوا لهذه المخاطر، ايماناً منهم بقوتهم العسكرية التي أثبتت حضورها في أكثر من معترك.

عندما نزل العبرانيون في المدينة الأمورية (شطيم)، أغواهم الأردنيون المؤابيون من سكان المناطق المجاورة لتناول ولائم قدمت كقرابين للآلهة المؤابية، كما جعلوهم يسجدون لآلهة مؤاب، امعاناً باحتقار العبرانيين الطارئين على المنطقة وتحجيمهم، هذا الأمر زاد من حقد وكراهية العبرانيين لأجدادنا الأردنيين المؤابيين، حتى قالوا أن ذرية مؤاب لن تدخل في جماعة الرب.

تمركز العبرانيون في المناطق التي سيطروا عليها، وعندما تخلصوا من الأخطار المحيطة بهم، وثبت الأمر لهم، قام العبرانيون القاطنون في شيحون الأمورية، بإعادة ترديد أناشيد السخرية التي كان يستخدمها الأموريون ضد الأردنيين المؤابيين، هذه الأناشيد التي تمزج بين الاستهزاء واستجلاب اللعنات على الأعداء، الأمر الذي نبه الملك الأردني المؤابي بالاق إلى أطماع القبائل العبرانية، وتحديدا في أراضي مؤاب الأردنية.

قام العبرانيون بالسيطرة على بعض الأراضي المؤابية الأردنية الواقعة إلى الشمال، في هذه اللحظات وفي محاولة لإبطال مفعول أناشيد السخرية التي رددها العبرانيون، دعا الملك الأردني المؤابي بالاق، الكاهن المؤابي الأعظم بلعام، للاجتماع معه ومع كبار الحكماء الأردنيين المؤابيين، وقد جهز الملك بالاق الأضاحي للآلهة في انتظار أن يقوم الكاهن الأعظم بلَعْن العبرانيين، إلا أن الكاهن الأعظم كان يعلم أن القبائل العبرانية في عز قوتها في هذا الوقت الأمر الذي جعله يمتنع عن الرد على لعنات العبرانيين، فدب الحذر والتوجس في نفس الملك الأردني المؤابي بالاق، واكتفى باتخاذ تدابير وقائية في مواجهة العبرانيين، ومهادنتهم.

الملك الأردني المؤابي عجلون – مرحلة ذهبية في تاريخ المملكة الأردنية المؤابية

عقد الملك الأردني المؤابي عجلون، حلفا سياسياً عسكرياً مع أشقاءه الأردنيين العمونيين، ومع جيرانه العماليق في مواجهة التغطرس الذي يمارسه العبرانيون، بعد أن استطاع طردهم من الأراضي الأردنية، إذ أنه دخل هذا التحالف في موقف من القوة لا الضعف.

واتفقت مصالح هذا الحلف على توسيع رقعة سيطرتهم على الأراضي وتقليص نفوذ العبرانيين قدر المستطاع، وصد هجمات القبائل الخارجة عن نفوذ المملكة جنوبا وشرقا.

استطاع الملك المؤابي الأردني عجلون، توسيع رقعة مملكته حيث ضم أراض واسعة تقع شرقي نهر الأردن والبحر الميت، ووسع نفوذه السياسي داخل مناطق نفوذ العبرانيين، حيث فرض الجزية عليهم لمدة ثمانية عشر عاماً.

اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون 

على سبر القادة والزعماء الأردنيين، منذ فجر التاريخ، لا يمكن ترهيبهم أو شراء مواقفهم، ولا يمكن الحد من انطلاقتهم سواء بالقتل والغدر، قضى الملك الأردني المؤابي عجلون، غيلة على يد أحد زعماء القبائل العبرانية.

جاء اهود البنيامين أحد زعماء القبائل العبرانيين والذين كانوا يدفعون الجزية للمملكة الأردنية المؤابية، وقام بتقديم الجزية والهدايا بين يدي الملك الأردني المؤابي عجلون، ومن ثم قام بالخروج، ليستطيع إقناع الملك وحاشيته بحسن نواياه، ثم عاد بعد ذلك بوقت قصير وطلب لقاء الملك بشكل انفرادي، حيث ادعى أنه يحمل نبوءة تخص الحروب القادمة التي سيخوضها الملك عجلون مع أعداءه، فلم يخطر على بال الملك ومستشاريه أن هذا الرجل يخطط لاغتيال الملك، وكان اهود البنيامين قد أخفى سيفا تحت ثيابه، وعندما اختلى بالملك قام بطعنه طعنة قاتلة ولاذ بالفرار.

