مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع كبير وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى ( ثورة الأردنيين عام 1557- 1570)، في هذا البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ( ثورة الأردنيين عام 1670 ) .

 

تمهيد

لاحظ الاحتلال العثماني ومن أول عام أن طريق الحج مورد ثمين للأردنيين وقد مكنهم من انتزاع حكم محلي بالحقب الأيوبية والمملوكية ولذلك كانت أول قرارتهم نقل طريق الحج الذي كان مستقراً لآلاف السنين بمن يوفرون الخدمات عليه من تزويد ونقل شرقاً بحيث يتم التنازع على محطاته الأقل عدداً بين نفس عدد مشغلي المحطات، بالإضافة لانتزاع الجغرافية الدفاعية والكتل السكانية المعطية للأفضلية للأردنيين مقارنة مع الطريق المفتوح في الصحراء ومخافره المدججة بالسلاح والعسكر. لم يكن هذا ليمر مرور الكرام وخرجت عليه الثورة تلو الأخرى ابتداءًا من أول عام حاول فيها الاحتلال العثماني توسيع نفوذه على الأردنيين فرفضوا سلطته وتجهيله وضرائبه والعمل عنده بالسخرى إلى آخره مما حمله الاحتلال العثماني من ظلام على مدى أربع قرون.

حاول العثمانيون منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر التآمر على القوى العسكرية المحلية المتمردة ضدهم من أبناء عشائر الأردن والأعيان والوجهاء بدلاً من أن تعطيهم حكماً لا مركزياً من أبنائهم أو بالحد الأدنى تمثيلاً سياسياً في اسطنبول، وأن تستمر في الإشراف على تنظيم الحج لإضفاء الصبغة الدينية – عبر تجارة الدين – على حكمها، فقد كان الحج وسيلة اقتصادية ودينية لجمع المال والضرائب والتجارة، لذا كان لا بد للعثمانيين أن يخططوا لإخضاع قبائل المنطقة الممتدة على طريق الحج و التجارة، ولا سيما أولئك القائمين على طول طرق المواصلات الرئيسية إلى مصر، والديار المقدسة في الحجاز، إذ أن مهاجمتهم لقوافل المسافرين والتجار نظير مواقفهم السياسية التحررية والاستقلالية عن مظلة الخلافة المزعومة، كان يهز الحكم العثماني ويضعفه ويثير الأهالي والسكان ضده، لا سيما أن هذه الاعتداءات المتكررة كانت ردود فعل طبيعية على السياسة العثمانية المتبعة، وهي في غالبها تنطوي على مطالب عادلة ومشروعة، وتمثل وسيلة للاحتجاج والاعتراض على السلطة كما يحدث في الوقت الحالي من اغلاق طرق للاحتجاج على قرارات أو تصرفات أو لإيصال رسائل معينة للسلطة عندما لا يستطيع نقلها من ينوب عن المحتجين في المؤسسات المناطة بذلك، لا سيما وأن السلطة العثمانية لم تكن تؤمن بسياسة الاحتواء والحوار، بل فقط بسياسة دفع الضرائب وبيع التيمارات والمناصب كما تقدم أو التنكيل بالاستقلاليين كحل آخر.