في اللحظة التي وصل بها اهود إلى قومه، قام بحثهم على محاربة المؤابيين، الذين كانوا في حالة من الصدمة والتشتت بسبب قتل ملكهم، فهاجموا الحصون المؤابية في الأراضي التي احتلوها لينسحب المؤابيون بدورهم إلى حدودهم القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم أكثر من ذلك.

الحلف الأردني المؤابي العموني وتوازن القوى

عاشت المنطقة نحو جيلين من السلم بعد حادثة اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون، انشغل فيها الجميع باستصلاح الأراضي وتطوير إمكانياتها، إلا أن هذا السلم لم يدم، حيث بدأت العديد من القبائل العبرانية بالزحف جنوبا وشرقا داخل الأراضي الأردنية المؤابية والعمونية، مما دعا المملكتين الأردنيتين لتشكيل حلف عسكري لطرد هذه القبائل من داخل حدودهم قبل أن تقوم بتثبيت أوضاعها داخل هذه الأراضي، فاستطاع هذا الحلف الأردني صدّ هذه القبائل وإعادتها خارج الحدود الأردنية، وانتهت هذه الفترة بحالة من توازن القوى.

الملك داوود – اللجوء للأردنيين المؤابيين من ثم الانقلاب عليهم

أثناء الصراع الذي دار بين داوود قبل أن يصبح ملكاً والملك شاؤول، لجأ داوود إلى المملكة الأردنية المؤابية، مع أبوه وأمه، واحتمى فترة من الزمن داخل المملكة الأردنية المؤابية، وعندما عاد إلى بلاده ليكمل صراعه مع شاؤول، ترك أبواه أمانة في المملكة الأردنية المؤابية، وحفظ الأردنيين المؤابيين هذه الأمانة.

ولكن عندما انتصر داود على شاؤول، وأصبح ملكاً على جميع القبائل العبرانية، وبعد أن استقر له الأمر، واستعاد والداه، قام بالانقلاب على الأردنيين المؤابيين، وحاربهم، واستطاع الانتصار عليهم على حين غرة، وفرض سيطرته على مملكة مؤاب الأردنية.

الملك سليمان – استمرار النفوذ العبراني ولكن

استمرت طبيعة النفوذ العبراني على الأردنيين المؤابيين كما هي في عهد الملك سليمان، إلا أنه كان يحترم المعتقدات الدينية للشعوب الأخرى، ولقد تزوج من امرأة مؤابية وبنى لها معبداً للإله المؤابي كموش، ويعتقد بعض المؤرخين أنه كان يؤمن بآخر أيام حياته بمعتقدات الأردنيين المؤابيين والعمونيين، الأمر الذي دفع المؤابيين للحفاظ على هذه الحالة من الاستقرار وعدم الثورة عليه، على عكس شعبه الذي أبدى تململا من تصرفات الملك سليمان.

الملك الأردني المؤابي ميشع – ذروة قوة المملكة الأردنية المؤابية

مسلة ميشع
Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

استطاع الملك الأردني المؤابي ميشع تحرير مملكته من النفوذ العبراني، وحارب مملكتي اسرائيل ويهوذا، واحتل أجزاءً واسعة من أراضيهم، وضرب أمثلة عظيمة بتضحية القائد، حيث قدم ابنه قرباناً لحماية الكرك (قير حارسة).

بدأ الملك الاردني ميشع بعد ذلك بتثبيت أركان حكمه، وبسط نفوذه على مناطق واسعة مجاورة لمملكته، كما شرع بعملية البناء، للمدن والحصون، وأشعل ثورة عظيمة في مجال الزراعة، لتعيش المملكة الأردنية المؤابية في عهده مرحلة من العظمة والتطور، استطاع فيها أجدادنا الأردنيون المؤابيون العيش في ظروف من الرفاهية، أتاحت لهم الفرصة للتطور الثقافي والفني.

الخاتمة

بعد وفاة الملك الأردني المؤابي ميشع، بدأت الحالة السياسية والعسكرية تتراجع بشكل عام داخل المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى بدء انهيار المنظومة الإقليمية والدولية السائدة منذ عدة قرون، حيث نشأت امبراطوريات على ركام امبراطوريات أخرى، وبدا أسلوبها بالتعامل مع الأقاليم الغير خاضعة لسلطتها المباشرة بالتغيّر، هذه الأمور جميعها حدت بالمملكة الأردنية المؤابية إلى الاضمحلال شيئاً فشيئاً ككيان سياسي، إلا أن الثقافة والوجود الحضاري الأردني المؤابي امتد قروناً لاحقة، وبالطبع استمرت ذكرى الأردنيين المؤابيين، سراجاً مضيئاً في مجمل التاريخ البشري.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، نشأة مملكة مؤاب الأردنية
  5. أبحاث إرث الأردن، مدخل عام لنشأة الدولة الوطنية في الأردن القديم

المملكة الأردنية المؤابية – مراحل القوة والضعف

جرش المدينة صاحبة النصيب الأعظم من الآثار المبنية على الطراز الروماني لا زالت تفاجئنا. فقد تم الكشف مؤخرا عن عدة تمثيل شبه كاملة. توافيكم إرث الأردن بترجمة عن آخر هذه المكتشفات.

تتوالى الاكتشافات الأثرية التي يصفها علماء التاريخ والآثار بأنها “لا تقدر بثمن” كان أهم هذه الاكتشافات تمثال شبه كامل لآلهة الحب والجمال اليونانية “أفروديت” وبالنسبة لعلماء الآثار فإن تمثالا لأفروديت (تقابلها الآلهة فينوس الرومانية) هو اكتشاف غير مسبوق في الشرق الأوسط بأكمله!

صور للتماثيل الجديدة

وفقا لتصريحات مدير آثار جرش السيد زياد غنيمات فقد تم الكشف عن عدة تماثيل مكتملة من ضمنها تمثال أفروديت إضافة إلى 14 قطعة كبيرة يعتقد بأنها أجزاء من تماثيل أخرى وهذا الاكتشاف جاء بعد ثلاثة أعوام من أعمال التنقيب.

 ويقول غنيمات “إن تمثال أفروديت لا يقدر بثمن في عالم الآثار والتاريخ لذا فإن إيجاد تمثال كامل لهذه الآلهة يعد سبقا رائعا وضخما” ويضيف” إنه يساوي أكثر بكثير من كل اكتشافاتنا للمجوهرات النادرة وصناديق الكنوز”.

يقول بروفسور الآثار توماس ويبر كاريوتاكيس، قائد فريق التنقيب في جرش إنه اكتشاف فريد من نوعه وغير متوقع على الإطلاق في الشرق الأوسط لأن تماثيل كهذه وجدت حصرا في روما واليونان.

يصف السيد غنيمات اكتشافا آخر لحملة التنقيبات بأنه “لا يقدر بثمن” وهو اكتشاف تمثال للإله زيوس  إله جبل الأولمب للسماء والرعد، وهو الإله الأكثر حضورا في الميثيولوجيا اليونانية. وسيتم وضع التمثال في معبد زيوس في جرش.

معبد زيوس في جرش

كما تم اكتشاف سبعة من تسع عرائس للشِّعر (ميوزات أو آلهات الإلهام)[1]، وعرائس الشعر آلهات يونانية ملهمة للشعر والموسيقى. ويخمن البروفسور ويبر أن الباقيات يقبعن تحت العمران الحديث بالقرب من الموقع الأثري.  يقول ويبر : “نتمنى أن نجد عروستي الشعر قبل إنهاء عملية الحفر والتنقيب في شهر نوفمبر”.

ويضيف” في الميثيولوجيا اليونانية هنالك تسعة عرائس للشعر وهن بنات زيوس ويترأسن الفنون والعلوم ويمنحن الإلهام فيها. وأسماؤهن: كاليوبي، كليو، إراتو، يوتيريبي، ميلبوميني، بوليمنيا، تيربسكوري، ثاليا، يورانيا.”

رسم قديم لعرائس الشعر التسع

ويتنبأ غنيمات بأن هذا الاكتشاف سيجذب أنظار الخبراء والمهتمين من كل العالم إلى جرش “لأن جرش الآن إحدى الأماكن التي تحوي على منحوتات وتماثيل كاملة للآلهة اليونانية”

ويقول مدير دائرة السياحة في جرش بسام طوبات ” إن هذا الاكتشاف لن يجذب العلماء فحسب بل الزوار كذلك” ستكون التماثيل جاهزة للعرض بحلول شهر نوفمبر.  ” سيعرض تمثال أفروديت حديث الاكتشاف في متحف جرش أما تمثال زيوس فسيعرض في معبد زيوس وسيضيف التمثالان الكثير لكلا المكانين”.

الهوامش

[1] ومفردها ميوز ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية Music  والتي تعني موسيقى

مترجم عن: http://www.jordantimes.com/news/local/several-%E2%80%98priceless%E2%80%99-sculptures-unearthed-jerash-including-ones-zeus-and-aphrodite

تماثيل جديدة لا تقدر بثمن تكتشف في جرش

Scroll to top