طريق الحج، وسيلة احتجاج على ظلم السلطة وأول تطبيق عملي على ضرائب العبور الحالية

ونتيجة لما تقدم فقد اتبع العثمانيون أساليب متنوعة في التعامل مع هذه الاحتجاجات والحركات التحررية المتمردة، فكانت تحاول مهادنة العشائر واسترضاءها واستمالتها، فتعين المناصب وتهبها لشيوخ العشائر، لتسهل عملية السيطرة على العشائر والسكان عن طريق جعل شيخ العشيرة ذا نفوذ ومحاولة استغلال نفوذه، وليكون صلة وصل بينها وبين تلك القبائل واختارت أن يكون اسم هذا المنصب “شيخ عربان الشام”، كما أنها سجلت تلك العشائر وحددت أماكنها، وفرضت على بعضها الضرائب إلا أنها بالمقابل عملت على أن تدفع قدراً من المال للقبائل المتنفذة المتحالفة معها والقائمة على طريق الحج بما يعرف بالصرّة، والهدف المعلن من ذلك هو تأمين سلامة الحجاج أثناء مرور قوافل الحج من أراضي تلك القبائل في ما يعرف بضريبة المرور والعبور الممارس في المنافذ الحدودية والجمارك والمطارات حالياً، إلى جانب مساعدة القوافل في معرفة الطريق، وفي ذات الوقت كانت تنتفع هذه القبائل مادياً بتقديمها الجمال لنقل الحجاج ، فكان الموضوع عبارة عن حركة اقتصادية هائلة يرافقها التجار للتجارة والكسب، الى جانب قيامهم بفريضة الحج أحياناً، وقد يتخيل القارئ للوهلة الأولى أن العثمانيين إنما كانوا يقومون بدفع ذلك في إطار حمايتهم لرحلة الحج المقدس أو حمايتهم للإسلام، إلا أن ذلك في حقيقة الأمر كان تغليفا رائجا للتجارة بالدين وأهم مصادر دخل الدولة العثمانية، فهي تجني الضرائب من العشائر ومن الحجاج بشكل مستمر بدون إنشاء طرق ملائمة أو حتى حماية القوافل التجارية وقوافل الحجاج بشكل فعلي، وبجزء من هذه الضرائب تقوم بدفع رسوم العبور للقبائل المسيطرة على طرق التنقل الرئيسية، بينما يخصص الجزء الأكبر للدولة، عدا عن الفساد الكبير في آلية جمع تلك الضرائب عبر مختلف المناصب في الدولة العثمانية، والضحية والخاسر الأكبر هم السكان في المناطق المهمشة.

ورغم كل ما تقدّم ذكره لم تنفك القبائل عن مهاجمة القوافل وأمراء الحج العثمانيين، ويرجع ذلك في الدرجة الأولى إلى أن أمراء الحج العثمانيين كانوا  يمتنعون في كثير من الأحيان عن دفع الصرر للقبائل نظير السماح بعبورهم ومساعدتهم في الطريق وتأجيرهم الجمال ويحتفظون بها لأنفسهم، فكانت العشائر تحاول الانتقام بالسيطرة على القوافل ومصادرتها لاسترداد حقوقهم المسلوبة، إضافة لاستمرار عملية تهميشها وعدم التعامل معها إلا كمزرعة لجني الضرائب من خلال الهجمات العثمانية عليها، فاستخدمت هذا الخيار كأفضل رد على سياسة الإقصاء العثمانية، وهذا كله تتحمل مسؤوليته الدولة العثمانية نتيجة لانعدام العدالة وعدم وجودها الفيزيائي كدولة بالمفهوم الحقيقي للكلمة، انما عبر منظومة حكم بالوكالة والتمييز، فتأخذ الضرائب من جهة وتدفعها لجهات أخرى لشراء ولائها ورضاها، بينما لا يحصل دافعو الضرائب إلاّ على المعاناة والشقاء، فتصبح الغلبة للأقوى، وهذه أشبه بالغابة من كونه دولة، وعدا عن مهاجمة القبائل بمبررات عدة ولمرات متعددة فإن الأداة المفضلة للعثمانيين كانت التحريض بين القبائل بعضها ببعضها و زرع الفتن بمبرّر أو بدونه، وحينما يشعروا أن قبيلة ما قد زادت قوتها عن قدرتهم على المواجهة، يلجأ العثمانيون للمهادنة والمصالحة معها واشغالها في حرب ضد قبيلة متمردة أخرى.

ظهور ارشيد بن سلامة الفواز وفترة التحالفات

ومع بداية القرن السابع عشر، ظهر ارشيد بن سلامة بن نعيم بن سلامة الفواز، وبدأت فترة حكمه عام 1600 وكانت هذه الفترة فترة تحالفات وصراعات للسيطرة على المنطقة بين عشائر المنطقة وكان العثمانيين في الأعلى ينظرون لهذه الصراعات ويحاولون تغذيتها وتأجيجها بين العشائر، فقد كان فخر الدين المعني ذو أطماع في منطقة عجلون التي كانت تحت إمارة الغزاوية، وكان الفواز في حوران الأردنية وإمارتها لهم، وينازعهم عليها الصقور، واستقرت الأمور للفواز في النهاية حيث سيطروا على إمارة حوران ومنافع طريق الحج وصولاً لبادية الأنباط الجنوبية قرب تبوك، وقد استطاع الفواز الاحتفاظ بسيطرتهم على طريق الحج بالتعاون مع تحالف من العشائر الأردنية بحيث تم وضع حد للفتن التي انتفع منها العثمانيون، إلا أن ذلك لم يرق للسلطان  فأصدر فرمانه في أواخر 1648 إلى والي الشام بعزل “شيخ الشام ابن رشيد” (وتلفظ على وزن فعيل) ومنعه من التدخل في الحج والحيلولة دون استمراره في السلطة.[1]

حمد بن رشيد وثورة 1670

وبعد وفاة الشيخ رشيد واستلام ابنه حمد، توترت العلاقات أكثر بين تحالف العشائر الأردنية والعثمانيين، حيث قام حمد بن رشيد أمير حوران في عام 1670 بتحضير جيش وإعلان مناطق نفوذه محرّمة على العثمانيين، لكن قافلة من القوافل العثمانية لم تظن أن تهديده كان حقيقيا وجاهزا للتنفيذ خاصة مع قرب قوات الاحتلال العثمانية في دمشق، فدخلت القافلة حوران في المكان المعروف بالصافي، فهاجمها الأردنيون بقيادة الشيخ حمد بن رشيد معلنينها ثورة مسلحة على الوجود العثماني بالأردن.

ظفر الأردنيون بالنصر في ذاك الاشتباك وصادروا الكثير من السلاح والذخيرة. في هذه الأثناء كان حاكم عجلون هو موسى بن محمد المعروف في ذاك الوقت بابن تركمان. ولتخفيف خسائرهم من التماس المباشر مع فرسان العشائر الأردنية لجأ الاحتلال لحيله المعهودة حيث نقل الصراع ليصبح بين ابن تركمان حاكم عجلون وقتها وبين الشيخ حمد بن رشيد بعد أن كان بينهما سابقاً مؤاخاة ومودة وعهود، فحرّض العثمانيون موسى على محاربة حمد بن رشيد، وبعد رفض فرسان عشائر عجلون المضي معه في حرب ضد أبناء عمومتهم من الأردنيين جمع العثمانيين له قوات من دمشق ونابلس والقدس والعديد من القوات المرتزقة من جنوب شرق اوروبا، وخرج الجيش العثماني وتقابل الطرفان في مكان قريب من نهر الزرقاء.

9.indd
نهر الزرقاء – 1900 م

فوقعت بينهما حرب عظيمة ودخل الأمير موسى في المعمعة يحث عساكره على القتال وقد قتل جماعة من مقاتلي حمد بن رشيد فطعنه أحدهم برمح أرداه به فوقع قتيلا عن جواده وكان الأمير حمد بن رشيد قريباً من موقع مقتله فلما رآه قد سقط بادر إليه يظن أنه لم يمت فلما رآه قد مات علم أن العسكر العثمانيين والمرتزقة المحاربين في صفوفهم لن تقوم لهم قائمة فولوا هاربين، فأمر قواته بالكف عنهم واشتغل الصديق بأمر صديقه السابق الذي خسره بسبب الفتنة العثمانية، وعظم مصابه به وأخذ يندبه ويبكيه، وقيل عنه أنه كان يقول: “إن حزني على موسى لا يذهب مني أبداً” ولقد قتل من جماعته أخوان وهرب بنوه وبقية أخوته وكان قتله في سنة 1670.

حققت الثورة النجاح لفترة وجيزة اذا بقيت الأردن محكومة محلياً من قبل الفواز لمدة تسعة أعوام لا يستطيع العثمانيين دخولها. وضع العثمانيون الجائزة تلو الأخرى لمن يرسل لهم رأسه، ولم يظفروا به حتى ساقته المقادير إلى أجله برحلة كان يقوم بها إلى نواحي بغداد فنزل عند رجل غدر به فتوفي في سنة 1679 ليعود العثمانيين الى سابق عهدهم بتهميش ونهب الأردن حتى ثورة أخرى. [2]

المراجع: 

[1] بيات ، الدولة ، ص99

[2] : rafeq, the province p55,56

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (112-160 )، 2016.

الثورات الصغرى – ثورة الأردنيين عام 1670

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى . 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى (معركة الجابية )، في هذ البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن معركة المزيريب الثانية عام 1760.

تمهيد

حتى نستطيع فهم هذه الثورة و أسبابها فإنه من المهم استعادة السياق التاريخي لها من خلال ايجاز ثورة الأردنيين السابقة لها عام 1705، حيث اجتمع الأردنيون مرة أخرى على زعامة الفواز لانتزاع حكم محلي يلبي طموحاتهم ويكون منهم، قريباً من احتياجاتهم، بعيداً عن اذلال الضرائب الجائرة تحت تهديد السلاح بلا أي مردود وبدون أي تمثيل سياسي. كان كليب بن حمد الفواز زعيماً حكيماً، ارتأى عدم الدخول بمعارك غير مدروسة وكان يرى بوضوح سياسة الاحتلال العثماني بإثارة الفتن بين زعامات العشائر المتحالفة وغير المتحالفة معه فأحبطها ووسّع من تحالفاته التي غطت الأردن التاريخي كاملاً من بادية الأنباط جنوباً وحتى حوران ومن نهر الشريعة (الأردن) إلى الجوف. وبعد أن اشتد بأسه وفاق جيشه العشرين ألف مقاتل من فرسان العشائر الأردنية سيَر جيشه المكون من 20 ألف فارس باتجاه منطقة الجابية شمال المزيريب في شمال حوران وذلك لترسية حدود الإمارة المأمول انشائها للأردنيين، وكان بين الجيش 4 آلاف جندي من حملة الدروع على ظهر خيولهم. قابله بمعركة الجابية الوالي العثماني في دمشق مع جيش جله من المرتزقة من جنوب شرق اوروبا عداده عشرة آلاف جندي من حملة الدروع، فتم الحاق الهزيمة بهم وقتل والي دمشق العثماني على يد أحد فرسان العشائر الأردنية. 

وفي ظل توحد الأردنيين خلف استقلالية أرضهم، فشلت كل محاولات العثمانيين بإثارة الفتن بين العشائر وعقداء الخيل في جيش الفواز. فلجأ العثمانيون لحيلتهم المعهودة التالية وهي وضع جائزة لمن يحضر رأس كليب الفواز، وظلت الجائزة تزيد حتى وصلت الى ألف ألف آقجة ولكن حتى مع قيمة الجائزة المرتفعة جدا لم يخنه أحد من أبناء وطنه. لكن الاحتلال العثماني انحدر أكثر من ذلك فأرسل إلى ابن كليب الفواز مرسالاً مفاده أنه يريد مفاوضته على شروطه في حكمه المستجد، فذهب ابنه الى دمشق بالسر فقاموا باستغلال الدين ليبرووا ضرورة التفاهم مع أبيه كليب وذلك بأن تنسيقاً بشأن الحجاج يجب أن يحصل لمصلحة الحجاج. وهكذا وبعد غسل دماغ الإبن بالمتاجرة بالعواطف الدينية ذهب فأقنع أبيه بأن الوالي في دمشق رجل يغار على الدين والحجاج وأنه شخصياً حلف له بأمان الشيخ كليب خلال دخوله دمشق، لم يقتنع الشيخ كليب بذلك ولكنه أمام الحاح ولده قَبِل بأن يلتقي والي دمشق قرب الجابية سنة 1709، أي بعد أربعة أعوام من إمارته الناشئة. وكما كان كليب يعتقد فما أن دخل خيمة الوالي حتى وجد مئات الجنود يختبئون خلفها فقطعوا رأسه ورأس ابنه وأرسلوهم الى استنبول للتقرب للسلطان والحصول على المكافأة على رأسه. ومن هنا خرجت المقولة المؤرخة لمقدار الجائزة والقائلة “جايب راس كليب”.

الحقد العثماني لم يرتوِ من دماء نسل كليب الفواز

 كان اجماع الأردنيين على زعامة بني لام (أجداد المفارجة، أجداد السردية، أجداد الفواز) كحكام محليين من داخل الأردن مصدر قلق للعثمانيين الذين رأوا بالأردن أرضاً مكلفة لحكمها بالتواجد الفعلي ولكنها غنية بما يكفي أن يسيروا لها جباة الضرائب المحميين من العسكر لفترات قليلة التكلفة. وكما كل زعامة عشائرية أخرى حاولت انتزاع حياة كريمة من احتلال استعماري، جلب هذا لهم الاغتيال والقتل والتطهير العرقي.

فلم يكتفِ المحتل العثماني باغتيال كليب الفواز غدراً وخسةً في خيمة الوالي العثماني عام 1709، وبقي يحاول الانتقام من كل ما هو مرتبط به، فبعد انتقال الزعامة لإبنه الظاهر بن كليب الفواز ترك العثمانيين الأمر يبرد قليلاً ثم حاولوا شراء ولاءات العشائر المتحالفة مع الفواز وعندما فشلوا سيروا جيشاً كبيراً باتجاه المزيريب ليلاً لتتم عملية تطهير عرقي لعشائر السردية عامة والفواز خاصة (في ذلك الوقت كانوا يدعون بالكليب نسبة إلى كليب الأول والد ظاهر الذي قتل في هذه المعركة) والقضاء على زعامة الفواز عام 1718، ولم ينجُ من تلك المجزرة أحد من ذرية كليب الفواز، إلا حفيدين طفل سمي كليب (كليب بن ظاهر بن كليب) [1] وطفلة سميت برقا، وتم تهريبهما لنواحي المدينة المنورة بعيداً عن من يمكن أن يعرفه ويدل مرتزقة الاحتلال العثماني من صائدي الغنائم عليه.

الهروب بكليب الثاني (كليب الصغير إلى المدينة المنورة)

كما أسلفنا وبعد انتهاء المعركة لم ينجُ من نسل كليب الفواز سوى طفل صغير هو “كليب الثاني” وطفلة تفوقه سناً اسمها برقا، قام أقاربهم والمحيطون بهم بالهروب بهم نحو المدينة المنورة والاستجارة بأحد القبائل الشهيرة هناك والتي ما تزال قائمة في الحجاز حتى يومنا هذا، وكانت “برقا” تبلغ من العمر نحو 14-15 ربيعاً، وكان الهدف أن ينتظر الجميع إلى أن يكبر كليب الصغير وبرقا ويقوموا بتزويجهما للحفاظ على نسل العائلة.

 قامت القبيلة الحجازية المذكورة بإجارة كليب الصغير والمرافقين له الذين دخلوا عليهم، لكن الخذلان أتى لاحقاً، فقد استطاعت إحدى النساء المحيطات بشيخ تلك القبيلة الحجازية، أن تخلق فتنة وتفتح للشر بابًا، عندما وسوست له بالزواج من الفتاة الطفلة “برقا”، ضاربين بذلك كل مخططات العائلة التي تحاول الحفاظ على نسل زعيمها، فتقول المرأة للشيخ بأنها قد شاهدت مهرة لا تصلح لسواه، فيجيبها متسائلاً إن كانت هذه المهرة تأكل بيدها أم تأكل بفمها (للاستدلال ان كانت فتاة أو فرساً)، فتجيبه بأنها فتاة تأكل بيدها وأنها شديدة الجمال، فينادي الشيخ كبير قوم الشهيد كليب الفواز في ذاك الوقت ويعرف تاريخيا بـ “ابن شيبانة”، فيجيبه ابن شيبانة بحكمة ويخبره بأنهم قوم مكسوري الخاطر وأنهم ينتظرون عيد الأضحى للتضحية عن شهدائهم ومن فقدوهم في الإبادة العرقية التي تعرضوا لها، وعليه يطلب المهلة إلى ما بعد العيد  و “بعدها يصير خير”، وذهب ابن شيبانه لقوم كليب وأخبرهم أن من لا يملك منهم رحولاً (ناقة) فليشتري واحدة له، ومن لا يملك ماءاً فليصنع صملاً، لأنهم سيعودون لموطنهم في الأردن ففعلوا وأعدوا العدة، فلما جاء  العيد ذبحوا  وضحوا لأهل كليب وأهل برقا، فقال ابن شيبانة للسردية، ارحلوا فرحلوا لمسافة 3 أيام، وذهب ابن شيبانة على شيخ القبيلة، وبقي يسهر معه طوال الليلة التي تسبق موعد الزفاف بيوم، وبقيا في سهرهم هذا حتى الصباح، وكلما اقترب الشيخ من أن يغفى شاغله ابن شيبانة بالأحاديث، وعندما جاء الصباح ولم يستطع شيخ القبيلة الاحتمال على السهر أكثر وغلبه النوم، ركب ابن شيبانه فرسه “الطرما” وكان قد طلب من قومه أن يضعوا لها الماء والعلف على الطريق في نقاط محددة ومتفق عليها، واستطاع بذلك اللحاق بهم، وعندما استيقظ الشيخ العريس لم يجد سردية ولا عروسا ولا ابن شيبانة، فجمع قومه وجهز جيشه وحاول اللحاق بهم، ولكن دون جدوى، ونجح الجمع بالعودة للأردن وبعد سنوات تزوج كليب من برقا، وتجاوزا المحنة والظروف الصعبة التي مروا بها.

%d8%ac%d8%a7%d9%86%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ba%d8%b1%d9%89

 معركة المزيريب الثانية عام 1760

تعرضت جميع قيادات الأردنيين الثائرة ضد الاحتلال العثماني للقمع والإبادة كما اتضح لنا من سياقات الثورات الصغرى ومن ضمنهم نسل كليب الفواز من السردية الذين تعرضوا لعملية تطهير عرقي وإبادة جماعية عام 1718، عندما قام العثمانيون بمهاجمتهم ليلاً والقضاء على عائلة الفواز في معركة المزيريب الأولى ، ولم يبقَ من هذه العائلة إلاّ حفيد كليب، حيث تفرقت أعداد السردية بشكل أو بآخر، لكنهم بقوا أقوياء في حدود العشيرة ومرهوبي الجانب، بعد أن كانوا زعماء لتحالفات العشائر وتسيطر تحالفاتهم على طريق الحج بأكمله، وأخذت حينها العديد من القبائل تتنافس على زعامة المنطقة، وعلى مصادر القوة ومكسب المعيشة الوحيد المتوفر ألا وهو طريق الحج، في ظل عدم وجود دولة ونظام بالمعنى الحقيقي للكلمة.

لم ينسَ الأردنيون الثأر وذكرى الإبادة الجماعية التي تعرض لها أسلافهم و زعامة حلفهم الوطني، فأعادوا ترتيب الصفوف و تدريب المقاتلين و تنشئة الفتيان على الفنون القتالية و مبادئ الفروسية، واضعين نصب أعينهم اليوم الذي سيضعهم في مواجهة مع القوة العسكرية للاحتلال العثماني، وانشغل عقداء الخيل بتجهيز الفرسان وتسليحهم بعيدا عن أعين السلطة العثمانية، فأعدت الخطط واشتعل الإصرار في نفوس الفرسان على أن يكون الموقع المخضّب بدماء أجدادهم وآبائهم هو ذات موقع الثأر، والواضح حسب الوثائق أن التخطيط استمر لسنوات بهدوء و روية وكتمان، اذ لم تتوقع السلطة العثمانية أن حلف العشائر الأردنية والسردية خاصة قادرون على القيام مجددًا والتقاط أنفاسهم، فوضعت ملف هذا الحلف الأردني الذي كلفهم سنوات من المواجهة و الاسترضاء و سياسات الخدع و التحايل و من ثم نصب الكمائن و الغدر العشيرةح وضعته بصفحاته بعيدا في غياهب النسيان.
وبعيداً أيضا عن مراكز سلطة الاحتلال العثماني كانت الصحراء الشمالية الأردنية تشهد إعادة ترتيب للأوراق وعقد للأحلاف العشائرية الأردنية وفنجان الثأر من المحتل يدور على عقداء الخيل يشربونه واحداً تلو الآخر في بيوت شيوخ العشائر الأردنية التي أعادت الانضمام للحلف ذاته، وعلى حين غرّة وصلت أنباء حشود فرسان العشائر الأردنية بقيادة السردية للباب العالي ما شكّل حدثا صادما للإدارة العثمانية التي وجهت جحافلها العسكرية للمواجهة، واستباقا للموقف كان السردية قد قادوا مقاتلي الحلف واختاروا ذات موقع المجزرة ليكون موقع المواجهة، وحين اللقاء كانوا قد استطاعوا أن يقتصوا من العثمانيين في معركة المزيريب الثانية التي حدثت عام 1760، ولقنوا العثمانيين درسا قاسيا في فنون المواجهة المباشرة بلا غدر أو خيانة، وكانت الصدمة قاسية مع خسائر فادحة أرّقت مضاجع الوالي العثماني في دمشق، اذ استيقظ على نبأ مقتل أكثر 1500 جندي عثماني خلال معركة دامت لفترة قصيرة جدا كانت الروح الوطنية الاردنية صاحبة الغلبة فيها والانتصار.[2]

وعلى الرغم من أن هذه الثورة لم تستطع انتزاع حكم مركزي للأردنيين مجدداً، إلا أنها بقيت نقطة انتصار مضيئة في تاريخ مسيرة الاستقلال لدى الأردنيين، وتركت أثرها في نفوس العشائر الأردنية – حيث اشتعلت بعد سنوات قليلة ثورات البلقاء والكرك – والتي أكدت من خلالها على الطموح الجمعي المشترك لدى الأردنيين بالوصول للاستقلال النهائي والتام الذي تكلّل لاحقا بسيل جارف من الثورات الصغرى عبر الأرض الأردنية، كانت ذروة درب التحرير فيها انطلاق الثورة العربية الكبرى وتطهير الأرض الأردنية من براثن الاحتلال العثماني.

المراجع:

[1] ابن كنان ، يوميات ، ص 302 ، أبو الشعر ، تاريخ ، ص 94

[2] فريدريك بيك، تاريخ شرقي الأردن، ص 353

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (112-160 )، 2016.

الثورات الصغرى – ثورة 1760

Scroll to top